الفصل الثاني

في عام ١٨٦٤م وصلَت إلى مجلة «العصر» قصتان من مدينة فيتيبسك النائية خطَّتهما يد امرأة بتوقيع مختصر لشخص يُدعى يوري أوربسيلوف.

كُتبت القصة الأولى بروح القَصِّ الحديث، كما لو أنها استلهمت قصيدة الشاعر الشهير دوبروليوبوف التي يقول فيها:

أخشى ما أخشاه
أن يُكتب على شاهد قبري،
أن كلَّ ما تمنيته بشراهة
وأنا على قيد الحياة
قد ذهب أدراج الرياح،
وأن السعادة أبت أن تبتسم لي.

فتاة من عِلية القوم، مغرمة بطالب فقير، تتكتَّم مشاعرها، ثم تدرك أخيرًا بعد وفاة بطلها أنها خسرت سعادتها.

أمَّا القصة الأخرى فتتناوَل موضوعًا أكثر تعقيدًا، وكان من الحتمي أن تلفت إليها اهتمام دستويفسكي. تصف القصةُ الأزمة المعقَّدة التي عاشها شاب من النبلاء الأثرياء، أُعجِب بفكرة الكمال الأخلاقي، فقادته في سياق بحثه عن الحقيقة إلى صومعةٍ في دير من الأديرة.

انضمَّ هذا النبيل ليصبح تلميذًا لواحد من النُّسَّاك الصارمين هو الأب أمفروسي ليخضع للنظام الصارم للدير. لكن لقاءً على غير انتظار مع أميرة شابة أثارت فيه الحنين إلى عالمٍ آخر وإلى حياة مختلفة، فإذا به يغادر صومعته بحثًا عن الفكرة الأسمى للوجود وسط الناس.

وعندما أُصيب بالإحباط يقفل عائدًا إلى الأب ليموت في صومعته الضيقة بعد أن عانى اليأس العميق في إمكانية الوصول إلى الطريق القويم.

برغم ممَّا بدا من نضج غير كافٍ في فنية الكتابة، فقد كشفت الرواية عن موهبة فائقة لدى الكاتب في «تصوير النفس البشرية»، وقد جرى تصوير العالم الداخلي لأزمات البطل (في كنيسة أوسبينسكي، وفي الدير القائم في شارع تفيرسكايا).

بثقة بالغة وعلى نحو درامي، وفي سياق تقلُّبات السرد، نجد أن التباينات النفسية في النص قد تمَّ التخطيط لها بفهم كامل للمؤثرات البنائية.

رأى دستويفسكي أن القصتَين جديرتان بالاعتبار. وبعد أن أشار محرِّر مجلة «العصر»١ إلى ما وقع فيه المؤلف المبتدئ من زلات، فقد عبَّر في ردِّه الودي عن تقديره لموهبة هذا المؤلف المجهول، وتعهَّد بنشر المادة التي أُرسلت إليه في أقرب عدد من مجلته.

سرعان ما انعقدت أواصر التعارف بين دستويفسكي وهذه الفتاة الشابة التي توارت خلف الاسم المستعار «يوري أوربيسلوف».

لقد ترك هذا اللقاء أثرًا قويًّا على دستويفسكي، وينبغي علينا أن نعترف أن من بين النساء اللائي افتتَنَ بهن دستويفسكي، كانت أنَّا فاسيليفنا كورفين كروكوفسكايا، بلا أدنى شك، أكثرهن موهبةً ونبوغًا وجمالًا.

figure
أنَّا كورفين كروكوفسكايا.

لم تصف أنَّا جريجوريفنا في مذكراتها «خطيبة دستويفسكي» بشكل صحيح على ما يبدو، كما أنها لم تذكر شقيقتها صوفيا التي نالت شهرةً واسعة فيما بعد باعتبارها عالمة رياضيات، وكانت فتاةً تتميَّز بجمال فائق وشخصية متكبرة.

كانت أنَّا فاسيليفنا فتاةً ممشوقة القوام، طويلة، دقيقة القسمات، ذات شعر طويل أشقر. كانت بعينَيها الخضراوَين المبتسمتَين تشبه عروس البحر. كانت حادة الذكاء جريئة، مستقلةً ذات جمال مدهش. كانت تُعَد في طفولتها أميرة الحفلات الراقصة. وفي شبابها قطعت أشواطًا من البحث عن طريقها الفكري في عدد من القضايا الروحية، الأمر الذي عكس على نحو واضح طبيعتها المتفرِّدة.

أنَّا فاسيليفنا هي ابنة لإقطاعي واسع الثراء، قضت سنوات شبابها في ضيعتها المعروفة باسم باليبين بالقرب من فتيتيبسك. ولمَّا كانت تشعر بالملل في هذا الريف الموحش، فقد اندفعت، وهي ابنة خمسة عشر ربيعًا، إلى قراءة الروايات الإنجليزية القديمة في المكتبة العريقة في القرية. لقد أخذت بلُبها ثماني شخصيات فرسان العصور الوسطى.

تحكي صوفيا كوفاليفسكايا في مذكراتها قائلة: «المصيبة الأخرى أن بيتنا الريفي كان بيتًا كبيرًا ضخمًا، له برج ونوافذ على الطراز القوطي، بُني إلى حدٍّ ما بذوق القلاع في العصور الوسطى. إبَّان الفترة التي تلبَّست فيها أختي روح الفروسية لم يكن باستطاعتها أن تكتب خطابًا واحدًا دون أن تبدأه بكلمة (قصر باليبينو) Chiâteau Palibino.

ظلَّت الغرفة العليا في البرج مهجورةً زمنًا طويلًا، حتى إن درجات السلم الحاد المؤدي إليها كانت يفوح برائحة عطنة، وهنا أمرت أختي بتنظيفه من الغبار وبيوت العنكبوت، وعلَّقت على جدران الغرفة سجادًا قديمًا وبنادق فتَّشت عنها في مكان ما بين سَقَط المتاع المهمل في العلِّية، ثم حوَّلتها إلى مكان لإقامتها الدائمة.

ما زلت حتى الآن أنظر فأرى قوامها الرشيق اللدن المُجسَّم في فستانها الأبيض الملتصق بها تمامًا، وقد تدلَّت ضفيرتاها الشقراوان الثقيلتان حتى بلغتا أسفل خصرها. في هذا الثوب كانت تجلس وراء طارة التخريم لتنسج بالخرز على الكانفاه شعار عائلة ماتفي كوروفين، ثم تنظر عبر النافذة إلى الطريق الطويل علَّها ترى فارسها قادمًا:

– أختي أنَّا، أختي أنَّا! هل ترين؟ هناك شخص ما قادم.

– لا أرى سوى أرض متربة ونجيل أخضر!٢

واحدة من روايات بوليفيير عن الفاتنة إديت — رقبة البجعة وعشيقها جاراليد — تركت أثرًا قويًّا على هذه الفتاة الشديدة الحماس، وأثار لديها أزمةً أخلاقية عميقة. إن مشكلة الحب والموت على النحو الذي في هذه الرواية الخيالية قد أصاب القارئة ابنة الستة عشر ربيعًا بالذهول. «السعادة في أوضح صورها، والحب في أعلى سَوْراته حمية ينتهيان بالموت …» الفرسان والسيدات الفاتنات أصحاب القصص الغرامية، إذا بهم يفقدون على الفور حماسهم، هدف جديد — إخماد الشك الذي اندلع بداخلها بواسطة تعذيب الذات وإنكارها — تمثَّل في كتاب لا يبرح مكتبها هو «محاكاة المسيح»، لغوما الكيمبييسكي.

زِد على ذلك، أن المسرحيات المنزلية التي كشفت عن موهبة رائعة في التمثيل لدى هذه الموهبة الشابة النشيطة، وليلفت انتباهها إلى مدرسة المسرح ثم إلى الانتصارات على خشبته.

وحتى هذه الموهبة لم تُهَدِّئ ممَّا يعتمل في نفسها من جَيَشان سوى فترة قصيرة.

سرعان ما ظهر في بيت هذا الإقطاعي الابن الشاب لأحد قساوسة الكنيسة، الذي أنهى لتوه الدراسة في الثانوية الدينية بنظامها الحديث، وبعد أن تخلَّى عن مستقبله الديني، الْتحق بكلية للعلوم الطبيعية، وفي زيارة إلى أبيه في الإجازة الصيفية، إذا به يُفاجئ العجوز بإعلانه أن الإنسان تعود أصوله إلى القردة، وأنه لا وجود للروح، وإنما توجد ردود فعل كما أثبت ذلك البروفيسور سيتشيونوف وما إلى ذلك من أفكار.

وها هي المرأة، التي كانت منذ زمن غير بعيد فارسةً ثم ناسكة مسيحية وممثلة موهوبة يشار إليها بالبنان، تُعجَب بشدة بهذا الطالب القادم من بطرسبورج، ثم إذا بها تهتم بقراءة الكتب والمجلات التي كانت تُثير اهتمام أترابها، وإذا بمجلات مثل «المعاصر» و«الكلمة الروسية» و«الجرس» التي يُصدرها جيرتسين تظهر في هذا البيت الإقطاعي الذي كان يتلقَّى بانتظام تلك المجلات الرزينة مثل Athenaeum وRevue de deux Mondes و«البشير الروسي».

كما جرى استجلاب صناديق من الكتب الجديدة مثل «فسيولوجيا الحياة» أو «تاريخ الحضارة». وعندئذٍ اتخذ الوالدان قرارًا مفاجئًا؛ إرسال ابنتهما للدراسة في بطرسبورج.

في خِضم هذا المزاج الجديد، وقبل أن تحصل على الموافقة على السفر، تقرِّر أنَّا فاسيليفنا كروكوفسكايا أن تكرِّس نفسها للأدب، وترسل سرًّا إلى هيئة تحرير مجلة «العصر» في بطرسبورج مخطوطة قصتها باسم باليبين المستعار. بعد نجاحاتها الأولى في الصحافة والصراعات العائلية المضنية، تحصل الكاتبة الشابة أخيرًا على السماح لها بالتعرف شخصيًّا على الصحفي والمعتقل السابق دستويفسكي. وفي شتاء عام ١٨٦٥م يتم في بطرسبورج هذا التعارف المشهود.

كان اللقاء الأول غير موفق ومتكلَّف، في حضور أقارب أنَّا فاسيليفنا المفرطين في التأدب، لم يشعر الكاتب أنه على سجيته، بل شعر بالارتباك على نحو واضح. بدا عجوزًا مريضًا، «وراح طوال الوقت يعبث في عصبية بذقنه الخفيفة الشقراء ثم يعَض شاربه، زِد على ذلك أن وجهه كله كان يرتعش.»

على أن الزيارة التالية كانت أكثر توفيقًا، عندما وجد دستويفسكي الشقيقتَين وحدهما في البيت، وعلى الفور توطَّدت العلاقة. سرعان ما أصبح الكاتب سيد البيت. كان مغرمًا بقوة بالأخت الكبرى، كما أصبح فجأةً المحبوب الأول للأخت الصغرى، المراهقة صوفيا، التي ظلَّت محتفظةً إلى الأبد بشعور الصداقة العميقة تجاه الكاتب.

انتعشت مشاعر دستويفسكي بصحبة الأختَين، فراح يتحدَّث على نحو بالغ الجاذبية، بوضوح وبهاء، عن حكايةِ تعرُّضه للإعدام، وعن نوبات الصرع التي تُداهمه، وعن أفكاره الإبداعية المكنونة. ذات مرة أثار الرعبَ في نفوس مستمعيه الشباب أثناء حديثه في وجود أم الفتاتَين، عندما عرض عليهن الحالة النفسية التي سيكون عليها بطله القادم ستافروجين وهو يقوم بالاعتراف.

على أن دستويفسكي لم يكن يشعر أنه على طبيعته في الأمسيات الكبرى. كان دستويفسكي يرتبك، يشعر بالاضطراب ويكسو وجهَه الحياء، محاولًا التماسك وهو وسط أصحاب المقام الرفيع والأكاديميين الكبار وضُباط الحرس المتألِّقين. إحدى هذه الأمسيات كانت علامةً على نهاية علاقة أنَّا فاسيليفنا بهذا المعجب الذي يفتقد إلى اللباقة إلى حدٍّ كبير. لقد ظهرت لدى هذه الفتاة ذات الطبع الجامح الرغبة في أن تُخالف دستويفسكي الرأي، الأمر الذي أثار عصبيته وتعنُّته على نحوٍ لم يحدث من قبل.

تحكي صوفيا كوفاليفسكايا أن قضية العدمية كانت موضوع الجدل الدائم والملح بينهما. وكان الجدل بينهما في هذه القضية يظل محتدمًا أحيانًا إلى ما بعد منتصف الليل، وكلما استمرَّ حديثهما حمي وطيس الجدل الذي يُعبِّر فيه كلٌّ منهما عن أكثر الآراء تطرُّفًا.

أحيانًا ما كان دستويفسكي يصيح قائلًا: «إن شبابنا الحالي كله غبي وغير ناضج. إن زوجًا من الأحذية اللامعة أفضل عندهم من بوشكين!»

تقول صوفيا بثقة إن: «بوشكين قد أصبح بالفعل قديمًا بالنسبة لزمننا.» وهي تعلم أن لا شيء يثير جنون دستويفسكي قدر الحديث عن بوشكين دون احترام.

كان دستويفسكي عندما يشتط غضبًا يأخذ قبعته ويغادر المكان، معلنًا في انتصار أن الجدل مع فتاة عدمية لا جدوى من ورائه، وأنه لن يأتي لزيارتنا مرةً أخرى.

وهكذا اقترب الأمر من نهايته، وذات يوم قامت الأخت الصغرى صوفيا المتيَّمة بحب دستويفسكي بحفظ «السوناتا الحماسية» لبيتهوفن، وهو العمل المفضَّل عند الكاتب، بينما راحت تقوم بعزف هذه المقطوعة الصعبة من أجله، كان دستويفسكي يقوم في ركن غرفة الاستقبال الصغيرة بالإفصاح الحاسم عن مشاعره للأخت الكبرى.

راح يقول لها في همس تشوبه الرغبة العارمة: «يمامتي أنَّا فاسيليفنا، افهميني، لقد أحببتك منذ الدقيقة الأولى التي رأيتك فيها، بل وتنبأت بذلك من قبلُ عندما كُنَّا نتبادل الرسائل. لا أحبك حب الأصدقاء، وإنما أهيم بك بكل كِياني …»

لكن أنَّا فاسيليفنا كروكوفسكايا كانت قد حسبت لكل ما يخص مشاعرها حسابه. كانت تعلم مسبقًا أن من الممكن أن يُقدِّر المرء شخصًا ما تقديرًا رفيعًا لِمَا يملكه من موهبة، ولا تكون لديه في الوقت نفسه الرغبة في أن يتزوَّج منها. كان الحس الأنثوي لدى هذه الفتاة ذات الثمانية عشر ربيعًا يجعلها تتنبَّأ أن زوجة دستويفسكي ينبغي أن تُكرِّس حياتها كلها من أجله، وأن تتخلَّى عن حياتها الشخصية. على مدى الشهور الثلاثة من تعارفهما أدركت أن دستويفسكي العنيد ذا المزاج العصبي قد سيطر على مشاعرها كلية، كما لو أنه تسلَّل إلى كِيانها، وأنه حرمها من أن تكون هي ذاتها. وهنا لم يكن أمامها إلا أن ترفض خطبة دستويفسكي.

ما إن انتهى فصل الشتاء حتى غادرت عائلة كروكوفسكي مدينة بطرسبورج، وفي نهاية الخريف من نفس العام تلقَّت أنَّا فاسيليفنا خبرًا يُفيد خطبة دستويفسكي من «فتاة رائعة، أحبَّها ووافقت على الزواج منه».

لكن الإعجاب ﺑ «حورية البحر» ترك أثرًا لا يُمحى لدى الكاتب الكبير. بعد بضع سنين، وفي شهر مايو عام ١٨٦٨م، يكتب دستويفسكي إلى مايكوف خطابًا جاء فيه: «أعلم أن لديه (يقصد بافل إيسايف ربيبه) بعض خطابات كنت قد تلقَّيتها في هذا العام، وهي خطابات على جانب كبير من الأهمية. أحد هذه الخطابات تلقَّيته من صديقتي السابقة كروكوفسكايا. ليته يُعيد إرساله إليَّ هنا. هذا أمر شديد الأهمية بالنسبة لي» (الخطابات، ص١٨٧). هذه السطور القليلة التي تنم عن قلق بالغ، إنما تعكس أنه على الرغم من مرور عدة سنوات والبعد مئات الكيلومترات، فإن ذكريات الكاتب عن «الحورية» المسماة باليبين كانت ما تزال تعبث بمشاعره.

يحكي دستويفسكي فيما بعد لأنَّا جريجوريفنا قائلًا: «أنَّا فاسيليفنا واحدة من أفضل النساء اللائي قابلتهن في حياتي. كانت شديدة الذكاء، ناضجة، تمتلك ثقافةً أدبية واسعة، وكان لديها قلب طيب ورائع. كانت فتاةً تمتلك خصالًا خلقية رفيعة، على أن أفكارنا كانت على طرفَي نقيض، وكان من المستحيل أن تتراجع عن أفكارها، بل كانت متمسكةً بها بشدة؛ ولهذا كان من الأرجح ألَّا ينجح زواجنا. أحللتها من وعدها، وتمنَّيت لها مخلصًا أن تقابل الرجل الذي يشاركها أفكارها، وأن تجد سعادتها معه!»

بعض فتيات دستويفسكي المتكبِّرات المسيطرات، مثل كاترينا إيفانوفنا في «الإخوة كارامازوف»، يعكسن وجهًا من وجوه «خطيبة دستويفسكي» صاحبة الشخصية المهيمنة.٣
١  دستويفسكي نفسه (المترجم).
٢  بالفرنسية في الأصل (المترجم).
٣  عن مصير أنَّا فاسيليفنا كورفين كروكوفسكايا (أخت صوفيا كوفاليفسكايا (قبل الزواج كورفين، كروكوفسكايا) (١٨٥٠–١٨٩١م): عالمة رياضيات، دكتوراة في الفلسفة، ماجستير في الفنون الجميلة). تقول أنَّا جوريجوريفنا إنه: «كان مصيرًا محزنًا؛ فبعد انفصالها عن فيودور ميخايلوفيتش سافرَت للخارج والتقت بشابٍّ فرنسي يُدعى السيد جاكلار، يؤمن بنفس أفكارها السياسية، وقد أحبَّته وتزوَّجا، وفي أثناء كومونة باريس، كان جاكلار من أنصار الكومونة المتحمِّسين، أدرج اسمه في قائمة المحكوم عليهم بالإعدام، وقد تمَّ القبض عليه وسجنه في إحدى القلاع بالقرب من الحدود الألمانية، وهنا قام والد أنَّا فاسيليفنا بدفع رشوة قيمتها عشرون ألف فرنك للشخص المكلَّف برقابته، فهيَّأ له الفرصة للهرب إلى ألمانيا. بعد ذلك قام جاكلار كورفين (بعد أن أضاف اسم عائلة زوجته إلى اسمه وفقًا للتقاليد الأجنبية) بالسفر مع أسرته إلى بطرسبورج، حيث عمل بتدريس الأدب الفرنسي في ثانويات البنات. عاش جاكلار في ود ووئام مع زوجته، لكنه شعر بالحنين إلى وطنه، وهو ما أثار الخوف في أنَّا فاسيليفنا، وسرعان ما تدهورت أحوالهما المادية، وقد أنفق مبلغًا كبيرًا من الدوطة التي دفعتها أنَّا فاسيليفنا على عملية إجهاض، ولسوء الحظ لم يبقَ لهما بعد مرور بضع سنوات سوى بيت في جزيرة فاسيليفسكي مرهون مقابل مبلغ كبير من المال. كان للإفلاس الذي حاق بهما أثره الشديد على أنَّا فاسيليفنا، حتى إنها، وهي المعتلة الصحة، راحت تذبل بشدة، وهنا عاد بها زوجها، الذي كان ما يزال يمتلك الحق في العودة للوطن، إلى باريس، وكانا يعودان من حين إلى آخر إلى بطرسبورج لقضاء بعض الأعمال، وفي أثناء مرضها الأخير، نجحتُ ومن خلال قسطنطين بوبيدونوستسيف، أن أقدِّم خدمةً لأنَّا فاسيليفنا تمثَّلت في تقديم التماس لزوجها، الذي أُبعد عن العاصمة لمدة يومَين للاشتباه السياسي، بحيث تُتاح لهما بضعة أسابيع يتمكَّن خلالها من تدبير أموره، ومصاحبة زوجته المريضة وطفلهما للسفر للخارج. تُوفيت أنَّا فاسيليفنا في باريس عام ١٨٨٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤