تمهيد

كانت نهاية الأسرة الثامنة عشرة — وهي آخر مرحلة وصلنا إليها في الجزء السالف — فاتحة عصر جديد في تاريخ مصر وسياستها في الداخل وفي الخارج، وهو عصر قيام الإمبراطورية الثانية على يد سلسلة من الفراعنة الأماجد.

فقد قضى «حور محب» على النظام الديني الذي اصطفاه «إخناتون»، وكان يُعد في جوهره وثبة قوية نحو عقيدة التوحيد الحقة، فرجعت البلاد ثانية إلى ديانتها التقليدية العتيقة التي ارتضتها لنفسها منذ فجر التاريخ، قاد هذه الحركة الرجعية «حور محب» آخر ملوك هذه الأسرة، فأعاد الأمور إلى نصابها، وسنَّ من القوانين الرادعة ما ضرب به على أيدي العابثين، فاستقرَّ الأمن بعد أن اختلَّت موازينه في البلاد.

ولقد أراد أن يرأب صدع إمبراطوريته من الخارج، وأن يعيد إليها أملاكها الضائعة، ولكن الموت أسرع إلى اختطافه؛ فمات قبل أن يحقق ما كان يعتلج بين جوانحه من آمال.

وقد خلفه على العرش قائده ووزيره الأكبر وولي عهده الذي أحسن تدريبه قبل وفاته على سياسة الملك، ونعني به «رعمسيس الأول»، وقد أنجب سلسلة من الفراعنة العظام لا ينتسبون من بعيد أو قريب إلى فراعنة الأسرة الثامنة عشرة الذين دبَّت في أجسامهم عقارب الترف، ودلف إلى نفوسهم الوهن، وانحلال الأخلاق؛ فطواهم الدهر، وذرتهم أعاصير الفناء.

نبتت أسرة «رعمسيس» في مقاطعة «ستوريت» في شمال «الدلتا»، ولقد خلف «رعمسيس» على العرش ملكان يعدان من أمجد الفراعنة الذين وُلوا أمر الكنانة، وهما: «سيتي الأول»، وابنه «رعمسيس الثاني»، وهما المحور الذي يدور حوله بحثنا في هذا الجزء من الكتاب.

ولقد تمت في عهد هذه الأسرة أعمال عظيمة ميزتها في التاريخ المصري على الرغم من قِصر عهد ملوكها، ويبتدئ عهدها في نحو سنة عشرين وثلاثمائة وألف قبل الميلاد، ويعتبر هذا العهد تجديدًا في الدم الملكي المصري؛ فهذه الأسرة العريقة التي وضعت حدًّا للتناحر حول سرير الملك، وتربعت على عرش «حور»، تنتمي إلى شمال «الدلتا»، ونُسلت من أصول كانت في خدمة الإله «ست» إلههم المحلي، ذي السمعة السيئة في سائر البلاد الذي قتل أخاه «أوزير» صاحب الخلق الرفيع، والسمات الفاضلة.

وما عهدنا من قبل أن تجيء فراعين البلاد من هذه الطريق، بل كانوا ينحدرون من أصل «منفى»، أو من أرومة «طيبة»، أو يترعرعون في مقاطعات مصر الوسطى بين «قفط» و«الفيوم».

وأول من قام بأعباء الحكم في هذه الأسرة الجديدة — كما نعلم — رجل حنكته تجارب السنون، وصهرت أخلاقه الأحداث الجسام التي انصبت على البلاد في عهد الانتقال؛ ذلكم هو «رعمسيس الأول» الذي كان أول حياته قائدًا ووزيرًا للفرعون «حور محب»، واعتلى عرش الملك بعد وفاة سيده مباشرة، وقد سار بالبلاد قدمًا في طريق الإصلاح على النهج الذي رسمه له «حور محب»، فكان أول ما وجه إليه عنايته إعلاء شأن الإله «آمون» بمشايعة كهنته ومؤازرتهم، والعمل على رد سلطانهم، فأسس قاعة العمد العظيمة بالكرنك التي تعد نسيجًا وحدها بين المباني الدينية التي خلفها لنا الفراعنة، وقد غلبت الزمن، وبقيت حتى الآن ثابتة في مكانها برهانًا بيِّنًا على النهضة الجديدة التي قام بها فراعنة هذه الأسرة الأماجد، غير أن القدر المحتوم لم يطل في عمر «رعمسيس الأول» ليتم هذه القاعة الفخمة، وليسير قدمًا بالبلاد نحو تحقيق أغراضها؛ إذ كان قد تولى الحكم وهو في شيخوخته، ولكنه مع ذلك كان قد أعد للأمر عدته، فأشرك معه في حكمه القصير ابنه «سيتي الأول» الذي كان آنذاك مكتمل الرجولة في الحلقة الرابعة من عمره أو يزيد، ولا نزاع في أنه قد حضر الدور الهام الذي لعبه «حور محب» في العمل على إعادة بنيان الإمبراطورية التي كانت قد تداعت وذهب ريحها، فرأى نُظم الإصلاح التي سنها لإعادة الأمن في الداخل، كما لمس السياسة التي انتهجها ليرد إلى مصر اعتبارها وهيبتها في الخارج. وكان «سيتي» نفسه قد تربى تربية عسكرية من الطراز الأول، وتحدثنا الآثار أنه كان قائدًا محنكًا قبل أن يتولى الملك؛ إذ قاد الجيوش لمحاربة أعداء والده. ولما حضرت «رعمسيس الأول» الوفاة كان راضيًا مطمئنًّا على مصير البلاد التي خلقها من جديد؛ لأنه ترك من خلفه شبلًا كان يجمع بين الجندية والسياسة، والتدين وأصالة الرأي في تسيير أمور الدولة. وسيرى القارئ أن «سيتي الأول» كان حاكمًا من الطراز الأول؛ ركز همَّته في إعادة النظام «ماعت» الذي كانت قد عصفت به الأهواء مدة الانقلاب، وبخاصة بعد وفاة «إخناتون»، وهو ذلك القانون الذي سنه الإله «رع» أول من حكم على الأرض، كما حدثتنا بذلك الأساطير المصرية، وقوامه: العدالة، والصدق، والحق، وتأدية الواجب على الوجه الأكمل دون تقصير أو تراخٍ، وهو الذي سارت على سنته كل فراعنة مصر، حتى أن من يحيد عن سبيله لا يكون جديرًا بأن يُدعى «ابن رع». وقد ارتضى المصريون هذا النظام عن طيب خاطر، وقنعوا بالملكية نظام حكم لهم طوال مدة تاريخهم، اللهم إلا فترات انحرف فيها الملوك عن «ماعت»؛ فانفض الشعب من حولهم، وهبت في وجوههم الثورات تطالب بعدالة «ماعت» التي كانت غذاء الآلهة وقوام حياتهم، كما كانت طعام الشعب وعماد حياته. ولا غرابة إذن في أن نرى الشعب المصري كان يخضع للفراعنة خضوعًا تامًّا، ويعتقد أن ما كانوا ينطقون به هو الصواب الذي لا مرية فيه؛ لأنه جاء من وحي «ماعت» التي سنها «رع» أول من حكم العالم، ثم سار على نهجها الفراعنة من بعده؛ من أجل ذلك نرى في الصور الفرعونية أن أهم قربان وأثمن هدية يقدمها الفرعون للآلهة هي صورة «ماعت» التي تتمثل في هيئة امرأة ترتدي على رأسها ريشة يرمز بها للعدالة «ماعت»، وكثيرًا ما نشاهد «سيتي الأول» يقدمها للآلهة، كما أنه لزامًا على كل قاضٍ ممن يفصلون في قضايا الشعب أن يحلي صدره بصورة «ماعت»، وعند النطق بالحكم كان يقبض على هذه الصورة بيده، ويتجه بها نحو من في جانبه الحق، فكأنه يقول له: «إن العدالة في جانبك.»

وعلى هدى «ماعت» سار «سيتي» في حكم البلاد؛ فأسعد أهلها، وأرضى آلهتها، وبذلك استتب له النظام في الداخل؛ مما هيأ له القيام بتنفيذ الخطة التي رسمها لإعادة الإمبراطورية المصرية شمالًا وجنوبًا كَرَّة أخرى.

وقد كان أول ما قام به في الداخل هو إعادة مجد الآلهة الذين خذلهم «إخناتون»، وقضى على عبادتهم جملة في أنحاء الإمبراطورية، وبخاصة عبادة الآلهة «آمون»، و«أوزير»، و«بتاح»، فأقام معبدًا فخمًا «بالعرابة المدفونة»، وهو المعروف بمعبد «سيتي» الآن، ورصده لعبادة «أوزير» أولًا، وكذلك أقام فيه محاريب للآلهة «آمون»، و«حور»، و«إزيس»، و«بتاح»، و«حور اختي»، ولنفسه. ونقوش هذا المعبد وحُسن تنسيقه، وفنه الرفيع تعد من آيات الفن الذي خلفه لنا عصر الرعامسة. والطريف المدهش في أمر «سيتي الأول» أنه ينتسب باسمه للإله «ست» الذي كان معبود مقاطعته المحلي، ومع ذلك لم يُفرد محرابًا لعبادة هذا الإله، كما أُفرد لغيره من المحاريب في معبد «العرابة المدفونة»، ولعله كان يقصد بذلك عدم إغضاب أتباع «أوزير» الذي كان تعلقه وتعلق الشعب به عظيمًا، حتى إنه أقام لنفسه ضريحًا بالعرابة قبلة المصريين بالقرب من ضريح «أوزير» هذا إلى أنه كان يعد نفسه بمثابة «حور» الذي خلف والده على عرش الملك، وبخاصة إذا علمنا أن «سيتي الأول» لم يكن من دم ملكي، فاتخذ من تعظيم «أوزير» سندًا يعاضده في ادعائه عرش الملك، ولم يقصر «سيتي» همَّه على إقامة هذه المباني الفذة، بل قام بإصلاحات شاملة عظيمة في المباني المقدسة بالعرابة، وأوقف عليها الأوقاف الضخمة في بلاد النوبة التي كانت على ما يظهر مزدهرة وقتئذ بالمزارع اليانعة، وتزخر بكل أنواع الطيور والحيوان، وقد سنَّ القوانين لحمايتها من يد العابثين، وكذلك استخرج الذهب من بلاد النوبة للإنفاق عليها بعد أن عبَّد الطرق المؤدية إلى المناجم، وأمدَّها بالمياه والمؤن لحماية العمال، وهو في كل ذلك كان يراعي مصالح العمال والفلاحين؛ إذ كان يمدهم بالغذاء والكساء والماء؛ لدرجة تسترعي الأنظار في حسن المعاملة، ونجد كل ذلك مدوَّنا على جدران معبد الرديسية الذي أقامه بالقرب من مناجم الذهب في الصحراء الشرقية على مسافة قريبة من مدينة «إدفو»، وكذلك على اللوحة التي أقامها في بلدة «نوري» من أعمال بلاد النوبة. ولم يقتصر «سيتي» على إقامة المباني الضخمة للآلهة ولنفسه، بل أخذ كذلك على عاتقه إصلاح ما خرَّبه «إخناتون» خلال مدة حكمه عندما قام بحملة شاملة لمحو اسم «آمون» وغيره من الآلهة، وقد كان «سيتي» من الفراعنة المعدودين بين ملوك مصر؛ إذ أعاد الأسماء والنقوش الأصلية إلى أصحابها على الآثار دون أن ينسبها لنفسه، بل اكتفى بأن ينسب لنفسه فضل إصلاحها، اللهم إلا بعض آثار كانت ﻟ «إخناتون» ادَّعاها لنفسه، والشيء الذي يلفت النظر في إصلاحاته أنها كانت شاملة كاملة في كل أنحاء الوادي، فلم يترك مبنى صغيرًا أو كبيرًا بعيدًا أو قريبًا حتى أصلح ما أفسده «إخناتون»، أو قضت عليه الأيام والليالي.

وقد قفا في سياسته الخارجية أثر الفاتح العظيم «تحتمس الثالث» لإعادة الإمبراطورية التي ضيعها «إخناتون»؛ فكان أول ما قام به تأمين خطوط مواصلاته بين مصر وسواحل سوريا وفينيقيا؛ ليكون على اتصال مباشر ببلاده إذا ما أوغل في الفتح من جديد في قلب آسيا، وقد تم له ما أراد في هذه الجهات إلى حدٍ ما؛ إذ أعاد لمصر فلسطين، وجزءًا من جنوبي سوريا، واشتبك مع ملك «خيتا» في موقعة بالقرب من مدينة «قادش» كانت هي نهاية المواقع التي شنها على تلك المملكة، غير أنها لم تكن من المواقع الفاصلة.

ولا نزاع في أن ما أحرزه «سيتي» في بلاد آسيا من فتح جديد كان عملًا جليلًا، وبخاصة إذا علمنا أن ما أعاده لمصر من أملاكها أخذه بالنضال مع دولة «خيتا» الفتية القوية، ولم يكن له قِبل بمناهضتها بعدُ.

وقد قام اللوبيون في غربي مصر بحملة على تخوم الفرعون، فسار إليهم بجيش جرار هزمهم به في عُقر دارهم، ولم تقُم لهم قائمة بعد ذلك إلى أن هبُّوا مرة أخرى لمحاربة مصر، والإغارة على تخومها في عهد حفيده «مرنبتاح»، وكذلك كانت الحال مع بلاد النوبة؛ فقمَع الثورات التي هبت فيها؛ مما مهد له السبيل لتثمير مناجم الذهب في تلك الجهات، وقد ترك لنا هذا الفرعون صورة رائعة تمثل حروبه في آسيا وأفريقيا على جدران معبد الكرنك، غير أن عوادي الزمن قد طغت على جزء كبير منها.

وإذا كانت الإمبراطورية المصرية في آسيا لم تمتد رقعتها في عهده إلى ما كانت عليه في زمن «تحتمس الثالث»، فليس ذلك لفتور في روح «سيتي» الحربي، ولكن لحسن تقديره للأمور، فقد لمس بنفسه عندما التحم رجال الجيش المصري وجيش «خيتا» للمرَّة الأولى منذ عهد «تحتمس الثالث» في واقعة حربية بقيادة ملك «قادش» يؤازره حلفاء عديدون؛ أن مصر لا قِبل لها بكسر هذه الجيوش المجتمعة، ومن ثم رأى أن الوقت لم يحن بعد لأن تنازل مصر مثل هذه العدو الجبار كرة أخرى، فترك الأمر لابنه الصغير الذي كان قد أشركه معه في تسيير أمور الملك منذ صباه.

ولما أخذ «رعمسيس الثاني» مقاليد الحكم في يده منفردًا (سنة ١٢٩٠ق.م) سار على نهج والده في سياسته الداخلية والخارجية، وقطع فيها شوطًا بعيدًا، وذلك بفضل حكمه الطويل الذي قارب السبعين عامًا، قضاها في عمل مستمر في الداخل والخارج، وأتى خلالها من الأعمال ما ليس له مثيل في تاريخ الفراعنة الذين تربعوا على عرش الكنانة بعده.

وقد انفرد بالملك وهو في حوالي العشرين من عمره؛ فقبض على ناصية الحكم، وهو مدرَّب محنك في أمور الحرب والسياسة، وتدل شواهد الأحوال على أنه كان في صباه أرشق وأجمل فتيان عصره؛ إذ تحدثنا صوره وموميته على أنه كان طويل القامة، نبعي العود، ممشوق القوام، عريض المنكبين، ممتلئ الساعدين قويهما، عضلي الساقين، مستدير المُحيا، ارتسم على فمه الثبات والحزم، وبدت على شفتيه ابتسامة مفترة، أقنى الأنف، واسع العينين كبيرهما، ولسنا مبالغين إذا قرَّرنا هنا أنه لا الشيخوخة ولا الموت نفسه قد أفلحا في تشويه تلك التقاسيم الفاتنة الخلابة التي عمرت قرابة قرن تشويهًا محسًّا، فلم تخلق جدَّتها بصورة ظاهرة. وقد تزوج «رعمسيس الثاني» عدة نساء، منهن ثلاث من بناته، ورُزق من الذكور أكثر من مائة وعشرين، ومن الإناث ما يربي على الستين.

وقد تولى زمام الحكم، وهو عالم بما ينتظره من الأعمال الجسام التي شرع والده في القيام بأعبائها؛ فسار قُدمًا في تنفيذها، وكان الجو مهيئًا لأن يبلغ كل ما كانت تصبو إليه نفس والده، فعمل على إنجازه، وقد كان يشحذ من همته، ويقوِّي من عزيمته لبلوغ مقاصده دم الشباب الذي كان يتدفق في عروقه، ونفسه الطموح إلى إعادة مجد مصر في الخارج، وإسعاد أهلها في الداخل. والواقع أن سياسته كانت منذ بداية حكمه رشيده في كل مظاهرها داخل البلاد وخارجها، إذا راعينا الظروف التي كانت تحيط به وقتئذ، وبخاصة الأمم الفتية التي كانت قد نشأت حول بلاده، وأخذت تشعر بقوتها.

وكان أول ما وجه إليه همه في أرض الكنانة نفسها إظهار مجد الفراعنة الأقدمين الذين عبث «إخناتون» بآثارهم، وهي التي أصلح والده الجمَّ الغفير منها، فأقام لهم من المعابد والمحاريب والتماثيل ما لم يُسمع بمثله من قبل، وبذلك التف حوله الشعب المتدين التفافًا وثيق العرى، وقد انتحى سياسة حكيمة لبلوغ تلك الغاية؛ إذ تقلد في بادئ حكمه رياسة كهانة الإله «آمون» بالكرنك فعلًا مما لم نقرأه بعد في المتون المصرية، ولكنه لم يلبث أن قلدها أحد المقربين إليه من كهنة العرابة (كاهن الإله أُتوريس) عندما شعر بعبء الحكم ومستلزماته، هذا إلى أنه نهج منهج والده الذي ضم كهنة «أوزير» بالعرابة إليه بجعل كبيرهم «وننفر» كاهنًا أكبر لمعبد «أوزير»، ذلك الإله الذي كان يعد من أعظم آلهة الدولة في تلك الفترة.

وتدل شواهد الأحوال على أنه كان هناك اتصال أسري بين كهنة «أوزير» وكهنة الإله «آمون» بالكرنك، وقد عمل هؤلاء الكهنة مجتمعين على جعل كل وظائف الدولة الهامة في أيدي أفراد أسرتهم بما كان لهم من سلطان روحي على الشعب في تلك الفترة. وتدل الأحوال على أن «رعمسيس الثاني» نفسه لم يعارض في ذلك، فنقرأ في الآثار التي تركوها لنا أنه كان من بينهم الوزير، والقائد، ورئيس الشرطة، وحاكم السودان، ورئيس المالية. وكان نساؤهم يشغلن أهمَّ الوظائف الدينية في مختلف المعابد المصرية؛ وبذلك أصبح «رعمسيس» مسيطرًا على داخلية البلاد من الوجهة الدينية والإدارية بتلك البطانة المخلصة لعرشه؛ مما سهل له تنفيذ كل مآربه على حسب نظام «ماعت».

وقد كان التوفيق حليفه في كل المشروعات التي قام بإنجازها في داخل البلاد وخارجها؛ ففي الداخل أقام العمائر الدينية التي أصبحت فيما بعد مضرب الأمثال في الضخامة والعظمة والأبهة؛ مما يدل على الرخاء ووفرة المال، فأقام لنفسه ولإلهه «آمون» معبدًا جنازيًّا يحتوي قصرًا فاخرًا له يطلق عليه المحدثون الآن اسم «الرمسيوم»، وهو في ضخامته، واتساع رقعته، وحسن تنسيقه لا يدانَى، حتى إنه أصبح فيما بعد يعد من العجائب التي تحدث بها الكتَّاب اليونان. ولا تزال بعض بقاياه الضخمة تنطق بما كان عليه من أبهة وبهاء، وقد أوقف عليه الضِّياع، وأمدَّه بالموظفين والكهنة من كل صنف. وكذلك حفر لنفسه مقبرة عظيمة في أعماق صخور «طيبة» الغربية، وأقام المعابد للآلهة ولنفسه — لأنه كان مؤهلًا — في جميع أنحاء القُطر، في أمهات المدن مثل: «منف»، و«هليوبوليس»، و«طيبة»، و«العرابة»، و«تانيس»، وزيَّنَها بالتماثيل والمسلات التي يخطئها العد، وقطع لها الأحجار من محاجر سينا، والجبل الأحمر القريب من القاهرة، ومن جبال أسوان، هذا فضلًا عن أنه لم يترك مكانًا أثريًّا من الأمكنة التي أقامها أجداده الفراعنة الذين سبقوه إلا جدَّده أو زاد في مبانيه؛ اعترافًا منه بجميل آلهته الذين آزروه في ساعة العسرة، وحبوه النصر والقوة، وتفاخرًا بقوَّته وعِظم سلطانه؛ ولذلك نجد أن مبانيه — على الرغم مما أصابها من تهديم وتخريب — لا تزال بقاياها في كل أنحاء القطر، غير أنه مما يؤسف له جد الأسف أنه في كثير من الأحيان كان ينتحل آثار أسلافه بصورة ظاهرة، وقد كان ذلك سببًا في تحقير أعماله العظيمة في نظر بعض المؤرخين. والواقع أن ما اغتصبه لا يكاد يعد شيئًا بالنسبة لما أنجزه من أعمال ضخمة في فنيْ النحت والبناء، وبخاصة ما أقامه من المعابد الهائلة الحجم في بلاد «النوبة»؛ فقد بنى فيها عدة عمائر للآلهة كانت في الواقع فريدة في بابها؛ فقد نحتها كلها في الصخر بدلًا من إقامتها بالحجر، وبخاصة معبد «بو سمبل» الذي يعد مفخرة الزمان، ثم معبد «بيت الوالي»، ومعبد «السبوع»، ومعبد «جرف حسين»، ومعبد «الدر»، وغيرها مما لا تزال بقاياه موجودة حتى الآن.

وإذا صدَّقنا ما تركه لنا «رعمسيس الثاني» ووالده «سيتي الأول» من نقوش عن معاملتهما لأولئك العمال الذين نحتوا من الجبال تلك البيوت المقدسة، وقطعوا تلك التماثيل الهائلة للآلهة؛ لسقط كل ما يُنسب إليهم من أعمال «السخرة» والعسف؛ ولعلمنا أن العمال كانوا ينعمون برغد العيش، وبالتشجيع الأدبي الذي كان يلقيه الفرعون على عماله بنفسه.

أليس هو«رعمسيس الثاني» الذي يقول في إحدى الوثائق التي تركها لنا في وصف معاملته لعماله وتشجيعه لهم: «أنتم يأيها الرجال الطيبون، يا من لا يعرفون التعب، ويأيها الحراس الساهرون على العمل طوال الوقت، ويا من ينفذون واجباتهم على الوجه الأكمل، وأنتم يا من يقولون إننا نعمل بعد التروِّي؛ فنقوم بهذه الخدمات في الجبال المقدَّسة، لقد سمعت ما يقوله بعضكم لبعض، وإن فيكم لبركة؛ لأن الأخلاق تظهر في تضاعيف الكلام، وإني «رعمسيس» الذي ينشئ الشباب بإطعامهم، والأغذية أمامكم وفيرة حتى أصبح لا يتلهف عليها أحد من بينكم، والطعام غزير حولكم، ولقد كفيت حوائجكم من كل وجه صحيح حتى تعملوا بقلوب مُحبة، وإني دائمًا المحافظ على حوائجكم، وإن المؤن قد أصبحت لديكم أثقل من العمل نفسه؛ وذلك لأجل أن تنفذوا وتصبحوا عمالًا صالحين للعمل؛ لأني أعلم علم اليقين عملكم الذي ينشرح له صدر كل من يعمل فيه عندما يكون البطن مملوءًا؛ فالمخازن مكدسة بالغلال أمامكم، ولا يمر يوم تحتاجون فيه للطعام، وكل واحد منكم عليه عمل شهر (بالتناوب)، ولقد ملأت لكم المخازن بكل شيء، من خبز ولحم وفطائر ونعالٍ وملابسَ، وكذلك العطور لتعطير رءوسكم كل أسبوع، ولكسائكم كل سنة، ولأجل أن تكون أخمص أقدامكم صلبة دائمًا، وحتى لا يكون من بينكم من يمضي الليل يئن من الفقر، ولقد عينت خلقًا كثيرًا ليموِّنوكم من الجوع، وكذلك خَصصت سماكين ليحضروا لكم سمكًا، وزرَّاعًا لينبتوا لكم الكروم، وصنعت لكم أواني واسعة على عجلة صانع الفخار، مسوِّيًا بذلك أوعية لتبريد الماء لكم في فصل الصيف. والوجه القبلي يحمل لكم حَبًّا للوجه البحري، والوجه البحري يحمل للوجه القبلي حَبًّا وقمحًا وملحًا وفولًا بكميات وافرة، ولقد قمت بعمل كل هذا لأجل أن تسعدوا وأنتم تعملون بقلب واحد.»

ولا نزاع في أن هذا الوصف الرائع لا يحتاج إلى تعليق، ولا يمكن لعامل أن يطلب عليه من مزيد، كما أنه لا يصوِّر لنا من فراعنة مصر جبابرة سخَّروا الناس لقضاء شهواتهم ومآربهم.

والواقع أن ما لدينا من وثائق يدل دلالة واضحة على أن كل طبقات الشعب في ريف البلاد وصعيدها، مدنها وقُراها كانوا في عيش رغيد؛ مما يشعر بأن نظام «ماعت» كان سائدًا مُراعًى في طول البلاد وعرضها.

فنرى الجندي في ساحة القتال، وبعد أن تضع الحرب أوزارها يرتع في بحبوبة العيش الناعم، ولا أدلَّ على ذلك مما جاء على لسان «رعمسيس الثاني» نفسه عندما تخلى عنه جنوده في ساحة القتال في موقعة «قادش» عند منازلة مملكة «خيتا» إذ يقول:

ألم أقم فيكم سيدًا حين كنتم من البائسين، ومع ذلك رضيت عن طيب خاطر أن تصبحوا عظماء بواسطة حضرتي كل الأيام، فقد ورَّثت الابن متاع الوالد، وأبعدت كل الظلم الذي كان في الأرض، ونزلت لكم عن جزية أرضكم، ومنحتكم أخرى إذا اغتُصبت منكم، وأنصفت من استنصفني، وكنت أقول له (آي آمون): كل يوم ليس هناك سيد عمل لجنوده ما عمل جلالتي، وذلك على حسب ما تهوى قلوبكم، وسمحت لكم أن تبقوا في مدنكم دون القيام بمهام الجندية، وجعلت لخيالتي طريقًا إلى مدنهم — أي سمحت بالعودة إلى مدنهم — على شرط أن أستدعيهم لمثل هذا اليوم وقت خوض المعارك … إلخ.

وكذلك كانت الحال في عاصمة الملك، فكان من فيها يتمتعون بحياة سعيدة ليس وراءها لطالب من مزيد. وقد ترك لنا كتَّاب هذا العصر بعض الرسائل في وصف هذه الحاضرة ومباهجها، وما فيها من خيرات تتدفق عليها من كل أصقاع الإمبراطورية، ويخيل لمن يقرؤها أنه يسمع وصف جنات النعيم التي نقرأ عنها ونتخيلها: «حقًّا إن الإنسان ليبتهج بالسكنى فيها؛ إذ لا ينقصها رغيبة تخطر على بال، وقد تساوى فيها الصغير والعظيم.»

أما أهل القرى والفلاحون فكانت تحميهم من عسف الحكام وظلمهم قوانين خاصة يقوم بتنفيذها الوزير الذي كان يسهر على راحة كل مواطن منفذًا قانون «ماعت»، كما كان لرجال الدين والمعابد ضِياع تزخر بالثراء والخيرات الوفيرة، وقد سنَّ لها قوانين رادعة لكل من يتعدَّى عليها؛ هذا إلى إعفائها من الضرائب في مصر، وفي بلاد النوبة.

ولقد كانت القوانين صارمة لدرجة أن كل من تعدَّى على تلك المؤسسات الدينية يُجدع أنفه، ويُجلد مائة جلدة، ويكوَى بالنار كيًّا داميًا، ويُلزم بغرامة تبلغ أحيانًا مائة ضعف لما اغتصبه.

ولقد بلغ من شأن رجال الدين ونفوذهم في البلاد وقتئذ أن أصبحوا أصحاب ثروة عظيمة، ومكانة قوية؛ مما مهد لهم السبيل فيما بعد إلى قيام أسرة منهم قبضت على زمام الملك، وأصبحوا فراعنة في نهاية الأمر.

والواقع أن «رعمسيس الثاني» كان من الممهِدين لهذا الانقلاب حينما ضعف أمام كهنة «آمون»، وألقى في أيديهم رياسة الكهانة في «الكرنك»، وفي «العرابة». وقد زاد الطين بلة أن «رعمسيس» اعترف لهذه الطائفة بأن تنصيب الكاهن الأكبر ﻟ «آمون» قد جاء من وحي الإله وبإذنه، وأنه لا دخل له فيه، ومن ثم أصبحت سلطتهم جارفة، حتى أصبحوا يؤلفون في الواقع مملكة داخل مملكة، ليس للفرعون عليها سلطان إلا بالاسم.

وهكذا نرى أن البلاد كانت في ظاهرها في باكورة الأسرة التاسعة عشرة تسير سفينتها في ريح رخاء تهب عليها نسمات الحياة الدافعة إلى بر السلامة والعزة، إلى أن أرساها «رعمسيس الثاني» في الميناء بين سفن العالم الناشئ؛ فكانت أجملها منظرًا، وأرحبها شراعًا، وأثمنها حمولة، حتى إذا ما قامت الدول الأخرى لمناهضتها في مكانتها ومباهاتها في عزتها وقوة بأسها بعد وفاته كان من نصيبها الخيبة وسوء المنقلب فترة من الزمان.

والواقع أن «رعمسيس الثاني» ومن قبله والده «سيتي الأول»، و«رعمسيس الأول» قد أخذوا في إعادة مجد مصر الخارجي بكل الوسائل الفعالة الممكنة، وقد لعب «سيتي» دوره، وخلفه «رعمسيس» فقام بدوره خير قيام. ومن الغريب أن بعض المؤرخين لم يعطوا «رعمسيس الثاني» حقَّه من العظمة في حروبه التي شنها على بلاد «خيتا»، ودويلات آسيا الصغرى حلفائها، فينحون عليه باللائمة؛ لأنه لم يفلح كل الفلاح في استعادة الإمبراطورية المصرية كما كانت عليه أيام «تحتمس الثالث»، ولكن فاتهم أن «رعمسيس الثاني» كان في عهده يحارب جيش أمة فتية لها حلفاء أشدَّاء، وأن الجيش الذي تقابل معه «رعمسيس الثاني» في موقعة «قادش» العظيمة، وقد أصاب فيها النصر إلى حدٍّ لا بأس به على «خيتا» وحلفائها كان أعظم قوَّة، وأشد بطشًا من ذلك الجيش الذي اشتبك معه «تحتمس الثالث» في موقعة «مجدو» مع «خيتا»، وما جاورها من الممالك الصغيرة.

هذا فضلًا عن أن «رعمسيس الثاني» لم يكن يحارب للفتح، بل كان يحارب لاسترداد ما ضيعه «إخناتون». وعلى أية حال، فإن «رعمسيس» كان حكيمًا في سياسته الخارجية، وبخاصة في حروبه؛ فقد أفلح فيها إلى حدٍّ بعيد؛ إذ إنه في نهاية الأمر اضطر عدوه ملك «خيتا» ومن معه إلى طلب الصلح، وإبرام معاهدة في السنة الواحدة والعشرين من حكمه بعد أن مد فتوحه إلى بلاد «نهرين» كما يقول في نقوشه، وتدل شروطها على أن مصر كانت صاحبة اليد الطولى في إملاء فقراته.

وتعد هذه المعاهدة أقدم وثيقة من نوعها في تاريخ الشرق القديم، بل وفي تاريخ العالم الدولي، والمطلع على نصوصها يجد أنها الأساس الذي سارت على نهجه أمم العالم فيما بعد في إبرام المعاهدات. ومن الطريف أن صيغة هذه المعاهدة ظلت معروفة لنا بالمصرية فحسب، إلى أن كُشف حديثًا عن نسخة منها في مدينة «بوغازكوي»، التي قامت على أنقاض عاصمة «الخيتا» القديمة، وقد وجدت بين سجلات وزارة الداخلية التي تركها لنا ملك «خيتا» وقتئذ، فكانت من أدهش الصدف التي فاجأتنا بها الكشوف الحديثة.

بهذه المعاهدة عقدت أواصر المهادنة بين البلدين، وأصبحت مصر آمنة مطمئنة من هذه الجهات، وتراسل بعدها ملك مصر مع ملك «خيتا»، كما تراسلت ملكة مصر «نفرتاري» مع ملكة «خيتا»، بما يدل على الود والإخاء، وجاءت الوفود إلى مصر من كل الأقطار الأسيوية، واكتظت عاصمة الملك «بررعمسيس» بسفراء الدول وعظماء الأجانب، واتخذوا من حاضرة الملك هذه سكنًا لهم، وأصبحت الآلهة الأجنبية تُعبد في مصر، كما أصبحت الآلهة المصرية تُعبد في الأقطار الأسيوية، وبذلك أصبحت «بررعمسيس» ملتقى كل حضارات الشرق والعالم المعروف وقتئذٍ، فنقرأ عن المعابد التي أقيمت للآلهة الأجنبية فيها، والتماثيل التي صُنعت لها في كل أنحاء القطر، وبخاصة في عاصمة الملك الدينية «تانيس».

وجيء بالمفتنين الأجانب للعمل فيها، كما كانوا يعملون في حاضرتها السياسية، وهناك أقيمت المحاريب للآلهة الأسيوية الذين كان يتعبد لهم الملوك والأفراد على السواء.

وقد بالغ الفرعون في العناية بهذه الآلهة، فسمى إحدى بناته باسم الإلهة «عنتا» الأسيوية، وعندما تزوج ببنت ملك «خيتا»، التي أحضرها والدها ليقدمها لهذا الفرعون ثمنًا للصداقة بين البلدين أطلق عليها اسمًا مصريًّا هو: «مات نفرو رع»؛ أي التي ترى جمال رع.

وفي هذه الفترة ازدادت روابط الود بين مصر وجيرانها بالتجارة، فقد كان لمصر أسطول عظيم يروح ويغدو في ميناء عاصمتها، حاملًا لمصر من خيرات البلاد الأجنبية كل أنواع الطرائف، فكان يَرد إليها الأثاث المُطعم من بلاد «العاموريين»، ومن بلاد «قدي»، والأسلحة والخمر والفاكهة من بلاد «خيتا»، والزيت من سهول بلاد «سوريا»، والنحاس من «قبرص»، والخيل من «سنجار» (بابل)، والثيران من «خيتا»، والغلمان الذين كانوا يمتازون بجمالهم وحُسن هندامهم للقيام على خدمة الفرعون من بلاد «كركيسيا»، وكانوا عندما يتقدمون في السنِّ — كما تقول النقوش — يوضعون في المطابخ، ويُكلَّفون بصنع الجعة. وكذلك كانت التجارة رائجة بين مصر وكريت، وغيرها من بلاد الشرق، وبخاصة الأواني المزخرفة التي كانت محببة لدى المصريين، حتى إنها كانت تقلد محليًّا.

ومما تجدر ملاحظته هنا كذلك، أنه في هذه الفترة من تاريخ البلاد أخذ المصري يتحرَّر من قيود الماضي في نواحٍ كثيرة، فلم يعد بعد يحب البقاء في عقر داره، بل أخذ يجوب البلاد الأجنبية، ويتعرَّف مجاهلها، ويفتخر بمعرفة جغرافيتها، وتخطيط بلدانها، حتى أصبح كل نابغ في هذا الباب يطلق عليه لفظ «ماهر»، وقد كان من جرَّاء هذا الاختلاط وتلك المغامرات أن اتسع أفق تفكيره، وأخذ يدرس العلوم الرياضية والهندسية؛ ليكون جديرًا بهذا الاسم، وكذلك أخذت الألفاظ السامية تشق طريقها إلى اللغة المصرية؛ حتى أصبح من علامات المعرفة والثقافة أن يستعمل المتعلم الألفاظ السامية في حديثه، وفي مخاطباته؛ ومن ثم أخذت الألفاظ الأجنبية على وجه عام تحتل مكانًا ساميًا في اللغة المصرية. وكذلك كان من نتائج هذا الاختلاط أن فُتحت أبواب الجيش والوظائف الحكومية للأجانب الذين كانوا يهاجرون إلى مصر دون خوف، ولا وجل كما حدث في العهد العباسي، وفي عهد المماليك البرجية والبحرية، ومن ثم أخذ الدم المصري يختلط بعض الشيء بالدم الأجنبي في المدن فحسب، أما القرى فكان الدم فيها مصريًّا صميمًا حتى يومنا هذا.

وقد أُحكمت أواصر المودة بين جنوب الوادي وشماله، بما قام به الفرعون من المباني العظيمة في بلاد «النوبة» و«كوش»، ولا سيما أن حاكم هذه الأقطار كان يُلقب بابن الملك؛ ولذلك لم يقم أهل الجنوب بأية ثورة في تلك الفترة من تاريخ البلاد.

وفي مضمار الفنون والعلوم والأدب والدين سجل عصر الرعامسة الأول من التجديد والابتكار ما ميزه عن غيره من العصور المصرية، وطبعه بطابع خاص.

ونجد بعد القضاء على عهد «إخناتون» الذي أحدث في البلاد انقلابًا دينيًّا وفنيًّا معًا أنَّ الفنَّ القديم قد عاد إلى مجراه في كثير من النواحي، غير أنه مع ذلك قد تأثر بفن «إخناتون» الذي كان يدعو للحرية في العمل، وعدم التقيد بالتقاليد القديمة؛ فأصبح المثَّال والرسام حرًّا طليقًا إلى حد بعيد، متأثرًا في ذلك بفن عهد «إخناتون»؛ ولذلك نجد في صور المقابر والمعابد التي تركها لنا هذا العهد خليطًا من صناعة العهدين، نقرأ في مرآته فن عصر الأسرة الثامنة عشرة، وفن عهد «إخناتون» معًا.

وكذلك نهض الأدب نهضة عظيمة شعبية كُتبت كل متونها باللغة العامية السلسة، وتتمثل في القصص الذي تنعكس على مرآته عادات القوم، وأخلاقهم، وخرافاتهم، واتصالاتهم بالبلاد المجاورة، كما يتمثل لنا أدب هذا العصر كذلك في أشعارهم وملاحمهم.

والواقع أن قصيدة «رعمسيس الثاني» التي نقشها على جدران معابده مفتخرًا فيها بانتصاره على جيوش «خيتا»، وما أتاه من ضروب الشجاعة منفردًا في موقعة «قادش» في السنة الخامسة من حكمه تُعد أول ملحمة كُتبت في التاريخ، وهذه الملحمة هي المعروفة خطأ عند عامة الشعب المصري، وعند معظم المتعلمين بقصيدة «بنتاور»؛ لأن «بنتاور» هذا هو ناسخها فحسب.

وقد ضرب المصري بسهم وافر في قرض الشعر الغزلي والغنائي، فدوَّن لنا روائع ذكرنا منها أمثلة تضع المصري في الصف الأول من ناظمي هذا النوع من القريض. وكذلك اتسع أفق كاتب الحِكم والأمثال؛ فأصبح لا يقتصر على تعليم الابن كيف يؤدي واجبه، بل نشاهد فيها في هذه الفترة من التاريخ حيوية وتجارب لم تكن معروفة من قبل.

وكان لعقيدة التوحيد التي طلع بها «إخناتون» على العالم الشرقي أثر بيِّن في عبادة القوم، بل على التفكير الشرقي كله، على الرغم من رجوعهم إلى عبادة الآلهة الأقدمين؛ إذ نلحظ أن الفرد أخذ يتضرع لإله واحد، ويناجي ربه — وإن كان في صور متعددة — وقد انتشر هذا التضرع بين عامة الشعب جنبًا إلى جنب مع العبادة الرسمية. وقد تغلغلت فكرة التعبد المنفرد في نفوس العامة حتى أخذ الفرد يعترف بما اقترف من ذنوب بعد أن كان كل ما يفعله في هذا السبيل نفي كل ذنب عنه، ومن ثم أخذت فكرة التنسك والتحنف تظهر في الديانة المصرية القديمة، وهي الفكرة التي ظهرت في ثوب التصوف فيما بعد، والرهبنة التي هي من بقايا تلك المعتقدات.

هذه نظرة عاجلة في تاريخ الفترة الأولى من عهد الرعامسة، مهدنا بها للقارئ؛ حتى يمكنه أن يتذوق ما فصلناه في هذا المؤلف، وكانت خطتنا في بحثنا هذا — كما هي عادتنا — الرجوع إلى المصادر الأصلية المصرية، وآخر البحوث العلمية. وقد فصلنا القول في بعض الموضوعات التي قد يملَّها القارئ العادي، ولكن غرضنا منها هو أن يطلع عليها الباحث الذي يدرس تاريخ أرض الكنانة لعله يجد فيها بعض مآربه. وفقنا الله لخدمة هذا الوطن الذي أصبح من أهم ما يحتاج إليه الرجوع إلى ماضيه القديم؛ ليكون له منه عبرة وذكرى، وإن الذكرى تنفع المؤمنين، ولا إخال كل وطني إلا عاملًا على قراءة تاريخ بلاده بقلب مخلص سليم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤