الوعظ الكاذب

أيُّها السادة:

قال لي ولدي مصطفى — ذات يوم — وعلى وجهه أمارات الدهشة والعجب: «إنك توصيني يا أبي بالصدق!» قلت: «نعم!» قال: «تنهاني عن الكذب!» قلت: «نعم.» قال: «كذلك تقول المعلمة!» قلت: «حسن، فماذا حدث؟»

قال: «حدث أن معلمتي— التي توصيني بالصدق وتمدحه لي وتنهاني عن الكذب وَتُبَغِّضُنِي فيه — قد كذبت!» قلت: «وكيف كذبت يا مصطفى؟» قال: «إنها ضربتني فشكوتها إليك، فلما سألتها أنكرت!» فماذا ترون أيها السادة؟

إذا كان هذا الطفل — وهو لم يُعَدِّ السادسة من سني حياته — قد فَطَنَ إلى التناقض بين قول المدرِّسة وفعلها، وأدرك أنها تَأمر بما لا تَأْتَمِرُ به، أترونني قد بالغت إذا قلت: إن أذهان العامة لن تكون أقل من ذهن هذا الطفل إدراكًا وفهمًا لما يقع من التناقض بين أقوال وُعَّاظِهِمْ وَمُرشديهم وأفعالهم؟

الحق أن العامة — مهما بلغ بهم الجهل — لن يكونوا أقل انتقادًا لوعاظهم من الأطفال.

ولست أدري كيف يأمرنا الواعظ بالصدق ويكذب، وكيف يأمرنا بترك الحَلِفِ وَيَحْلِف، كذلك الذي يقول: «والله ما حَلَفْتُ صادقًا ولا كاذبًا.»

أو كذلك الذي أراد أن لا يَبُوحَ بحب معشوقته فباح بها في قوله:

لا لا أبوح بحب بُثنة إنها
أخذت عليَّ مواثقًا وعهودا

وكيف يأمرنا الواعظ بحسن المعاملة وهو نفسه أسوأ مثل للمعاملة؟ وكيف تمتلئ قلوبنا خشية من واعظ منافق يأمر بما لا يَأْتَمِرُ به ويقرر ما لا يفعل؟! وكيف نخلد بثقتنا إلى رجل:

طلب الخَسَائِسَ وارتقى في مِنْبَرٍ
يَصِفُ الحِسَابَ لأمةٍ لِيَهُولَهَا
ويكونُ غَيْرَ مُصَدِقٍ بِقِيَامَةٍ
أضحى يُمَثِّلُ في النفوسِ ذُهُولَهَا

نعم، كيف نُصْغِي إلى واعظٍ وصفه أبو العلاء وأبدع في وصفه فقال:

رُوَيْدَكَ قد غُرِرْتَ — وأنت نَدْبٌ —
بصاحبِ حِيلَةٍ يَعِظُ النِّسَاءَ
يُحَرِّمُ فِيكُمُ الصَّهْبَاءَ صُبحًا
ويشربها — على عَمْدٍ — مساء
يقول «لَقَدْ غَدَوْتُ بِلا كِسَاءٍ
وفي لذاتها رهن الكساء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهى
فمن جهتين — لا جهة — أساء
فإن كان بعض الوعاظ يحسب أن ما يقترفه سرًّا من الشنع مستور غير معروف ولا ذائع فما أشد ضلالته ووهمه! قال كاتب إنجليزي:

إذا دار بِخَلَدِكَ — لحظة واحدة — أن أَخْفَى أسرارك التي تحرص عليها وَتُمْعِنُ في تَكَتُّمِهَا لم يعرفها الناس جمعاء فقد خدعت نفسك خداعًا بَيِّنًا.

وقال الشاعر العربي:

ومهما تكن عند امرئٍ من خَلِيقَةٍ
وإن خَالَهَا تَخْفَى على النَّاسِ تُعْلَمِ

أيها السادة:

لقد استفاد الناس من أخلاق النبي، وأعماله أضعاف ما استفادوا من أقواله ومواعيظه.

كذلك كان الصحابة والخلفاء الراشدون أمثلة عملية للأخلاق الفاضلة؛ فاستفاد الناس من أفعالهم أضعاف ما استفادوه من أقوالهم.

ألا ترون مثلًا إلى عمر بن الخطاب يجلد ولده — عقابًا له — ولا يتهاون في إقامة الحد عليه؟

ثم ألا ترون إليه وهو يُعَنِّفُ ابن العاص بقولته الحكيمة المأثورة: «متى اسْتَعْبَدتُمُ الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟»

ألا ترون إليه تُخَطِّئُهُ امرأة؛ فَتَحُجُّهُ فيعترف لها بالغَلَبَةِ وَيُذْعِنُ للحق إذعانًا ويقول قولته المشهورة: «أخطأ عمر وأصابت امرأة.»

وليس هذا إلا مثلًا من أمثلة عدة يُعْيِينَا أن نَتَقَصَّاهَا.

ألا ترون إلى «كاميل فلاماريون» مثلًا كيف عاقب نفسه بغرامةٍ وقد كان قاضيًا فأصدر على نفسه حُكمًا كما يصدره على عامة الناس.

ألم تسمعوا قصة القاضي الذي أهانه ابن مَلِيكه وهو في مِنَصَّةِ القضاء؛ فَزَجَّ به في السجن؛ فلما علم الملك بذلك فرح أشد الفرح وقال: «الحمد لله الذي جعل في بلادي قضاة يقيمون العدل حتى على ولدي نفسه!»

•••

هذه — أيها السادة — أمثلة عملية قليلة من أمثلة كثيرة يَجْدُرُ بمن يتصدون للنصح أن يتخذوها نموذجًا لهم؛ ليكونوا جديرين بوعظ الناس وإرشادهم، فإن الناس يستفيدون من النموذج العالي أكثر مما يستفيدون من الحكم والمواعيظ الخطابية.

وفي قدرة كل منكم أن يكون مثلًا أعلى لأبنائه، وأفراد أسرته، وعشيرته، وجيرانه؛ لِيُقَلِّدُوكُم في ذلك.

•••

وأنا أضرب لكم مَثَلًا يُبَين لكم فائدة هذه النماذج الصالحة: وجدت أبي — وأنا طفل — لا يكاد يترك الكتاب من يده، فأحببت أن أكون مثله وقلَّدته في ذلك حتى أصبح ذلك دَأْبِي إلى الآن، وانقلب التَطَبُّع طبعًا أصيلًا، ووجدته يصل الرَّحِمَ فقلدته في ذلك، ولو رأيته — على عكس هذه الصفات — لقلدته فيها كذلك، وما أصدق قول القائل:

مَشى السرطان يومًا باعْوِجَاجٍ
فَقَلَّدَ شَكْلَ مَشْيَتِهِ بَنُوهُ
فقال: عَلَامَ تَنْحَرِفُونَ؟ قالوا:
بَدَأْتَ بِهِ فَنَحْنُ مُقَلِّدُوهُ
فَخَالِفْ سَيْرَكَ المُعْوَجِّ واعدِل
فإنَّا — إن عَدَلْتَ — مُعَدِّلُوهُ
أَمَا تَدْري أبانا كُلُّ فرعٍ
يُجَارِي بالخُطَى مَنْ أَدَّبُوهُ
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عَوَّدَهُ أبوه!

فما أجدر وُعَّاظَنَا وَمُرشدينا أن يُعْنَوا بهذه الحقيقة، فلا يكتفي الواحد منهم بسرد تلك الألفاظ الميتة التي أَلِفُوا ترديدها في خطبهم، مقتصرًا على تلاوة عبارات مرصوفة محفوظة واصطلاحات عتيقة بالية لا تعبر عن نفسه؛ فإن من يسلك هذه الطريق مسيء لا محسن، وَرُبَّ داعٍ إلى الفضيلة هو — على الحقيقة — أشد خطرًا عليها من ألف داع إلى الرَّذِيلَةِ.

•••

وأنا أختم هذه المحاضرة بالقصيدة التالية التي تلخص لكم أثر الوعظ الكاذب في النفوس — وقد ترجمتها عن الفرنسية — وأظنها تعبر عن ذلك المعنى أدق تعبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤