الفصل الرابع

طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي يُعَبِّرُ عَنْ رَأْيِهِ

عِنْدَمَا بَلَغَ طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي الْمَوْضِعَ الَّذِي انْهَمَكَ فِيهِ الْقُنْدُسُ بادي فِي الْعَمَلِ فِي جَوْفِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، لَمْ يَخْتَبِئْ كَمَا فَعَلَتِ الْحَيَوَانَاتُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي تَسِيرُ عَلَى أَرْبَعِ أَرْجُلٍ. فَطَبْعًا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يَدْفَعُهُ إِلَى الِاخْتِبَاءِ؛ لِأَنَّهُ شَعَرَ بِأَمَانٍ تَامٍّ. وَكَانَ بادي قَدِ انْتَهَى لِتَوِّهِ مِنْ تَقْطِيعِ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ، وَسَقَطَتْ مُحْدِثَةً صَوْتًا مُدَوِّيًا لَدَى مَجِيءِ سامي مُتَعَجِّلًا. فَعَقَدَتِ الدَّهْشَةُ لِسَانَ سامي لِوَهْلَةٍ؛ فَهُوَ لَمْ يَتَخَيَّلْ أَنَّ أَحَدًا، عَدَا الْمُزَارِعِ براون أَوِ ابْنِهِ، يُمْكِنُهُ تَقْطِيعُ مِثْلِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ الْكَبِيرَةِ، فَخَطَفَ الْمَشْهَدُ أَنْفَاسَهُ، وَلَكِنَّهُ سُرْعَانَ مَا اسْتَرَدَّهَا. فَقْدَ كَانَ يَشْتَاطُ غَضَبًا عَلَى أَيِّ حَالٍ مِنْ فِكْرَةِ كَوْنِهِ آخِرَ مَنْ يَعْلَمُ بِمَجِيءِ بادي مِنَ الشَّمَالِ لِيَتَّخِذَ دَارًا فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، وَهَا قَدْ أَتَتْهُ الْفُرْصَةُ لِكَيْ يُعَبِّرَ عَنْ رَأْيِهِ.

فَصَاحَ بِصَوْتٍ أَجَشَّ قَائِلًا: «لِصٌّ! لِصٌّ! لِصٌّ!»

فَنَظَرَ الْقُنْدُسُ بادي إِلَى أَعْلَى بِعَيْنَيْنِ بَاسِمَتَيْنِ، وَقَالَ: «مَرْحَبًا يَا سَيِّدِي طَائِرَ السِّنْدِيَانِ! أَرَى أَنَّكَ لَسْتَ أَحْسَنَ سُلُوكًا مِنَ ابْنِ عَمِّكَ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْغَابَةِ الَّتِي أَتَيْتُ مِنْهَا.»

فَصَاحَ سامي وَهُوَ يَتَوَاثَبُ مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ: «لِصٌّ! لِصٌّ! لِصٌّ!»

فَرَدَّ عَلَيْهِ بادي قَائِلًا: «أَظُنُّكَ تَتَحَدَّثُ عَنْ نَفْسِكَ؛ فَلَمْ يَسْبِقْ لِي قَطُّ أَنْ رَأَيْتُ طَائِرَ سِنْدِيَانٍ نَزِيهًا، وَلَا أَظُنُّنِي سَأَرَى وَاحِدًا أَبَدًا.»

فَضَحِكَ الْأَرْنَبُ بيتر، الَّذِي كَانَ قَدْ نَسِيَ تَقْرِيبًا أَنَّهُ مُخْتَبِئٌ: «هَا هَا هَا!»

فَقَالَ بادي، وَكَأَنَّ مَكَانَ بيتر لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ طَوَالَ الْوَقْتِ: «آهِ، كَيْفَ حَالُكَ يَا سَيِّدِي الْأَرْنَبَ؟ سَرَّتْنِي كَثِيرًا زِيَارَتُكَ لِيَ الْيَوْمَ. يَبْدُو لِي أَنَّ السَّيِّدَ سنديان مُتَعَكِّرُ الْمِزَاجِ الْيَوْمَ.»

فَضَحِكَ بيتر مُجَدَّدًا وَقَالَ: «ذَلِكَ حَالُهُ دَائِمًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَكِّرَ الْمِزَاجِ، فَلَنْ يَكُونَ مَسْرُورًا. رُبَّمَا لَنْ تَظُنَّ ذَلِكَ عِنْدَمَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مَسْرُورٌ الْآنَ. هُوَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ مَسْرُورٌ فِعْلًا؛ فَدَائِمًا مَا يَسُرُّهُ الْإِفْصَاحُ عَنْ تَعَكُّرِ مِزَاجِهِ.»

فَنَظَرَ طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي شَزَرًا إِلَى بيتر، ثُمَّ نَظَرَ شَزَرًا إِلَى بادي. وَكَانَ يَصِيحُ طَوَالَ الْوَقْتِ قَائِلًا: «لِصٌّ!» بِمِلْءِ فِيهِ. أَمَّا بادي فَوَاصَلَ عَمَلَهُ دُونَ أَنْ يُعِيرَ سامي اهْتِمَامًا، وَهُوَ مَا أَغْضَبَ سامي أَشَدَّ الْغَضَبِ؛ فَرَاحَ يَقْتَرِبُ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ حَتَّى صَارَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى الشَّجَرَةِ ذَاتِهَا الَّتِي كَانَ بادي يُقَطِّعُهَا؛ فَبَرِقَتْ عَيْنَا بادي.

ثُمَّ هَتَفَ فَجْأَةً: «لَسْتُ بِلِصٍّ!»

صَاحَ سامي قَائِلًا: «بَلْ أَنْتَ لِصٌّ! أَنْتَ لِصٌّ! إِنَّكَ تَسْرِقُ أَشْجَارَنَا!»

فَرَدَّ عَلَيْهِ بادي قَائِلًا: «تِلْكَ الْأَشْجَارُ لَيْسَتْ مِلْكًا لَكُمْ. إِنَّهَا مِلْكُ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، وَالْغَابَةُ الْخَضْرَاءُ مِلْكُ كُلِّ مَنْ يُحِبُّونَهَا، وَكُلُّنَا نَتَمَتَّعُ بِكَامِلِ الْحَقِّ فِي أَخْذِ مَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا. أَنَا بِحَاجَةٍ إِلَى تِلْكَ الْأَشْجَارِ، وَيَحِقُّ لِي أَنْ آخُذَهَا تَمَامًا كَمَا يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ ثَمَرَاتِ الْجَوْزِ السَّمِينَةَ الَّتِي تَتَسَاقَطُ مِنْ أَشْجَارِ الْبَلُّوطِ فِي الْخَرِيفِ.»

فَصَاحَ سامي: «لَيْسَ صَحِيحًا.» كَمَا تَعْلَمُونَ، لَا يَسْتَطِيعُ سامي أَنْ يَتَحَدَّثَ دُونَ صِيَاحٍ، وَكُلَّمَا زَادَ حَمَاسُهُ عَلَا صِيَاحُهُ. فَأَرْدَفَ صَائِحًا: «لَيْسَ صَحِيحًا! فَالْجَوْزُ طَعَامٌ. الْغَرَضُ مِنْهُ هُوَ أَكْلُهُ. وَيَجِبُ أَنْ آكُلَهُ كَيْ أَعِيشَ. وَلَكِنَّكَ تُقَطِّعُ أَشْجَارًا كَامِلَةً. إِنَّكَ تُخَرِّبُ الْغَابَةَ الْخَضْرَاءَ، وَلَا تَنْتَمِي إِلَى هُنَا، وَلَمْ يَدْعُكَ أَحَدٌ، وَلَا أَحَدَ يُرِيدُكَ. أَنْتَ لِصٌّ!»

حِينَهَا تَكَلَّمَ فَأْرُ الْمِسْكِ جيري، وَهُوَ كَمَا تَعْلَمُونَ ابْنُ عَمِّ الْقُنْدُسِ بادي.

فَقَالَ مُشِيرًا إِلَى طَائِرِ السِّنْدِيَانِ سامي: «لَا تُبَالِ بِهِ. لَا أَحَدَ يُبَالِي بِهِ؛ فَهُوَ أَكْبَرُ مُشَاغِبٍ، سَوَاءٌ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ أَوِ الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ. وَقَدْ يَسْرِقُ أَقْرِبَاءَهُ. لَا تُبَالِ بِمَا يَقُولُ يَا ابْنَ الْعَمِّ بادي.»

وَطَوَالَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ بادي مُسْتَمِرًّا فِي عَمَلِهِ كَأَنَّهُ وَاقِفٌ بِمُفْرَدِهِ. وَمَا إِنْ أَنْهَى جيري حَدِيثَهُ حَتَّى ضَرَبَ بادي الْأَرْضَ بِذَيْلِهِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ تَحْذِيرِهِ الْآخَرِينَ، ثُمَّ جَرَى مُبْتَعِدًا فَجْأَةً بِأَقْصَى سُرْعَةٍ. فَعَقَدَتِ الدَّهْشَةُ لِسَانَ سامي لِوَهْلَةٍ، وَلَمْ يَلْحَظْ أَيَّ شَيْءٍ غَرِيبٍ فِي الشَّجَرَةِ. وَفَجْأَةً شَعَرَ أَنَّهُ يَسْقُطُ؛ فَأَطْلَقَ صَرْخَةً مَذْعُورَةً، ثُمَّ بَسَطَ جَنَاحَيْهِ لِيَطِيرَ، وَلَكِنَّ فُرُوعَ الشَّجَرَةِ سَحَبَتْهُ مَعَهَا إِلَى أَسْفَلَ لِيَسْقُطَ فِي الْجَدْوَلِ الضَّاحِكِ مُبَاشَرَةً.

فَبَيْنَمَا كَانَ سامي يُعَبِّرُ عَنْ رَأْيِهِ، قَطَعَ بادي الشَّجَرَةَ ذَاتَهَا الَّتِي كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهَا.

لَمْ يُصَبْ سامي بِسُوءٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُبْتَلًّا مُلَطَّخًا بِالطِّينِ وَفَزِعًا؛ فَبَدَا أَتْعَسَ طَائِرِ سِنْدِيَانٍ فِي الْوُجُودِ. وَكَانَ مَنْظَرُهُ أَقْوَى مِنْ قُدْرَةِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الصَّغِيرَةِ الْمُخْتَبِئَةِ عَلَى التَّحَمُّلِ. فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا مَنْعَ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الضَّحِكِ. ثُمَّ خَرَجُوا جَمِيعًا لِتَحِيَّةِ الْقُنْدُسِ بادي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤