التَّجربة الموسيقيَّة بين الحضارات١

في استطاعتنا أن نعرف الكثير عن حضارة شعب من الشعوب، إذا تأملنا طريقة ممارسته للفنون، بل إن هذه الممارسات الفنية تُعَد — في نظر الكثيرين — أقوى تعبير عن الجوهر الحقيقي للشعوب.

الفن نشاط تلقائي حر، وعندما يُترك الإنسان حُرًّا في ممارسة نشاطٍ ما، فإنه يعبر في هذا النشاط عن أعمق سماته الباطنة، أمَّا أنواع النشاط الأخرى، كالعمل مثلًا، فلا تتسم بنفس القدر من الحرية؛ إذ إنَّ هناك ضرورات كثيرة تفرض على الإنسان طريقة ممارسته لعمله، كضرورات المعيشة اليومية، ومدى قدرة البيئة والموارد الطبيعية على تلبية احتياجاته، ونوع العلاقات الاجتماعيَّة التي يُمارِس الإنسان عمله في ظلها، وغير ذلك من العوامل التي تجعل العمل نشاطًا لا يتسم بالحرية التامة؛ ومِنْ ثَمَّ فإنه لا يعبر تعبيرًا كاملًا عن الجوهر الكامن للإنسان، وإذن، ففي ميدان الفن وحده يُترك الإنسان حُرًّا، لكي يعبر عمَّا في أعماقه، ومن خلال تحليلنا للممارسات الفنية السائدة في الحضارات المختلفة، نستطيع أن نصل إلى الجوهر المميز لهذه الحضارات.

وفي هذا المقال سينصب البحث على فن الموسيقى؛ ذلك لأن هذا الفن يمثل الخصائص التي كنت أشير إليها بوضوح كامل، فهو في أساسه فن باطن تسري أنغامه في الزمان، على حين أن الفنون التصويرية تتعلق بما تدركه العين في المكان، وكما قال الفلاسفة فإن الزمان هو إطار الحس الداخلي، على حين أن المكان إطار أو قالب للحس الخارجي، ولذلك كانت الموسيقى هي الأقدر على التعبير عن الجوهر الباطن للإنسان.

(١) سمات التَّجربة الموسيقيَّة

بعد هذه المقدمة، التي قد يراها القارئ فلسفية أكثر مما ينبغي، أودُّ أن أعرض لبعض سمات التَّجربة الموسيقية في حضارات مختلفة، لكي نصل منها إلى بعض العناصر التي تكشف عن جوهر هذه الحضارات.

ففي الحضارات الغربية كان التيار الرئيسي للموسيقى هو ما نُطلق عليه اسم «الموسيقى الكلاسيكية»، وصحيحٌ أن هناك أنواعًا أخرى من الموسيقى كانت تنمو إلى جانبه، كالموسيقى الشَّعبيَّة، والموسيقى الراقصة، التي ازدادت أهميتها وازدادت الفوارق بينها وبين الموسيقى الكلاسيكية وضوحًا منذ أوائل القرن العشرين، غير أن الموسيقى الكلاسيكية هي الإنجاز الأكبر في هذا الميدان للحضارة الغربية، وإلى هذه الحضارة يرجع الفضل في إبداع هذا النوع الراقي من الموسيقى ووضع الأسس الدقيقة التي يتم بها أداؤه، وإن كان إشعاع الموسيقى الكلاسيكية قد امتد فيما بعد إلى بقاع أخرى في العالم.

ولعل أهم السمات التي تميزت بها نشأة الموسيقى الكلاسيكية، منذ أواخر العصور الوسطى الأوروبية، أنها ارتبطت منذ البداية بالشعائر الدينية، فالموسيقى كانت جزءًا لا يتجزأ من طقوس الكنيسة، وفي جو القداسة هذا تطورت، منذ البدايات البسيطة للترتيل الديني في «الأنشودة الجريجورية»، حتى موسيقى «القدا» الفخمة عند كبار المؤلفين الموسيقيين في القرون الثلاثة الأخيرة، وبطبيعة الحال، فإن التطورات المعقدة التي مرت بها هذه الموسيقى — على مدى هذه القرون الثلاثة — نقلت هذا الفن إلى مرحلة تتجاوز أصوله الأولى بكثير، بحيث أصبحت له اتجاهات شديدة التنوع والخصب، وأخذ ينفصل شيئًا فشيئًا عن تلك الأصول الدينية، حتى لم تعد لهذه الأصول — في الوقت الراهن — إلا أصداء خافتة، ومع ذلك فإن نشأة الموسيقى الجادة، في ظل القداسة الدينية، أضفت عليها طابعًا خاصًّا، تستطيع أن تلمسه بوضوح، إذا حضرت حفل موسيقى (كونسيرت) في إحدى القاعات الكبرى المخصصة لهذا الفن في دولة أوروبية.

فالقاعة نفسها أشبه بمكان العبادة، والجمهور يُراعي آدابًا صارمةً في سلوكه وحديثه حتى قبل أن يبدأ العزف، وحين يبدأ الأداء يخيم الصمت على الجميع، فلا همس ولا حركة ولا مظهر للحياة إلا لدى القائمين بالأداء أنفسهم، أمَّا قائد الفرقة الموسيقية (الأوركسترا)، فهو صاحب الكلمة والمسيطر على الحضور، من عازفين ومستمعين، وهكذا يشيع جو من الرهبة والخشوع والتبجيل لا نظير له إلا في دور العبادة.

(٢) تحديات الموسيقى العربيَّة

وعلى العكس من ذلك، فإن الجو الذي ارتبط بالموسيقى، في الحضارة العربيَّة، كان أبعد ما يكون عن القداسة، ولم يكن له شأن بالدين، بل إنه كان على العكس من ذلك تحديًا — بدرجات متفاوتة — لتعليم الدين، فمجالس الطرب والأُنس في قصور الخلفاء وبيوت الأغنياء كانت هي البيئة التي ازدهر فيها فن الموسيقى العربيَّة، وأشهر القائمين بالأداء (أعني المغنين والعازفين) كانوا من الجواري أو القيان، وكان من المألوف — وما يزال — أن يرتبط الأداء الموسيقي بالرقص، وتكون مهمته تقديم خلفية إيقاعية للراقصة التي تمارس فنًّا حسيًّا خالصًا، إذا جاز إطلاق اسم الفن على حركات الاستثارة التي تؤديها، وعلى حين أن الموسيقى كانت في الغرب تهيئ الروح للعبادة، فإنها في حضارتنا كانت في كثير من الأحيان تهيئ الأحاسيس والجسد نفسه للإثارة الحسية، وفي هذا الصدد تلعب دقات الطبول، المصحوبة برقص مثير، في حفلات الزفاف، دورًا ليس من الصعب فهم دلالته.

إن التعميم في هذه المسائل أمر محفوف بالمخاطر؛ إذ إنَّ دور الموسيقى الراقصة الصاخبة في الحضارة الغربية المعاصرة هو بدوره بعيد كل البعد عن القداسة الدينية، وارتباطاته بالإثارة الحسية واضحة كل الوضوح، ومن جهة أخرى فإن بعض مظاهر التلحين النغمي في حضارتنا، كالأذان وترتيل القرآن، كانت ذات صبغة دينية مباشرة، وفضلًا عن ذلك، فقد تغلغل الفن النغمي في وجداننا الشعبي من خلال أغاني المهن والحرف، كغناء البحارة والزراع والبنائين … إلخ، هذه كلها أمثلة لا يمكن تجاهلها، وهي تخرج عن إطار ذلك التعميم الذي قدمناه من قبل، ومع ذلك ففي استطاعة المرء أن يقول مطمئنًّا إن هذا التعميم ينطبق على التيار الرئيسي للموسيقى في كلتا الحضارتين، مع الاعتراف بوجود كثير من الحالات المخالفة له خارج هذا التيار الرئيسي، فالتطور الأساسي للموسيقى الغربية الكلاسيكية كان في أصوله الأولى مرتبطًا بالقداسة الدينية، والتطور الأساسي للموسيقى في الحضارة العربيَّة كان مرتبطًا بلحظات المتعة الحسية الدنيوية.

(٣) التَّجربة في وطننا العربي

فإذا صحَّ هذا الحكم، في حدوده العامة هذه، كان في استطاعتنا أن نفسر من خلاله عددًا من الظواهر الهامة التي تتميز بها التَّجربة الموسيقية في مجتمعاتنا العربيَّة.

فالتَّجربة الموسيقية في وطننا العربي تكاد تقتصر على الغناء، حتى إن كلمة الموسيقى عندما تَرِد على الأذهان لا تعني لدى معظم الناس إلا فن الغناء، والكلام عن أوضاع الموسيقى العربيَّة في الصحف والمجلات والكتب أحيانًا يتحول تلقائيًّا إلى مناقشة لأوضاع الأغنية العربيَّة، وهكذا فإن الموسيقى الخالصة تكاد تكون فنًّا غير مُعترَف به في بلادنا، صحيح أننا قد نجد موسيقى مصاحبة للرقص، وغير مقترنة بالغناء، ولكن هذه بدورها ليست موسيقى خالصة، وهكذا فإن الموسيقى عندنا عاجزة عن أن تقف وحدها، بوصفها فنًّا مُستقلًّا قادرًا على أن ينقل رسالته الخاصة إلى المستمعين، وإنما هي توصل هذه الرسالة في معظم الأحوال عن طريق ارتباطها بالكلمة الشعرية أو الغنائية، أو بوصفها عاملًا يساعد على إبراز حركات راقصة، وبعبارة أخرى فإن الافتقار إلى العمق التعبيري، نتيجة لارتباط الموسيقى بغايات سطحية بعيدة عن روحانية الفن، هو الذي جعلها عاجزة عن أن تعبر عن نفسها بدون الاستعانة بوسائط أخرى كالكلمات والرقص.

ولا شك أن الأصل الدنيوي للموسيقى في مجتمعاتنا هو الذي يفسر ظاهرة أخرى نتقبلها نحن بصورة طبيعية لأننا اعتدناها، على حين أنَّ أبناء الشعوب الأخرى ينظرون إليها بدهشة بالغة، وأعني بها المشاركة الزائدة بين الجمهور وبين الفنان في حفلات الغناء، ففي خلال هذه الحفلات لا يكف الجمهور عن إبداء رأيه — على شكل استحسان — بأعلى صوت، وبمختلف الكلمات والصيحات، ويشعر المغني نفسه بسعادة بالغة كلما استمع إلى صيحات الطرب تُدوي بأعلى صوت، وتستخدم فيها شتى أنواع الألفاظ والهتافات، بين كل مقطع ومقطع من أغنيته، ويشارك التصفيق مع الأداء إذا كان الإيقاع فيه واضحًا ومُثيرًا، حتى يتحول الحفل إلى نوع من الأداء المشترك بين الفنان والجمهور، ويزول الحد الفاصل بينهما.

هذه المظاهر — كما قلت — مألوفة، ولكنها غريبة كل الغرابة عند غيرنا من الشعوب، التي يضطر فيها المستمع إلى أن يحبس رغبته في السعال، حتى تسكت الموسيقى من فرط احترامه لها.

(٤) العمق الموسيقي

وبطبيعة الحال، فإن جزءًا من تفسير هذه الظاهرة يكمن في درجة العمق التي يتسم بها الفن الموسيقي في كلتا الحالتين، فحين يكون هذا الفن عميقًا متعدد الأبعاد، مُركَّب العناصر، يحتاج المستمع إلى أن يحشد كل ما يملك من طاقة، ويركز أكبر قدر من انتباهه، حتى يستطيع استيعاب العمل الفني بمختلف جوانبه، أمَّا حين يكون الفن مسطَّحًا، أحادي البعد يسوده التكرار، ويكشف عن كل ما يريد التعبير عنه منذ اللحظة الأولى، فعندئذٍ يستطيع المستمع أن يتابعه بسهولة حتى وهو يتحدث أو يصيح أو يغرق في ضجيج، ومع ذلك، فإن مثل هذه المشاركة الجماعية، بين الجمهور والفنان، لا تفسر تفسيرًا كاملًا إلا إذا وضعنا في اعتبارنا الأصول الدنيوية والحسية لهذا الفن؛ ذلك لأن الانفعالات المرتبطة بالأمور الحسية تعبر عن نفسها خارجيًّا، بوضوح وصراحة وبطريقة زاعقة، أمَّا الانفعالات التي تنمُّ عن خشوع وتقديس فتظل في داخلنا هادئة وصامتة.

على أننا لو شئنا الدقة لقلنا: إنَّ الحضارة العربيَّة ليست هي وحدها التي تمارس التَّجربة الموسيقية بطريقة المشاركة بين الجمهور والفنان، وتبتعد عن ذلك التأمل العميق الهادئ الذي تتميز به التَّجربة الموسيقية في حضارة الغرب، فالموسيقى الأفريقية الزنجية بدورها بعيدة كل البعد عن التأمل، إذ إنها هي الأخرى تلغي المسافة بين الفنان والجمهور، بحيث يندمج ذلك الجمهور مع الأداء الموسيقي اندماجًا تامًّا، تعبر عنه حركات الرقص الإيقاعية التي انبهر بها الغرب نفسه عندما عرفها، عن طريق زنوج أمريكا بوجه خاص، فاتخذ منها مصدرًا من أهم مصادر موسيقاه الراقصة الخفيفة في القرن العشرين.

ومع ذلك فإن التَّشابه بين التَّجربة الموسيقيَّة العربيَّة والزنجية تؤدي في حياة مجتمعاتها دورًا أوسع مدى بكثير من ذلك الدور الترفيهي، الحي اللاهي، الذي تؤديه الموسيقى في حياتنا، إنها مندمجة اندماجًا وثيقًا في عقائد الزنوج وشعائرهم، ونظم مجتمعهم، وأخطر جوانب حياتهم، وإذا كانت الموسيقى عندنا — في الأصل — تستثير انفعالات حسية معينة، ولا تتجاوز هذا المدى إلا في النادر، فإن الموسيقى الزنجية ترتبط بطقوس الميلاد والبلوغ والعبادة والحرب والموت، ولا بُدَّ أن كُلًّا مِنَّا قد رأى — في الأفلام التلفازية الإخبارية أو الوثائقية — تلك المظاهرات التي يسير فيها الزنوج من أجل قضايا خطيرة كل الخطورة، وهم يرقصون على أنغام الموسيقى وإيقاعاتها رقصًا لا صلةَ له بالبهجة أو المرح، وإنما يعبر عن كل ما يختزنونه من مشاعر الحزن أو الرَّفض أو الاحتجاج أو الغضب، بل إنَّ المنظر عينه يتكرر حتى في تشييع جنازات موتاهم، ففي ذلك الاقتراب الشديد من منابع الحياة والتوحد مع الطبيعة، الذي تتميز به الحياة الزنجية، تقوم الموسيقى بدور حاسم، يتجاوز بكثير مفهوم «الفن الجميل» كما يشيع بيننا، لكي تصبح مظهرًا أساسيًّا من مظاهر حيوية الإنسان، ومثل هذا الدور لا يمكن أن نجد له نظيرًا في تجربتنا الموسيقية في الوطن العربي.

(٥) أشكال التَّجربة العربيَّة

إنَّ التَّجارب الفنيَّة العربيَّة تزداد عمقًا وأصالةً في ميادين كثيرة، كالشعر والقصة والفنون التشكيلية، والمبدعون يستطيعون أن يقدموا إلى العالم إنتاجًا يمثل إسهامًا يُثري روح الإنسان أينما كان، أمَّا في الموسيقى، فإن تجربتنا في الأغلب قد ظلت هزيلة، عاجزة عن أن تقدم إنتاجًا يلقى التقدير والاعتراف خارج إطارنا المحلي.

وفي اعتقادي أنَّ الأصل الحي الذي نشأت فيه الموسيقى عندنا هو واحد من أهم الأسباب التي جعلتها عاجزة عن النهوض إلى مستوى الفنون الأخرى في حياتنا، وما زلنا إلى اليوم نجد الأنغام التي تُلَحَّن بها كبريات القصائد ذات الطابع الديني أو الصوفي، قابلةً لأن تُصْبِح موسيقى راقصة عابثة لو أبدلنا كلمات القصيدة الصوفية بكلمات الحب والغزل المألوفة، أو إذا استعضنا عن الغناء بالرقص.

فإذا كُنَّا نجد بعض المتزمتين في وطننا العربي المعاصر يصفون الموسيقى بأنها كفر، ويحرمون على أبنائهم وبناتهم ممارسة أي شكل من أشكال التَّجربة الموسيقية، فإن التعليل البسيط والواضح لهذه الظاهرة هو أن هؤلاء لم يروا في الموسيقى إلا ضربات الدف والطبول وألحان العود وتمايل الجواري والقيان في مجلس الطرب والسكر بقصور الخلفاء.

غير أن هذا ليس إلا شكلًا واحدًا هابطًا من أشكال التَّجربة الموسيقية، وهناك أشكال أخرى ظهرت في أجواء بعيدة كل البُعد عن الخلاعة والمجون، ولو كان هؤلاء الذين يُسارعون إلى التحريم والتكفير، والذين يزدادون في وطننا العربي تزمُّتًا كلَّما اقتربنا من القرن الحادي والعشرين، لو كانوا قد عرفوا شيئًا عن ذلك السمو الروحي، الذي تستطيع الموسيقى أن تُوصلنا إليه، لأدركوا كم كانت نظرتهم محدودة وضيقة عندما اقتصروا، في نظرتهم إلى هذا الفن، على أشد تجاربه سطحيةً وابتذالًا.

١  العربي، العدد ٣٠٨، يوليو (تموز) ١٩٨٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤