تمهيد

لقد تكلمنا منذ أيام في النادي العربي عن نهضة العرب السياسية، وسيرهم في طريق الاتحاد فيما بينهم؛ اقتداءً بغيرهم من الأمم اللائي كن مفككات مبعثرات، فما زلن يسعين في الانضمام إلى أن أصبحن كتلةً واحدةً. ونحن نتكلم الآن عن نهضة العرب العلمية التي هي في الواقع أساس النهضة السياسية مختارين لهذه المحاضرة مكان المجمع العلمي الذي هو المنبر الطبيعي للمباحث العلمية، كما اخترنا النادي العربي منبرًا للكلام عن الوحدة العربية التي هي من مباحثه. وإنما كان الفرق بين البحثين أن الواحد منهما سياسي صرف لا يجوز الخوض فيه إلا بالمقدار الذي تسمح به المصلحة، وأن الآخر علمي بحت يقدر أن يستقصي فيه الباحث ما شاء دون أن يتعرض لمحذور أو يعرض أمته لضرر.

وبهذه المناسبة أعلن أني آسف — بل جد آسف — من أن أرى بعض إخواننا معتقدين أن الإنسان إذا حاضر في باب السياسة وجب عليه أن يفرغ جعبته من أولها إلى آخرها، وأن يجهر بكل ما يدور في خلده كما لو حاضر في باب العلم؛ فهذا لا شك مذهب من يسميه الإفرنج «بالولد الهائل» ومن ليس في الواقع جديرًا بأن يطرق باب السياسية أصلًا، بل بين هذا والسياسة ما بين المشرق والمغرب.

فنحن لا نرضى أن نكون من الأطفال الهائلين ولا من الذين لا يعرفون إلى أين يذهب الكلم، بل نحن ولله الحمد من أمة اشتهرت بالمرونة والدهاء وسرعة اللحظ، وقد جاء في أمثالها: اللبيب من الإشارة يفهم. ولقد كان هاديها الأعظم إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، ومنا الذي يقول:

ومن لم يصانع في أمور كثيرة
يُضرَّس بأنياب ويُوطَأ بمنْسَمِ
وقائل هذا البيت هو الذي قال فيه سيدنا عمر — رضي الله عنه — أنه أشعر العرب؛ لقوله: وَمَنْ وَمَنْ. ثم أبدأ بالكلام عن نهضة العرب العلمية، فأقول: منذ عشر سنوات — أي: سنة ١٩٢٧ — اقترح على الطيب الذكر الأستاذ يعقوب صروف صاحب محلة المقتطف التي انتهت إليها رئاسة المجلات العلمية، أن أكتب إلى المقتطف شيئًا في موضوع النهضة الشرقية في هذه الخمسين سنة الأخيرة؛ فكتبت يومئذ فصلًا ظهر في أجزاء المقتطف من تلك السنة وراق العلامة المشار إليه كثيرًا، وقد بدأته بما يلي:

لا حاجة بنا إلى القول بأن أجلى مجالَيْ هذه النهضة كان في العلم والتعليم. وعندي أنه لا نهضة للأمم سوى النهضة العلمية، فإذا وُجِدت هذه جاءت سائر النهضات من سياسية، وعسكرية، واجتماعية، واقتصادية … إلخ، آخذًا بعضها برقاب بعض. فإذا قلنا: إن الشرق الأدنى نهض نهضةً علميةً كُفِينا تعداد سائر مظاهر نهوضه ومعارج رقية؛ لأن العلم وحده هو المفتاح، وبه وحده الدخول إلى داخل البناء، وكل نهضة لا يكون ظهرها العلم، فما هي إلا ساعة وتَضْمَحِلُّ، وقد يُقال: إن نهضة شرقنا هذه ضئيلة لا تستحق أن تُذكَر بالقياس إلى معالي الأمم الراقية، وإننا لا نبرح متخلفين بمساوف شاسعة عن أمد أوروبا وأميركا واليابان، فلماذا نشغل أنفسنا بما لا يشغل حيزًا في التاريخ العام؟! وعلى هذا نجاوب أنه ليس العلم متعلقًا بالكمال وحده ولا البحث موقوفًا دائمًا على ما بهر النُّهى وبلغ سدرة المنتهى، وإنما العلم هو ما تناول الدرجات كلها الدنيا منها والقصوى، والبحث هو الذي به تُوزَن مقادير الأشياء وتُحدَّد نسبة بعضها إلى بعض ونسبتها إلى الوقت. ثم إننا إذا تحرينا الحقيقة وجدنا الشرق العربي قد اجتاز في هذه الخمسين سنة في طريق العلم والحضارة الحديثة ما لم يتهيأ لأوروبا أن تجتازه قبلًا في أطول جدًّا من هذا الردح من الدهر؛ وذلك أنه من الطبيعي أن يسهل على المتأخر ما لا يسهل على المتقدم؛ لأن المتقدم قد يُضطَر أن يُمهِّد الطريق ويسير، وأما المتأخر فما عليه إلا أن يلحقه ويسير على طريق مُذلَّل أمامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤