«أيديولوجية» التَّسلح١

عندما يطالع القارئ الْعَربي العادي عنوانًا كبيرًا في الصحف عن موضوع له صلة بمشكلة التسلح، فإن عينيه تبتعدان — عادةً — عن الموضوع، وتتحركان بحثًا عن عنوان آخر، يتناول موضوع أقرب إلى اهتمامه وأقوى جذبًا لانتباهه.

هذه صورة.

ومن ناحية أخرى لا يكاد يمر يوم إلا ونشاهد على شاشات التلفاز منظرًا لألوف مؤلفة من البشر، في أوروبا وأمريكا واليابان، يرفعون اللافتات ضد مشروعات التسلح، ويجلسون بهدوء، ولكن بإصرار، ليعترضوا سبيل قافلة تحمل أسلحة للدمار، أو ليسدوا مداخل قاعدة للصواريخ، أو يتظاهروا في وجه زائر كبير يعلمون أن زيارته تحمل معها أخطارًا عسكرية.

هذه صورة مقابلة.

والصورتان تكشفان عن الفارق بين الوعي وانعدام الوعي، بين الاهتمام واللامبالاة، ففي الوقت الذي يطوي فيه كثير من المثقفين في بلادنا أخبار التسلح على أساس أنها «من شأن الآخرين»، أو لأنها معقدة ثقيلة الظل، تتصدى النساء حاملات أطفالهن في المجتمعات الواعدة لجنود مدججين بالسلاح، وتقف رقة المرأة وبراءة الطفولة في وجه خشونة الجندي وصرامته، كشاهد على تصدي الإنسانية للنزعات اللاإنسانية، ووقوف أنصار الحياة في وجه دعاة الموت والدمار.

إن قضية التسلح في عالم اليوم قضية تهمني وتهمك ولها أوثق الصلات بالحياة اليومية للأسرة العادية، والأمنيات التي يتمناها الآباء لأبنائهم، والأمل في المستقبل كما يرتسم في مخيلة كل شاب وفتاة، ولهذا يتخذ الملايين من البشر الواعين موقفًا واضحًا ومُحدَّدًا من هذه القضية، ويتصدون بالأناشيد والزهور بحزم وإصرار لتجار الموت، ولأن نوع الموت الذي تهددنا به أسلحة العصر لن يوفر أحدًا، فإن من واجب الإنسان الْعَربي أن يكون أكثر اهتمامًا، وأن يفتح عينيه جَيِّدًا، ولا يقلب الصفحة حين يقرأ في الجريدة خبرًا من أخبار التسلح.

فما هي القضية بالضبط؟

إن لهذه القضية أبعادًا كثيرة شديدة التعقيد، ولكني لا أودُّ في هذا الحيز المحدود أن أعيد إلى أذهان القراء حقائق يستطيعون الحصول عليها لو قرءوا ما يُكتَب في كل يوم عن الموضوع، وإنما أردت أن ألقي بعض الأضواء على جوانب من الموضوع لا تعالجها الكتابات الشائعة، ويتجاهلها الكتاب دائمًا، أو يتغافلون عنها عامدين.

(١) الدور الأيديولوجي للتسلح

إن في عالمنا هذا نظامَيْن أيديولوجيين: الرأسمالي والاشتراكي، وفيه كتلة ضخمة هي كتلة العالم الثالث، تسعى إلى اللحاق بموكب التقدم، وتنجح حينًا وتخفق أحيانًا، وقد تقترب تجاربها الهادفة إلى تحقيق التقدم من هذا المعسكر أو ذاك، وهكذا فإننا لو شئنا أن نلخص صراعات عالم اليوم في كلمة موجزة لقلنا إنها هي صراع المعسكرين الكبيرين فيما بينهما من جهة، وتنافسهما على اجتذاب الكتلة الضخمة للعالم الثالث من جهة أخرى، وفي هذا الصراع — بشقيه — يقوم التسلح بدور أساسي.

إن النظام الرأسمالي يستطيع أن يتحمل دون عناء أعباء التسلح ونفقاته الباهظة، بل إن إنتاج السلاح وتطويره وتجديده المستمر من أهم العوامل التي تساعد على استمرار هذا النظام في الحياة وازدهار اقتصاده وتشغيل مصانعه وإيجاد فرص عمل للعاطلين فيه، أمَّا النظام الاشتراكي فإن التسلح بالنسبة إليه عبء ثقيل يؤثر تأثيرًا واضحًا في مستوى نموه؛ ذلك لأن السلاح في هذه الحالة لا تنتجه شركة تحقق أرباحًا هائلةً من بيعه أو تصديره، وإنما تنتجه الدولة التي تخطط اقتصادها بحيث يؤدي التوسع الزائد في أي ميدان إلى التضييق في الميادين الأخرى، وهكذا فإن إنتاج أسلحة باهظة التكاليف في المجتمع الاشتراكي لا بُدَّ أن تُقْتَطَع نفقاته من قوت الناس ومن ملبسهم ومسكنهم وسائر الخدمات التي تُقَدَّم إليهم.

هذه حقيقة أساسيَّة، إذا استوعبناها جَيِّدًا أمكننا أن نفهم بوضوح طبيعة الدور الأيديولوجي الخطير الذي يؤديه التسلح في عالمنا المعاصر.

فحين نستوعب هذه الحقيقة نستطيع أن نعلل ظواهر كثيرة قد تبدو في نظرنا غير مفهومة، فلماذا كانت أهم التجديدات الحاسمة في ميدان التسلح تأتي من جانب المعسكر الرأسمالي؟

إن التطوير المستمر للأسلحة التَّقليديَّة يحدث أوَّلًا في البلاد الرأسمالية، والقنبلة الذرية، ثم الهيدروجينية، والطائرات الأسرع من الصوت، كل ذلك بدأت به بلاد رأسمالية، صحيح أن السوفييت هم الذين افتتحوا عصر الصواريخ، غير أن التطوير العسكري للصواريخ باستخدامها من أجل شن حروب الفضاء قد تم على أيدي الأمريكيين، وفي أيامنا هذه يحلم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بنظام جديد يشكل «حائطًا» لاصطياد الصواريخ المعادية قبل وصولها إلى أهدافها، وهذا النظام الذي سيتكلف مئات البلايين من الدولارات، والذي لا يضمن أحد فعاليته على الإطلاق، يعني تصعيدًا جديدًا في التسلح، وارتفاعًا صاروخيًّا في ميزانياته.

(٢) الصراع على البقاء

هذا التطوير المستمر لا يعني فقط مزيدًا من الروح العدوانية لدى مبتكريه، بل إنه موجه في الأساس نحو الخصوم، والهدف الأساسي منه — في رأيي — ليس عسكريًّا، وإنما هو أيديولوجي واقتصادي، فقد أصبح التوازن الدولي يحتم على كل من القوتين العظميين أن تلحق الواحدة بالأخرى في قدراتها العسكرية، وكل تصعيد في مستوى التسلح ونفقاته يعني مزيدًا من الإرهاق لاقتصاد المعسكر الشرقي، ويعني اقتطاعًا من ضرورات الحياة لدى شعوب هذا المعسكر من أجل هدف أهم: هو أن تكون هذه الدول أو لا تكون، أعني من أجل الصراع على البقاء، وهو في عالمنا هذا أهم الصراعات جميعًا.

وكما قلت، فإن الاقتصاد الاشتراكي لم تنشأ فكرته أصلًا من أجل عالم تسوده منافسات عسكرية وصراعات حياة أو موت، بل إن مؤسسيه تصوروا قيام تنافس سلمي بين الرأسمالية والاشتراكية، وبنوا تنبؤاتهم بحتمية انتصار الاشتراكية على أساس فكرة المنافسة السلمية، ومع ذلك فإن الكُتاب حينما يعدُّون تلك العناصر التي أخفق مؤسسو الاقتصاد الاشتراكي — مثل كارل ماركس — في التنبؤ بها يغفلون عادةً هذا العنصر الذي أصبح يشكل الحقيقة الأساسيَّة في عالمنا المعاصر، أعني قيام النظام الرأسمالي بوضع العالم كله — وضمنه المعسكر الآخر — أمام أمر واقع يضطر فيه إلى تخصيص الجانب الأكبر من موارده من أجل التسليح، ففي رأيي أن عدم التنبه إلى الأساليب الدفاعية الهجومية التي يستطيع بها النظام الرأسمالي أن يطيل حياته، بل أن يزداد ازدهارًا على حساب العالم كله، هو أهم النقاط التي أخفقت فيها تنبؤات رواد الاشتراكية في القرن الماضي، وبفضل هذه الأساليب استطاع النظام الرأسمالي أن يضع الصراع بينه وبين الاشتراكية في إطار يختلف تمامًا عما تصوره هؤلاء الرواد.

ولكن الواقع أنَّ التَّنبؤ بمثل هذه التَّطورات كان أمرًا شبه مستحيل؛ ذلك لأنَّها لم تظهر في الأفق إلا بعد أن أدرك مفكرو النظام الرأسمالي أن وسيلتهم الوحيدة للصمود في مضمار المنافسة هي أن ينقلوا الصراع إلى أرضهم الخاصة، فيجعلوه صراعًا مسلحًا بدلًا من أن يكون سلميًّا، وكلما لاحت في الأفق بوادر استرخاء أو هدوء أشعلوا نيران أزمة أو نزاع هنا أو هناك، لكي تظل الحاجة إلى التسلح قائمة.

وقد ظهر ذلك أوضح ما يكون بعد الحرب العالميَّة الثَّانية، فخلال السنوات الأربعين التي انقضت منذ انتهاء هذه الحرب، طُوِّرت أنواع من الأسلحة تفوق بكثير كل ما عرفته البشرية من قبل، وكان ذلك أمرًا غريبًا بحق؛ لأن من المألوف ألا تحدث تطورات سريعة وحاسمة في الأسلحة إلا في أوقات الحروب الطويلة، ومع ذلك فقد اتسمت فترة ما بعد الحرب بالجمع بين صفات السلم والحرب معًا، وفي الوقت الذي تعتقد فيه معظم شعوب العالم أن هذا التصعيد في التسلح راجع إلى خوف كل نظام من أن ينقضَّ عليه الآخر، واتباعهما سياسة الردع المتبادل، أي تخويف كل طرف للطرف الآخر حتى لا يبدأ بتوجيه الضربة الأولى إليه، يتبين لمن يفكر في الأمر بمزيد من التعمق أن المسألة تنتمي إلى ميدان الصراع الأيديولوجي أكثر مما تنتمي إلى الميدان العسكري.

(٣) استنزاف متعمد

المهم في الأمر أن الدعوة إلى الاشتراكية لم تكن — أصلًا — تحسب حسابًا للأساليب الجديدة، غير المتوقعة، التي يبتدعها النظام الرأسمالي، لكي يدافع عن نفسه، ويضعف المعسكر الآخر، وعلى رأس هذه الأساليب، التصعيد المستمر للتسلح، وهكذا نشأ موقف جديد، أصبح فيه التنافس بين المعسكرين مشوَّهًا، يسير في طريق متعرجة شديدة التعقيد، بدلًا من أن يسلك طريق المنافسة السليمة المباشرة، واستطاع المعسكر الرأسمالي بالفعل أن يوقف مسيرة المعسكر الخصم، بل أن يوسع الهوة المعيشية التي تفصله عنه، وكل من يزور بلدان المعسكر الاشتراكي ويقارنها بالبلاد الرأسمالية المتقدمة، لا بُدَّ أن يصدمه الفارق الهائل في مستوى المعيشة بين الجانبين، هذا مع الاعتراف الكامل بالنجاح الكبير الذي يحرزه المعسكر الاشتراكي في ميادين كالتعليم والعلاج الطبي والإسكان، فالفرد العادي في أي بلد اشتراكي يعيش حياته اليومية في مستوًى أدنى بكثير من نظيره في العالم الرأسمالي، والتطلعات الاستهلاكية تستحوذ عليه استحواذًا لا تخطئه العين الفاحصة، ولا يخفف منه شعوره بأنه أكثر أمانًا بكثير — في عمله ومستقبله وحياته اليومية — من نظيره في الغرب.

هذا القصور الواضح لا يرجع إلا إلى الاستنزاف المتعمد الذي يفرضه النظام الرأسمالي على اقتصاد المعسكر الخصم في ميدان التسلح، الذي أصبح الآن باهظ التكاليف، بل إن نقص الاستهلاك الذي يلاحظه الإنسان العادي بسهولة في عالم لم تعد تقوم فيه حواجز بين المجتمعات ذات الأنظمة المختلفة هو المسئول عن عدم الاستقرار وعن تلك الثورات التي تشب من آن لآخر في بلاد المعسكر الاشتراكي، كالمجر وتشيكوسلوفاكيا، وأخيرًا بولندا، ونتيجة لتلك الثورات تفرض السلطات مزيدًا من القيود، فيؤدي ذلك إلى مزيد من الغضب المكتوم، وهكذا تستمر الحلقة الجهنمية في تضييق الخناق على هذا المعسكر، بعد أن نجح المعسكر الرأسمالي في فرضها على خصومه حتى يلعبوا لعبة الصراع بقواعده هو، وعلى أرضه هو.

(٤) خدعة الضربة الأولى

إن التسلح قد أصبح اليوم — في رأيي — يؤدي دورًا أيديولوجيًّا أكثر مما يؤدي دورًا عسكريًّا، وكل جديد من أسلحة الدمار يبتكره العالم الرأسمالي، ويُرغم الآخرين على مواجهته بأسلحة مقابلة، إنما هو وسيلة جديدة يصطنعها هذا العالم لكي يتغلب من جهة على أزماته الداخلية، من بطالة وكساد … إلخ، ولكي يرهق الخصم وينهك قواه من جهة أخرى، وأستطيع أن أقول بكل ثقة إن المسئولين الكبار في بلد مثل أمريكا يعلمون علم اليقين أنهم يخدعون شعبهم حين يقدمون إليه (كما يفعلون في هذه الأيام) فكرة نظام لحرب كونية أو فضائية تقوم فيها صواريخ أو أشعة ليزر أو غيرها من ابتكارات الموت بتدمير الصواريخ المهاجمة لو أراد العدو توجيه «الضربة الأولى»؛ ذلك لأن عدو الأمريكيين لن يوجه الضربة الأولى، وهذا أمر يعلمه أصحاب هذه الأفكار الجهنمية أنفسهم عن يقين.

وهذا التأكيد الجازم بأن أحد المعسكرين عدواني، والآخر لا يريد الحرب ولن يبدأها، لا يرجع إلى أن أحد المعسكرين يتسم بالفضيلة والآخر بالرذيلة، وإنما يرجع ببساطة إلى أن طبيعة النظام الاشتراكي تجعله أقدر على المنافسة في حالة السلم منه في حالة الحرب؛ ومِنْ ثَمَّ فإنه يخدم مصالحه على نحو أفضل عن طريق منع الحروب، لا عن طريق إشعالها، هذا فضلًا عن أن الكوارث الرهيبة التي عانتها الدولة الكبرى في هذا المعسكر، وهي الاتحاد السوفيتي، خلال الحرب العالميَّة الثَّانية، تجعلها آخر دولة في العالم تفكر في شن حرب عالمية أخرى.

أمَّا بالنسبة إلى بلاد العالم الثالث، فإن التسلح المتصاعد يعني — ببساطة — تعطيل خطط التنمية وتخصيص موارد المجتمع لأغراض الموت بدلًا من أهداف الحياة، وتؤدي لعبة التحسين الدائم للأسلحة إلى أن تظل دول العالم الثالث — مهما كان فقرها — في حاجة دائمة إلى سلاح جديد، وتصبح أسلحتها القديمة بعد عدد من السنين كتلًا معدنية لا نفع فيها، بعد أن كانت قد اقتطفت في سبيلها من قوتها الضروري، وجوَّعت شعوبها أو حرمتهم من ألزم الضرورات، وهكذا تظهر كل يوم طائرات أسرع وأشد فتكًا، ومدافع أطول مدى، ودبابات أقوى دروعًا، وكل قطعة جديدة تُشترى من هذه الأسلحة تعني حرمان بلد هو في الأصل فقير، من مستشفى أو مدرسة أو مصنع، والحرمان — مصحوبًا بتصعيد التسلح — يؤدي إلى زيادة اصطباغ المجتمع بالصبغة الاستبدادية، مما يعني مزيدًا من الارتباط بالدول الموردة للسلاح، وبذلك يحقق التسلح بدوره في هذه الحالة هدفًا أيديولوجيًّا.

(٥) راعي البقر وخصمه

لقد شاهدنا جميعًا في أفلام رعاة البقر الأمريكية منظرًا لمواجهة بين مسلحين يقترب كل منهما من الآخر ببطء ويده بقرب زناد مسدسه، وعرفنا من هذه الأفلام الأمريكية أن حياة الفرد — في فترة بناء أمريكا وتوسعها — كانت تتوقف على السرعة التي يسحب بها مسدسه، وبوسعي أن أقول إن أمريكا قد استطاعت أن تنقل هذا المنظر بحذافيره إلى المستوى الدولي، فأصبحت المواجهة بين المعسكرَين، أعني بين صواريخ كل منهما المنصوبة في اتجاه آخر، صورة طبق الأصل للمواجهة بين راعي البقر وخصمه، بل إن التشبيه يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، فكل النزاع الحالي حول صواريخ كروز وبرشنج التي نصبتها أمريكا حديثًا في أوروبا وتسببت في قطع مباحثات نزع السلاح، إنما يرجع إلى أن هذه الصواريخ تعطي الطرف الذي يستخدمها بضع دقائق أسرع من الطرف الآخر، عندما يرسل صواريخه إليه، إنها تعني — ببساطة — أن أحد المسلحَيْن اللذَين يواجه كل منهما الآخر قد ابتكر طريقة أسرع لمد إصبعه إلى الزناد.

ومن المفارقات ذات المغزى، أن هذا التطور قد أصبح واضحًا للعيان في عهد رئيس أمريكي كان حتى عهد ليس بالبعيد متخصِّصًا في تمثيل أدوار رعاة البقر، وكان بارعًا في مشاهد المواجهة وسرعة سحب المسدسات!

إن سباق التسلح، في رأيي، ليس — كما يعتقد الكثيرون — ضرورة تمليها ظروف عالمنا المعاصر، وليس إجراءً وقائيًّا يستهدف تحقيق الأمن للدول في عالم يسوده الصراع، وإنما هو خطة متعمدة تطبق ببراعة لأهداف أيديولوجية في المحل الأوَّل، إنه ببساطة إجراء يرمي إلى نقل المواجهة بين الأيديولوجيات الكبرى في العالم من الميدان السلمي إلى الميدان العسكري، محقِّقًا بذلك أهدافًا ثلاثة:
  • (١)

    خدمة الاقتصاد القائم على النشاط الحر الذي يحقق أعظم أرباحه، ويحل كثيرًا من مشاكله الداخلية، عن طريق صناعات الأسلحة.

  • (٢)

    إرهاق اقتصاد المجتمعات الاشتراكية الذي لم يخطط أصلًا لمواجهة أعباء عسكرية باهظة، والذي لا يحقق أفضل نتائجه إلا في ظروف المنافسة السلمية، وهذا الإرهاق تترتب عليه مشكلات كثيرة، ويؤدي إلى دورة خبيثة من السخط الناجم عن الحرمان، إلى القمع الذي يولده السخط، والذي يؤدي بدوره إلى المزيد من الغضب والتذمر، وهلمَّ جرًّا.

  • (٣)

    استنزاف موارد البلاد النامية وإضاعة فرصتها في تعويض التخلف، وإبقاؤها في حالة اعتماد متزايد على الدول التي تورد السلاح وتبيع الغذاء.

(٦) صناعة السلاح وتجارة الموت

هكذا فإننا لسنا على الإطلاق بعيدين عن المعركة وإنما هي تمس صميم مستقبلنا ومستقبل أبنائنا، وإذا كان المخططون الأصليون لعملية تصعيد التسلح يستهدفون في الأساس غايات أيديولوجية، فإنهم في سبيل ذلك يضعون العالم كله — وضمنه نحن — على فوهة بركان، يهددون بقاءنا في كل لحظة.

فمن وراء مرحنا وضحكنا ولهونا، هناك عالم لا نحس به، عالم حقيقي إلى أبعد مدًى، هو عالم أولئك الذين يجلسون على مدى الساعات الأربع والعشرين في كل يوم أمام شاشات التلفاز ولوحات الأزرار المتصلة بمخابئ الصواريخ الهائلة، يرصدون كل حرة ويرسلون كل لمحة خطر إلى قيادات متحفزة، وينتظرون الإشارة الحمراء ليضغطوا الأزرار التي تطلق جحيم الموت والدمار على العالم كله.

هذه معركة يوجد كل واحد مِنَّا في ساحتها، شأنه شأن أي فرد آخر من أفراد هذا الجنس الذي يُسَمِّي نفسه «عاقلًا»، والذي أوشك عقله وعلمه على أن يبعث به إلى الجنون. إنها معركة لا معنى لها، يخططها ببراعة صناع السلاح كيما تنتعش تجارة الموت التي يبيعونها للعالم بأسره التي يحققون بها رخاءهم، وينهكون بها خصومهم، ويرغمون بها العالم على الانقياد لهم، ويضمنون بها صمود أيديولوجيتهم وبقاء أسلوب حياتهم.

إنها معركتنا جميعا، وعلينا أن نتصدى لها بنفس الشجاعة التى يواجهها بها نساء وأطفال وآباء مسالمون في مجتمعات تكشفت لها الحقيقة بكل ما فيها من بشاعة ومرارة، وهي معركة ينبغي ألا ينتصر فيها من يملكون أسلحة الدمار، بل ينبغي أن يكون النصر النهائي فيها لمن يؤمنون بالإنسان.

١  العربي، العدد ٣١٤، يناير ١٩٨٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤