محنة الثَّقافة عند الشَّباب العربي١

العالم كله يتحدث عن الفجوة بين الأجيال، عن إحساس الأجيال الجديدة بأنَّ جيل الكبار عاجز عن فهمها والتجاوب معها؛ لأنَّه عاش في زمن القطارات البخاريَّة والسَّيَّارات الصُّندوقيَّة البطيئة والسينما الصَّامتة أو النَّاطقة بغير ألوان، بينما تعيش هذه الأجيال الجديدة في عصر الطائرات الأسرع من الصوت والعقول الإلكترونية وصواريخ القمر والمريخ، كل شيء أصبح في عصرنا هذا أسرع، حتى الزمن نفسه أصبحت سرعته مخيفة، وصار يقطع في عشر سنوات ما كان يقطعه من قبل في قرن كامل، فإذا قدرنا الحد الفاصل بين جيلين بثلاثين عامًا، فإن هذه الأعوام الثلاثين تساوي، بمقاييس السابقين علينا، أكثر من قرنين من الزمان، أفلا تكون الأجيال الجديدة إذن على حق حين تؤكد أنها تعيش في عصر يصعب على الكبار أن يستوعبوا أبعاده، فيقفوا عاجزين تمامًا أمام الإمكانات الهائلة التي يحملها في طياته؟

هذه بغير شك أزمة حقيقية تمر بها الأجيال الجديدة التي تشعر بأن المستقبل ملك لها وحدها، على حين أن الكبار، الذين يمسكون في أيديهم بمقاليد الأمور في الوقت الراهن، لا يتيحون لهم ما يتطلعون إليه من فرص للمشاركة في توجيه المجتمع، لا لأن هؤلاء الكبار سيئو النية أو حاسدون، بل لأنهم — بحكم موقعهم الزمني نفسه — عاجزون عن التكيف بنجاح أمام عالم التغيرات المذهلة الذي وُلد فيه شباب تشبعوا منذ حداثتهم بروحه، وهكذا ينظر الشَّباب إلى الكبار نظرة يمتزج فيها التحدي بالإشفاق، وتجمع بين الاعتزاز بالنفس ومحاولة التماس العذر للغير.

(١) أزمة معكوسة

هذا هو الوضع في بلاد العالم السائرة في طريق التقدم، أمَّا في وطننا الْعَربي فإن الأجيال الجديدة بدورها تمر بأزمة، ولكنها أزمة معكوسة، في هذه الأزمة يشعر الكبار بالرثاء لجيل الشَّباب، وينعون عليهم هبوط مستواهم الفكري والثَّقافي، وينظرون إليهم باستعلاء مغلف بإطار من العطف والتظاهر بالفهم والتفاهم، أي إن الفجوة بين الأجيال عندنا — شأنها شأن أمور أخرى كثيرة — مقلوبة، فكيف صارت أجيالنا الجديدة إلى هذا الوضع العجيب الفريد؟ وما دور جيل الكبار في هذا الوضع؟

أود أن أعرض لهذا الموضوع من زاوية هي في رأيي أهم زواياه، وأعني بها الثَّقافة، والرأي الذي أود أن أدافع عنه هو أن ثقافة الأجيال الجديدة في الوطن الْعَربي يشوبها الاضطراب والخلط وضيق الأفق، وأن المسئول الأوَّل عن ذلك هو جيل الكبار، وأن هذه ظاهرة من أخطر الظواهر التي تهدد مستقبل العقل العربي، بل ربما كانت أخطر من كثير من الأزمات السياسية التي شغلنا أنفسنا بها أمدًا طويلًا، متغافلين عن كل ما عداها من الأزمات الاجتماعيَّة والفكرية، التي قد لا تكون صارخة كالأزمات السياسية، ولكن تأثيرها أعمق منها وأبعد في مداه إلى حد كبير.

ولنتساءل بادئ ذي بدء، عن طبيعة المصادر التي يمكن أن يستمد منها الشَّباب الْعَربي المعاصر ثقافته، هذه المصادر، كما يعرف الجميع، إمَّا عصريَّة وإمَّا قديمة، والمصادر العصريَّة بدورها قد تكون عالميَّة أو محليَّة، وعلى ذلك، ففي إمكاننا أن نُعالج موضوعنا على هذه المحاور الثلاثة: الثَّقافة العالميَّة، والثَّقافة المحليَّة العصريَّة، والثَّقافة القديمة، فلنرجع إذن إلى كلٍّ من هذه المصادر الثلاثة، باحثين عن مدى استيعاب الشَّباب الْعَربي لها، وقدرته على الإفادة منها.

في عصرنا الحالي تكتسب الثَّقافة العالميَّة أهمية متزايدة، ولست أعني ﺑ «العالميَّة» أنَّ هذه الثَّقافة لا وطن لها، بل إنَّ المقصود من اللفظ هو أنَّ هذه الثَّقافة تضم عناصر من بيئات ومجتمعات مختلفة، تضافرت كلها لتصنع إنتاجًا فكريًّا رفيع المستوى، قادرًا على أن يخاطب الإنسان أينما كان، وصحيح أن قدرًا كبيرًا من هذه الثَّقافة غربي (بالمعنى الواسع لهذه الكلمة)، ولكن من الصحيح أيضًا أن التفوق الغربي الحالي إنما هو المرحلة الأخيرة في رحلة طويلة قطعها العقل البشري عبر التاريخ، وأسهم فيها الشرق بدور أساسي مرتين على الأقل، في العصور القديمة والوسطى، هذا فضلًا عن أن روافد أخرى، من غير المجتمعات الغربية التَّقليديَّة، أخذت في الآونة الأخيرة تسهم بنصيبها في الثَّقافة العالميَّة على نحو متزايد.

(٢) هذه الأبواب المغلقة

هذه الثَّقافة العالميَّة تكاد أبواب الاتصال المباشر بها أن تكون مغلقة في وجه شبابنا العربي، فالأجيال الجديدة من هذا الشَّباب العربي، حتى تلك التي نالت درجات جامعية، ولا تعرف من اللغات الأجنبيَّة (في معظم الأحوال) إلا قدرًا لا يتجاوز مستوى «محو الأمية»، وقد يقل عن هذا المستوى أحيانًا، وإني لأذكر عن جيلنا، أننا كُنَّا نصادف الشَّاب السوداني أو الأردني أو العراقي فنجده يتقن الإنجليزية إتقانًا يقترب به من مستوى أهلها، وكنا نصادف الشَّاب السوري فنجده يجيد الفرنسية إجادة مذهلة، على حين أن المصري كان يتقن إمَّا هذه اللغة وإمَّا تلك، لو كان تعليمه متوسطًا، ثم تغيرت الأحوال فجأة، فإذا ببعض التربويين يطلعون علينا بنظريات مستمدة من مجتمعات تختلف ظروفها ومتطلباتها الثَّقافية عن مجتمعاتنا اختلاف السماء عن الأرض، وإذا ببعض السياسيين يطلعون علينا برأي مفاده أن تلك اللغات الأجنبيَّة هي لغات الاستعمار، وأن «الوطنية» أو «القوميَّة» توجب علينا ألا نعلِّم أبناءنا شيئًا من لغات الأجانب (مع أن قادة الحركات الوطنية في معظم بلاد العالم الثالث، وأشد محاربي الاستعمار فيها صلابة، كانوا في معظم الأحوال من خريجي مدارس «الاستعمار» نفسها!)

وفي كلتا الحالتين كانت النَّتيجة واحدة، هي ظهور جيل جديد من الشَّباب الْعَربي عاجز عن الاتصال المباشر بتيارات الثَّقافة العالميَّة، وحين يفكر المرء في الأضرار التي عادت على هذا الجيل، أو التي ستعود بالتالي على مستقبل بلادنا، من جراء هذا الانعزال الثَّقافي، لا يملك إلا أن يتساءل: ألا يَجوزُ أن ذلك كان شيئًا مَقْصودًا، وأن النَّظريات التَّرْبوية والحَماسَة القوميَّة لم تكن إلا ذرائع تستهدف إخراج جيل لا يعرف بطريقة مباشرة كيف ينظر إلى ما يدور حوله في العالم، حتى لا يُطالِب بحقه في حياة أفضل؟

على أن الشَّباب الْعَربي يحاول أن يكسر طوق العزلة التي تفرضها عليه سياسة نشر الجهل باللغات الأجنبيَّة، عن طريق الإقبال بنهم على كل ما يقع تحت يديه من أعمال مترجمة، وهذه الترجمات أصبحت الآن الزاد الثَّقافي الأكبر لنسبة هائلة من الشَّباب الطموح إلى تثقيف نفسه، ومع ذلك فإن هذا مصدر غير مضمون ولا مأمون، إذ إن الترجمات أوَّلًا انتقائية، لا تستطيع — مهما اتسع نطاقها — أن تستوعب من الإنتاج الثَّقافي العالمي إلا قدرًا ضئيلًا، وقد يكون هدف الاختيار هو الإثارة لا الجودة، وهي فضلًا عن ذلك ترجمات غير دقيقة في أحيان كثيرة، بل إن بعضها يصل في ركاكته وابتعاده عن الأصل إلى حد يستحق معه أصحابه أن يُقدَّموا للمحاكمة، لو كانت هناك محاكم للجرائم الثَّقافية، ومن المؤكد أن عوامل الاستغلال التجاري تلعب في هذا الصدد دورًا هامًّا؛ إذ إنَّ من الطبيعي في سوق متعطشة إلى الثَّقافة لا تجد أمامها نافذة للاتصال بالعالم إلا عن طريق الترجمة أن يعمد تجار الثَّقافة إلى التسرع في ترجمة أعمال المؤلفين المشهورين بطريقة تستهدف تلبية حاجة السوق على أي نحو، بغض النظر تمامًا عن مستوى الترجمة أو مدى مطابقتها لأبسط الشروط العلمية.

وعلى الرغم من هذا كله، فإن الثَّقافة العالميَّة تحيط بنا من كل جانب، وليس في الإمكان أن نعزل شبابنا عنها عزلًا تامًّا، حتى لو تعمدنا ذلك، فهي على الأقل تفرض نفسها على شبابنا في أشكال فنية لا تحتاج إلى معرفة باللغات، كالسينما والتلفاز والأسطوانات … إلخ، وهذه مؤثرات يستوعبها شبابنا بسهولة، ولكن من المؤسف أنها لا تنقل إلينا دائمًا أفضل ما في الثَّقافة العالميَّة، بل هي في كثير من الأحيان وسيلة لتقديم أكثر جوانب هذه الثَّقافة سطحية، وهكذا يكتفي كثير من شبابنا بمحاكاة المظاهر الخارجية للثقافة العالميَّة دون تعمق في جوهرها الباطن، ودون معرفة بالأصول التي أوصلت هذه الثَّقافة إلى وضعها الراهن، وحتى القلة التي تسعى بجد إلى معايشة هذه الثَّقافة والتغلغل في أعماقها، لا تنفذ إلى ما بعد السطح الخارجي بكثير؛ لأنها لا تعرفها إلا من خلال مرآة مشوهة، هي مرآة الترجمان المحرفة المتسرعة.

(٣) مصادر الثَّقافة المحلية

أمَّا المصادر المحليَّة للثقافة، فما أظن أن أوضاعها أفضل؛ ذلك لأن مستوى القضايا التي يعالجها الكُتَّاب والمفكرون المحليون، والتي يمكن أن يجد فيها الشَّباب الْعَربي زادًا ثقافيًّا، يسير نحو الانحدار المستمر، والأزمة في هذه الحالة ليست أزمة في الكُتَّاب أو المفكرين أنفسهم، بقدر ما هي أزمة في المناخ الذي يكتبون فيه.

إنَّ الوطن الْعَربي يعاني في الوقت الرَّاهن من قيود على الفكر الحر لم يَعرف لها مثيلًا منذ زمن بعيد، وهذه القيود ينعكس تأثيرها على الكُتَّاب مباشرة، فينسحب بعضهم مؤثرًا التزام الصمت، على سبيل الاحتجاج أو بهدف تجنب المشاكل، ويبتعد بعضهم الآخر عن إثارة الموضوعات الشائكة والحساسة، مكتفيًا بالكلام في موضوعات «محايدة» لا لون لها ولا طعم، على حين أن بعضًا منهم يجاري التيار السائد ويركب موجة التملق والمسايرة، وفي ظروف المناخ العربي، يكون هؤلاء الأخيرون هم الأوسع انتشارًا وهم أصحاب الكلمة المسموعة، ومن هنا كانت وسائط الأعلام العربيَّة تلجأ على نحو متزايد إلى محاربة كل ما هو جاد، وتصل في ذلك أحيانًا إلى حد الحظر التام، بل إن بلادًا عربية كانت منذ سنوات قلائل تحمل مشعل الفكر والأدب قد ظهرت فيها أقلام تبدو كما لو كانت قد بُعثت من القبور، وأخذت تهلل للفرصة التي أُتيحت لها كيما تنشر على الناس آراء عفى عليها الزمان، وما كان لها أن تصمد يومًا واحدًا لو لم تكن الحماية مكفولة لها بحيث لا ينافسها منافس ولا يكشف زيفها أحد.

ومن المؤكد أن الشَّباب الْعَربي ينظر بازدراء إلى هذا اللون، من الكتابات، والشَّباب رافض هذه اللعبة، وهو يقف بمعزل عنها، ويتأملها بعدم اكتراث وترفُّع، أمَّا أجهزة الإعلام العربيَّة فقد أصبحت في أحيان كثيرة عاجزة عن مخاطبة الشَّباب من خلال الصحافة اليومية، وأمَّا المجلات الأدبية والفكرية فقد تدهورت أو سكتت أصواتها إلى الأبد، وربما كان في وسع بعض الكبار أن يقبلوا هذا اللون من الثَّقافة؛ لأنه يوافق أمزجتهم أو مصالحهم، كما أن بعضهم الآخر قد يسكت عنه، أو يهمله؛ لأنه اكتسب من قبل حصيلة ثقافية، أو لأنه يجد لثقافته مصادر أخرى غير المصادر المحلية، أمَّا الشَّباب، الذين يعتمدون على الثَّقافة المحلية اعتمادًا أساسيًّا، والذين تستشعر مثاليتهم الزَّيف بحساسيَّة فائقة، فإنَّهم هم الأكثر اختناقًا في هذا الجو المكبوت.

ولا يملك المرء إلا أن يشعر بالأسى حين يُقارن أوضاع الثَّقافة المحليَّة في الوطن الْعَربي اليوم بما كانت عليه قبل جيل أو جيلين، فخلال عهد شبابنا كُنَّا نجد في المجلات والصحف العربيَّة وحدها جرعة ثقافية كافية لبعث الحيوية في النفس والعقل معًا، وكان باب المساجلات والمناقشات والمعارك الفكرية والأدبية مفتوحًا للجميع، مهما اختلفت اتجاهاتهم في التفكير، ولم نكن نسمع عن اتهامات يُلقيها الكُتَّاب بلا حساب على رءوس بعضهم بعضًا، فلم نصادف كاتبًا يصف الآخر بأنه عميل أو دخيل، أو فاسق أو مارق، أو مدسوس أو جاسوس، صحيح أن الجدال كان يحتدم، وحرارة المناقشات كانت ترتفع في أحيان كثيرة إلى درجة عالية، ولكن كان هناك اتفاق ضمني بين الجميع على أن من حق كل طرف أن يعبر عن رأيه كما يشاء، وأن النقاش يدور بين أنداد، ولم يفكر أحد في أن يدعو السلطات إلى أن تقطع رقبة خصمه، أو يناشدها — إن كان رحيمًا — أن تقطع لسانه!

وهكذا لا يجد الشَّباب في مصادر الثَّقافة المحلية ما يشبع نهمه إلى المعرفة، وأغلب الظن أن الانطباع الوحيد الذي تتركه في نفسه هذه المصادر هي تلك الأمثلة السيئة التي تضربها للخصومة البغيضة التي يغيب عنها تمامًا التنافس الشريف، ومن المؤكد أن ما يطبع الثَّقافة المحلية المصرية بهذا الطابع السلبي إنما هو عوامل تجاوز نطاق الميدان الثَّقافي، وينتمي معظمها إلى مجال السياسة، ولكنها على أية حال سياسة قصيرة النظر تلك التي تضحي بمصائر أجيال كاملة في سبيل مصالح مؤقتة ومكاسب محدودة.

(٤) تقديم الثَّقافة التراثيَّة

والمصدر الأخير الذي يمكن أن يستمد منه الشَّباب الْعَربي زادهم العقلي هو الثَّقافة التَّقليديَّة، أو التراثية، ولقد تعمدت استخدام تعبير «الثَّقافة التراثية» بدلًا من لفظ التراث؛ لأن ما أقصده ها هنا أوسع نطاقًا من التراث نفسه، إذ يشتمل أيضًا على الكتابات الحديثة التي تعرض التراث أو تدافع عنه أو تستلهم روحه.

هذه الثَّقافة التَّقليديَّة لم تنجح، حتى الآن، في تقديم التراث بصورة فيها حيوية أو تجديد أو قدرة على التحدث بلغة العصر، ولو عقد المرء مقارنة بين أنصار التراث في الربع الأخير من القرن العشرين، ونظرائهم من قرن مضى، لكانت المقارنة بغير شك لصالح الأخيرين، وهذا موقف فريد في نوعه، له دلالات مفزعة، ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين كان التراث يُعرض، ويُناقش، ويُنقد، بروح فيها من الاستنارة وسعة الأفق ما يتجاوز روح العصر الحاضر بكثير، ويبدو أن مضي الزمن لا يزيد أصحاب الثَّقافة التَّقليديَّة إلا إصرارًا على الرجوع بها إلى الوراء، ومِنْ ثَمَّ تزداد الهوة بينهم وبين العصر اتِّساعًا.

ولسنا هاهنا في مجال الحكم على طريقة معالجة التراث في الوطن العربي، أو على الدور الذي تقوم به الثَّقافة التَّقليديَّة في حياتنا، وإنما يعنينا من هذا كله تأثيره في ثقافة الشَّباب الْعَربي فحسب، ذلك أن افتقار هذه الثَّقافة التَّقليديَّة إلى القدرة على مسايرة العصر، أو مخاطبة العقول بلغة قريبة إلى فهمها وحسها وذوقها، يدفع الشَّباب إلى اتخاذ أحد موقفين:

فهناك قلة من الشَّباب تتأثر بالثَّقافة التَّقليديَّة في صورتها الجامدة غير المتطورة؛ لأنها مهيأة نفسيًّا واجتماعيًّا للخضوع والانقياد التام، ولأنها عطلت ملكات العقل والنقد تعطيلًا كاملًا، وتصورت أن هذا هو الطريق إلى الإيمان السليم، وهذه القلة تسلك في أغلب الأحيان سلوكًا متطرفًا تستخدم فيه العصا وقبضة اليد أكثر مما تستخدم العقل والمنطق، ومن هنا كانت وستظل مصدرًا للقلاقل والمتاعب في الوطن العربي، وإذا كانت — باعتراف أنصارها أنفسهم — تمثل عودة إلى ما كان عليه العرب في عصر سالف، حسب طريقتهم الخاصة في فهم ذلك العصر، فإنها قطعًا لا تمثل موجة المستقبل بين شباب العرب.

أمَّا الأكثرية الغالبة من الشَّباب الْعَربي فإنها تجد نفسها عاجزة عن الاقتناع بما يدعوها إليه أنصار التراث من المنعزلين عن واقع العصر، وربما امتنع الكثيرون عن الجهر بموقفهم السلبي من هذه الدعوة تأدبًا واحترامًا، أو اتقاءً لما يمكن أن يجلبه عليهم مثل هذا التمرد من عواقب، ولكنهم في قرارة أنفسهم متباعدون كل الابتعاد عن هذا التيار السلفي الجامد، ولا يمكن أن يجدوا فيه إشباعًا لحاجاتهم الثَّقافية، وليس هذا منهم عداءً للتراث على الإطلاق، وإنما هو عداء لطريقة معينة في تقديم التراث واختيار نماذجه الجديرة بالإحياء؛ ذلك لأن التراث إنما كان حياة كاملة لشعوب سبقتنا، حياة كانت تموج بشتى التيارات المتصارعة والمتعارضة، والكتابات، التي خلفها لنا أسلافنا، تعبر عن خصوبة تلك الحياة الكاملة وتراثها، ولكن هناك من ينتقون من تراث الحياة الكاملة هذا ما يناسب أفكارهم الجامدة، ويحجبون كل ما يتعارض معها، ويقدمونه على أنه هو التراث، بل إنَّهم ليعرضونه بطريقة أشد جمودًا من تلك التي كتبه بها أصحابه أنفسهم.

(٥) تلوين الماضي بالهوى

وهنا يبدو الأمر في ظاهره وكأنَّ هؤلاء أناس يقومون بإحياء الماضي فحسب، ولكن حقيقة الأمر هي أنَّهم يلونون هذا الماضي ويشكلونه وفق هواهم، وتبعًا لأساليبهم الخاصة في الانتقاء والتقديم، وفي استطاعة غيرهم أن يقدموا للتراث وجهًا آخر مختلفًا كل الاختلاف، وجهًا مضيئًا يحفز على التعقل والتفكير ولا يقف في وجه أي تقدم فكري لاحق.

وهكذا فإنَّ أنصار التراث ليسوا في واقع الأمر مجرد عارضين لآراء من سبقوهم، كما يحبون أن يظهروا أمام الناس، وإنما هم أصحاب دعوة نشيطة، يُسقطونها على التراث من خلال طريقتهم الخاصة في تقديمه والاختيار منه، ومن سوء الحظ أن التيار الغالب في كثير من الأقطار العربيَّة في الوقت الراهن هو ذلك الذي لا يختار من التراث إلا أكثر عناصره جمودًا، وأصحاب هذا التيار إنما يعبرون باختيارهم هذا عن أنفسهم، وهكذا أجد في وضعنا الراهن مصداقًا للرأي الذي كنت أنادي به على الدوام، وهو أن «التراث هو ما نصنعه نحن به».

من هنا كان جمود التيار التراثي السائد في الوقت الحاضر مؤديًا إلى تباعد الشَّباب عن ثقافة الأسلاف وعجزهم عن أن يستمدُّوا منها عناصر قابلة لأن تندمج في ثقافتهم الخاصة؛ ذلك لأن لغته غريبة عنهم، والعصر الذي يدور فيه فكره مختلف عن عصرهم، ودعوته إلى التشبث بأشد عناصر الماضي تحجُّرًا، يصعب أن نجد أذنًا صاغية لدى إنسان يعيش مرحلة من العمر تتميز — قبل كل شيء — بتطلعها إلى المستقبل، والاتجاه الذي تنطوي عليه الدعوة الجامدة إلى التراث، من انعزال واستغناء ثقافي، وإغلاق للأبواب في وجه أية مؤثرات خارجية يُنْظَر إليها دائمًا بارتياب على أنها دخيلة، هو اتجاه مضاد لتلك النزعة إلى اكتساب الخبرات والتجارب من شتى المصادر، والاحتكاك بالعالم العريض، التي هي نزعة ملازمة للشباب في كل عصر، وإن كانت أكثر التصاقًا به في عصر الاتصالات الثَّقافية الوثيقة الذي نعيش فيه.

وهكذا يُغلق باب آخر في وجه الشَّباب (ما عدا قلة منهم)، هو باب الثَّقافة المستمدة من التراث، لا لأن الشَّباب يرفضون هذه الثَّقافة، ولا لأن هذا التراث غير قادر بطبيعته على أن يقدم إلى الشَّباب شيئًا مفيدًا، بل لأن طريقة تقديمه إليهم في عصر التغيير السريع والتأثير المتبادل بين أجهزة الإعلام العالميَّة تعجز عن أن تجد لنفسها منفذًا إلى عقولهم.

(٦) ليس لمجتمعاتنا عذر

تلك هي المصادر الثلاثة الممكنة لثقافة الشَّباب العربي، وكلها — كما رأينا — محفوفة بالمصاعب، ولكن اللوم الأكبر — على حرمان الشَّباب من مصادر الثَّقافة العميقة الجادة — إنما يقع على المجتمعات العربيَّة نفسها، فليس لهذه المجتمعات عذر إذا هي قصرت في تزويد الشَّباب بوسيلة الاتصال بالعالم الواسع الذي يتقدم بخطًى مذهلة، عن طريق رفع مستوى تعليم اللغات الأجنبيَّة في مدارس الدولة إلى الحد الذي يسمح للجيل الحالي، كما كان يسمح للأجيال السابقة، بالتزود بالثَّقافة العالميَّة، وليس لها عذر إذا هي رسمت سياسة مقصودة تستهدف في معظم الحالات التعبير عن الرأي الرسمي وحده وتأبى على الآخرين حرية الفكر، فتضع بذلك قيدًا ثقيلًا على عقول الشَّباب كلما شاءت أن تتزود بالثَّقافة المحلية، وأخيرًا فإن مجتمعاتنا هي الملومة؛ لأنها برغم كل تعلقها بالتراث الماضي، تعجز عن تقديمه للأجيال الجديدة بالصورة التي تسمح لهذه الأجيال بأن تتخذ منه منبعًا من منابع ثقافتها.

وإزاء هذه العقبات كلها، لا يعود أمام كثير من الشَّباب إلا أن يقفوا من الثَّقافة الحقيقية موقفًا سلبيًّا، على حين أن الطموحين منهم لا يجدون مفرًّا من سلوك سبيل الاجتهاد الشخصي، فيلتقطون كتابًا مترجمًا من هنا وجريدة مهربة من هناك، ويحاول كل منهم أن يشق طريقه وسط ظروف غاية في الصعوبة، وتكون النتيجة تخبط الكثيرين وافتقارهم إلى أي نوع من التنظيم الفكري.

فكل شاب طموح إلى الثَّقافة، في الوطن العربي، يكون عالمًا منعزلًا مغلقًا على نفسه؛ لأنه لا ينهل من منابع واسعة متاحة للجميع، بل يسير في طريقه الموحش وفقًا لطريقته الخاصة في الاجتهاد، فهل من المستغرب بعد هذا كله أن تجد الشَّباب الطموحين إلى الثَّقافة في الوطن العربي، فرديين إلى أقصى حد؟ وأن تسود الريبة والتشكك والاتهامات المتبادلة في علاقات بعضهم ببعض وبأجيال المثقفين الآخرين؟ وهل من المستغرب أن ينقسموا حتى على القضايا التي يتخذونها موضوعًا لاهتمامهم، وأن يستحيل جمعهم تحت راية قضية واحدة؟ صحيح أن أحدًا لا يفكر في صب عقول الشَّباب في قالب واحد، وأن النمطية شيء بغيض في ذاته، ولكن التشتت الفكري والعجز عن الاهتداء إلى مصادر مقنعة وكافية للثقافة، هو بدوره أمر يدعو إلى الأسف البالغ، ويدل على أن مجتمعاتنا العربيَّة لا تولي التفكير في مستقبلها، الذي سيتسلم رايته هؤلاء الشَّباب، ما يستحقه من اهتمام.

ومما يزيد في فداحة الخسارة أننا نعيش في عالم يُعد فيه التقدم من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق أمرًا طبيعيًّا، وتُتاح فيه للشباب — في العالم المتقدم — فرص لم تكن متاحة من قبل للكبار، ويسير فيه منحنى المعرفة والاستنارة الفكرية في خط صاعد على الدوام، وحين يقارن المرء بين هذا الوضع وما هو سائد في الوطن العربي، يبدو له أن جيل الكبار يستمتع بتفوقه الثَّقافي دون أن يشعر بأنه — أو على الأقل أصحاب المسئولية من أفراده — يحبس منابع الثَّقافة عن الأجيال الجديدة عمدًا.

وقد يعطي هذا الاستمتاع لجيل الكبار إحساسًا بالامتياز، ولكن حين يكون الأمر متعلقًا بمستقبل أمة، فأظن أن الأمر كله يحتاج إلى إعادة نظر شاملة.

١  العربي، العدد ٢٣٢، مارس ١٩٧٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤