الإرهاب من زاوية عربيَّة١

لن أبدأ مقالي بمحاولة لتعريف «الإرهاب»؛ لأنِّي أعلم أنَّ مئات الصَّفحات قد كُتبت حول هذا الموضوع، وما زال الجدل مستمرًّا، ولن أبدأه بتلك الإشارة — التي هي في رأيي مشروعة تمامًا — إلى الاختلاف الأساسي بين طريقة استخدام الكلمة في العالم الغربي — الذي كان حتى عهد قريب استعماريًّا — وطريقة استخدامها في العالم الثَّالث، وبخاصة حركات التَّحرر فيه؛ لأنَّ أطنانًا من الأوراق قد دُوِّنت حول هذا الموضوع، وما زال الخلط بين طريقتي الاستخدام يولد مغالطات لا أول لها ولا آخر، لا سيَّما لدى أجهزة الإعلام الدولية الواسعة الانتشار، فأنا أعترف مقدَّمًا بأن نصف مشكلة الإرهاب على الأقل، يكمن في الاستخدام الفضفاض، المتعدد المعاني لهذا اللفظ، وأعترف بأن هذا التعدد والخلط ليس مجرد مشكلة لغوية، وإنما يعكس وجهات نظر متضادة إزاء قضايا الشعوب، ومشكلات التحرر، وعلاقات القوة في العالم المعاصر، وربما كان يعبر في نهاية المطاف عن موقف أساسي من قضية الإنسان في هذه المرحلة من تاريخ البشرية.

لكنني مع اعترافي الكامل بهذا كله، لا أريد أن أُبَدِّد الوقت والجهد في المقدمات، مهما كانت ضرورية، وأودُّ أن أدخل مباشرةً في صميم الموضوع، ومن هنا فإني سأتغاضى عن التحديدات اللفظية الدقيقة، وأستخدم الكلمة بمعنى قد لا يكون دقيقًا، وقد لا يوافق عليه الكثيرون؛ لأن هناك قضايا أخرى أهم بكثير تحتاج إلى معالجة تنفذ مباشرةً إلى لب المشكلة.

إنَّ أعمال العنف التي تُسَمَّى إرهابًا، والتي تُنسَب إلى العرب، في ربع القرن الأخير، ترتكز على مجموعة من الحجج أو التبريرات الأساسيَّة، وهدفنا في هذا المقال هو أن نناقش هذه الحجج واحدة تلو الأخرى، لكي نصل في نهاية الأمر إلى نظرة لموضوع الإرهاب أعتقد أنها تكشف عن بعض العناصر غير المألوفة.

(١) نفاق الأخلاق الشائعة

الحجة الأولى التي يرتكز عليها المدافعون عن أعمال العنف، أو ما يُسَمَّى بالإرهاب، هي أن المعايير الأخلاقية الشائعة تنطوي على قدر كبير من النفاق، حين تحكم على العنف الذي تمارسه دولة قوية، على نطاق واسع، بأنه مشروع، وتستنكر العنف الذي يقوم به فرد أو بعض الأفراد، في نطاق أضيق بكثير، فالتدخلات العسكرية وأعمال القمع والاضطهاد المخطط والمنظم (كمذابح صبرا وشاتيلا)، وشن الحروب العدوانية على الدول الضعيفة (كغزو «إسرائيل» للبنان، أو غزو أمريكا لجزيرة جرينادا) وتحريض عصابات من المرتزقة لتخريب مجتمع يحاول أن يبني نفسه في أصعب الظروف (كالدعم الأمريكي الشامل لجماعة الكونترا في نيكاراجوا أو لمنظمة يونيتا في أنجولا)، كل هذه نماذج صارخة للإرهاب الذي تمارسه دولة قوية على شعوب أضعف منها بكثير، ومع ذلك، فإن الأخلاق الشائعة لا تدين هذه الفظائع بوصفها إرهابًا، بينما تحمل بشدة على عمليات أضيق نطاقًا بكثير وتهاجمها بكل قسوة.

هذه في رأيي حجة صحيحة كل الصحة، وهي تؤدي في الواقع إلى إعادة نظر شاملة لجوانب هامة من تاريخ العالم الحديث، مثال ذلك أننا اعتدنا، نتيجة تأثرنا بوجهة النظر الغربية، أن ننسب القسوة والعنف خلال الحرب العالميَّة الثَّانية إلى المعسكر المعادي للحلفاء، ونسينا أن الحلفاء الغربيين بدورهم قد ارتكبوا أعمالًا لا تقل وحشية عن أعمال هتلر ضد المدنيين والأبرياء، كما حدث على سبيل المثال في الغارة التي مُحيت فيها مدينة درسدن الألمانية من الوجود، وراح ضحيتها مئات الألوف، مع أن المدينة كانت خالية من أي هدف عسكري، كما نسينا أن كل فظائع اليابانيين، طوال سنوات الحرب، لا تساوي شيئًا بالقياس إلى القنبلتين الذريتين اللتين ألقتهما أمريكا في الشهر الأخير من تلك الحرب على هيروشيما ونجازاكي.

وهكذا فإن الإعلام الغربي، والأمريكي بوجه خاص، يتحكم في الصورة التي تكونها معظم شعوب العالم عن القسوة والوحشية والهمجية والإرهاب على المستوى الدولي، ويلون تلك الصورة باللون الذي يخدم مصالحه، بحيث يكون الغرب دائمًا هو الراقي والإنساني والمتحضر، وخصومه هم دائمًا الوحوش والبرابرة والهمج، بل إن هذا الإعلام أفلح في طمس أكبر عملية إرهابية بُنِيَ عليها تاريخ الولايات المتحدة نفسها، هي إبادة شعب كامل مسالم هو شعب الهنود الحمر، وجلب الزنوج كعبيد من أفريقيا، واستخدامهم بالسخرة في تشييد أسس الرخاء والثراء الأمريكي.

إذن فالمقاييس الأخلاقية التي يُصْدِر العالم على أساسها حكمَه بأن هذا الفعل العنيف مشروع أو غير مشروع، أخلاقي أو غير أخلاقي، هي مقاييس مشوهة ومضللة أو متحيزة إلى حد بعيد، هذه حقيقة لا شك فيها، ومع ذلك فإن هذه الحقيقة لا تحدد لنا، بوصفنا منتمين إلى الأمة العربيَّة، نوع الأعمال التي نستطيع أن نسهم بها في الكفاح من أجل قضايانا، إن ما نستنتجه من مناقشتنا لهذه الحجة الأولى، هو أن صورة العمل الإرهابي أو غير الإرهابي كما يرسمها الإعلام الغربي، كثيرًا ما تكون مشوهة ومغرضة، ولكن هذا الاستنتاج لا يقدم إجابة شافية عن السؤال الأساسي المطروح، وأعني به: ما نوع الأعمال التي يكون من حقنا، كعرب، أن نوجهها ضد أعدائنا؟ ذلك لأن إدراكنا أن الصورة التي يكونها العالم عن الإرهاب مشوهة، لا يعطينا مبرِّرًا لكي نرتكب أعمال العنف كيفما اتفق، وبغير تفكير أو توجيه، صحيح أن الأخلاق السائدة في هذا الموضوع، يسودها قدر كبير من النفاق، ولكن وجود هذا النفاق العالمي لا يعفينا من أن نفكر بإمعان في كيفية اختيار الأساليب العنيفة التي ينبغي أن تُسْتَخْدَم ضد أعدائنا، ونمتنع عن اختيار أساليب أخرى.

(٢) حرب الضعيف ضد القوي

أمَّا الحجة الثَّانية التي يرتكز عليها مبدأ العنف الإرهابي ضد العدو، فهي أن الْعَربي — والفلسطيني بوجه خاص — يجد نفسه في موقف الضعيف إزاء العدو، ولا يستطيع أن يواجهه بأساليب القتال التَّقليديَّة، وذلك لأسباب عديدة لا سلطان له عليها، فقد تكفلت أقوى دول العالم الولايات المتحدة وألمانيا الغربية وبقية الدول الصِّناعيَّة الرأسمالية الكبيرة بإمداد «إسرائيل» بكل أسباب القوة العسكرية والاقتصاديَّة والبشرية، مما أتاح لهذه الأخيرة أن تقيم دولتها على أرض مسلوبة بقوة الحديد والنار، وقد أثبتت التجارب أن هذا المعسكر بأكمله على استعداد للوقوف بكل قوة وراء «إسرائيل» إذا ما تأزمت معها الأمور، كما حدث بالفعل بعد هزيمتها في بداية حرب ١٩٧٣م، عندما دخلت أمريكا بكل ثقلها لدعم الأداة العسكرية ﻟ «إسرائيل».

فما الذي يستطيع الضَّعيف إزاء عدو كهذا؟ إنه لا يملك إلا أن يحاربه حربًا غير نظامية، ترتكز على عمليات مفاجئة غير متوقعة، يقوم بها أفراد مدربون على التضحية بأنفسهم مثلما هم مدربون على حمل السلاح، ومهما بدا من قسوة هذه العمليات، وذهاب بعض الأبرياء ضحايا لها، فإن هذا أمر لا مفر منه حين تُفرض عوامل الضعف على أحد الطرفين على الرغم من أنفه، مع بقاء جذوة المقاومة والنضال مشتعلة فيه، وهكذا يتلمس الطرف الأضعف أية نقطة رخوة لدى العدو، وأي هدف غفل العدو عن تحصينه أو حراسته، لكي يوجه إليه ضربة سريعة، وينهك العدو بالمفاجآت المسمرة التي تُصيب أبعد أماكنه عن التوقع.

هذه بدورها حجة يستحيل الاعتراض عليها؛ لأن الضعفاء الذين يرفضون الاستسلام، وهم كثيرون في هذا العالم، لا بُدَّ أن يبحثوا لأنفسهم عن وسائل أخرى لمناوأة أعدائهم، يتحقق لهم فيها قدر معقول من التكافؤ، ولكن يظل السؤال مع ذلك قائمًا: هل يلجأ الضعيف في هذه الحالة إلى «أية وسيلة»، أم أن عليه أن يختار؟ لا جدال في أن مناوأة العدو لا بُدَّ أن يكون لها هدف، هو إنهاكه وتهديد مصالحه الحقيقية، وليست المسألة مجرد إثبات وجود فحسب، فخاطفو الطائرات المدنية مثلًا يختارون أسهل الطرق، أعني طريقًا لا يحتاج إلى كفاح حقيقي، بل إنهم يبحثون لأنفسهم عن مزيد من السلامة بأن يطالبوا بانتقال الطائرة إلى مطار دولة متعاطفة معهم، وفي مقابل ذلك فإن هناك حركات أخرى، ضعيفة بدورها، تقض مضاجع أعدائها بعمليات شجاعة تمس صميم مصالحهم، وتحتاج إلى قدر كبير من التصميم والقوة المعنوية وروح التضحية.

وعلى ذلك فإن وجود طرف ضعيف مظلوم أمام طرف قوي ظالم، لا يعني أن من حق الأوَّل أن يضرب كيفما اتُّفِقَ، وبغير تفكير أو تمييز، بل إن مشكلة الاختيار تظل قائمة، ويظل السؤال الأساسي مطروحًا: إذا كنت ضعيفًا رغم إرادتي، ولديَّ إصرار على مواجهة عدو يتفوق عليَّ تفوقًا ساحقًا، فأي الأهداف ينبغي أن أختار؟

(٣) لفت أنظار العالم

منذ اللحظة الأولى لظهور أعمال العنف التي شاع وصفها بالإرهاب، كانت هناك حجة أساسيَّة تتردد على ألسنة مخططي هذه العمليات والمتعاطفين معهم، هي: إننا نريد أن نلفت أنظار العالم إلى قضيتنا، ولا جدال في أن عملية مثل خطف طائرة مدنية وتحويل مسارهم وإبقاء ركابها بين الحياة والموت ساعاتٍ طويلةً أو أيَّامًا كاملةً، لا بُدَّ أن تحتل العناوين الكبرى لصحف العالم، والموقع الأولى في نشرات الأخبار، طوال فترة استمرارها، ومن المؤكد أن القائمين بهذه العملية، لو أعلنوا عن قضيتهم خلال فترة التفاوض معهم على سلامة الركاب والطائرة، سيرغمون العالم على التحدث عن هذه القضية على أوسع نطاق يمكن تصوره، ولمَّا كانت الأجهزة والوكالات التي تتحكم في وسائل الإعلام الكبرى ينتمي معظمها إلى المعسكر المعادي لقضايا الضعفاء في هذا العالم، وبالتالي فإنها لا تعير هذه القضايا في الظروف العادية إلا آذانًا صماء، وتتعمد تجاهلها لكي ينساها العالم ويدب اليأس إلى نفوس أصحابها، فإننا نستطيع أن نفهم الأسباب التي تكمن وراء هذه الحجة الثالثة، والمنطق الذي يستند إليه أصحابها: ففي عالم أصم ينبغي أن تصرخ لكي يسمعك الناس، والصراخ في ساحة الصراعات الدولية، يعني أن تقوم بعمل غير عادي من أعمال العنف، يلفت انتباه الجميع ويشد أعصابهم.

ولكن فهمنا للأسباب التي ترتكز عليها هذه الحجة لا يمنع من مناقشتها:

فهناك سؤال أساسي ينبغي الإجابة عنه، في كل مرة يلجأ فيها المرء إلى حجة كهذه: ما معنى «لفت أنظار العالم» في هذه الحالة؟ إن لص البنوك الذي يخرج عندما يُحاصَر محتميًا بموظفة مذعورة يأخذها رهينة تحت تهديد السلاح، يلفت بتصرفه هذا أنظار الناس جميعًا، ولا بُدَّ أن يحتل في اليوم التالي مواقع بارزة في الصحف ونشرات الأخبار، ولكن نوع «لفت الأنظار» الذي سيحظى به في هذه الحالة هو أن الجميع سيكيلون له شتائم وأوصافًا من نوع «نذل» و«حقير» و«جبان»، وأنا لم أضرب هذا المثل إلا لكي أبين أن لفت الأنظار ليس غاية في ذاته، وإنما المهم أن تلتفت الأنظار إلى قضيتنا ﺑ «تفهم وتعاطف»، إن عملية معينة يمكن أن تجعل العالم كله يتحدث عَنَّا أيَّامًا متواصلة، ولكن السؤال هو: أي نوع من الحديث؟ في اعتقادي أن اختطاف طائرة مدنية، أو قتل عجوز مشلول وإلقاءه في البحر من سفينة مخطوفة، أو احتجاز مجموعة من الرياضيين ينتمون إلى بلد الأعداء ويشاركون في حدث رياضي عالمي تتركز عليه كل الأضواء، أو حبس رهينة وضربها حتى الموت، كل هذه أعمال ستلفت إلينا أنظار العالم، ولكن بأسوأ صورة يمكن تخيلها، وستجعل العالم يتحدث قطعًا عن قضيتنا، ولكنه سيكون حديث السخط والكراهية والاشمئزاز.

ولست أدَّعي أنني أول من أثار هذا الاعتراض، فهناك كثيرون كتبوا قبلي في هذا الاتجاه، وفي جميع الحالات كان رد الفعل على كتاباتهم سيلًا من الخطابات أو المقالات التي تدور كلها حول معنًى واحد: ألا ترى ما يفعلونه هم بالشعوب العربيَّة، وبالشعب الفلسطيني؟ هل توازن حادثة كذا أو كذا بمذبحة دير ياسين أو صبرا وشاتيلا، أو بتشريد شعب كامل من دياره؟ هذا كله صحيح، ولا أحد في وطننا الْعَربي ينكره، ولكن النقطة التي أود إثارتها هي التناقض الكامن في سلوك القائمين بأمثال هذه العمليات، فهم حين يعلنون أنهم يريدون لفت أنظار العالم إلى القضية، يصبحون ملزمين بمخاطبة هذا العالم باللغة التي يفهمها، أمَّا حين يستفزونه بمثل هذه الأعمال فلن يكون لذلك سوى معنًى واحد، هو أننا لم نعد بحاجة إلى لفت أنظار أحد، وأننا استغنينا عن تعاطف الجميع.

إن الإنسان العادي الذي يشاهد أخبار التلفاز في المساء، لن يتعاطف إلا مع ركاب الطائرة المدنيين، أمَّا الخاطفون فسوف يكونون موضع سخطه واحتقاره، بغض النظر عن قضيتهم، مثل هذا الإنسان يتوحد قطعًا مع راكب الطائرة، ويتصور أنه كان يمكن أن يكون بداخلها في هذه الساعات العصيبة، وهكذا تكون الرسالة الوحيدة التي ينقلها إليه الخاطفون هي: كل واحد منكم مهدد أيضًا، فكيف نتوقع تعاطفًا في هذه الظروف؟ بل إن التأثير السلبي لمثل هذه الأحداث يمتد طويلًا، حتى بعد انتهائها، ففي كل مرة يشعر فيها مسافر بالطائرة، من بين مئات الملايين الذين ينتقلون بين مختلف أرجاء العالم، بثقل وطأة الإجراءات الأمنية التي تزداد كل يوم تعقيدًا، ينصب سخطه على العرب، وتكسب بذلك ملايين الأعداء الجدد.

المستفيد والخاسر

وهنا نصل إلى النُّقطة الأساسيَّة التي لم أكتب هذا المقال في الواقع إلا لكي أؤكدها، فنحن نسلم تمامًا بأن أعداءنا يمارسون إرهابًا أشمل وأفظع وأوسع نطاقًا بكثير من كل ما تفعله هذه الجماعة العربيَّة أو تلك، هذه قضية لا تحتاج إلى مزايدة، ولا إلى أصوات تلقننا دروسًا في الوطنية، ولكن المشكلة أن أعداءنا يستفيدون من إرهابهم، بينما نمارس نحن الإرهاب لكي نخسر، ونعلم مقدَّمًا قبل أية عملية أننا سنخسر، ولن يخفف من وقع هذه الحقيقة الأليمة قول بعضهم إنك لا تستطيع التحكم في مشاعر شبان صغار رأوا شعبهم شريدًا مطرودًا، ورأوا أهلهم يُقتَلون أمام أعينهم بأيدي الأعداء والأصدقاء؛ ذلك لأن معظم العمليات التي نشير إليها لم تكن رد فعل عفويًّا أو ارتجاليًّا، وإنما كانت عمليات مخططة بدقة، ولم تُنفَّذ إلا بعد إعداد طويل وتجهيز معقد وحساب لكافة الاحتمالات، فلماذا لم يضع أحد نتائج العملية في حسبانه؟ إن المنفذين المباشرين للعملية قد يكونون بالفعل ضحايا لظروفهم القاسية، ولكن هل من المعقول أن يكون الذين يخططون لهم غير واعين بأنهم يقدمون لأعدائنا بمثل هذه العمليات دعاية مجانية لم يكن أحد منهم يحلم بها، ويُلحقون بقضايانا كلها ضررًا يستحيل إصلاحه؟

هذه المناقشة تحدد لنا معالم المعيار الذي ينبغي أن نقيس به أعمال العنف المشروعة، من وجهة نظرنا العربيَّة، وتلك التي ينبغي أن ندينها ونتبرأ منها ونفضحها على أوسع نطاق ممكن، فالمعيار السليم في هذه الحالة هو موازنة الفوائد والأضرار، أي إن العملية تكون مشروعة إذا كان الضرر الذي تلحقه بأعدائنا واضحًا، والفائدة التي تجلبها لنا مؤكدةً، وتكون غير مشروعة إذا لم نَجْنِ منها إلا الخسارة بينما يجني أعداؤنا كل المكاسب، وبهذا المقياس يسهل أن ندرج ضمن العمليات المشروعة، من وجهة نظر الشعب الذي اغتصبت أراضيه ظلمًا، عملية نسف مقر المارينز في بيروت، أو ضرب المجندين في حائط المبكى، بينما تنتمي عمليات مثل خطف السفن أو الطائرات أو قتل المسافرين في المطارات الأجنبيَّة بالجملة إلى ميدان الأعمال غير المشروعة؛ لأن المخططين لها يعلمون منذ البداية أنها لن تجلب لنا إلا الضرر، ولأن هذا هو نوع العمليات الذي كان يمكن أن يفتعله أعداؤنا افتعالًا، لو لم يتطوع بعضنا لإسداء هذه الخدمة الجليلة إليهم.

النَّافع والضَّار

وهكذا فإن مشكلة الإرهاب، إذا تأملناها من الزاوية العربيَّة، لا تعود مشكلة صواب أو خطأ، ولا عدل وظلم، إنما هي ببساطة مشكلة نفع أو ضرر، ففي مثل هذا المجتمع العالمي المنافق، الذي يتشدق بأخلاق وقيم ومثل عليا يطبقها حين تخدم مصالحه، ويدوسها بأقدامه حين تتعارض مع هذه المصالح، ينبغي علينا أن نسأل أنفسنا قبل الإقدام على أي عمل عنيف ضد الأعداء: هل سيعود هذا العمل علينا بالنفع وعلى أعدائنا بالضرر، أم العكس؟ أمَّا أولئك الذين لا يكترثون بالنتائج، ويندفعون إلى العمل العنيف كالثور الهائج، ويرغمون أبناء شعبنا في كل مرة على أن يعتذروا عنهم قائلين: إن أعداءنا يفعلون ما هو أفظع من ذلك، أمَّا هؤلاء فلا بُدَّ أنهم يعملون، بصورة أو بأخرى، لحساب أعدائنا، ومن واجبنا ألا نتردد في فضح ارتباطاتهم إلى أن تخلو الساحة من أمثالهم.

تبقى في نهاية الأمر حجة أخيرة، لم أشأ أن أعالجها ضمن الحجج الثلاث السابقة، لأن لها وضعًا خاصًّا، تلك هي الحجة التي تقول: ليذهب الرأي العام العالمي، وليذهب التفكير في الفوائد والأضرار، إلى الجحيم! فنحن نعيش في عالم لا أخلاقي يسوده العنف، ولا مفر من أن يسلك المظلوم طريق العنف بدوره كما يفعل الظالم، تلك هي الحجة التي تقول إن الخراب ينبغي أن يحل على الجميع، ما دام قد حل علينا من قبل.

مثل هذه الحجة في رأيي منطقية مع نفسها، فليس فيها ذلك التناقض الذي نلمسه لدى أولئك الذين يسعون إلى لفت أنظار العالم بأعمال يحتقرها العالم، ولكن الركيزة الأساسيَّة لهذا الموقف هي مبدأ: عليَّ وعلى أعدائي، وأنا لا أنكر أن الظلم الفادح الذي يسود العلاقات الدولية يمكن أن يؤدي ببعضهم إلى هذا النوع من التفكير، ولكن على من ينادي برأي كهذا أن يتحمل مسئوليته، فمعنى رأيه هذا هو أنه ببساطة قد أعلن الحرب على العالم، ولم يعد في حاجة إلى تأييد من أحد، ومعناه أن يكف عن المطالبة بالحق والعدل، ما دامت القوة قد أصبحت عقيدته الوحيدة، ومعناه أن يقف وحده بقوته المحدودة، أمام جبابرة العالم متحديًّا إياهم على ساحة العنف، لا لإثبات أية قضية، بل لمجرد الانتقام والمعاملة بالمثل.

إنما كما قلت، موقف متناسق مع نفسه، ليس فيه تناقض، ولكنه موقف يائس، بل هو أقرب إلى أن يكون موقفًا انتحاريًّا، لا يلجأ إليه إلا من استغنى كلية عن العالم، وقرر أن يقف منه موقف العداء السافر، ونهاية هذا الموقف معروفة مقدَّمًا، وهي تكاثر الجميع على صاحبه، وتحالفهم ضده وتكاتفهم من أجل القضاء عليه، ولما كنت أعتقد أننا لم نصل بعد إلى هذه المرحلة، وأننا ما زلنا بحاجة إلى العالم، وما زلنا نوجه إليه خطابنا ونستعين بقوًى فيه يمكن أن تناصر قضايانا في وجه القوى المعادية، فإني أعتقد أن هذا الموقف الانتحاري يمثل من وجهة النظر العربيَّة خسارة لا تقل عن تلك التي يجلبها لنا من يعرفون عن وعي وسبق إصرار، أنهم يقومون بعمليات تخدم أعداءنا، ولا تلحق بنا إلا أشد الأضرار.

١  العربي، العدد ٣٣٩، فبراير ١٩٨٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤