أبو نواس عند العامة

شهرة أبي نواس

اشتهر في الأدب العربي عشرات من الشعراء والأدباء، يعرفهم قراء الأدب ورواته، ولا تصل أسماؤهم — فضلًا عن أخبارهم — إلى الأميين وأشباه الأميين من جهلاء العامة، ما عدا شاعرًا واحدًا اشتهر من بين هؤلاء الشعراء والأدباء في بابه فسمع به الأميون وأشباه الأميين، واتخذوا من اسمه علمًا على كل من يشبهه في صورته عندهم، وصحفوا ذلك الاسم تصحيفًا يدل على مصادره الأمية، فعرفوه باسم «أبي النواس» بتشديد الواو وزيادة الألف واللام للتعريف على الدوام.

ولم يكن شذوذ هذا الشاعر عن هذه القاعدة لسهولة شعره، فإن الأميين الذين يتناقلون أخباره ونوادره لا ينقلون بيتًا واحدًا من شعره، ولا يروونه مصحفًا أو بغير تصحيف، وإنما يعرفون الشاعر «شخصية» ذات أخبار، ولا يعرفونه قائلًا ينظم الأشعار.

ولم تكن هذه الشهرة أيضًا لقرب عهده وقصر الزمن بينه وبين رواته المتأخرين، فإن النواسي عاش في القرن الثاني للهجرة، وهؤلاء الأميون الذين يتناقلون أخباره المزعومة قد يجهلون أسماء الشعراء والأدباء في عصرهم، أو يجهلون على التحقيق أسماء الشعراء والأدباء بعد القرن الثاني للهجرة بلا استثناء، ما عدا هذا الاستثناء.

ولكن هذا الاستثناء لم يكن على أية حال مصادفة لغير سبب، كما سنرى في موضع البيان عن أسباب هذه الشهرة عند نشأتها الأولى، ومتى وجدت الشهرة فهي قابلة بعد ذلك للإضافة والزيادة، ولو من غير القبيل الذي نشأت من أجله في مرحلتها الأولى.

وإذا كان هذا شأن الأميين في التحدث بأخبار الشاعر المجدود، فلا عجب أن يتحدث به أشباه الأميين وهم أقرب إلى الأدب المقروء في الكتب، والقدرة على فهم القليل منه، إن فاتهم فهم أكثره وأصحه.

ونعني بأشباه الأميين أولئك الذين يقرءون ولا يقدرون على تصحيح نسبة الكلام واستقصاء وجوه التصحيح، فإذا سمعوا كلامًا لشاعر مشهور غيره، جاز عندهم أن يكون لهذا أو لذلك، وإن كان الفارق بينهما واضحًا لنقاد الأدب ورواته المتثبتين.

هؤلاء القراء أشباه الأميين يعرفون النواسي كإخوانهم الأميين؛ أي يعرفونه لأنه شخصية ذات أخبار، وقلما يعنيهم منه ذلك الشعر الذي ينسبونه إليه سواء صحت نسبته إليه أو إلى غيره، أو كان مختلقًا ملفقًا لا تصح نسبته إلى أحد من الشعراء المشهورين.

والغالب على هذه الشخصية أنها شخصية النديم اللاهي — «الحاذق» — ونكاد نكتبها «الحدق» بالدال، وعلى غير صيغة اسم الفاعل؛ لأن «الحداقة» كما يفهمها العامة هي أم الصفات التي تتغلب على «النواسي» في روايات أشباه الأميين، ومنها سرعة الجواب والفهم بالإشارة، أو الفهم الذي يوشك أن يكون اطلاعًا على الغيب، مع اللباقة في اللعب بالكلام أو اللعب بالأفهام على حسب المقام، ولا سيما اللهو ونبذ الحياء والملام.

وليس أشهر من الأدب المنسوب إلى أبي نواس في الكتب التي تروج بين أشباه الأميين، ومنها ألف ليلة، وأعلام الناس فيما جرى للبرامكة مع بني العباس، وقليله يغني عن الكثير.

قيل: «إن أمير المؤمنين هارون الرشيد أرِق ذات ليلة، فقام يتمشى في قصره بين المقاصير، فرأى جارية من جواريه نائمة فأعجبته فداس على رجلها، فانتبهت فرأته، فاستحيت منه، وقالت: يا أمين الله ما هذا الخبر؟

فأجابها يقول:

قلت: ضيفٌ طارقٌ في أرضكم
هل «تضيفوه» إلى وقت السحر
فأجابت بسرورٍ سيدي
أخدم الضيف بسمعي والبصر

فبات عندها إلى الصباح، فلما كان الصباح سأل: من بالباب من الشعراء؟ قيل له: أبو نواس، فأمر به فدخل عليه، فقال: هات ما عندك على وزن: يا أمين الله ما هذا الخبر! فأنشد يقول:

طال ليلي وتولاني السَّهر
فتفكرتُ فأحسنت الفكَر

إلى أن يقول:

فإذا وجه جميل مشرق
زانه الرحمن يزري بالقمر
فلمست الرِّجل منها موطئًا
فدنت مني ومدت بالبصر
وأشارت لي بقول مفصحٍ
يا أمين الله ما هذا الخبر؟
قلت: ضيفٌ طارقٌ في أرضكم
هل «تضيفوه» إلى وقت السحر

إلى آخر البيتين. فتعجب أمير المؤمنين وأمر له بصلة.»

«وذكر الخطيب في بعض مصنفاته أن الرشيد دخل يومًا وقت الظهر إلى مقصورة جارية تسمى الخيزران على غفلة منها، فوجدها تغتسل فلما رأته تجللت بشعرها حتى لم ير من جسدها شيئًا، فأعجبه منها ذلك الفعل واستحسنه، ثم عاد إلى مجلسه وقال: من بالباب من الشعراء؟ قالوا: بشار وأبو نواس، فأمر بهما فحضرا وقال: ليقل كل منكما أبياتًا توافق ما في نفسي، فأنشأ بشار يقول:

تحببتكم والقلب صار إليكم
بنفسي ذاك المنزل المتحبب

إلى أن يقول:

وقالوا: تجنبنا ولا قربَ بيننا
وكيف وأنتم حاجتي أتجنب
على أنهم أحلى من الشهد عندنا
وأعذب من ماء الحياة وأطيب

فقال الخليفة: أحسنت، ولكن ما أصبت ما في نفسي، فقل أنت يا أبا نواس، فجعل يقول:

نضت عنها القميص لصبِّ ماءٍ
فورَّد خدها فرط الحياء
وقابلتِ الهواء وقد تعرت
بمعتدل أرق من الهواء
ومدت راحةً كالماء منها
إلى ماء معد في إناء
فلما أن قضت وطرًا وهمت
فأسبلت الظلام على الضياء
وغاب الصبح منها تحت ليلٍ
فظل الماء يجري فوق ماء
فسبحان الإله وقد براها
كأحسن ما تكون من النساء

فقال الرشيد: سيفًا ونطعًا يا غلام! قال أبو نواس: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: أمعنا كنت؟ قال: لا والله، ولكن شيئًا خطر ببالي. فأمر بأربعة آلاف درهم!»

وأمثال هذه الحكايات كثير، حد «الحذاقة» فيها — أو «الحداقة» — هو حدها عند أشباه الأميين، وهو شرطهم في أرباب الفن إلى هذه الأيام.

أخباره عند الأدباء

وغني عن القول: أن أخبار النواسي ليست مقصورة على الأميين وأشباه الأميين، ولكن اهتمام الأميين وأشباه الأميين بها هو وجه الغرابة في هذا الباب من الأدب، وأما العارفون بأدب الفصحى فلا وجه للغرابة في اهتمامهم به وبأمثاله من موضوعات الأدب والفنون.

على أن الأمر في هذه الناحية لا يخلو من غرابته التي تخص أخبار أبي نواس بخاصة، ولم يشاركه فيها أعلام الشعر والثقافة الفنية، فإن رواة الأدب الصحيح لا يهتمون بأبي نواس وأنداده من الأعلام على نحو واحد، بل يلوح عليهم أنهم يودون لو يشركونه بسهم في سيرة كل أديب. ويحبون إذا نسب الخبر إليه أو إلى غيره أن يؤثروه به لو استطاعوا، وأن يجعلوه من مروياته ومأثوراته دون المرويات والمأثورات عن سواه.

فصاحب العقد الفريد — ابن عبد ربه — من أعلم الرواة بأخبار الشعراء، ولكنه يروي عن أبي نواس بعض الأخبار التي نقلناها فيما تقدم عن الأميين وأشباه الأميين، ويضيف إليه أخبارًا مشهورة عن ذي الرُّمة وصاحبته مية، وتغني بها تلك الأخبار التي تدور حول البيتين المنسوبين إليه وهما:

على وجه مي مسحة من ملاحةٍ
وتحت الثياب العزُّ لو كان باديا
ألم تر أن الماء يخبث طعمه
ولو كان لون الماء في العين صافيا

وقد سئل ذو الرمة عنهما فأنكرهما وقال: وكيف أقول هذا وقد قطعت دهري وأفنيت شبابي أشبب بها!

فيأتي صاحب العقد الفريد، ولا يبالي كذب الرواية من أصلها، ويحتفظ بها ليسندها إلى أبي نواس بلسان أبي بكر الوراق، وهذا مقام من المقامات الفنية التي يؤلفها خاصة الأدباء تأليفًا؛ ليذكروا فيها ملحةً أو طرفة عن ذلك الشاعر المجدود.

روي عن أبي بكر الوراق عن الحسن بن هانئ أنه قال: «حججت مع الفضل بين الربيع حتى إذا كنا ببلاد فزارة، وذلك إبان الربيع، نزلنا منزلًا بإزاء ماء لبني تميم ذا روض أريض ونبت غريض، تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة والنمارق المصفوفة، فقرت بنضرتها العيون وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفجرت لبهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء فانشق غمامها، وتدانى من الأرض ركامها، حتى إذا كانت كما قال أوس بن حجر حيث يقول:

دانٍ مسفٍ فوق الأرض هيدبه
يكادُ يدفَعه من قامَ بالراح

همت برذاذ ثم بِطَشٍّ ثم بوابل، ثم أقلعت وغادرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألق، رياض مونقة ونوافح من ريحها عبقة، فسرحت طرفي منها في أحسن منظر، ونشقت من رباها أطيب من المسك الأذفر، فلما انتهينا إلى أوائلها إذا نحن بخباء على بابه جارية مشرقة، ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر، أشعرت حماليقه فترة وملئت سحرًا، فقلت لزميلي: استنطقها. قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قلت: استسقها! فاستسقاها، فقالت: نعم ونعما عين، وإن نزلتم فعلى الرحب والسعة، ثم مضت تتهادى كأنها خوط بان أو قضيب خيزران، فراعني ما رأيت منها، ثم أتت بماء فشربت منه وصببت باقيه على يدي، ثم قلت: وصاحبي أيضًا عطشان! فأخذت الإناء فذهبت فقلت لصاحبي: من الذي يقول:

إذا بارك الله في ملبسٍ
فلا بارك الله في البرقع
يريك عيون الدمى غرة
ويكشف عن منظرٍ أشنع

وسمعت كلامي فأتت وقد نزعت البرقع، ولبست خمارًا أسود وهي تقول:

ألا حي ربعي معشر قد أراهما
أقاما فما أن يعرفا مبتغاهما
هما استسقيا ماءً على غير ظمأةٍ
ليستَمْتِعا باللحظ ممن سقاهما

فشبهت كلامها بعقد در وهَى فانتثر، بنغمة عذبة رخيمة، ولو خوطب بها صم الصلاب لابنجست، مع وجه يظلم في نوره ضياء العقل، وتتلف من روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم ويحار في بهائه طرف البصير:

فدقت وجلَّت واسبكرَّت وأكملت
فلو جُن إنسانٌ من الحسن جُنَّت

فلم أتمالك أن خررت ساجدًا، فأطلت من غير تسبيح، فقالت: ارفع رأسك غير مأجور! لا تذم بعدها برقعًا؛ فلربما انكشف عما يصرف الكرى، ويحل القوى ويطيل الجوى، من غير بلوغ إرادة ولا درك طلبة ولا قضاء وطر، ليس إلا للحين المجلوب والقدر المكتوب والأمل المكذوب، فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب حيران لا أهتدي لطريق، فالتفت إليَّ صاحبي وقال: ما هذا الجهد بوجه برقت لك منه بارقة لا تدري ما تحته! أما سمعت قول ذي الرمة:

على وجه مي مسحةٌ من ملاحةٍ
وتحت الثياب العر لو كان باديا

فقالت: أما ما ذهبت إليه فلا أبًا لك، وإني لأنا بقول الشاعر:

منعمةٌ حوراء يجري وشاحها
على كشح مرتج الروادف أهضمِ
لها أثرٌ صافٍ وعينٌ مريضةٌ
وأحسن إبهامٍ وأحسن مِعصَمِ
خزاعيةُ الأطرافِ سعدية الحَشَا
فزارية العينينِ طائية الفمِ

أشبه من قولك الآخر. ثم رفعت ثيابها بلغت بها نحرها وجاوزت منكبيها، فإذا قضيب فضة قد أشرب ماء الذهب، ثم قالت: أعرًّا ترى لا أبا لك؟ قلت: لا والله، ولكن سبب القدر المتاح، ومقربي من الموت الذباح يضيق علي الضريح، ويتركني جسدًا بغير روح.

فخرجت عجوز من الخباء، فقالت له: امض لشأنك، فإن قتيلها مطول لا يُودى، وأسيرها مكبول لا يفدى، فقالت لها: دعيه فإن له مثل قول غيلان ذي الرُّمة:

وإن لم يكنْ إلا تعلُّل ساعةٍ
قليلًا فإني نافعٌ لي قليلها

فولت العجوز وهي تقول:

وما نلتَ منها غير أنك «واصلٌ»
بعينيك عينيها فهل ذاك نافعٌ؟

فنحن كذلك حتى ضرب الطبل للرحيل، فانصرفت بكمد قاتل وكرب خابل وأنا أقول:

وا حسرتا مما يكنُّ فؤادي
أزِفَ الرحيلُ بعبرتي وبُعادي

فلما قضينا حجَّنا وانصرفنا راجعين مررنا بذلك المنزل، وقد تضاعف حسنه ونمت بهجته، فقلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا، فلما أشرفنا على الخيام وصعدنا ربوة ونزلنا وَهْدة إذا هي تتهادى بين خمسٍ ما تصلح أن تكون خادمة لأدناهن، وهن يجنين من نور ذلك الزهر، فلما رأيننا وقفن، وقلنا: السلام عليكن، فقالت من بينهن: وعليك السلام، ألست صاحبي قلت: بلى! قلن: وتعرفينه؟ قالت: نعم، وقصت عليهن القصة ما خرمت حرفًا. قلن: ويحك! أما زودته شيئًا يتعلل به؟ قالت: بل زودته لحدًا ضامرًا وموتًا حاضرًا! فانبرت لها أنضرهن خدًّا وأرشقهن قدًّا، وأسحرهن طرفًا وأبرعهن شكلًا، فقالت: والله ما أحسنتِ بدءًا ولا أجملتِ عَوْدًا، ولقد أسأتِ في الرد ولم تكافئيه على الود، فما عليك لو أسعفته بطلبته في مودته؟ وإن معك من لا ينم عليك. فقالت: أما والله لا أفعل من ذلك شيئًا حتى تشركيني في حلوه ومره! قالت لها: تلك إذن قِسْمةٌ ضِيزَى! تعشقين أنت وأوخذ أنا؟ قالت أخرى منهن: قد أطلتن الخطاب في غير أرب، فسلن الرجل عن نيته وقصده وبغيته، فلعله لغير ما أنتما فيه قصد. فقلن: حياك الله وأنعم بك عينًا، ممن؟ ومن أنت؟ وما تعاني، وإلام قصدت؟ قلت: أما الاسم فالحسن بن هانئ، من اليمن ثم من سعد العشيرة، وخير شعراء السلطان الأعظم، ومن يدنى مجلسه، ويتقى لسانه ويرهب جانبه، وأما قصدي فتبريد غلة وإطفاء لوعة قد أحرقت الكبد وأذابتها، قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كرم المخبر، وأرجو أن يبلغك الله أمنيتك وتنال بغيتك، ثم أقبلت عليهم فقالت: ما واحدة منكن إلا ملتمسة مرغبة، فتعالين نشترك فيه ونتقارع عليه، فمن واقعتها القرعة منا كانت هي البادئة، فاقترعت فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري، فعلقن إزارًا على باب الغار وأدخلت فيه وأبطأت عليَّ، وجعلت أتشوف لدخول إحداهن عليَّ، إذ دخل أسود كأنه سارية. ثم صحت بصاحبي وكان متدانيًا. ووالله ما تخلصت منه حتى خرجنا من الغار، وإذا هن يتضاحكن ويتهادين إلى الخيمات، فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود؟ قال: كان يرعى غنمًا إلى جانب الغار، فدعونه فوسوسن إليه شيئًا فدخل عليك».

والقصة كلها كما يرى القارئ مقامة مؤلفة، وتلك علامة على تمكن شهوة الكلام عن الشاعر في سياق الخبر التاريخي، أو سياق الاختراع والتأليف.

وتتم الغرابة بالمصادر الأجنبية القليلة التي عنيت بأبي نواس من جانب الأدب، أو من جانب النوادر والأقاصيص الموضوعة، فإنها سايرت مصادر العربية في هذه النزعة، وأسندت إلى أبي نواس ما حدث وما لم يحدث، أو ما حدث منه وما حدث من غيره، ومنها رسالة إنجليزية طبعت في إحدى الجزر الهندية، وأهداها مؤلفها إلى ذكر الأستاذ «برتون» مترجم ألف ليلة وليلة، وقسمها إلى أخبار «أبو كريفية» تشبيهًا بالأخبار التي يدسها بعض الرواة على الكتب الدينية، وإلى أخبار خرافية من قبيل الأساطير والغرائب المروية عن عجائب المخلوقات، وهذه إحدى نوادرها «الأبوكريفية»:

كان أبو نواس يلهو ويقصف بين صحبه، فإذا الخليفة يفجؤهم بحضوره، ويسوءه ما يرى فيصيح بأبي نواس متأففًا: ما أراك تصلح إلا أن تكون إمامًا للقوادين وقاضيًا للفجرة الفاسقين، فأجابه أبو نواس وهو لا يعْيَى بالجواب على البديهة: وهل من قضية تعرضونها؟ فغضب الخليفة وأمر به من الغد حيث دخل الديوان أن يجردوه من ثيابه ويضعوا على ظهره بردعة حمار، ويطوفوا به بين الخدم والجواري؛ ليسخروا منه ويبعثوا به ثم يسلموه إلى الجلاد يطيح برأسه، ولكن أبا نواس الذي لا يغلب ظرفًا وفكاهة لم يزل يلطف الجواري بدعابته وطرائف نكاته، ولم تزل هداياهن تنثال عليه حتى عاد من مطافه ممتلئ اليدين بالمال والجوهر، ورآه الوزير جعفر البرمكي وهو بهذه الحالة فسأله: فيم كان عقابه، ولأي شيء يحمل بردعة الحمار على ظهره؟ فأجابه في غير مهل: ما من شيء صنعت إلا أنني مدحت أمير المؤمنين، فخلع عليَّ خلعة من خاصة ثيابه.

ونقلوا إلى الخليفة ما قال فضحك وعفا عنه وأمر له بهدية وخلعة سنية.

وهذه بعض النوادر التي جمعها المؤلف من إفريقية الشمالية، قيل: إن الشاعر كان يمشي في جنازة فسأله بعضهم: أيهما أكرم في تشييع الميت، أن تمشي أمام نعشه أو تتبعه؟

فقال:

لا تكن داخل النَّعش
وسر حيثُ طابَ لك السيرُ

وأمر الخليفة ذات يوم بجلده مائة جلدة؛ لأنهم وجدوا معه قارورة خمر فارغة يذهب بها ليملأها.

فسأل أبو نواس، علام الجلد يا أمير المؤمنين؟

قال الخليفة: على الخمر التي ستملأ بها القارورة.

قال: إذن فاحكم عليَّ بالموت؛ لأنني أحمل لسانًا قد يكفر بالله.

ورئي أبو نواس يومًا سكران يتمايل في الطريق؛ فعجب الناظرون وسألوه: ألم تنظر من قبل إلى سكران؟

قال: ومن أين لي أن أرى السكارى، وأنا أول من يسكر وآخر يفيق؟!

نوادره الأسطورية

أما النوادر الأسطورية فقد جمعها المؤلف من مصادر لا يخطر على بال الكثيرين أنها سمعت باسم أبي نواس، ومنها القبائل التي تسكن سواحل إفريقية الجنوبية مما يلي زنجبار، وتتكلم «اللغة السواحلية»، وهي مزيج من الزنجية والعربية والهندية والفارسية، وبعض حكاياتها منقول عن أقوام إفريقية الأصلاء، الذين تدور حكاياتهم على السحرة والكهان والعفاريت.

ويقول المؤلف في تقديم هذا القسم من كتابه: إن شهرة أبي نواس وصلت إلى هناك مشافهة، «وإنه يعرف بين السواحليِّين من أهل زنجبار باسم كيبو نواسي وبنواسي وأبا نواسي.» ومن تصوراتهم له أنهم يلبسونه شخصية الأرنب الذي نعرفه في ألعاب خيال الظل؛ لأنهم يمثلونه سريع الفطنة حاضر الجواب، ويلبسونه شخصية أخرى هي شخصية خيال الظل في زنجبار، ولعله أصل صاحبنا الأرنب، واسم هذه الشخصية في اللغة السواحلية بواليم كرجوش، وهي كلمة تَمُتُّ إلى الأرنب؛ لأنها بالفارسية شرجوش وتعني الأرنب.

«ومقطع «كي» الذي يقدمون به اسم «كيبو نواسي» تصغير لكلمة الشاعر في اللغة السواحلية، حيث يتخيلونه ضئيل الجسم عظيم الفطنة، ويقال: إن اسم النواسي قد أصبح عَلَمًا على كل من كان عنده جواب حاضر لكل سؤال، ومخرج قريب من كل ورطة، أو علَم على اللبيب الذي نقول نحن: إنه يضحك كثيرًا؛ لأنه يضحك أخيرًا».١

ومن أمثلة هذه الحكايات حكاية أنقذ فيها أبو نواس مسكينًا متسولًا من براثن تاجر طالبه بعوض عن رائحة طعامه، قالوا: «إن تاجرًا ذبح معزة ومر به مسكين، فجلس إلى جانب القدر لعله يستسيغ الخبز القفار باستنشاق رائحتها، ثم لقى التاجر فقال له: إنك أيها السيد قد أحسنت إليَّ أمس إذ منحتني رائحة معزتك فاصطبغت بها هنيئًا، فأخذ التاجر بتلابيبه وهو يقول له: الآن علمت كيف ضاعت النكهة من لحمها، فقد اختلستها أنت إذن ولا ندري، وساقه إلى هارون الرشيد — وقد كان شديد المحاباة للتجار — فحكم على المسكين بتغريمه اثنتي عشرة روبية يأخذها التاجر ثمنًا لنكهة ذبيحته، وخرج المسكين يبكي؛ لأنه لا يملك فلسًا من هذه الغرامة، فوجد أبا نواس في الطريق، وعطف عليه أبو نواس حيث علم منه سبب بكائه، ووعده أن يساعده، ثم أعطاه اثنتي عشرة روبية، وأوصاه أن يغدو بها إلى السلطان لا يؤديها له حتى يحضر هو مجلسه، ثم كان الغد فجاء إلى المجلس ورأى المسكين يعد الدراهم، فأخذها منه ورنها على الأرض، وسأل التاجر: أسمعت رنينها؟ قال: نعم؟ ومد يده إلى الدراهم يريد أن يقبضها، فرده أبو نواس وصاح به: حسبك، لقد وصل إليك الثمن رنينًا برائحة، فإذا كان المسكين قد شبع من رائحة طعامك، فأنت حريٌّ أن تملأ يديك من رنين دراهمه، وترك الروبيات للمسكين وانصرف إلى داره.»

وإلى جانب هذه الحكاية وما جرى مجراها حكايات مطولة يقول المؤلف: إنها تُسمع إلى الآن بين القبائل الزنجية، وتنقل عن غيرها من القبائل التي تتداول طرائف السحرة وأصحاب التعاويذ والكهانات، ولا ر يب أن أبا نواس قد انفرد بهذه الخاصة بين أدباء العربية في جميع العصور، ولا يقدح في هذه الحقيقة أن الأميين، وأشباه الأميين يروون النوادر عن عنترة بن شداد، ويضيفون إليه غرائب الشجاعة والإقدام، فإن نوادر عنترة بين الأميين وأشباه الأميين أقل كثيرًا من النوادر النواسية في بابها أو في أبوابها، فقد أصبحت لها أبواب ولم تنحصر في باب واحد.

ما سر هذه الشهرة المنفردة؟

سرها بإيجاز أن أبا نواس قد أصبح عند عارفيه الأولين «شخصية نموذجية»؛ أيْ شخصية تمثل نموذجًا اجتماعيًّا، ويعيش في كل زمن، وسر رجحانه على الشخصيات النموذجية من قبيل عنترة بن شداد أن وقائع الشجاعة أندر من وقائع «الحذاقة» في المجتمع، وأنها لا تصادف الناس في كل زمن كما تصادفهم الوقائع التي تدخل في مجال الشخصية النواسية.

وقد قيل: إن الناس مولوعون بالتحدث عن الشخصيات النموذجية يضيفون إليها كل خبر من جنس أخبارها.

وهذا صحيح. فقد أضاف الناس كثيرًا من أخبار الجود إلى حاتم الطائي، وهي لم تقع له ولا لأحد من الكرماء المعروفين، وبعضها قد وقع لأناس آخرين على سبيل التحقيق.

وكذلك فعلوا بأخبار الحكمة مع لقمان، وأخبار الشجاعة مع عنترة وأخبار الطب مع بقراط، وأخبار كل شخصية نموذجية سمعوا بها في زمن من الأزمان.

لكن الأصح أنهم يضيفون إلى الشخصيات النموذجية ما هو من جنس أخبارها، وما ليس من جنسها، فإذا كان الأمر الأعم أنهم يراعون التناسب في جنس الأخبار، فلا يمتنع مع هذا أنهم يضيفون إليها أخبارًا أخرى لا تناسب بينها وبين تلك الشخصيات، ويكفيهم منها أنهم يعرفون علمًا مشهورًا يتكلمون عنه كلَّما أرادوا التعالم بمعرفة المشهورين.

ومن طرائف ما حدث لنا من ذلك، ونحن ندرِّس «الإنشاء» في إحدى المدارس الثانوية أن تلميذًا نقل في موضوعه عدة أسطر من الشواهد الفلسفية نسبها إلى الشاعر ملتون الإنجليزي، واتفق في ذلك الحين أنني كنت معنيًّا بمعارضة قصائد ملتون على رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وكنت أعيد النظر في كل ما كتب ملتون من المنظوم والمنثور، ولم يكن الكلام الذي نسبه التلميذ إلى ملتون مما يناسب أقوال هذا الشاعر وموضعاته، ولم أذكر أنني رأيت له كلامًا مثله، فلما حققت الأمر علمت أن التلميذ قد جرى على هذه العادة للتهويل على أساتذة اللغة العربية الذين لا يعرفون لغة أجنبية، وأن التلميذ رأى أمامه مدرسًا عربيًّا، فلم يخطر له أنه يعرف لغة غير العربية، ولم يخطر له بطبيعة الحال أن ملتون كان موضوع قراءته الوحيدة على وجه التقريب في ذلك الحين، فادعى ما ادعاه وهو يحسب أنه في أمان، وأنه على ثقة من زيادة درجة أو درجتين.

ولما سألته على مسمع من زملائه بالإنجليزية: أين وجدت هذه العبارة من كلام ملتون؟ دهش ولم يكد يصدق أذنيه، ثم تبين أنه من الجهل بملتون وكلامه، بحيث لا يعلم أنه صاحب كتب ومصنفات، وكل ما عرفه عنه أبيات من المحفوظات سمع أخاه يستظهرها، وسمع أن ملتون هو ناظمها!

وليس أكثر بين العامة والجهلاء من الإحالة على أقوال المشاهير الذين لا يعرفون عنهم شيئًا غير أسمائهم، فمنهم من يحيل على مشاهير عصره، ومن يمعن في التعالم، فيُحيل على مشاهير العصور الغابرة، ومنهم من له لباقة الوضع والاختلاق فهو مجتهد في وضع الأقوال التي ينحلها مشاهير الرجال حسبما يتوهم مقدرتهم ومأثور أقوالهم؛ ولهذا يتفق أحيانًا أن تنحرف «الشخصية النموذجية» من دلالتها الأولى إلى غير تلك الدلالة، حتى يتباعد ما بينهما وتصلح كل منهما لتمثيل شخصية نموذجية غير الشخصية الأخرى.

وعلى هذا النحو انحراف شخصية «لقمان الحكيم»، فإنها تستحق وحدها دراسة مستقلة من هذه الوجهة دون غيرها، ونعني بها دلالة «الشخصية النموذجية» في العصور المتتابعة، وكيف يطرأ عليها الانحراف عن وضعها الأول شيئًا فشيئًا حتى يصح أن تصبح عنوانًا على إنسان آخر، أو عدة أناس غير صاحبها.

ففي مبدأ الأمر عرف لقمان بطول العمر وامتداد الأجل في أزمنة متعاقبة، ثم تأوَّل المتأولون طول عمره بحكمته وسحره، وعرفانه سر الحياة والموت، وأنه بهذه المعرفة قَرَنَ عمره بأعمار سبعة نسور كان يربيها عنده واحدًا بعد واحد، حتى انتهى أجله بانتهاء أجل النسر السابع، فمات معه في لحظة واحدة، ومن حكمة المواعظ والسحر والعلم بأسرار الحياة تحولت حكمة لقمان «الحكيم» إلى الطب والعلاج، وغلبت عليه خُلَّة القدماء الذين تعودوا أن يكتموا عن الناس أسرار صناعاتهم، فلا يبوحون بها إلا على قدر، ولا يختصون بها غير الصفوة المختارين من تلاميذهم ومريديهم، ولا شك أن حكاية «ماء اللفت» هي أحدث هذه الأخبار الموضوعة أو المختلَقة، ولكنها مع ذلك حملت معها بقايا العصور الغابرة من أوصاف هذه الشخصية النموذجية، كما عرفها على التتابع أبناء تلك العصور.

وخلاصة الحكاية التي تروى على عدة روايات أن وليَّ الأمر في عهد لقمان حبسه لغضبه عليه، أو خوفه من سحره ومكره، أو لضنِّه عليه وعلى الناس بأسرار حكمته وطبه، ثم سمع في حبسه بمرض إنسان يوشك أن يموت ودواؤه في ماء اللفت، وشقَّ عليه أن يخالف عاداته أو يخالف أمر الحاكم، فلم يشأ أن يبوح بسر الشفاء إلا بأسلوب التورية والجناس، فصاح في سجنه يقول: «مات العليل وما ألفت له دوا». فسمع السامع العليم بأسلوبه أن ماء اللفت هو دواء العلة، فأعطاه الدواء وشفاه.

وفي هذه الحكاية مسحة من كل شخصية نموذجية تشكل بها لقمان في تاريخه، وآخرها شخصية الطبيب التي لم تظهر في العلم الحديث، إلا حين شاعت تسمية الطبيب بالحكيم، وشاع التداوي بماء اللفت بين العامة، وهم يتداوون به إلى اليوم.

الشخصية النموذجية

وقد انحرفت «الشخصية النموذجية» التي عُرف بها أبو نواس على هذا النحو، فصارت في آخر هذا النموذج الأخير، وذاك هو نموذج الحاذق اللبق السريع إلى الجواب المفحم، ذي الدراية بالمخارج السهلة من الورطات العسيرة، وقد كان أبو نواس ولا ريب على حظ من اللباقة غير قليل، وكان يحسن الجواب ويتحيَّل على اللذات، ولكنه لم يكن آية الآيات في زمنه على سرعة الجواب والخروج من المآزق، بل لعله كان إلى التورط في المآزق أقرب منه إلى الدراية بمخارجها، ولعله كان من أولئك الذين نسميهم في عصرنا «باللخمة»؛ لتعذر الجواب عليه في مواقف الحرج، فلم يكن يحسن الدفاع عن نفسه حين تتألب عليه التهم بين أيدي الخلفاء والأمراء، ويروى في أخبار مجونه أنه كان يذهب إلى مجالس القيان متعمدًا إخجالهن، فينقلب الأمر عليه ويخجلنه ويفحمنه، فلا يحير جوابًا ولا يقد على البقاء في المجلس، وأبياته في جنان مشهورة حيث يقول:

وإن وقفتُ له كيما يُكلِّمَني
في الموضع الخلو لم ينطق من الحصر

ولا يكون كذلك هو مثال «الشخصية النموذجية» في سرعة الجواب، وإفحام النظراء. ونحسب أنه لم يكن صالحًا بطبيعة تكوينه للإفحام والإحراج، فإنه كان — كما تواتر وصفه — ألثغ نحيف الصوت مضطرب الأعصاب، وليس أيسر من إحراج مثله بمحاكاة لثغته ونحافة صوته واضطرابه، وإنما آلت «شخصيته النموذجية» إلى هذه الصورة بحكم الشهرة، وما يفهمه كل جيل من مناسباتها وأحوالها، فإذا تحولت به الشهرة من شخصيته الأولى إلى شخصية الشاعر الملازم للبلاط المنادم للأمراء في ساعات السكر والغضب والنزوات والبدوات، فلا جرم تكون النكتة الحاضرة والحيلة السريعة من أدواته وآلاته، ويصبح تصور الناس لصفات الشاعر هنا تابعًا لما يتصورونه من صفات الأمير المطاع؛ حتى ليكون من صفاته في بعض الأزمنة أنه يغضب، ويأمر بالقتل بغير سبب، وأنه يدين ويعفو في لحظة واحدة، وأنه لا يقبل الكلام إلا أن يكون من باب الملحة أو الكناية أو الجناس.

هذه الشخصية النموذجية «حديثة» ولا ريب طرأت بعد عصر أبي نواس بعد أجيال، وسنعرض لحقيقة هذه الشخصية في الفصول التالية، ونعود به إلى الأصل الذي نجم منه النموذج الأول، ولكننا نزيد على ما تقدم في هذا الفصل أن الشهرة النادرة التي ظفر بها أبو نواس لم يكن مداراها كلها على شخصيته النموذجية، بل يرجع الكثير منها إلى اقترانه بطراز آخر من الشخصية النموذجية، لعله أشهر أمثاله في التاريخ العربي أو في تاريخ العالم، وتلك هي شخصية هارون الرشيد الذي قيل عن أبي نواس: كان شاعره ونديمه، وأنه كان يلازمه في حلِّه وترحاله، ويطلع على أسرار بيته وخفايا حريمه.

•••

ولأمرٍ ما شاعت عن هارون الرشيد هذه الشهرة، وتعلَّم من لا يعلم شيئًا عنه أن يتشبه به كلما قضى ليلة لهو ومرح، وخيل إليه أنه أحاط نفسه بكل ما يشتهيه المشتهي من الترف والمتاع، ولم يكن هارون الرشيد بهذه الصفة على التحقيق، ولم يكن شاهروه بهذه السمعة جميعًا يحسنون النية، ويجهلون معنى ما يفترون، فربما كان منهم من يحنق على الخلافة العباسية، ويختلق المثالب لها ولأقطابها على سبيل الدعوة لخصومها، وربما كانت نوادر ألف ليلة كلها أو جلها من الأخبار الموضوعة للتشهير بدولة والترويج لدولة غيرها، وقد كان أبو نواس ذريعة للتشهير بالخلفاء في زمانه قبل تمادي الزمن، واختفاء الحقيقة أو نسيانها، فكان أعداء الخليفة الأمين بن هارون يعيبونه، فلا يجدون في عيبه ما هو أقدح وأقبح من مصاحبة أبي نواس وتقريبه إلى مجلسه، فلا عجب أن تعمل الدعوة بعد قرن أو قرنين عملًا يجول فيه الملفق والمفتري كل مجال، ولا يرى من يعترضه بين العامة إذا جمع في تهمة واحدة بين الخليفة المثالي من بني العباس، والشاعر المثالي من أبناء عصره، وهو أبو نواس.

والمحافظة على اسم ذي كلمتين أسهل من المحافظة على معالم شخصية إنسانية تحتاج المحافظة عليها إلى عالم بخصائص الطباع والنفوس، وعلم بوقائع التاريخ ومطامع السياسة، ولكن الطوائف التي شاع بينها اسم هارون الرشيد كانت كالطوائف التي شاع بينها اسم أبي نواس، أو كانت هي إياها كما يقول النحاة، فتناولت بالتحريف اسمه كما تناولت معالم شخصيته، وسمته هارون الرشيدي كما سمت صاحبنا أبا نواس بتشديد الواو، ولعل تلقيب هارون الرشيدي قد نشأ في مصر مع أقوال الدعاة الفاطميين فيها، فحسبه المتحدثون والسامعون منسوبًا إلى رشيد، أو سبقت النسبة إلى ألسنتهم؛ لأنهم يسمعونها مقترنة بكثير من الأسماء، ولا نخالها من تصحيف المطبعة حين طبع كتاب ألف ليلة وليلة بمصر غير مرة، فإن تصحيف المطبعة إنما جاء على ما هو ظاهر بعد تصحيف اللسان.

وجملة القول: إن «شخصية نموذجية» واحدة تفعل الأعاجيب في تزويد صاحبها بالأخبار والأوصاف، من حيث لا يحتسب فماذا تفعل شخصيان اثنتان!

لا جرم يظفر الحسن بن هانئ بنصيب من الأخبار والأوصاف والمعالم الشخصية لم يظفر به عربي غيره في المشرق أو المغرب، ولا في الزمن القديم أو الزمن الحديث. ولا جرم يحتاج بعد ذلك إلى تمييز وجهه لصحيح بين شتى الوجوه، التي عرضت على الناس باسم أبي نواس.

إلا أننا نعود فنقول: إن هذا النصيب الكبير من الشهرة لم يأت من جانب «الشخصية النموذجية» وحدها، ولا من تلاقى الشخصيتين النموذجتين بالحق وبالباطل، حيث التقت شخصية الشاعر وشخصية الخليفة.

فمن مزايا السمعة السيئة أنها تكف الحسد عن صاحبها من ذوي السمعة الحسنة.

وقد كان أبو نواس سيئ السمعة ولا مراء، وكان من أنداده الشعراء وأضرابه في سوء السمعة من يحسده، وينفس عليه مكانته ولهج الناس بأخباره وأشعاره، أما ذوو الوقار من علماء الأدب واللغة ورواة الشواهد والأمثال، فقد هان عندهم في ميزان الجد والوقار، فلم يحسدوه ولم يضنوا عليه بالشهادة «اللغوية» والتزكية العلمية، ولم ينكروا عليه البصر باللغة والسلامة من الخطأ، وأجمعوا أو كادوا يجمعون، على أنه أسبق المحدَثين بعد الجاهليين والمخضرمين في مقام الاستشهاد باللفظ المحرر، والأسلوب الجزل والنسج القويم، لو كان بينهم وقار كوقار أبي الطيب أو أبي العلاء — لما خلصت له هذه الشهادة بغير بخس وانتقاص: فقد تكفلت لهم ببخسه وانتقاصه سمعة سيئة لا تتقاضاهم من عندهم مزيدًا عليها، وربح أبو نواس من هذه «المزية» منزلة الأستاذين المتفقهين في اللغة والأدب، فأخذ من أهل الوقار كما أخذ من أهل المجون، ونجا من الإهمال حيث استحق الإهمال بميزان الخلق والدين.

ولا يزال بعد كل هذا مدد آخر من أمداد الشهرة النواسية غير الشخصية النموذجية، وغير شهادة العلماء والرواة والثقات.

ذلك المدد الآخر هو الفاكهة المحرمة، أو الفاكهة المحببة، على العهد بين كثير من الناس أن يحبوا كل ممنوع، ويلهجوا بكل محظور.

فقد كانت الفاكهة المحرمة بضاعة أبي نواس، سواء حرمتها شريعة الأخلاق أو حرمتها شريعة الأديان، وكانت الزندقة والشذوذ بعض ما يبيع في سوق الفسوق. وشأن الفاكهة المحرمة أن يسأل عنها سرًّا من لا يسأل عنها علانية، وأن يقاربها من يألفها، ويتجسس عليها من يجهلها وينكرها، وأنها من بضائع السوق السوداء كما نقول في العصر الأخير، فهي من بضائع المساومة والمغالاة.

وفي عصرنا هذا نظير لأبي نواس في الآداب الغربية سيأتي الكلام على المشابهة بينه وبين أبي نواس في بعض الفصول التالية؛ لأنها مشابهة بمقاييس الأدب والخلق والمزاج والدراسات النفسية، وأهم من ذلك فيما نحن بصدده أنها متشابهة في أسباب الشهرة بالفاكهة المحرمة، وما يصح أن يسمى بالزندقة الاجتماعية.

فالشاعر الأيرلندي الحديث «أوسكار وايلد» أشبه «الشخصيات النموذجية» في الأدب الغربي بأبي نواس، ومهما يكن من قيمة أوسكار وايلد الفنية، فشهرته أكبر من قيمته بكثير، ولم يعرف في القرن التاسع عشر أديب استهجنت سيرته كما استهجنت سيرة «أوسكار وايلد»، ولا أديب شاعت كتبه من أجل ذلك كما شاعت كتب هذا الأديب المحروم المجدود، وقد ترجم إلى كل لغة أوروبية، وكتب عنه النقاد في كل بلد، وتضاعفت الكتابة عنه بعد شيوع التحليل النفسي والمباحث العلمية في مسائل الجنس والأخلاق، وإنما أصابه هذا النصيب في سوق الفاكهة المحرمة اتَّجر فيها من قبلُ أبو نواس.

وكل سبب من أسباب هذه الشهرة هو في الواقع غطاء على حقيقة أبي نواس فوق غطاء، فهي تخفيه ولا تبديه، ومن عمل الدراسة النفسية والدراسة التاريخية أن تبرزا تلك الحقيقة من وراء تلك الأغطية، وهذا ما سنبدؤه في الفصل التالي بالكلام على سريرته النفسية: وهي السريرة النرجسية.

١  Abu Nawas in Life and Legend, by W. H. Ingrams.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤