جحيم دانتي١ وقصة «الكوميديا الإلهية»

لا يزال «جحيم دانتي» معدودًا أكبر قصة ذات حوادث رائعة في الدنيا، ولكن قليلًا من الناس قد قرأه رغم ذلك، ولئن كان كثير من شعره صعب الفهم غير محبَّب إلى القارئ العصري أن يستمر في قراءته، ويشارك «دانتي» في رحلته الطويلة حيث جاس خلال الجحيم، فهو — مع ذلك — خيال رائع التورية والكناية، لا يتخلَّف إذا قيس خياله القوي إلى خيال شكسبير وملتن الذي اشتهرا به في أشعارهما.

وظاهر الكوميديا الإلهية وصف للجنة والنار والمطهر، وباطنها تصور حال الأرواح بعد الموت، مورِّيةً بذلك، ومكنِّيةً عن حاجة الإنسان إلى قبس روحاني ومرشد يكون له هاديًا.

وقبل أن نبدأ السير مع دانتي في طريقه، ونجوس معه أنحاء الجحيم وأرجاءها، يجدر بنا أن نذكر أن «جحيم دانتي» ظل ماثلًا — في أذهان من قرأوه — مشرقًا بالحياة رائع الحقيقة واضح الصور بين التقاسيم، شأن أمثاله من الأسفار الخالدة: «كقصة روبنصن كروزو» و«رحلات جلفر»، كذلك تتمثَّل مناظر الجحيم الرائعة صورًا مكتملة، وتظل خالدة في النفس، ماثلة في الذهن، باقية بقاء المناظر الأخاذة بالنفس التي يراها الإنسان فلا ينساها ما عاش، إذا نسي كل شيء سواها.

ولقد رسم لنا «دانتي» جحيمه على صورة هاوية عميقة هائلة تشبه مخروطًا مقلوبًا يلتقي بالأرض في منتصفها، ثم ينقسم في جانبيه عدة أقسام — طبقات بعضها فوق بعض — تضيق سعةً بالطبع كلما هبط الإنسان من درك إلى درك، وكلما ازدادت شناعة الجرم سفل مكان الخاطئ فيها!

(١) مدينة الويل

يبدأ الكتاب بذكر «دانتي» كيف ضل طريقه في غابة مظلمة موحشة، وكيف التقى بفرجيل الذي وعده بزيارة الجحيم والاطلاع على ما فيها من نكالٍ، وكيف سار على أثر فرجيل حتى بلغا باب الجحيم، حيث قرءا عليه:

أيها الداخل الجحيم ستلقى
كل يأسٍ هنا وتنسى الرجاء

ثم دخلا من الباب معًا؛ فرأيا مكتوبًا عليه:

سترى زائري! مدائن ويلٍ
سترى زائري العذاب المخلد
سترى الأشقياء ماذا يعانو
ن من الويل والنكال السرمد
قد أعد الإله ناري لعاصٍ
لم يطعه وكان بالأمس يجحد
أيها الزائرون عندي لكم يأ
سٌ يخيب الرجاء منه ويفقد

ولا يكاد الداخل يعدو الباب حتى يلقاه سهل فسيح قاتم الأعماق يسمى ردهة الجحيم، حيث تطيف به أرواح الأنانيين والكسالى والمزهوين، تَلْسِبها النحل والزنابير الكبيرة، وهي هائمة تجري أبدًا خلف عَلَمٍ خفاق.

هنا تنهدات وانتحاباتٌ وتأوهات عالية، صاعدة في أجواز الفضاء الموحش الذي لا نجم فيه، حتى لبكيتُ حين دخلت، آلام وفزعٌ من كل جهة وبكل لسان، وصرخات مزعجة منبعثة من الألم، وصيحات غضبٍ وأصوات مختنقةٌ مبحوحة صادرة من أعماق القلوب، وأيدٍ ملوِّحة تعبر عما أصاب أصحابها من ويل وثبور، وظلام شامل مخيم على جميع الأرجاء، وكأنما امتلأ الفضاء برمال نارية محرقة سدَّت جميع الأنحاء.

ثم اجتازا ذلك السهل ووصلا إلى نهر «أشيرون» نهر الأحزان، حيث رأيا جموعًا زاخرة مجتمعة حول المركب الذي يستقله الذاهبون إلى الضفة الأخرى، وعلى القارب شيخ شرس ذو عينين كأنهما عجلتان من لهبٍ وهو يسيِّر بهم القارب، ويذيقهم من ألوان العذاب والنكال ما لا قِبَل لإنسانٍ بوصفه، ويصيح فيهم قائلًا: «الويل لك أيتها الأرواح الخبيثة، لا أمل اليوم ولا رجاء، ولن تروا أيها المجرمون تلك السماء التي كنتم ترونها في الدار الأولى، لقد جئت لأنقلكم إلى الشاطئ الآخر حيث تسود الظلمة الأبدية؛ لتعيشوا هناك في الزمهرير والسعير المتلظي.»

(٢) درك الوثنيين

ثم غرق «دانتي» في غيبوبته من الذهول — لما تولاه من الذعر والرعب — فلم يوقظه إلا دوي رعدٍ قاصفٍ، وما كاد ينتبه منه حتى رأى أولئك المعذبين قد وصلوا إلى الشاطئ الآخر من النهر، وثم وجد أرواح كبار رجال الوثنية الذين عاشوا عيش الخيِّرين، وأعوزهم أن يصطبغوا بالصبغة المسيحية — إذ لم يعمَّدوا — فرحب «هومر» و«هوراس» و«أوفيد» بدانتي ترحيب أفراد الأسرة الواحدة بفرد منهم.

ولما ذهب دانتي إلى الطبقة الثانية من الجحيم — أو الدرك الثاني — وجد فيها «مينوس» قاضي النار؛ وهو مخلوق عظيم الجسم على صورة إنسان له وجه كلب، وثم وجد عذاب آثمي الحب تذروهم ريح عاتية؛ فتقذف بهم كما تقذف بالطير في أجواء الفضاء.

ورأيا — فيما رأياه — «سميراميس» و«كليوباطرة»، كما شاهدا — على الخصوص — «فرانشسكا راميني» ومحبها «باولو» اللذين كتب لحادثتهما الخلود: تلك الحادثة التي قصَّتها «فرانشسكا» على دانتي، فأبانت له فيها كيف باغتها زوجها مع عشيقها فقتلهما معًا.

ورأى دانتي — في الدرك الأسفل من النار — جماعة من ذوي البِطنة والنهم منغمسين في الوحلن، ينصبُّ عليهم سيلٌ هتونٌ من الثلج والبرد والماء القذر، ورأى «تشوبروس» أحد الزبانية ذا الصورة الكلبية الهائلة يعوي ويزمجر عليهم وعيناه تقدحان شررًا، وأنيابه الحادة تقطع أجسامهم وتمزقها إربًا إربًا بعنف وقسوة.

(٣) مدينة الشيطان

وفي أول الدرك الرابع رأى دانتي فيه «بلوتوس» إله الثروة يحرس الدرك الذي جمع فيه المسرفون والبخلاء.

(وهنا وصف دانتي عذاب هؤلاء وصفًا رائعًا لا يحتمل المقام ذكره.)

ولما دخل الشاعران إلى المدينة وجدا أمامهما سهلًا رحيبًا فسيح الأرجاء، فيه أجداث مكشوفة، كل جدثٍ منها ممتلئ لهبًا، وفي وسطه أرواح الملاحدة المعذبة وفراشها نار حامية، ووجد من بين هؤلاء روح «فريناتا» المعجب المدلِّ بنفسه.

•••

ورأى «دانتي» في الدرك السابع من الجحيم نهرًا من الدم قد أغرق فيه العتـاة والجبابرة وأهل الظلم، ورأى الزبانية تقمعهم بمقامع من نار، وترميهم بسهام مهلكة.

وهكذا ظل دانتي يصف طبقات الجحيم ويذكر أنه قد رأى الطبقة الثانية منها وقد قسِّمت إلى عشرة أقسام، جُمع فيها أهل الرياء، والمخادعون، ومدعو النبوة، وذوو خطيئات التدليس والنفاق.

•••

وبعد وصف مسهب رائع لما يقاسونه من النكال، ينتقل «دانتي» إلى الدرك الأخير، حيث يرى الخاطئ الأكبر «إبليس» وهو يقاسي أشد أنواع العذاب، تهبُّ عليه ريح من الزمهرير، لو هبَّ منها قليل على بحر لأصبح جليدًا.

وبعد أن يبدع «دانتي» في وصف ما يلقاه إبليس من النكال، ينتقل إلى المطهر، حيث تقوده حبيبته «بياتريس»، فيرى النجوم الألاقة التي حرم رؤيتها طول ذلك الوقت!

١  مقال ملخص عن الإنجليزية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤