الإيمان والعلم١

ما تزال قضية العلاقة بين الإيمان والعلم من المسائل المعلقة، بل المضطربة في الذهنية الإسلامية، وهو أمر ينبغي أن يُحسم، لكي يلحق المسلمون بركب العصر، فكرًا وواقعًا.

وأكثر ما يلفت النظر، في تطور الحضارة الإسلامية، أن المشكلة النَّظريَّة المتعلقة بموقف الدين من العلم لم تؤثر كثيرًا في الممارسات الفعلية للعلم بين المسلمين، فقد كانت الآراء تتعدد وتتعارض، على المستوى النظري، بين مؤيد متحمس ومتسامح ورافض، دون أن تستقر على وجهة نظر نهائية تتبناها الجماعة الإسلامية إزاء النشاط العلمي، أي إن احتمال عدم قبول العقيدة — على الأقل من خلال بعض التفسيرات الخاصة لها — للعلم ظلت قائمة على الدوام، ومع ذلك فإن هذا لم يمنع العلم من أن يواصل مسيرته، ويحرز في أحيان معينة نجاحًا رائعًا، ويمكن القول إن شيئًا كهذا حدث في فترة حاسمة من تاريخ الحضارة المسيحية، هي فترة عصر النهضة وأوائل العصر الحديث، حين كانت معارضة الكنيسة للتيار العلمي الجديد على أشدها، ومع ذلك فقد ظهرت في تلك الفترة بعض أهم الكشوف التي أرست دعائم النهضة العلمية الحديثة، وإن دلَّت هذه الظاهرة على شيء فإنما تدل على أن سعي الإنسان إلى المعرفة، وبخاصة في الفترات التي يكون الاندفاع فيها قويًّا والحماس متأجِّجًا، يواصل طريقه بغض النظر عن نتيجة المجادلات النَّظريَّة حول مشروعية العلم من وجهة النظر الدينية.

(١) عن موقف المسلمين الأُوَل

في العصر المتقدم للإسلام أُثيرت مشكلة الإيمان والعلم منذ وقت مبكر، وذلك في سياق «علم الكلام» الإسلامي، الذي بلغ مستوًى عاليًا من النضج الفكري، فقد كان السعي إلى المعرفة المنظمة يفترض أن للطبيعة قوانين ثابتة، وأن الحتمية الدقيقة تسود مجرى الأحداث، وقد بدا ذلك لبعضهم حَدًّا من القدرة الإلهية، ولكن منذ وقت مبكر قدم المعتزلة حلًّا يوفق بين مقتضيات الإيمان الديني والعلم، فميَّزوا بين العلل الأولى والثَّانية، وأكَّدوا أن الله هو العلة الأولى للأشياء جميعًا، أمَّا الظواهر الطبيعية فعلل ثانية تندرج تحت الإطار العام للخلق الإلهي، ولها قوانينها التي لا تتبدل، على أن ثبات هذه القوانين لا يعني الحد من القدرة الإلهية، لأن الله — في نهاية الأمر — خالق كل شيء، ولأن الفاعلية الإلهية تمارس خلال الطبائع الثابتة للأشياء، ومن ناحية أخرى فإن جهد البشر وفكرهم وفطرتهم، كل هذه مظاهر للفعل الإلهي، أي إنَّ البحث في العلم ليس خروجًا عن المقصد الإلهي، وإنَّما هو تحقيق له.

ولكن الأشاعرة وأهل السنة كان لهم موقف مختلف، يمكن إجماله — باختصار شديد — في رفض وجود «طبائع ثابتة» للأشياء، وتأكيد ضرورة التدخل الإلهي، لا في خطة الخلق الأصلية كما قال المعتزلة فحسب، بل في المجرى التفصيلي لأحداث العالم، ومثل هذا الموقف يجعل من تبرير البحث العلمي المستقل أمرًا شديد الصعوبة.

وهكذا وُضع منذ وقت مبكر الإطار العام لجدل ظل يحتدم في العالم الإسلامي عصورًا طويلة، وهو جدل لا يخرج واحد من طرفيه عن إطار الإيمان، ولكن أحدهما يفسح المجال للبحث العلمي الحر، على حين أن الثَّاني يضع تضادًّا بين هذا البحث وبين متطلبات الإيمان كما يتصورها، ومن الجدير بالذكر أن كلا الطرفين كان يستطيع أن يجد لموقفه سندًا ودعمًا من نصوص القرآن، بحيث يمكن القول إن اتخاذ المرء لهذا الموقف أو ذاك لم يكن في واقع الأمر يعبر عن إخلاصه أو عدم إخلاصه للدين، بقدر ما كان يعبر عن موقفه الإيجابي أو السلبي من البحث العلمي.

ولا بُدَّ أن معظم العلماء المسلمين الذين كانوا يشتغلون بدأب في مختلف الميادين ويحققون إنجازات رائعة بالنسبة إلى عصرهم، كانوا يؤمنون ضمنًا بوجهة النظر الأولى، ومع ذلك يبدو أن وجهة النظر الثَّانية التي كانت تكتسب مزيدًا من الأنصار بمضي الوقت لم تزعجهم كثيرًا، ولم تقف حائلًا دون مواصلتهم أبحاثهم، بل يبدو أن النقاش النظري بأكمله لم يكن عقبة جادة تقف في وجه مسيرتهم الظافرة.

(٢) بين الموقف المتقدم والموقف المعاصر

على أن الموقف في العصر الحديث، وفي الفترة المعاصرة، قد ازداد تعقيدًا إلى حد لا متناهٍ، صحيح أن الجذور الأولى لمشكلة علاقة الإيمان بالعلم قد وُضعت في العصر الإسلامي المتقدم، وأن هذه الجذور ما زالت لها امتداداتها القوية حتى اليوم، وما زالت تشكل الإطار العام لمناقشة هذا الموضوع عند عدد غير قليل من المفكرين الإسلاميين، لكن عوامل أخرى هامة قد ظهر تأثيرها بكل قوة في الفترة الواقعة بين الازدهار القديم للحضارة الإسلامية، وبين العصر الحاضر، وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه العوامل إلى تعقيد كبير لوضع المشكلة في عصرنا هذا.

  • (١)

    ففي العصر الإسلامي المتقدم لم يجد العلم الإسلامي صعوبة كبيرة في قبول المؤثرات الوافدة من الحضارة اليونانية، وغيرها من الحضارات القديمة، على حين أن مشكلة الأخذ بالعلوم الغربية الحديثة ما زالت موضوعًا للجدل في الأوساط الدينية الخالصة حتى اليوم، وربما كان من أسباب اختلاف المَوْقِفَيْن أن الحضارة اليونانية، عندما وصلت إنجازاتها إلى المسلمين كانت قد توقفت عن النمو، وكانت تراثًا ماضيًا، غائبًا، لا يهدد أحدًا، على حين أن الحضارة الغربية التي أنتجت العلم الحديث ما زالت قوة حية متجددة، وما زالت تنتقل إلى مواقع جديدة بلا انقطاع، وما زالت تثير بإنجازاتها مشكلات وتخلق مواقف غير متوقعة، وتهز بناء القيم التي اعتادها الإنسان هزًّا يزداد عنفه يومًا بعد يوم.

  • (٢)

    أثار العلم الغربي الحديث بوضوح كامل مشكلة سيطرة الإنسان على العالم من خلال التقنية، وهي مشكلة لم يكن يعرفها العلم اليوناني القديم الذي كان في أساسه استنباطًا عقليًّا، ولقد كان من الطبيعي أن يقف العقل الإسلامي حائرًا أمام تلك القوة الجديدة التي اكتسبها العلم، والتي هي خليقة بأن تجعل من البشر (على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي «ديكارت») «سادة الطبيعة وملاكها»، وكان لا بُدَّ أن تثير التقنية المتمركزة حول الإنسان أمام الفكر الديني الإسلامي مشكلات أساسيَّة تتعلق بمركز الإنسان في الكون والعلاقة بين الله والإنسان والعالم، وأن تؤدي هذه الإشكالات الجديدة إلى مواقف قلقة متعارضة بالنسبة إلى هذه المشكلة.

  • (٣)

    كان العلم اليوناني نابعًا من بيئة وثنية، ومِنْ ثَمَّ لم يكن يشكل تهديدًا مباشرًا للعقيدة الإسلامية التي لم تجد في وقت من الأوقات صعوبة في محاربة الوثنية، أمَّا العلم الغربي الحديث فقد ظهر في قلب الحضارة المسيحية، واصطبغ — إيجابًا أو سلبًا — بقيم هذه الحضارة، فلم يكن من المستغرب أن يثير قدرًا من الشَّك في نفوس فئات معينة من المسلمين.

    ولقد لعبت العوامل الدينية والأخلاقية دورًا أساسيًّا في هذا الصدد، إذ وُصف العلم الغربي التجريبي بأنه مادي؛ ومِنْ ثَمَّ فهو يتعارض مع روحانية الإسلام، وما زالت صفة «المادية» هذه لاصقة بذلك العلم، في نظر كثير من المفكرين المسلمين حتى اليوم، مع أنها صفة تقبل كثيرًا من النقاش، ومن جهة أخرى كانت النتائج الأخلاقية السلبية التي تولدت عن بعض مظاهر العلم وتطبيقات التقنية في الغرب، كالتفكك الأسري والانحلال والإدمان … إلخ، دافعًا لبعضهم إلى الابتعاد عن هذا الطريق المحفوف بالمخاطر، والاحتفاظ بأصالة الأخلاق الإسلامية، والبقاء بمنأًى عن السعي المحموم وراء تقدم علمي يتجاهل الاعتبارات الإنسانية.

  • (٤)

    ارتبط العلم الغربي الحديث بالاستعمار الأوروبي لمعظم البلاد الإسلامية، بل إنه كان — بما أضفاه على أصحابه من قوة مادية — من أهم عوامل نجاح هذا الاستعمار في السيطرة على البلاد التي خضعت له، وكان لهذا العامل في الواقع تأثير مزدوج: فقد أدى من جهة إلى نفور المسلمين من العلم الغربي ودعوة بعضهم إلى علم إسلامي يسير في طريق مختلف كل الاختلاف، ولكنه أدى من جهة أخرى إلى دعوة مضادة، تنادي بالتزود بهذا العلم حتى يتمكن المسلمون من الوقوف في وجه المستعمر ومحاربته بأسلحته نفسها.

(٣) بين الموقف الإسلامي والموقف الغربي

تكشف لنا العوامل السابقة عن مدى تعقد الموقف في التفكير الإسلامي المعاصر من العلم، بالقياس إلى العصر الإسلامي المتقدم، وفي استطاعتنا أن نتنبه إلى سمات أخرى تميز هذا الموقف الإسلامي لو أجرينا مقارنة بينه وبين موقف الغرب المسيحي من نفس المشكلة.

فعندما ظهرت بوادر النهضة العلمية في الحضارة الغربية المسيحية، لقيت في البداية مقاومة شديدة العنف، وكان الدين يصارع الحقيقة العلمية بكل ما أُوتي من قوة، وربما نظر بعضهم إلى هذا الصراع على أنه «خطأ مؤسف»، كما يقول أولئك الذين يحاولون التهوين من شأنه، أو ربما نظر إليه غيرهم على أنه يعبر عن شيء ينتمي إلى طبيعة الإيمان الديني، على الأقل كما يُفسر في لحظة تاريخية معينة، وهو رأي أولئك الذين يمضون في هذا الصراع حتى آخر أبعاده، ولكن الذي كان يحدث دائمًا هو أن الإيمان في الحضارة الغربية المسيحية كان يضطر إلى الاعتراف بالحقيقة العلمية عاجلًا أو آجلًا، وظلت مقاومة الكنيسة تتضاءل في مداها الزمني، وتُخفي حدتها من الناحية النوعية، إلى أن وصلنا الآن إلى المرحلة التي أصبحت فيها الهيئات الدينية الرسمية في الغرب على استعداد لأن تقبل مقدَّمًا أشد الإنجازات العلمية خروجًا عن المألوف، وتتعاون في نشر نتائجها الإيجابية على أوسع نطاق بين البشر، وفي التخفيف من آثارها السلبية، وهكذا يمكن القول: إنَّ المنحنى الذي يحدد مدى التباين بين وجهتي نظر العلم والعقيدة الدينية في الحضارة الغربية ظل يهبط بالتدريج منذ عصر النهضة الأوروبية حتى اليوم، وإن لم يخلُ هذا المنحنى الهابط من حالات صعود حادة عدما كانت تظهر نظرية علمية جديدة تصدم الحس الديني، كنظرية التطور مثلًا.

أمَّا في حالة الحضارة الإسلامية الحديثة، فلا يمكن القول إن هناك إطارًا عامًّا مبسَّطًا كهذا، يحدد العلاقة بين العقيدة الدينية والبحث العلمي بصورة قاطعة، بل إن الوضع هنا شديد التعقيد، مليء بالاتجاهات المتعارضة، فلنحاول إذن أن نستكشف أسباب هذا التعقيد:
  • (١)

    كانت الحضارة الغربية المسيحية هي التي نشأ فيها العلم الحديث، وهي التي مرت بالتَّجربة الأولى، وعلى الرغم من كل ما كانت تتصف به هذه التَّجربة من مرارة، فقد كانت درسًا تعلمته تلك الحضارة وعرفت كيف تفيد منه في الوقت المناسب، أمَّا في حالة الحضارة الإسلامية الحديثة فقد أتى العلم الأوروبي الحديث بعد فترة انقطاع زال فيها تمامًا أثر النهضة العلمية الإسلامية الشامخة في العصر الوسيط، وأصبحت المسافة الحضارية بين الغرب والواقع الإسلامي خلالها هائلة، ويرى معظم المؤرخين أن الحملة الفرنسية على مصر عند نهاية القرن الثامن عشر، كانت أول احتكاك مباشر بين مجتمع إسلامي أصبح شديد التخلف وبين العلم الأوروبي (ومن الضروري أن نذكر أن نابليون قد اصطحب معه إلى جانب جنوده وأسلحته مجموعة كاملة من العلماء في شتى ميادين العلم المعروفة عندئذٍ، وضرب بذلك مثلًا لا تعرفه مجتمعاتنا لاحترام الحاكم العسكري للعلم والثَّقافة)، وقد أحدث هذا الاحتكاك صدمة في عقول الكثيرين، وكان من أكثرهم تأثُّرًا شيخ الأزهر في ذلك الحين، الذي بلغ به الأمر أن قال إن ما رآه من علوم الغرب ينبغي أن يدعو المسلمين إلى إعادة النظر في كل ما كانوا يتلقونه من علم، وهي إشارة واضحة إلى ضرورة تكملة العلوم الشرعية واللغوية التي كانت وحدها معروفة في ذلك الحين بالعلوم الدنيوية الحديثة.

    والذي يهمُّنا في هذا الصدد هو أن عمر التَّجربة العلمية الحديثة، في العالم الإسلامي، قصير بالإضافة إلى غرابة البيئة التي كان ينتمي إليها العلم؛ ومِنْ ثَمَّ فلا عجب أن رد الفعل على العلم في البيئات الإسلامية الخالصة ما يزال حتى الآن يمر بمرحلة من الحيرة والقلق ربما كانت تشبه في بعض نواحيها ما كانت تمر به أوروبا في أوائل العصر الحديث.

(٤) مناقشات محسومة

  • (٢)

    ويرتبط بالعامل السابق عامل آخر هو مدى التعمق في فهم تيارات العلم الحديث، ففي الأوساط الغربية المسيحية المعاصرة نجد استيعابًا كاملًا لأحدث اتجاهات العلم، ومناقشة موضوعية بقدر الإمكان لنتائجها، بل إن بعض رجال الدين هناك يسهمون إسهامًا مباشرًا في الكشوف العلمية الجديدة، ويجمعون بين صفتي رجل الدين والفيزيائي أو الكيميائي أو الجيولوجي الضليع، ولكن مما يدعو إلى الأسف أن أكثر أصحاب المناصب الدينية في مجتمعاتنا الإسلامية يقفون عند حدود العموميات، وغالبًا ما تكون معلوماتهم العلمية قديمة العهد أو مستعارة من مصادر غير مباشرة وسطحية، ولذلك يندر أن تكون معالجاتهم للمشكلات التي يُثيرها تقدم العلم والتقنية على مستوى العصر والموضوع الذي يتصدون له.

    بل إن قدرًا غير قليل من المناقشات التي ما تزال تدور في العالم الإسلامي حول موضوع العلاقة بين العقيدة الدينية والعلم، ما زال يتعلق بالمبادئ الأساسيَّة للتفكير العلمي، مثل قبول التفسير العقلاني للعالم أو عدم قبوله، وإمكان وجود سببية منتظمة في الطبيعة، ودور القوى الغيبية في تحديد مجرى الأحداث، وما زال مفكرون لهم مكانتهم يدينون العلم التجريبي؛ لأنه لا يترك مجالًا ﻟ «الغيب»، أو يؤكدون من زاوية أخرى أن وجود عناصر لا مادية في بعض العلوم هو دليل على التداخل بين عالم «الغيب» وعالم «المادة»، وحين تكون المبادئ الأساسيَّة للعقلانية موضوعًا للنقاش على هذا النحو يكون من الصعب الاهتداء إلى رأي سليم حول المشكلات المعقدة التي تُثيرها أحدث تطورات البحث العلمي.

  • (٣)

    ومما يساعد على ذلك أن المجتمعات الإسلامية التي تنتمي كلها تقريبًا في العصر الحاضر إلى العالم غير المتقدم علميًّا أو صناعيًّا، لم تعانِ بعدُ من جميع المشكلات المترتبة على التقدم العلمي الحديث، فمشكلات البيئة مثلًا ليست محسوسة بما فيه الكفاية في معظم هذه المجتمعات، ومِنْ ثَمَّ لم تكن واحدة من المشكلات التي تشغل اهتمام المفكرين الإسلاميين المعاصرين، مع أنها في الغرب تحتل مكانة رئيسية في اهتمام المفكرين، حتى الدينيين منهم، ومثل هذا يُقال عن مشكلات تهز الضمير الأخلاقي والديني في الغرب المعاصر، كهندسة الوراثة وطريقة تبديد الموارد الطبيعية والتبذير في استخدام الطاقة … الخ.

  • (٤)

    ونتيجة للعاملَيْن السابقَيْن كان من الطبيعي أن يصبح وضع مشكلة الصلة بين الإيمان الديني والعلم، في مجتمع أصبحت تسوده النظرة العلمية، مختلفًا كل الاختلاف عنه في مجتمع ما تزال فيه القيم التَّقليديَّة هي المسيطرة، ففي الغرب المسيحي أصبحت المشكلة الآن هي: كيف يجد الإيمان الديني لنفسه مكانًا في مجتمع يحكمه التفكير العلمي وتشكل التقنية أسلوب حياته؟ أمَّا في المجتمع الإسلامي، حيث ما تزال القيم العلمية الحديثة بعيدة كل البُعد عن السيطرة، فإن المشكلة ما زالت: كيف يستطيع العلم تبرير نفسه في مجتمع تسوده قيم الإيمان الديني؟ وبعبارة أخرى، فعلى حين أن هذا الإيمان هو الذي يحارب معركته في الغرب المسيحي، نجد أن العلم ما زال هو الذي يسعى إلى تأكيد ذاته في العالم الإسلامي.

(٥) نماذج لمواقف معاصرة

هذه الحقيقة الأخيرة — وهي حقيقة محورية بالنسبة إلى هذا المقال — تُضفي على الجدل الدائر حول هذا الموضوع في العالم الإسلامي طابعًا خاصًّا، فسواء كان هذا الجدل يهدف إلى تأييد العلم أم إلى مهاجمته، فإنه في الحالتين يتخذ من الإيمان الديني نقطة ارتكاز له، ولنتأمل أمثلة لكلٍّ من هذين الموقفين:

حالات تأييد العلم

  • (١)

    تنطلق كثير من هذه الحالات من الفكرة القائلة إن في النصوص القرآنية آيات كثيرة تدعو إلى البحث والتأمل وإعمال العقل، وهذه وجهة نظر يمكن أن تُعد «تقدمية»؛ لأنها تفتح الباب أمام البحث العلمي دون تقييده بحدود معينة، وتجعل من هذا البحث استجابة لأمر إلهي يدعونا إلى الاشتغال بالعلم والتفكير في العالم، دون أن يفرض علينا أي اتجاه معين في هذا الصدد، وهذا الموقف السديد يترك الباب مفتوحًا أمام كل التطورات المحتملة في العلم.

  • (٢)

    وهناك حالات أخرى غير قليلة تتخذ نقطة انطلاقها من الفكرة القائلة: إن القرآن يحتوي في داخله على كل علم يمكن أن يصل إليه البشر في الحاضر أو المستقبل؛ ذلك لأن القرآن كتاب جامع لم يُفرط في شيء؛ ومِنْ ثَمَّ فإن كل ما نتوصل إليه بعقولنا البشرية موجود فيه صراحةً أو ضمنًا، وعلى هذا الأساس ظهرت في العالم الإسلامي مدرسة كاملة تحاول عن طريق تفسيرات معظمها متعسف أن تجد في الآيات القرآنية أحدث الكشوف العلمية التقنية، كنظرية النسبية وصواريخ الفضاء وطاقة الذرة واللاسلكي، بل نظرية التطور نفسها التي هُوجمت وما زالت تُهاجَم بعنف في أوساط دينية كثيرة، قد وجدت من يضعها في إطار إسلامي ويوفق بينها وبين فكرة الخلق، على أساس أن هبوط آدم من الجنة جعله يبدأ رحلته في الأرض على شكل أميبا في الطين، فبدأت بذلك قصة التطور.

    ومن الجدير بالذكر أن هذه المدرسة التي تنتمي إليها شخصيات إسلامية مشهورة مثل الكواكبي ومحمد فريد وجدي، وشخصيات أخرى أقل شهرة مثل عبد الرزاق نوفل ومصطفى محمود، تدعو إلى دراسة العلوم الحديثة من أجل فهم أسرار القرآن وإدراك المعاني الخفية في آياته، وهكذا يكون تأييد العلم في هذه الحالة وسيلة لغاية أخرى فحسب، ومع ذلك فقد وجد هؤلاء من يعارضهم بقوة، من داخل المعسكر الديني نفسه، على أساس أن القرآن ليس كتابًا في الفيزياء أو البيولوجيا، وأن العلوم دائمة التغير لا يصح أن يربط مصير الكتاب السماوي بما يطرأ عليها من تحولات لا تنقطع، ونستطيع أن نُضيف إلى ذلك أن التفسير الذي يحدث بأثر رجعي، ويعيد الاهتداء إلى النظريات العلمية، بعد اكتشافها، في آيات قرآنية، هو في ذاته جهد عقيم؛ لأنه مضطر دائمًا إلى الانتظار حتى تتم الكشوف بجهود البشر الفانين، ولم يحدث في حالة واحدة أن أدى إلى كشف حقيقة علمية لم يكن البشر قد عرفوها بعد.

  • (٣)

    وهناك باحثون يؤيدون العلم الحديث، من منطلق إسلامي، على أساس أن هذا العلم في جوهره مدين بظهوره لذلك الازدهار العلمي الهائل الذي شهدته الحضارة الإسلامية، والذي انتقل تأثيره إلى أوروبا منذ القرن الثَّاني عشر الميلادي، وإن لم تكن أوروبا نفسها قد اعترفت بهذا التأثير إلا في وقت متأخر، ويُشير هؤلاء الباحثون إلى أن منهج التفكير والعلم الإسلامي كان تجريبيًّا في جوهره، وإلى أن المسلمين رفضوا المنهج القياسي الاستنباطي الأرسطي إلى حد بعيد في أبحاثهم العلمية، وهذا الرأي يتفق مع رأي بعض الباحثين الأوروبيين الذين يؤكدون تفوق المسلمين في المشاهدات التجريبية والرصد الدقيق والعناية بالجزئيات والتفاصيل، وهي الصفات التي تكون روح المذهب التجريبي كما تبلور في أوائل العصر الحديث على يد أقطاب العلم الطبيعي الأوروبي الأوائل.

حالات المعارضة

  • (١)

    هناك حالات متطرفة، لكنها ملموسة، لكتابات ترفض العلم الحديث بأكمله من منطلق ديني متزمت، ولا تكتفي بأن ترى في نظرية التطور وآراء فرويد إلحادًا وهدمًا للدين، بل قد يصل بها الأمر حد الاعتراض على فكرة دوران الأرض، والتشكيك في صعود الإنسان إلى القمر، على أساس أن هذا كله يتعارض مع النصوص الدينية.

  • (٢)

    وهناك حالات أخرى تربط بين العلم التجريبي والإلحاد، أو بينه وبين الغزو الاستعماري الغربي، وأصحاب هذا الاتجاه يلحُّون على ضرورة تجنيب المجتمع الإسلامي تلك النتائج الهدامة التي ترتبت على التقدم العلمي في الغرب، وبخاصة ما يتعلق منها بالانحلال الخلقي والتفكك الاجتماعي.

  • (٣)

    وهناك أخيرًا من يلجئون إلى استغلال أية نقطة ضعف في العلم، سواء في منهجه أم في بنائه أم في نتائجه، من أجل تأكيد ضرورة الاقتصار على الإيمان الديني الذي هو المصدر الوحيد لليقين أمام حقائق علمية مهتزة وغير مؤكدة، وهذه طريقة عرفها الغرب المسيحي وما زال لها أنصارها حتى اليوم، وأوضح أمثلتها في الحضارة الغربية استغلال انهيار مبدأ الحتمية في الفيزياء، في أوائل القرن العشرين، من أجل اتهام العلم بأنه مبني على «اللايقين» واللاتحديد، ومِنْ ثَمَّ يخلو الميدان للإيمان الديني بوصفه الحقيقة الوحيدة المؤكدة، وفي العالم الإسلامي نرى بعض المفكرين يتحينون أول فرصة ضعف أو اختلال في بناء العلم من أجل مهاجمته وتأكيد وجود مصدر أسمى للمعرفة، لا مجال فيه للخطأ أو التردد، ولكن كما أثبتت هذه الطريقة فشلها في الغرب، فإنها لن تنجح في العالم الإسلامي؛ لأن العلم إذا كان يُخطئ فإنه يصحح أخطاءه تباعًا، ولأن تقدمه خلال التاريخ يهدم الأرض من تحت أقدام موجهي هذه الاعتراضات.

(٦) نظرة شاملة

هناك حقائق أساسيَّة عن الإسلام تجعل لمشكلة العلاقة بين العلم والإيمان الديني فيه وضعًا خاصًّا:
  • (١)

    فالإسلام وحي مباشر، والقرآن هو كلمة الله الحرفية التي لا يتناولها تغيير ولا تبديل، وقد أدى هذا الوضع في أوقات التدهور الحضاري بوجه خاص إلى حالة من التصلب وعدم المرونة إزاء كثير من التطورات العلمية التي تتم خارج نطاق الدين، إذ تُواجَه هذه التطورات بنصوص دينية تُفسَّر تفسيرًا متزمِّتًا، فتكون النتيجة عداءً لا داعي له بين العلم والإيمان الديني، وبطبيعة الحال فإن المفكرين المستنيرين كثيرون، وهم لا يكفُّون عن بذل المحاولات لمواجهة أحدث تيارات العلم بأفق واسع، ولكن بذور التشكيك في صدق إيمانهم تظل موجودة، وفي الوقت الذي استوعب فيه الغرب أشكالًا مختلفة للعلاقة بين الله والعالم، مثل صورة الإله الذي يحكم العالم بالرياضيات، أو مهندس العالم عند ديكارت، أو صورة الصانع الذي لا يخطئ لساعة كبرى تظل تؤدي عملها بكفاءة وثبات هي الكون عند ليبفتش. في العالم الإسلامي لا يُسمح بمثل هذا التغيير في شكل العلاقة بين الله والعالم بسهولة، ولا يدمج هذه الصور المتغيرة التي تعمل حسابًا لتطورات العلم في إطار العقيدة الدينية كما فعل هؤلاء الفلاسفة، على حين أن كبار مفكري الغرب المتدينين يقبلون بسهولة الفكرة القائلة بأن عناصر كثيرة من الأفكار الدينية ينبغي أن تتغير نتيجة للمعرفة الجديدة التي جلبها العلم والتقنية، فإن مثل هذه الأفكار مرفوضة — من حيث المبدأ — في معظم الأوساط الدينية الإسلامية.

  • (٢)

    ومن جهة أخرى فإن الحضارة الإسلامية تعترف — في أغلب اتجاهاتها — بالتمييز بين الزمني والروحي أو الدنيوي والديني؛ ومِنْ ثَمَّ فإنها تجد صعوبة في قبول الطريقة التي تم بها التوفيق بين العلم والدين في الغرب المسيحي منذ عصر النهضة، فقد اتجهت جهود الأوروبيين إلى الفصل بينهما بحيث يكون لكلٍّ منهما مجاله الذي لا يتجاوزه، وعبر نيوتن، العالم الإنجليزي الأشهر، عن هذا الاتجاه بوضوح قاطع حين دعا إلى عدم تدخل الوحي الديني في الفلسفة (يقصد العلم) أو الآراء الفلسفية في الدين، وتلك طريقة في تحديد العلاقة بين العلم والإيمان الديني، ربما كانت تتمشى مع حضارة تفصل بين الدنيا والدين فصلًا حادًّا، أمَّا الحضارة الإسلامية التي اتجهت في الأغلب إلى صبغ العالم الدنيوي بصبغة روحية، وأضفت على الحقائق الروحية طابعًا واقعيًّا عينيًّا في كثير من الأحيان، والتي ألغت التضاد بين عالم العقيدة وعالم الحياة الواقعية، فلم تكن تستطيع أن تقيم التعايش بين العلم والإيمان الديني عن طريق وضع حاجز قاطع بينهما، ومن هنا رأيناها تلجأ إلى طرق أخرى كجعل العلم ينبثق عن الدين، أو إعطائه مكانة هامشية بالقياس إلى الدين، أو اختبار صحة حقائقه أو نتائجه بمقاييس دينية.

  • (٣)

    ولكن الشيء الملفت للنظر هو أنه إذا لم تكن المشكلة قد وجدت حلًّا سليمًا لها على المستوى النظري، فإن التعايش بين مبادئ الإيمان ونتائج العلم قائم بالفعل على المستوى العلمي في كل جانب من جوانب حياة المسلمين، بل إن أشد المتدينين تحمُّسًا، في أكثر المجتمعات الإسلامية تمسُّكًا بحرفية العقيدة، قد يرفض العلم الأوروبي بفكره الواعي، ولكنه يستخدم أحدث منتجاته في حياته اليومية، دون أن يدرك ما ينطوي عليه ذلك من تناقض، والأهم من ذلك أن عددًا غير قليل من العلماء من ذوي الحس الديني يجمعون بين الإيمان الحرفي وبين الممارسة العلمية الرفيعة المستوى، لا على أساس أية محاولة فلسفية للتوفيق بين الاثنين، بل بأنْ يضعوا كلًّا منهما ببساطة في «صندوق» مغلق لا ينفتح على الآخر، ولا يجدون أية غضاضة في أن يحتوي عقلهم على الصندوقَيْن معًا، جنبًا إلى جنب.

وهكذا فإنَّ المشكلة النَّظريَّة المتعلقة بالصلة بين العلم — في أحدث تطوراته — وبين الإيمان الديني، لم تجد بعدُ حلًّا حاسمًا متفقًا عليه في العالم الإسلامي المعاصر، وما زال يشوبها قدر كبير من اختلاف الرأي الذي قد يصل أحيانًا إلى حد اتخاذ أشد المواقف تناقضًا.

ولا يبدو أنَّ في الإمكان حل هذه المشكلة على النحو الذي يلغي نهائيًّا هذه المعركة المزعومة بين نشاط الإنسان في ميدانَي المعرفة والعقيدة الدينية، إلا إذا ظهرت مبادئ تجديدية في مجال الفكر الديني، تهدف إلى القضاء على التزمت والجمود وتسمح بقدر من المرونة الفكرية لا يدع للمجتمع الإسلامي مجالًا للتوقف عند حدود عفى عليها الزمان، وإذا كان للفكر الديني دور هام في إحداث هذا التحول المرغوب، فإنه لا يمكن أن يتحقق مكتملًا إلا بحدوث تغييرات اجتماعية جذرية في العالم الإسلامي؛ ذلك لأن التفسير السلطوي المتزمت للدين إنما هو في الأغلب انعكاس لأساليب متسلطة في إدارة شئون المجتمع، ولا يمكن أن تتحقق المرونة والاستنارة على المستوى الفكري إلا إذا ابتعدت أشكال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في البلاد الإسلامية، عن مظاهر التسلط والاستبداد.

١  العربي، العدد ٢٦٤، نوفمبر ١٩٨٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤