مدخل إلى مؤلفات نيتشه

أسلوب الكتابة في مؤلفاته

دُوِّنَ الجزء الأكبر من مؤلفات نيتشه على هيئة فقرات منفصلة aphorismes تنطوي كلٌّ منها على فكرة كاملة. ومع ذلك؛ ففي الكتب الأخيرة لنيتشه نلمس اتجاهًا تدريجيًّا إلى التنظيم والتبويب. ومنذ كتاب «بمعزل عن الخير والشر» تزداد الفقرات طولًا، ويصبح الارتباط والتدرج بينها أوضح، ويكاد الكتاب كله يكوِّن وحدة متماسكة. وهذا يؤدي بنا إلى استخلاص هذه النتيجة الضرورية، وهي أن حياة نيتشه العقلية لو كانت قد امتدت قليلًا، لأخرج لنا كتبًا مترابطة منظمة، لا تختلف عن كتب الفلاسفة الآخرين في شيء. ومما يؤيد ذلك أن كتاب «إرادة القوة» الذي لم يكمله نيتشه، وتركه ضمن مؤلفاته المخلَّفة، كان قد وُضعت له خطة منظمة تهدف إلى أن تجعل منه كتابًا فلسفيًّا متماسكًا، يعالج الموضوعات الرئيسية التي اهتم بها نيتشه طوال حياته.

ولكن لِمَ آثر نيتشه أن يؤلِّف على طريقة الفقرات المنفصلة هذه؟ إنه يذكر أنها خير طريقة تلائم مفكِّرًا تلقائيًّا مثله؛ ذلك لأن أصحاب المذاهب الجامعة ينسقون أفكارهم وينمقونها قبل أن يدوِّنوها، حتى تتلاءم كلها وتدخل في إطار مذهبهم. أمَّا هو فلم يكن يضع حدودًا معيَّنة لتفكيره، بل يترك الفكرة تظهر تلقائيًّا دون أن يعوقها عائق، ويدوِّنها كما خطرت لذهنه. وعلى ذلك، فطريقة الكتابة في فقرات هي في رأي نيتشه تعبير عن أمانته الفكرية وإخلاصه العقلي، الذي يأبى عليه إلا أن يترك ذهنه منطلقًا، ولو جرَّ عليه ذلك بعض التناقض فيما بين أفكاره المنفصلة.

على أن من نقَّاد نيتشه من يأتي بتعليل آخر؛ فلم يكن في وسع نيتشه أن يكتب على نحوٍ مخالف؛ إذ إن أعصابه المتوترة وحسه المرهف يجعلانه عاجزًا عن الكتابة في أسلوب مطوَّل متماسك، فمثل هذا الأسلوب يقتضي من الصبر والأناة ما لا طاقة لأعصاب نيتشه عليه. فهذا التعليل إذن يهيب بفكرة المرض عنده، ويرد إليها أسلوبه التلقائي في الكتابة.

ونحن نرى أن المزاج الشعري والأدبي عند نيتشه هو — قبل غيره — علة التجائه إلى هذا الأسلوب؛ فأصحاب الأذهان المنطقية الصارمة لا يكتبون إلا أسلوبًا متماسكًا متسلسلًا. وأوضح مثل لذلك «كَنْت»؛ إذ كان التماسك أوضح ما يميز طريقته في التفكير، بل كان يرد كل تصنيفاته — في سائر مجالات التفكير — إلى مقولات الذهن الرئيسية، ويفتعل ذلك التصنيف ويتكلفه في كثير من الأحيان. أمَّا أصحاب العقليات الأدبية، فكتاباتهم أشبه بالقصائد التي تُعبِّر كلٌّ منها عن إحساس معيَّن لدى الشاعر، دون أن يربط بين كل قصيدة وأخرى رباط منطقي متسلسل. والمسألة لا تتعلق في كل الأحوال بالأمانة العقلية، كما يقول نيتشه؛ فقد يكون في وسعنا أن ننظر إلى الأمر من الزاوية المقابلة، فنقول إن الأمانة العقلية ذاتها تقتضي من المرء أن يتروَّى قبل أن يدوِّن أفكاره، وألا يتركها تنطلق تلقائيًّا، بل يحمله إحساسه بالمسئولية على أن يقلب الفكرة من كل الأوجه، ليرى إن كانت متسقة مع سائر أفكاره أم لا، وليعدلها هي أو يعدل أفكاره الأخرى قبل أن يدونها. وليس معنى قولنا هذا أننا نصِف أسلوب نيتشه بالافتقار إلى الأمانة العقلية، ولكن كل ما نرمي إليه هو أن نُثبت هذه الحقيقة؛ وهي أن من الممكن أن يُنظر إلى هذه المسألة من زاوية أخرى تنتهي إلى نتيجة مخالفة لوجهة نظر نيتشه، والأصح ألا نُقحم موضوع الأمانة العقلية في هذا الخلاف أصلًا، بل نراه خلافًا بين الطريقة الأدبية والطريقة المنطقية في التفكير والتعبير؛ فقد يعيب الذهن الأدبي على الذهن المنطقي أنه يتكلف الأفكار ويبعث فيه ترابطًا مصطنعًا من أجل هدفٍ بيَّته مقدَّمًا، ويرى في ذلك افتقارًا إلى الأمانة العقلية، وقد يعيب الذهن المنطقي على الذهن الأدبي أنه يفتقر إلى الشعور بالمسئولية حين يترك أفكاره تنطلق دون أن يجشم نفسه عناء الربط بينها في وحدة متماسكة، ويرى — بدوره — في ذلك افتقارًا إلى الأمانة العقلية؛ غير أن كليهما يخطئ حين يفرض معياره الخاص على الآخر، وعلينا أن نُدرك أن الاختلاف يرجع إلى أنماط مختلفة في التفكير والتعبير فحسب.

قائمة المؤلفات

الطبعة التي رجعنا إليها في هذا البحث هي طبعة Alfred-Kröner في ليبتسج عام ١٩١٢، وتُسمى بطبعة الجيب Taschen-Ausgabe.

وفيها تقع مؤلفات نيتشه في أحد عشر مجلَّدًا، كلٌّ منها يشتمل على مؤلفاته المنشورة ومؤلفاته المخلفة في فترة معيَّنة.

وقائمة المؤلفات في هذه الطبعة كما يلي:

(١) ميلاد المأساة من روح الموسيقى Die Geburd der Tragödie aus dem Geiste der Musik (في المجلد الأوَّل)
(٢) خواطر في غير أوانها Unzeitgemässe Betrachtungen (في المجلد الثاني)
(٣) أمور إنسانية، إنسانية إلى أقصى حد (الجزء الأوَّل) Menschliches, Allzumenschiches I (في المجلد الثالث)
(٤) أمور إنسانية، إنسانية إلى أقصى حد (الجزء الثاني) (في المجلد الرابع)
(٥) الفجر Morgenröte (في المجلد الخامس)
(٦) العلم المرح Die fröhliche Wissenschchaft (في المجلد السادس)
(٧) هكذا تكلم زرادشت Also sprach Zarathustra (في المجلد السابع)
(٨) بمعزل عن الخير والشر Jenseits von Gut und Böse (في المجلد الثامن)
(٩) أصل نشأة الأخلاق Zur Genealogie der Moral (في المجلد الثامن)
(١٠) إرادة القوة Der Wille zur Macht (في جزأين، بالمجلد التاسع والعاشر)
(١١) أفول الأصنام Götzendämmerung (في المجلد العاشر)
(١٢) عدو المسيح Der Antichrist (في المجلد العاشر)
(١٣) قضية فاجنر Der Fall Wagner (في المجلد الحادي عشر)
(١٤) نيتشه ضد فاجنر Nietzsche contra Wagner (في المجلد الحادي عشر)
(١٥) هُوَ ذا الرجل Ecco homo (في المجلد الحادي عشر)

ولما كانت إشارات الصفحات تختلف من طبعة إلى أخرى، فقد آثرنا أن نشير إلى النصوص المختارة التي انتقيناها من مؤلفات نيتشه تبعًا لأرقام الفقرات — وهي واحدة في كل الطبعات والترجمات — لا تبعًا لأرقام الصفحات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤