الفصل السادس

فُضُولُ ابْنِ الْمُزَارِعِ براون

فِي الْيَوْمِ السَّابِقِ عَلَى رُؤْيَةِ الْقُنْدُسِ بادي أَنَّ الْبِرْكَةَ صَارَتْ كَبِيرَةً بِمَا يَكْفِي؛ وَمِنْ ثَمَّ سَمَاحِهِ لِلْمِيَاهِ بِالتَّدَفُّقِ فِي الْجَدْوَلِ الضَّاحِكِ مَرَّةً أُخْرَى؛ صَادَفَ أَنَّ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون قَرَّرَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْبِرْكَةِ الْبَاسِمَةِ لِيَصْطَادَ. وَكَالْمُعْتَادِ كَانَ يُصَفِّرُ أَثْنَاءَ نُزُولِهِ مِنْ عَلَى الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ. فَلِسَبَبٍ مَا دَائِمًا مَا تَنْتَابُهُ الرَّغْبَةُ فِي الصَّفِيرِ عِنْدَمَا يَذْهَبُ لِلصَّيْدِ. سَمِعَهُ الْجَدُّ ضفدع، فَغَاصَ فِي الْمِيَاهِ الْقَلِيلَةِ الْمُتَبَقِّيَةِ فِي الْبِرْكَةِ الْبَاسِمَةِ وَحَرَّكَ الطِّينَ فِي قَاعِ الْبِرْكَةِ حَتَّى لَا يَرَاهُ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون.

أَخَذَ صَوْتُ الصَّفِيرِ يَدْنُو أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ، ثُمَّ انْقَطَعَ فَجْأَةً؛ فَقَدْ كَانَتِ الْبِرْكَةُ الْبَاسِمَةُ قَدْ صَارَتْ فِي مَجَالِ رُؤْيَةِ ابْنِ الْمُزَارِعِ براون، أَوْ عَلَى وَجْهِ الدِّقَّةِ، مَا كَانَ يَوْمًا بِرْكَةً بَاسِمَةً. أَمَّا الْآنَ فَلَمْ تَعُدْ هُنَاكَ بِرْكَةٌ بَاسِمَةٌ، فَقَدْ كَانَ الْقَدْرُ الضَّئِيلُ الْمُتَبَقِّي مِنَ الْبِرْكَةِ أَقَلَّ وَأَضْعَفَ مِنْ أَنْ يَبْتَسِمَ. وَكَانَتْ ثَمَّةَ أَكْوَامٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الطِّينِ، تَنْمُو مِنْهَا أَعْشَابُ الْبِرَكِ، بَيْنَمَا كَانَتْ أَوْرَاقُ الزَّنْبَقِ الْأَبْيَضِ مُلْقَاةً بَائِسَةً بِالْقُرْبِ مِنْ بِرْكَةِ الْمَاءِ الْهَزِيلَةِ الْمُتَبَقِّيَةِ. وَحَيْثُ انْحَدَرَتِ الضِّفَافُ وَعَلَتْ، كَانَتِ الثُّقُوبُ الَّتِي حَفِظَهَا فَأْرُ الْمِسْكِ جيري وَالْمِنْكُ بيلي عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ مَكْشُوفَةً لِلنَّاظِرِينَ. وَعَلَى أَحَدِ الْجَوَانِبِ كَانَ بَيْتُ فَأْرِ الْمِسْكِ جيري، قَدْ بَرَزَ بِأَكْمَلِهِ مِنْ سَطْحِ الْمَاءِ.

ظَنَّ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون، بِصُورَةٍ أَوْ بِأُخْرَى، أَنَّهُ يَحْلُمُ بِالتَّأْكِيدِ؛ فَهُوَ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ الْمَنْظَرِ قَطُّ، وَلَا حَتَّى لَدَى أَشَدِّ الْأَجْوَاءِ جَفَافًا فِي أَشَدِّ فَتَرَاتِ الصَّيْفِ حَرَارَةً. فَجَالَ بِبَصَرِهِ فِي أَرْجَاءِ الْمَكَانِ. وَبَدَتْ لَهُ الْغَابَةُ الْخَضْرَاءُ كَسَابِقِ عَهْدِهِ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُرُوجُ الْخَضْرَاءُ، لَكِنَّ الْجَدْوَلَ الضَّاحِكَ! مَاذَا أَصَابَ الْجَدْوَلَ الضَّاحِكَ؟ صَوْتُ الْجَدْوَلِ الضَّاحِكِ لَمْ يَبْلُغْ مَسَامِعَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ بِالْمَرَّةِ كَمَا تَعْلَمُونَ. فَأَلْقَى صِنَّارَتَهُ وَرَكَضَ إِلَى الْجَدْوَلِ الضَّاحِكِ. فَلَمْ يَجِدْ جَدْوَلًا. كَلَّا، لَمْ يَجِدْ جَدْوَلًا؛ وَإِنَّمَا بَعْضَ بِرَكِ الْمَاءِ تَسِيلُ فِيمَا بَيْنَهَا قَطَرَاتٌ شَحِيحَةٌ لَا أَكْثَرَ. وَالْأَحْجَارُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي طَالَمَا رَأَى الْمَاءَ يَجْرِي مِنْ فَوْقِهَا صَانِعًا شَلَّالَاتٍ بَيْضَاءَ صَغِيرَةً بَدِيعَةً صَارَتْ جَافَّةً جَدْبَاءَ. وَفِي الْبِرَكِ الْهَزِيلَةِ كَانَتْ أَسْمَاكُ الْمِنَّوَةِ الْمَذْعُورَةُ تَتَقَافَزُ هُنَا وَهُنَاكَ.

حَكَّ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون رَأْسَهُ فِي حَيْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ: «لَا أَفْهَمُ، لَا أَفْهَمُ مُطْلَقًا. لَا بُدَّ أَنَّ خَطْبًا مَا أَصَابَ الْيَنَابِيعَ الَّتِي تَمُدُّ الْجَدْوَلَ الضَّاحِكَ بِالْمِيَاهِ. لَا بُدَّ أَنَّهَا نَضَبَتْ. نَعَمْ، لَا بُدَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَا حَدَثَ. وَلَكِنِّي لَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْأَمْرِ مِنْ قَبْلُ، وَحَقًّا لَا أَفْهَمُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ.» ثُمَّ تَطَلَّعَ إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ كَأَنَّ بِإِمْكَانِهِ رُؤْيَةَ تِلْكَ الْيَنَابِيعِ. طَبْعًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَا ظَنَّهُ بِأَيِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَلِّبُ الْأَمْرَ فِي رَأْسِهِ فَحَسْبُ. ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ: «أَعْرِفُ مَا سَوْفَ أَفْعَلُ! سَأَذْهَبُ إِلَى تِلْكَ الْيَنَابِيعِ عَصْرَ الْيَوْمِ وَأَعْرِفُ مَا الْأَمْرُ. وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَلَى الْجَانِبِ الْمُقَابِلِ مِنَ الْغَابَةِ تَقْرِيبًا، وَأَسْهَلُ طَرِيقٍ لِبُلُوغِهَا سَيَكُونُ بِالِانْطِلَاقِ مِنَ الْمَنْزِلِ وَعُبُورِ الْمَرْعَى الْقَدِيمِ وُصُولًا إِلَى طَرَفِ الْجَبَلِ خَلْفَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. فَإِذَا حَاوَلْتُ السَّيْرَ بِمُحَاذَاةِ الْجَدْوَلِ الضَّاحِكِ الْآنَ، فَسَيَسْتَغْرِقُ وُصُولِي وَقْتًا طَوِيلًا؛ لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْمُنْعَطَفَاتِ وَالْمُنْحَنَيَاتِ. هَذَا إِلَى جَانِبِ أَنَّهُ أَمْرٌ شَاقٌّ لِلْغَايَةِ.»

وَبَعْدَهَا رَجَعَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون وَالْتَقَطَ صِنَّارَتَهُ. ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْمَنْزِلِ عَبْرَ الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ، وَلِأَوَّلِ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ يُصَفِّرُ؛ فَقَدْ كَانَ مَشْغُولَ الْبَالِ. بَلْ إِنَّهُ كَانَ مَشْغُولَ الْبَالِ إِلَى حَدِّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ الظَّرِبَانَ جيمي وَكَادَ يَدُوسُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَفَزَ بِفَزَعٍ وَجَرَى؛ لِأَنَّهُ دُونَ بُنْدُقِيَّتِهِ كَانَ يَخْشَى الظَّرِبَانَ جيمي تَمَامًا كَمَا يَخْشَاهُ جيمي عِنْدَمَا تَكُونُ الْبُنْدُقِيَّةُ فِي حَوْزَتِهِ.

فَابْتَسَمَ جيمي ابْتِسَامَةً عَرِيضَةً وَتَابَعَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ. فَطَالَمَا أَمْتَعَ جيمي أَنْ يَرَى النَّاسَ تَهْرُبُ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ يَفُوقُونَهُ حَجْمًا بِكَثِيرٍ؛ فَقَدْ كَانُوا يَبْدُونَ شَدِيدِي السَّخَافَةِ.

وَبَيْنَمَا تَدَحْرَجَ عَلَى صَخْرَةٍ بَحْثًا عَنْ خَنَافِسَ سَمِينَةٍ، غَمْغَمَ قَائِلًا: «كُنْتُ أَظُنُّهُمْ سَيَكُونُونَ قَدْ عَرَفُوا الْآنَ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُضَايِقُونِي، فَلَنْ أُضَايِقَهُمْ. يَبْدُو أَنَّ النَّاسَ لَا تَفْهَمُنِي أَبَدًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤