الفصل الرابع

الأخلاق

لن نكون مبالغين إذا قلنا إن الأثر الأكبر الذي خلفه نيتشه كان في ميدان الأخلاق؛ فنيتشه مفكر أخلاقي قبل أن يكون فيلسوفًا ذا آراء في المعرفة أو في طبيعة العالم، وقبل أن يكون ناقدًا اجتماعيًّا أو فنيًّا أو باحثًا فيلولوجيًّا. وفي ميدان الأخلاق أتى نيتشه بأكثر آرائه جرأةً وأصالة، وفيه أيضًا تعرَّض لأقوى الانتقادات والحملات. ولم تكن القوة الدافعة له طوال مراحل تفكيره، وطوال مراحل صراعه مع عصره ونقده له، إلا قوة أخلاقية.

على أن موقف نيتشه من الأخلاق يتخذ منذ بداية الأمر طابعًا مُحيِّرًا؛ فهو من جهةٍ يجعل للأخلاق أهمية كبرى، ويردُّ إليها ظواهر عديدة لا تنتمي إلى مجالها، وهو من جهة أخرى يوجه أعنف نقد له إلى الأخلاق. أمَّا عن الأمر الأوَّل، فمن الواضح عنده أن كثيرًا من الدوافع الإنسانية التي يُنظَر إليها على أنها نظرية خالصة، ترجع بالفعل إلى أصول أخلاقية. ومن هذا القبيل، دافع المعرفة، فنحن نريد أن نعرف لكي نكتسب مزيدًا من القدرة على السلوك في الحياة، ولكي تقوى سيطرتنا على الأشياء، تلك كلها أمور تدخل في باب الفعل العملي لا الفكر النظري؛ فأصل السعي إلى المعرفة إذن أخلاقي، وتفكيرنا ليس إلا وسيلة نتمكن بها من زيادة قدرتنا على «السلوك» في العالم، والسعي إلى بلوغ الحقيقة ليس له من معنًى إلا «عدم الرغبة في الخداع، ولا في خداع ذاتي»، وهذا ينتمي إلى مجال الأخلاق. وعلى ذلك، فمجال الأخلاق أوسع المجالات وأشملها، وهو ينطوي في داخله على مجالات أخرى تبدو بعيدة عنه، وتدَّعي أنها فقدت صلتها به، وأنها نظرية خالصة لا شأن لها بطريقة السلوك العملي، وفي هذا أبلغ دليل على مدى اهتمام نيتشه بالأخلاق، ونظرته إليها على أنها أشمل مظاهر الفاعلية الإنسانية وأعمها. ولكننا في نفس الوقت الذي نلحظ فيه هذا الاهتمام، نلمس في كل كتاباته حملةً على الأخلاق، ربما كانت أعنف حملة تعرضت لها طوال تاريخ التفكير الإنساني الواعي فيها. ولا شك في أن التناقض الظاهري لا يمكن أن يُحل إلا إذا درسنا المقصود بكلمة الأخلاق في حملاته النقدية، حتى يمكننا أن نحدد أي المعاني يقصدها نيتشه حين ينقد الأخلاق من جهة، وحين يجعلها ظاهرة رئيسية في كل أوجه النشاط الإنساني من جهة أخرى.

اللاأخلاقية عند نيتشه

أول ما ينبغي أن نُشير إليه عند بحثنا للنقد الأخلاقي عند نيتشه، هو معنى «اللاأخلاقية» عنده؛ ذلك لأن المعنى الشائع بيننا لهذه الكلمة، هو التحلل من القواعد والمبادئ الأخلاقية؛ أي هو الدعوة إلى نوع من الهمجية والإباحية في علاقات الناس بعضهم ببعض، وعلى هذا النحو تفهم الأذهان السطحية كلمة اللاأخلاقية، التي تتردد كثيرًا في نقد نيتشه للأخلاق. على أن نيتشه ذاته يحذِّرنا من أن نحمِّل فكرته مثل هذه المعاني العامِّية؛ إذ إن الناقد الصحيح للأخلاق لا يمكن أن يكون غير أخلاقي unmoralisch بمعنى الوقوف من الأخلاق السائدة موقف المخالف العاصي؛ ففي هذا اعتراف ضمني بالقيم التي تعبِّر عنها تلك الأخلاق، ومحاولة لمخالفتها فحسب؛ أعني أن المرء في هذه الحالة يعترف بما تسميه الأخلاق السائدة خيرًا وشرًّا، ولكنه لا يحرص على أن يقف من هذه القيم نفس موقف سائر الناس، بل يعلن العصيان عليها ويأبى أن يطيعها، ومُحال أن يكون هذا — كما قلنا — هو موقف الناقد الأخلاقي، بل هو موقف الانحلاليين والمنحرفين. وإنما يتخذ الناقد الأخلاقي موقفًا ذا طبيعة مغايرة تمامًا؛ فهو لا أخلاقي immoralisch، بمعنى أنه لا يعترف أصلًا بالقيم الأخلاقية السائدة، ويحاول مراجعتها من جديد. فهو إذن ليس مخالفًا ولا عاصيًا ولا منحرفًا، وإنما هو مستقل عن هذه الأخلاق. وإذا كان لا يعترف بما تسميه خيرًا، فهو أيضًا لا يقترف ما تسميه شرًّا، وإنما يتخذ له موقفًا يخرج عن نطاق تلك القيم الشائعة، وينظر إليها من الخارج فحسب، وتلك — في رأي نيتشه — هي صفة الناقد الصحيح؛ إذ لا يجب عليه أن يصدر حكمه من خلال أية قيمة أخلاقية سائدة، وإنما ينبغي عليه أن يضع هذه القيم ذاتها موضع الشك، ويتأملها كما لو كان مشاهدًا محايدًا يختبرها من بداية الأمر ليقرر مدى صلاحيتها، «فلكي يتسنى لنا أن نتأمل أخلاقنا الأوروبية من بعيد، ونقارنها بنُظُم أخلاقية أخرى، سابقة أو تالية، علينا أن نفعل ما يفعله السائح الذي يريد أن يعرف مدى ارتفاع أبراج مدينة، فهو عندئذٍ «يغادر» المدينة. فالتفكير في الأحكام الأخلاقية المتحيزة، إن لم يشأ أن يكون حكمًا متحيزًا يصدر على أحكام متحيزة، هذا التفكير يقتضي اتخاذ موقف خارج عن الأخلاق، بمعزل عن الخير والشر.»١ وإذا كانت الروح الموضوعية هي التي أمْلَت على نيتشه اتخاذ هذا المنهج، وإذا كان يبدأ باتخاذ الشك والتساؤل سبيلًا للتعمق في فهم طبيعة الموضوع الذي يعرض له — شأنه شأن كل باحث يتصف بالروح العلمية النزيهة — فإن لنا مع ذلك أن نتساءل عن مدى إمكان تحقق الموضوعية والنزاهة في مثل هذا المجال؛ ذلك لأن الأمر ليس متعلِّقًا بظاهرة طبيعية يمكننا كلنا أن نتأملها تأمُّلًا مُحايدًا، وإنما هو متعلق بقيم كامنة تتدخل في أحكامنا دون أن نملك لها دفعًا؛ فالموضوعية في هذا المجال شرط عسير التحقق، بل يكاد يكون مستحيلًا، ومحاولة خروج الإنسان عن القيم الأخلاقية السائدة في عصره خروجًا تامًّا، هو مثلًا أشبه بمحاولته الخروج عن الرمزية اللغوية السائدة، والعودة إلى أساليب الإشارة اليدوية والرسم على الحجر في التعبير؛ فتلك القيم كامنة فينا أكثر مما نشعر، وربما كانت كل محاولة نبذلها للخروج عن نطاقها، تتم من خلالها هي ذاتها. على أننا لا نود أن نستطرد طويلًا في هذا الاعتراض الذي يتناول مدى إمكان تحقيق مثل هذا الهدف الذي وضعه نيتشه لنفسه، وحسبنا هنا أن نشير إلى صعوبة المحاولة التي قام بها، وهي الصعوبة التي تفسر لنا ذلك الإحساس الذي يتملك من يقرأ كتاباته؛ أعني الإحساس بأنه يناضل ويصارع خصمًا قويًّا عنيدًا، وما هذا الخصم إلا تأصل القيم الأخلاقية السائدة في نفسه ونفس كل إنسان.

نقد الأخلاق السائدة

وعلى أية حال، فالمعنى الأوَّل الذي ينبغي أن نفهم به نقد نيتشه الأخلاقي هو كما قلنا معنى الاستقلال عن التقويم الأخلاقي السائد، ومراجعته من جديد، لا تعمُّد مخالفته أو الانحراف عنه. وفي هذا المعنى يناضل نيتشه نضالًا عنيفًا ضد التراث الأخلاقي الذي أخذت به المجتمعات المتحضرة حتى ذلك الحين، والذي كان يبدو راسخًا متأصِّلًا فيها، وكأنه مجموعة من المبادئ الأزلية التي لا يجرؤ أحد على مناقشتها.

هذا التراث الأخلاقي يتلخص في المعقولية الفلسفية والزهد الديني، وهما العنصران اللذان تكوَّنت من مزيجهما تلك المبادئ الأساسية التي يسير عليها الإنسان الحاضر. ولا يفرق نيتشه بين هذين العنصرين كثيرًا؛ فالإفراط في المعقولية يؤدي إلى خلق عالم من الأفكار المفارقة التي فقدت كل صلة لها بالواقع العيني، وعندئذٍ تكون القاعدة الأخلاقية للسلوك قريبة كل القرب من القاعدة الدينية الزاهدة. والمثل الواضح لهذا التقارب بين المعقولية المفرطة والزهد الديني فلسفة أفلاطون؛ فقواعده الأخلاقية ترتكز كلها حول إيمانه بمثال الخير، الذي هو أعلى المُثُل وأكثرها إيغالًا في المفارقة والتجرد والبعد عن ملابسة المحسوس، ولهذا كانت لا تفترق عن القواعد الأخلاقية المسيحية إلا افتراقًا يسيرًا. ولا عبرة هنا بالإهابة بروح الاعتدال والتوازن التي عُرفت عن اليونانيين القدماء؛ إذ إن أفلاطون — كما هو معروف — لم يستمد فلسفته من أصول يونانية فحسب، بل أضاف إليها تلك الديانات والنِّحَل التي ترجع في نهاية الأمر إلى أصول شرقية.

فماذا نقول عن كَنْت؟ إنه يبدو في ظاهره مفكِّرًا لا يحسب حسابًا إلا للعقل وحده، ولكن تحليل فلسفته الأخلاقية سرعان ما يكشف لك عن صلته العميقة بنفس الأصل الديني؛ فهو يتحدث عن «الأمر المطلق» الذي لا يناقش في لهجة تذكِّرك كثيرًا بالطابع المطلق الذي تتخذه الأوامر الإلهية في الأخلاق الدينية. وهو يحمل على الغايات والمقاصد الإنسانية ويؤكد أن مجرد خضوع الفعل لواحدة منها يعني بُعده عن الأخلاقية، وما أشبه هذا بالنزعة الدينية الزاهدة في حملتها على كل سعي دنيوي إلى النفع البشري! وهو يربط الأخلاق بعالم الأشياء في ذاتها، ويبذل كل جهده لإبعادها عن عالم الظواهر، مؤكِّدًا أن حرية الإرادة بمعناها الصحيح لا تكون إلا في العالم الأوَّل وحده، وما هذه التفرقة بين العالمين، ووصف العالم الذي تحيا فيه تجاربنا الإنسانية المعتادة بأنه هو العالم الأدنى، أو عالم الظواهر؛ ما هذه التفرقة إلا أثر من آثار التفرقة الدينية المعروفة بين عالَمَين، يحتل عالمنا منهما المرتبة الدنيا.

وإذن فالفلسفة متضافرة مع الدين فيما يراه نيتشه مؤامرة تهدف إلى اقتلاع الحياة من جذورها، وإحلال إرادة «إماتة الحياة» محل إرادة الحياة. ولنلاحظ أن نيتشه حينما يتحدث عن المسيحية، فهو في كثير من الأحيان يعني الأديان بوجه عام. أمَّا حين يكون هدفه هو تعاليم المسيحية على التخصيص، فإن السياق يكفي عندئذٍ للكشف عن هذا الهدف، ولكن الاستعمال الأوَّل هو الغائب لديه. ومن هنا كان الهدف الأوَّل للاتجاه اللاأخلاقي عند نيتشه، هو الخروج عن هذا التقويم السائد للسلوك الإنساني، وهو التقويم الذي يؤدي في رأيه إلى تجريد الإنسان رويدًا رويدًا من كل ما يحبب إلى نفسه الحياة، وإلى بعث روح العزوف عن العالم فيه؛ فاللاأخلاقية عند نيتشه هي بهذا المعنى ثورة على أوضاع أخلاقية معيَّنة سائدة في عصره. وسواء كان العصر يتصف بالصفات التي عزاها إليه أم لا يتصف، فعلينا دائمًا أن نذكر أن النقد الأخلاقي للعصر كان ينصب على مواضع ضعف معيَّنة في ذلك العصر، رأى نيتشه أنها هي التي تميزه، وتصبغ أخلاقه بصبغة زاهدة.

وإذا كانت تلك الأخلاق، في اتجاهها العام، أخلاقًا زاهدة لا تفي بمطالب الإنسان الحديث، فإنها في مبادئها التفصيلية تسير في نفس الطريق؛ ففي هذه المبادئ كلها تلمس نوعًا من الخداع والتضليل، وتحس إحساسًا غامضًا بأن ظاهر المبدأ غير باطنه، وبأن ما يدعوك إليه مخالفٌ للنتائج الفعلية الناجمة عنه. وتلك في الحق سمة واضحة في تلك الأخلاق الشائعة؛ إذ إن غايتها النهائية مستحيلة التحقيق؛ فمن المحال أن يتمكن الإنسان بالفعل من إماتة نزعاته الحية إلى هذا الحد، أو أن يسلك كما لو كان عقلًا خالصًا. وإذن فمن الطبيعي أن تنطوي هذه الأخلاق على خداع ذاتي تسببه تلك الهوَّة السحيقة بين غايتها وبين ما تستطيعه الطبيعة البشرية، ومن الطبيعي أن ينتقل هذا الخداع الذاتي إلى مبادئها التفصيلية كلها.

فلنتأمل مثلًا فكرة الشفقة، إن الأخلاق المسيحية — والدينية بوجه عام — تجعل منها شعورًا نبيلًا يحتل موقع الصدارة من مشاعرنا الأخلاقية. ولكن هل هي شعور أخلاقي نبيل بحق؟ إن ظاهرها هو التعاطف مع الآخرين، والرغبة في مشاركتهم كل أحاسيسهم، ولكنها تنطوي مع ذلك على نفس الخداع الذاتي الذي لاحظناه في الاتجاه العام لتلك الأخلاق. فما هي في واقع الأمر إلا أنانية مستترة؛ ذلك لأننا كثيرًا ما نُشفق على الغير لخوفنا من أن يحدث لنا مثل ما حدث لهم، بحيث إننا نرمي من عطفنا عليهم إلى الدفاع عن أنفسنا ضد احتمال وقوع مثل هذا الضرر لنا، أو نحمي أنفسنا من الشعور المؤلم الذي ينتابنا كلما صادفنا مثل هذه الأزمات؛ فالمسألة في الواقع ترتدُّ علينا نحن في نهاية الأمر، ونحن نُشفق وفي ذهننا حالتنا نحن، لا حالة الآخرين.٢
وكذلك الحال في فكرة الغيرية، التي ترتبط بالشفقة ارتباطًا وثيقًا، بل تكوِّن شرطها الضروري. والغيرية ليست عند نيتشه مجرد ظاهرة أخلاقية معتادة، بل هي الأساس الأكبر للأخلاق الشائعة، وهي الصدى الذي خلفته المسيحية في تلك الأخلاق؛ ومن هنا نراها تتكرر بصورة مختلفة عند معظم المفكرين الأخلاقيين، فهي تكوِّن النغمة الأساسية لدى المفكرين الفرنسيين الأحرار، من لاروشفوكو La Rochefoucauld وفولتير إلى أوجست كونت، وهي تتردد لدى شوبنهور في ألمانيا وجون استورت مل في إنجلترا.
في كل هذه الحالات يظهر تأثير المسيحية. بل إن المذاهب الاشتراكية ذاتها قد خضعت لهذا التأثير؛ إذ لعبت فيها فكرة الغيرية الدور الأكبر.٣ ولذا يأخذ نيتشه على عاتقه تحليل هذه الفكرة وكشفها على حقيقتها.

فبينما تبدو الغيرية في ظاهرها شعورًا ينمُّ عن فيضٍ من الكمال الذاتي ينتقل من الأنا إلى الآخر، فإنها في حقيقتها ليست إلا وسيلة لإفقار الذات وإضعافها؛ فنيتشه يعتقد أننا كثيرًا ما نتجه بفاعليتنا إلى الغير حتى نهرب من أنفسنا، ولا نواجهها مواجهة صريحة. فحب الجار ليس في هذه الحالة تعبيرًا عن كمال ذاتي فائض، وإنما هو، على حد تعبير نيتشه، «حب سيئ للذات»؛ ذلك لأن مواجهة الإنسان لنفسه، وبذله كل جهوده لبعث الكمال فيها، هو أمر عسير إلى أبعد حد، وكثيرًا ما يحس المرء ميلًا قويًّا إلى الهروب من مواجهة ذاته، والتحول عن سعيه إلى كمالها، فتنحرف طاقته وفاعليته، وتتخذ شكل الغيرية.

بل إننا إذا تأملنا الأمر بمزيد من العمق، لوجدنا أن الغيرية ترتدُّ في نهاية الأمر إلى الأنانية؛ ذلك لأن حدود الأنا أوسع مما يبدو لأول وهلة، وهي تشتمل في داخلها على تلك المشاعر التي تبدو لنا خارجة عنه؛ فالغيرية بهذا المعنى إنما هي وسيلة لإرضاء الذات عن طريق الإفراط في الاهتمام بأحد مكوناتها؛ أعني بعلاقاتها مع الآخرين، ويعبِّر نيتشه عن هذه الفكرة بقوله «… إن الجندي ليتوق إلى الموت في ساحة القتال من أجل إحراز النصر لوطنه؛ إذ إن في انتصار وطنه انتصارًا لأعز أمانيه. وإن الأم لتمنح ابنها ما تحرم منه نفسها، كالنوم، والطعام الجيد، وفي بعض الأحيان صحتها وطاقتها؛ فهل هذه كلها أحوال غير أنانية؟ … أليس من الواضح أن الإنسان في كل هذه الأحوال يحب شيئًا في داخله، وليكن فكرة، أو أمنية، أو وليدًا، أكثر من شيء آخر في داخله، وأنه على ذلك يقسِّم كيانه، ويقدِّم جزءًا منه قربانًا للآخر؟»٤

فعلى أي نحو يكون حكمنا اليوم على رأي نيتشه في هذين المبدأين المترابطين، الشفقة والغيرية؟ لنعترف منذ البداية بأن التعبيرات التي استخدمها نيتشه كانت عنيفة إلى حد بعيد؛ فليست الشفقة أو الغيرية دائمًا ميلًا إلى الهروب من الذات، أو مظهرًا من مظاهر حبنا السيئ لها. وإن التناقض في آرائه ليبدو هنا جليًّا، حين يصف الشفقة أحيانًا بأنها هروب من الذات بالخروج عنها، وحين يرد كل شعور بالغيرية إلى نوع من الأنانية المستترة. فلو كانت الغيرية تنطوي على أنانية بالفعل، لما جاز لنا أن ننقد شعورًا غيريًّا كالشفقة بأنه يؤدي إلى الخروج عن حدود الذات والفرار منها إلى الغير.

وفضلًا عن ذلك، فليس مما يضير الشعور بالشفقة على الإطلاق أن يكون منطويًا على نوع من المقارنة الضمنية بين حالتنا وحالة من نشفق عليه؛ ذلك لأن للقدرة على التعاطف في الإنسان حدودًا لا يمكنها أن تتعداها. وليس في وسع الإنسان أن يخرج عن ذاته تمامًا ليشعر بآلام الغير وحْدها دون أن يتخلل هذا الشعور أي عنصر ذاتي، وإنما لا بُدَّ أن يقارن بين مشاعر الغير ومشاعره على الدوام، حتى يمكنه أن يتصورها على صورة صادقة بقدر الإمكان. فمع اعترافنا بظاهرة التعاطف، فعلينا أيضًا أن نعترف بأن الشفافية بين نفوس الأفراد ومشاعرهم ليست كاملة، بحيث يستطيع كلٌّ منهم أن يضع نفسه موضع الآخر تمامًا، وأن يمارس كل مشاعر الآخر كما لو كانت مشاعره هو. وإنما يحتاج إلى إجراء مقارنة مستمرة بين الظروف التي يمر بها الآخر، وبين ما يمكن أن يحدث له هو لو مر بهذه الظروف، حتى يمكنه تصوُّر موقف الآخر على خيرِ وجهٍ ممكن. تلك إذن حدود كامنة في الطبيعة البشرية؛ فهي ليست نقصًا في أخلاق الإنسان. وليست عيبًا يُلام عليه نظام أخلاقي معيَّن، وإنما هي ترجع، في حقيقة الأمر، إلى الطبيعة الأنتولوجية للإنسان؛ أعني إلى أن العلاقة بين وجودي ووجود الآخرين هي علاقة كثرة، ولا يمكن أن تتحول إلى وحدة شفافة إلا في حدود معيَّنة. وعلى ذلك، فليس مما يعيب الشفقة أنها تنطوي على نظرة ضمنية إلى الذات وعلى دفاعٍ خَفيٍّ عنها، كما اعترض عليها نيتشه؛ إذ إن تلك الأمور تحتمها حدود التعاطف البشري ذاته.

وفي وسعنا أن نلتمس لنيتشه عذرًا واحدًا في نقده لمبدأ الشفقة في الأخلاق؛ ذلك لأن الدعوات الإصلاحية الكبرى اليوم لا تنادي بالنهوض بالإنسان عن طريق الشفقة عليه، وإنما عن طريق تمكينه هو ذاته من النهوض بنفسه. فنحن اليوم ننقد الصورة القديمة للشفقة، على أساس أنها تتضمن اعترافًا بالأمر الواقع وعجزًا عن تغييره، ولا تعدو أن تكون محاوَلة جزئية للتخفيف من الضرر المحتوم بقدر الإمكان. وفي هذا من السلبية ما يجعلنا نثور على مبدأ الشفقة، مفهومًا بهذا المعنى، ونتجه إلى إحلال مبدأ الفاعلية الشاملة محله. فنحن نزيد الآخرين عجزًا حين نُشفق عليهم. بل إننا نعترف في ذلك بعجزنا نحن عن مواجهة الواقع وتغيير الظروف السيئة التي أدت إلى جعل الآخرين في حالة يستحقون معها الشفقة. وصحيح أن من هذه الظروف ما لا يكون هناك سبيل إلى تغييره، ولكن علينا دائمًا أن نؤكد لأنفسنا إمكان سيطرتنا على هذه الظروف، إن لم يكن في الحاضر ففي المستقبل على الأقل. وهذا النقد للشعور بالشفقة — مفهومًا على هذا النحو — هو الذي أدى بلا شك إلى تغيير فلسفة الإصلاح الاجتماعي في العصر الحديث، والتخلي عن فكرة الإحسان — وهي الفكرة التي تنبع مباشرة عن الشعور بالشفقة — واستبدال مبدأ آخر للإصلاح الاجتماعي بها، هو مبدأ كفالة العمل، وكفالة العيش، للجميع.

على هذا النحو إذن يمكننا أن نجد مبررًا لنقد فكرة الشفقة، ولكن هل كان هذا هو ما يرمي إليه نيتشه من هذا النقد؟ الواقع أن السعي الاجتماعي الشامل إلى الإصلاح كان أبعد الأفكار عن ذهنه؛ فهو ينقد الشفقة لأنها تُبعد المرء عن ذاته. وعلى ذلك فهدفه يتركز في «الفرد» وحده، وغايته هي أن يردَّ إلى الفرد كل مظاهر فاعليته، التي يعتقد أنها تتبدد إذا خرجت عنه إلى الغير، وسعيه يتجه في نهاية الأمر إلى تكوين أفراد تركزت قواهم في داخلهم فحسب. فليس هدفه إذن هو تكاتف الجميع من أجل القضاء على الأضرار التي تستوجب الشفقة، وإنما هدفه هو أن يهتم كل فرد بذاته فحسب، بحيث تتركز كل مشاعره في باطنه، وتتجه إلى داخله فحسب، ليس أدل على ذلك من طبيعة البديل الذي أراده أن يحل محل الشفقة؛ أعني فيض الأقوياء، الذين تمتلئ نفوسهم إلى الحد الذي تفيض معه على الآخرين دون أن يكون هذا الفيض غاية في ذاتها، ودون أن تعبأ باتجاهه أو بمن سينالهم نفعٌ منه. وعلى ذلك، فالأسس التي ينقد بها نيتشه فكرة الشفقة مخالفة تمامًا للأسس التي تنطوي عليها الأخلاق الإنسانية كما نفهمها اليوم. وإذا كان الإفراط في الشفقة أمرًا يحمل عليه ضميرنا الأخلاقي، فإن ذلك راجع إلى أسباب مغايرة تمامًا لتلك التي ارتكز عليها نيتشه في نقده لهذا المبدأ الأخلاقي.

والأمر لا يختلف عن ذلك كثيرًا في نقد نيتشه لفكرة الغيرية. فهو حين يحمل على الغيرية من حيث هي مؤدية إلى ابتعاده عن ذاته، يرمي في آخر الأمر إلى نفس الهدف الذي أشرنا إليه من قبلُ، وهو أن تتركز قوى الفرد في داخله فحسب. ولست أدري كيف ظل في عالم اليوم مفكرون على هذا النمط، ينكرون ما حققته الإنسانية من تقدُّم عن طريق العمل المتآزر، ويدعون إلى تلك المُثُل العليا الساذجة، التي ربما كان لها في حياة العصور الوسطى مجال، بينما أصبحت في حياتنا الحالية مستحيلة التحقق؛ ذلك لأن الإنسانية لا يمكن أن ترجع إلى الوراء لترى في انعكاف كل فرد على نفسه وتركيزه قواه في داخله خيرها الأقصى، ولا يمكنها أن تنظر إلى العلاقة المثلى بين فرد وفرد على أنها علاقة سيل يفيض من القوي إلى الضعيف، بعد أن كشفت لها تجاربها الطويلة عن استحالة مثل هذا السعي الفردي، حتى في المجال المعنوي الخالص، وأثبتت لها أنَّ تعاون الأنداد لا يقف في وجه الشخصية الفردية أو يحد من قدرتها على الإطلاق.

أمَّا حين يحلل نيتشه فكرة الغيرية تحليلًا نظريًّا ليثبت أنها ترتد إلى الأنانية في آخر الأمر، ما دام الأنا من الاتساع بحيث ينطوي في ذاته على كل تمثلاته للعالم، فإنه في هذه الحالة يتخذ موقفًا مثاليًّا واضحًا، ولا خلاف بينه وبين موقفنا المعتاد، وفهمنا الشائع للغيرية، إلا في الألفاظ فحسب؛ أعني أنه ليس في فكرته هذه من جديد سوى تعبيرها اللفظي الخادع فحسب؛ ذلك لأننا في لغتنا المعتادة نستخدم كلمة الغيرية في مقابل الأنانية، وبالتالي نعترف بالغير في مقابل الأنا. أمَّا حين يصبح الأنا شاملًا للغير، فمن الطبيعي أن تختفي فكرة الغيرية. وكل ما في الأمر هو أن الأنانية في هذه الحالة لن تعود هي الفكرة التي تعنيها لغتنا المعتادة؛ إذ لن تعود شعورًا متعلقًا بالأنا منظورًا إليه من خلال تضاده مع الغير، بل تصبح منطوية في ذاتها على ما نعنيه نحن عادةً بالأنانية والغيرية معًا؛ فالخلاف كما نرى راجع إلى التلاعب اللفظي فحسب، وفي مثل هذه النظرة المثالية إلى الأنا، لا تعود فكرة الأنانية منطوية على معناها المعتاد مطلقًا، وبالتالي لا يكون في ذلك النقد لفكرة الغيرية جديد، ما دام كل ما يتضمنه هو الخروج بالألفاظ عن معناها المصطلح عليه، والتوسل إلى التجديد بالافتقار إلى التحديد.

أخلاق السادة وأخلاق العبيد

الأخلاق الشائعة إذن، كما يراها نيتشه، هي أخلاق بالية لا تصلُح في مبادئها العامة أو تفصيلاتها الخاصة لتوجيه الإنسان نحو المُثُل العليا السليمة؛ ذلك لأننا نعيش في فترة من فترات التدهور الأخلاقي — بالمعنى الخاص لهذه الكلمة عند نيتشه — يسود فيها نمط أخلاقي معيَّن، يسميه نيتشه باسم «أخلاق العبيد Sklaven-Moral»، والتقابل بين أخلاق العبيد وأخلاق السادة Herren-Moral يُناظر الأخلاق المنحلَّة والسليمة عند نيتشه، فحينما تسود المبادئ الأخلاقية الزاهدة الداعية إلى الهرب من الحياة تكون أخلاق العبيد هي السائدة، فلنتأمل إذن بمزيد من العمق دلالة هذا التقابل الأخلاقي الرئيسي، الذي يقوِّم نيتشه من خلاله أخلاقنا السائدة، بل يُقوِّم التاريخ الأخلاقي كله.
إن أخلاق السادة تتصف قبل كل شيء بأنها أخلاق للأقوياء؛ ففيها دائمًا ما يُشعرنا بالقوة والوفرة، وبالسمو الناشئ من الإحساس بالامتلاء. والقيمتان الأساسيتان في هذه الأخلاق هما الجيد والرديء gut und schlecht، والتقابل بينهما يماثل تمامًا التقابل بين «رفيع vornehm ووضيع verächtlich»٥ السمة التي تتميز بها هاتان القيمتان المتقابلتان هي أنهما لا تعبآن مطلقًا بأن يكون الفعل خيرًا بمعنى أنه «طيب»، وإنما يكون مقياس أخلاقية الفعل هنا هو أن يعبِّر عن روح القوة التي يستشعرها المرء في ذاته، وأن يلائم تلك النفوس الزاخرة التي تشعر بأنها هي مانحة القيم وخالقتها. فإذا ما صدر عنها الخير، فهو لا يصدر عن خوف أو إكراه أو ضغط، وإنما يصدر عن إحساس قوي بالوفرة والامتلاء والقوة الفياضة الباذلة.
على أن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا النحو، بحيث يسود الأقوياء وتتحكم شريعتهم، وإنما يتكتل عليهم الضعفاء، الذين يسيئهم أن يسيطر الأقوياء ويحققوا وحدهم كل ما تتسع له شخصيتهم من ممكنات؛ فينقلبوا عليهم، وسرعان ما تكون الغلبة لهم بحكم كثرتهم العددية. وهكذا تسير الدورة التاريخية للأخلاق؛ كل فترة من أخلاق السادة تعقبها فترة من أخلاق العبيد. وليس يلزم أن يتحقق هذا الانقلاب بالقوة المادية، بل قد يكون ذلك بالانحلال المعنوي فحسب. وعلى أية حال، ففي أخلاق العبيد تثور الأكثرية الضعيفة وتسعى إلى خلق مبادئ تلائم حدودها الضيقة، فتعم روح الشفقة والغيرية والمساواة، وهي الصفات التي يَعُدُّها نيتشه مظهرًا من مظاهر «ضعف» الفرد وحاجته إلى الاستناد إلى غيره، ويصبح التقابل الأخلاقي الرئيسي هو التقابل بني الخير والشر gut und böse، وهنا يظهر الخوف والإلزام والجزاء؛ فالشر هو ما يخيف، والخير هو ما نتقي به ذلك الخوف. ومعنى ذلك أن الإنسان الخيِّر في هذه الأخلاق هو ذلك الحَمَل الوديع الذي يَسْلَم منه الناس؛ ومن هنا كان تقريب اللغات، في أخلاق العبيد، بين كلمة «طيب gut» ومغفل أو أبله dumm؛ فالطيبة والغفلة هنا صفتان متقاربتان إلى أبعد حد.٦ ولما كانت أخلاق العبيد انقلابًا للكثرة العاجزة على الأقلية الرفيعة، فإنها تركز اهتمامها دائمًا على المجموع السوي الذي لا يعرف التطرف في القوة والسيطرة، وتختفي فيها تمامًا كل روح فردية؛ فالفرد هنا لا تُقاس قيمته إلا من حيث هو وسيلة من أجل الجماعة، والفردية في هذه الحالة خروج عن شريعة المجتمع. والسعي إلى تقوية الذات هو بعينه ما يوصف بأنه شر؛ لأنه لن يتم إلا على حساب الأوساط والضعفاء. وعلى هذا النحو يُعلل نيتشه سيادة الديمقراطية في عصرنا الحديث، ويصفها بقوله: «لا راعي، وقطيع واحد! كلٌّ يريد نفس الشيء، وكل يماثل الآخر، ومن أحس غير ذلك، يدخل طوعًا في زمرة المجانين.»٧
ولسنا نريد أن نسترسل مع نيتشه في وصف خصائص أخلاق السادة وأخلاق العبيد؛ فليس في هذا الجزء من فلسفته ما يحبب المرء إلى الاسترسال فيه! ولكن علينا أن نُلاحظ أن نيتشه لم يضع هذا التقابل على أنه هدف يسعى إلى تحقيقه، بل تَكوَّن لديه عن طريق استقراء؛ فهو يقول: إنَّه قد تأمل النُّظُم الأخلاقية في الأمم المختلفة، وخرج منها كلها بتلك النتيجة؛ أعني تناوب أخلاق السادة وأخلاق العبيد في السيادة.٨ ومن هنا نراه يضع للتاريخ الأخلاقي للإنسانية تقسيمًا جديدًا؛ ففي العصر اليوناني والروماني تسود أخلاق السادة، وتكون الغلبة للأقوياء، ثم تنتصر أخلاق العبيد على يد اليهودية والمسيحية، ويقهرون الأرستقراطية الرومانية، ويسود الضعفاء والمتخاذلون؛ فالتقابل الأخلاقي الرئيسي هو ذلك التقابل بين روما وَجُوديَا.٩ وبينما كانت جوديا في نظر روما تعبيرًا عن كل ما هو مضاد للطبيعة، فقد كانت روما في نظر جوديا موضوعًا للحقد والحسد الذي يتملك الضعفاء إزاء الأقوياء.١٠ وفي عصر النهضة الأوروبية تعود أخلاق السادة بالرجوع إلى المُثُل العليا اليونانية، ولكن تقهرها حركة الإصلاح الديني، وهي حركة شعبية أثارها الضعفاء والعوام. وتعود أخلاق السادة عند نبلاء القرنين السابع عشر والثامن عشر ليقهرهم العبيد مرة أخرى في عهد الثورة الفرنسية. وتظهر أخلاق السادة في الأفق على يد نابليون، ولكن سرعان ما تعود أخلاق العبيد بعده إلى الظهور. على أن كل هذه الفترات، التي تلت ظهور المسيحية، تتميز بأنها في أساسها فترات تسود أخلاق العبيد، وما ظهرت أخلاق السادة فيها إلا عرضًا، لتختفي سريعًا، تاركةً وراءها التيار الأصلي الواهن يسير في ضعفٍ وانحلال.

ولا أظننا في حاجة إلى أن ننقد تقسيم نيتشه هذا للأخلاق نقدًا مسهبًا. فهذا التقسيم إذا كان نتيجة استقراء تاريخي، فهو بلا شك تقسيم غير موفق؛ إذ إن تناوب السيادة بين الأقوياء والضعفاء لم يتم على الصورة التي رسمها نيتشه على الإطلاق؛ فالقوة تلك العصور التاريخية التي تناولها نيتشه، لم تكن قوة معنوية، بل قوة مادية؛ أعني أن الأقوياء في تلك العصور لم يكونوا هم أصحاب المشاعر الأخلاقية الرفيعة، الذين تفيض نفوسهم بالامتلاء المعنوي والفيض الحيوي، بل كانوا هم المسيطرين على زمام الأمور، عن طريق قوة السلاح أو قوة المال. ولنضرب لفكرتنا هذه مثلًا واضحًا؛ فنيتشه يَعُدُّ من فترات أخلاق السادة، العصر اليوناني، وعصر نابليون؛ فمن هم الأقوياء المسيطرون في العصر اليوناني، إن لم يكونوا هم الفئة الأرستقراطية التي تسيطر بقوة السلاح والمال، والتي وصفها لنا أفلاطون في كثير من محاوراته وحلَّل مُثُلها ومبادئها، فإذا بها بعيدة كل البعد عن ذلك الترفع المعنوي الذي كان يعنيه نيتشه؟ ومن هو القوي المسيطر في عصر نابليون، إن لم يكن ذلك الفرد المستبد الذي يبني لنفسه مجدًا شخصيًّا عن طريق الإرهاب والتعسف والتضحية بأرواح الأبرياء؟ الحق أن الاستخدام غير الدقيق لكلمة «القوة» يؤدي إلى الخلط بين القوة المعنوية والقوة المادية. وإذا كان نيتشه يقصد المعنى الأوَّل في معظم الأحيان، فلا جدال في أن الأمثلة التي اختارها تعبِّر عن المعنى الثاني دائمًا، مما يدل على سيطرة هذا الخلط على تفكيره. وإذا كنا اليوم نعيب على كبار فلاسفة اليونان، مثل أفلاطون وأرسطو، أنهم قد تغاضَوا عن مساوئ نظام الرق القائم في عصرهما، ذلك النظام الذي لم يحاول أحد منهما أن يحمل عليه، فماذا يكون موقفنا من نيتشه، الذي يمجد قوة الأقلية الأرستقراطية ويحمل على الأكثرية «الضعيفة»، التي ينبغي في رأيه أن تظل مستعبَدة، مع أنه عاش في عصر تكشف فيه للجميع مصدر قوة الأقوياء وضعف الضعفاء، وعرف فيه الكل أن أرستقراطية العصور التي تحدَّث عنها لم تكن أرستقراطية معنوية أو أخلاقية، بل كانت القوة الغاشمة فيها هي العامل الوحيد لسيطرة الأقوياء وعبودية الضعفاء؟

الحق أن نيتشه لم يكن يتعمق بحث دلالة آرائه طالما بدت له هذه الآراء ملائِمة لمزاجه الفكري الخاص. وتلك بلا شك من صفات المفكرين الرومانتكيين الذين تغلِب عاطفتهم على عقلهم، ويتحكم هواهم في تكوين آرائهم أو في تشكيلها وإعطائها صبغة واتجاهًا خاصًّا. فهو يمجِّد القوة ويحمل على الضعف، وهذا أمرٌ ليس لنا أن نعيبه عليه، ولكنه حين يهتدي إلى كلمة كهذه تلائم مزاجه الخاص، لا يجشم نفسه عناء البحث عن دلالاتها المختلفة، ومظاهرها المتباينة، بل يسعى وراءها أينما كانت، مع أنها في كثير من الأحيان تؤدي إلى نتيجة مضادة تمامًا لهدفه. وربما كانت النزعة إلى التعميم السريع والحكم العاطفي من أكبر عيوب تفكير نيتشه التي تتكشف لنا من خلال هذا المثل الذي عرضناه.

نقد الروح الأخلاقية

من خلال العرض السابق تبدَّت لنا اللاأخلاقية عند نيتشه على أنها تعبير عن ثورة على الأوضاع الأخلاقية القائمة، ومحاولة لقلب القيم الأخلاقية التي يخضع لها الناس في عصرنا؛ أي إن اللاأخلاقية هي من وحي الأخلاق، ما دام هدفها هو الكشف عن قصور المبادئ الأساسية للسلوك الإنساني في شكلها الحالي، ومحاولة إصلاح أخطاء هذه المبادئ أو استبدال غيرها بها، من أجل إنسانية أفضل.

على أننا لم نبحث بعدُ الاحتمال الآخر، وهو أن تكون اللاأخلاقية حملةً على الأخلاق بوجه عام، لا على أخلاق عصر معيَّن فحسب. وأول ما يتبادر إلى الأذهان بصدد هذا المعنى، أن الحملة على الأخلاق بوجه عام تعني العودة إلى حالة الفوضى والافتقار التام إلى التنظيم، والرجوع إلى شريعة الغاب في معاملة الناس بعضهم لبعض. ولكنا إذا كنا قد لاحظنا بصدد المعنى الأوَّل أن اللاأخلاقية تعني البعد عن نمط أخلاقي معيَّن، وأنها ليست دعوة إلى الفوضى المطلقة، فعلينا أن نكرِّر هنا ما قلناه بصدد هذا المعنى السابق، وإن يكن الدفاع في هذه الحالة أشق.

وفي وسعنا أن نقول: إنَّ الحملة على الأخلاق بوجه عام ليست موجَّهة إلى محتوى هذه الأخلاق، إذ إن نقد محتوى الأخلاق بوجه عام هو أمر ينطوي على تناقض بالنسبة إلى مفكر مثل نيتشه يؤمن بالنسبية الأخلاقية؛ أعني باستحالة وجود قاعدة يمكن أن يُقال عنها إنها تنتمي إلى الأخلاق في عمومها. فليست هناك إذن مبادئ أخلاقية عامة حتى تُنقد، وإنما هناك نُظُم أخلاقية مختلفة فحسب. فما الذي يمكن أن يرمي إليه نيتشه إذن؟ إنه إذا أراد أن ينقد الأخلاق بوجه عام، فإنه ينقدها من حيث الشكل، ومن حيث الظروف المحيطة بها والممهِّدة لها فحسب؛ أعني أنه ينقد الحالة الذهنية التي تتملك الإنسان حين يكون أخلاقيًّا؛ أي حين يُخضع سلوكه لمبادئ وقواعد عامة، وينقد النتائج المترتبة على هذا الإخضاع.

ولكنَّا لم نُجِب حتى الآن عن السؤال الأهم: ما هي الشواهد التي نستدل منها على احتمال وجود هذا المعنى للاأخلاقية عند نيتشه؟ إن معظم من كتبوا عن نيتشه قد أكَّدوا المعنى الأوَّل؛ أعني أن اللاأخلاقية هي الخروج عن نظام أخلاقي بعينه، والقلة الباقية كان ترى نيتشه مفكرًا انحلاليًّا يدعو إلى الفوضى المطلقة، وتلك ولا شك فئة لا ينبغي أن يُعتَدَّ برأيها. على أن في تفكير نيتشه من الآراء ما نعتقد أنه يؤيد القول بأنه كان في كثير من الأحيان يعني باللاأخلاقية خروجًا عن الأخلاق في عمومها، لا عن الأخلاق السائدة وحدها: «إن أحدًا لم يختبر قيمة ذلك الدواء الأشهر، المُسَمَّى بالأخلاق؛ وهذا ينطوي على وضع الأخلاق موضع الشك، حسنًا، إن هذا هو بعينه عملنا.»١١
فلنتأمل جَيِّدًا نقد نيتشه لفكرة الخير والشر، ولننظر فيما لهذا النقد من دلالة بصدد الرأي الذي نسعى إلى إثباته. إن نيتشه ينقد فكرة الخير والشر على أساس من النسبية؛ أعني أنه يؤكد أن ما نسميه نحن خيرًا قد يكون شرًّا بالنسبة إلى غيرنا، وأن أحكامنا على الظاهرة الواحدة كثيرًا ما تتغير، وإذن ففكرة الخير المطلق أو الشر المطلق فكرة واهمة لا مدلول لها. ولكن نقد نيتشه لفكرة الخير والشر لا يقف عند هذا الحد؛ فهو لا يكتفي بالهجوم على فكرة المطلق في هذا الصدد، وبإثبات نسبية هذه الأحكام الأخلاقية التقويمية، وإنما هو يريد أن يقف بمعزل عن الخير والشر Jenseits von Gut und Eöse. وتلك الفكرة الأخيرة قد احتلت عند نيتشه أهمية كبرى، وخاصة في أنضج فترات حياته؛ أعني الفترة الأخيرة. وليس أدل على ذلك من أنه ألَّف كتابًا كاملًا بهذا العنوان. فما هو مغزى هذا الموقف الجديد الذي وقفه نيتشه بمعزل عن الخير والشر؟

ليس الخير والشر لفظين لهما مضمون محدد، بل إن هذا المضمون يتباين ويختلف باختلاف النُّظُم الأخلاقية. فمن يدعو إلى الوقوف بمعزل عن الخير والشر لا يعني إذن أن نتجاوز ما نسميه نحن خيرًا أو شرًّا فحسب، لأن هذا لو كان قصده لكان معنى ذلك أن يدعو إلى ما يسميه غيرنا خيرًا أو شرًّا؛ أعني إلى الالتزام بتقويم أخلاقي آخر.

ذلك لأن الخير والشر قيمتان يمكن أن تتضمنا محتويات متباينة، وقد يكون محتواهما في أخلاق معيَّنة مضادًّا تمامًا لمحتواهما في أخلاق أخرى، ولكن هذا المحتوى سيظل مع ذلك يُسَمَّى خيرًا أو شرًّا. على أن نيتشه لا يدعو إلى تجاوز خير أو شر معيَّن، بل يستخدم تعبيرًا شاملًا، هو «بمعزل عن الخير والشر» بوجه عام. ومعنى ذلك أنه يرمي إلى الاستقلال، لا عن مضمون معيَّن لهذه القيم، بل عن مبدأ التقويم من خلالها بوجه عام.

فدعوة نيتشه إلى الوقوف بمعزل عن الخير والشر، لا بُدَّ أن تعني استقلالًا عن الأخلاق بوجه عام، لا عن أخلاق معيَّنة؛ أي إنها دعوة إلى الكف عن تقدير الأمور من خلال قيمتَي الخير والشر، أيًّا كان مضمونهما، واستبدال وسيلة أخرى لتقدير الأمور بهما؛ أمَّا هذه الوسيلة التي سوف تحل محل القيم القديمة، فهي — كما ينبغي أن نتوقع — الحياة. ولنشرح رأي نيتشه في هذا الصدد بمزيد من الإيضاح، فنضرب له مثلًا مألوفًا؛ فمن المعروف أن العلم يحاول أن يستبدل بالنظرة الكيفية إلى الأمور، نظرة أخرى كمية؛ أعني أنه بينما تهتدي حواسنا إلى كيوف في كل شيء، فتصفه بأنه أبيض، أو خفيف، أو حلو الطعم … إلخ، يحاول العلم أن يستبدل بكل هذا نظرة أخرى كمية، ويُرجع كل هذا الاختلاف في الكيف إلى الاختلاف في النِّسَب والمقادير فحسب. ولا جدال في أن نظرته هذه أدق وأبسط؛ إذ بينما ينطوي العالم، منظورًا إليه من جهة الكيف، على كثرة هائلة وتنوع عظيم، فإنه من ناحية الكم يغدو أكثر تجانسًا، وأبسط تركيبًا. فعلى أي نحو يعلل العلم تقيُّدنا بالنظرة الكيفية؟ إنه يعلل ذلك بأن هذه النظرة تُضفي على العالم من التنوع والجِدَّة ما يجعله ملائمًا لمزاجنا وتركيبنا الخاص؛ فالكيف إذن مرتبط بالمنظور الإنساني في صورته الخشنة، صورة الحواس والحياة اليومية. أمَّا إذا استُبدل بهذا المنظور آخَرُ أدق، لاختفى عالَم الكيف وحلَّ محله عالَم الكمِّ.

ومن خلال هذا المثل يمكننا أن نفهم ما يرمي إليه نيتشه من نقده للأخلاق بوجه عام، ومن استقلاله عن تقويماتها. فتأمُّل الأمور وتقديرها من خلال قيمتَي الخير والشر، هما عنده أشبه بالنظر إلى الأشياء من جهة الكيف. والحق أن القيم بوجه عام هي كيوف معنوية نُشكل بها الأشياء والأفعال ونُضفي على كلٍّ منها طابعًا خاصًّا، بحيث تتكون في نهاية الأمر صورة متنوعة ملائمة للحياة. ولكنَّا إذا نظرنا إلى الأمر بمزيد من الدقة — على نحو ما يفعل العالِم في مجاله الخاص — لوجدنا أن هذه الكيوف المعنوية ترتد كلها إلى مبدأ واحد متجانس، يختلف في الدرجة فحسب، هو الحياة. فبدلًا من أن نقوِّم الأفعال من خلال الخير والشر، كما فعلت الأخلاق «بوجه عام»، علينا أن ننظر إليها من خلال مدى تحقيقها للحياة، بحيث يحل محل الخير ذلك الفعل الذي يُعلي من الحياة ويزيدها ثراءً، ومحل الشر ذلك الفعل الذي ينكر الحياة ويزيدها هزالًا. فإذا تأمَّلنا الأمور كلها من خلال مدى تحقق الحياة فيها، فلا شك في أن نظرتنا هذه ستكون أقرب إلى النظرة الكمية في العلم، ما دامت الاختلافات هنا في الدرجة فحسب.

وفي وسعنا أن نمضي في المقارنة إلى ما هو أبعد من ذلك، فنقول إن النظرة «الأخلاقية» إلى العالم هي في رأي نيتشه — شأنها شأن النظرة الكيفية في رأي العلم — مرتبطة بالمنظور الإنساني في صورته الخشنة، ولو تعمقنا الأمور لوجدنا أن ما نسميه خيرًا وشرًّا هو في واقع الأمر تعبير عن صدى إيقاع الحياة في نفوسنا، ولتجاوزنا هذه النظرة الكيفية إلى النظرة الكمية. وفي هذه الحالة يمكننا أن نتأمل السلوك الإنساني كله على نحو أدق وأبسط، وتختفي هذه الحواجز العازلة التي كان كل نظام أخلاقي يضرب بها حوله نطاقًا من القيم؛ أعني من الكيوف الأخلاقية، فتتضح العلاقة بين كل هذه النُّظُم، وتسهُل المقارنة بينها، عن طريق ردِّها كلها إلى مبدأ واحد يبدد خداع الكيف ويقضي على تنوعه؛ أعني مبدأ تحقُّق الحياة في كلٍّ منها.

ونستطيع أن نتقدم بعد التحليل السابق خطوةً أخرى، فنقول إن المقارنة بين منهج العلم في رد الكيف إلى الكم، ومنهج نيتشه في رد الأخلاق إلى الحياة، هذه المقارنة ليست مجرد مثل يُضرب لتقريب فكرة نيتشه إلى الأذهان، بل إن نيتشه قد حاول بالفعل أن يقتدي بالمنهج العلمي في تحليله للأخلاق، فدعا إلى استبدال نظرة مبسَّطة موحَّدة بالنظرة المعقَّدة القديمة؛ أي إن نقد «الأخلاق» على أساس أنها هي تقويم الأمور من خلال الخير والشر، والدعوة إلى إحلال «الحياة» محلها، على أساس أنها فهمٌ كمِّي مبسَّط لكل أنواع السلوك، هي نظرية أراد نيتشه أن يقدِّمها بوصفها حلًّا علميًّا للمشكلة الكبرى التي واجهته؛ مشكلة الأخلاق.

وإن أكبر ما يعيبه نيتشه على الأخلاق بوجه عام — ولنستبدل بالتعبير «الأخلاق بوجه عام» كلمة «الأخلاقية Moralität» — هو أنها تنطوي على تثبيت للسلوك الإنساني على نحو يباعد بينه وبين مصادره الحيوية المباشرة. فما إن يسود تقويم خاص لما هو خير وما هو شر — أيًّا كان مضمون هذه القيم في مختلف النُّظُم والمذاهب الأخلاقية — فإن تصرفات الإنسان تخضع في هذه الحالة لنوع من الآلية، ناتج عن إطاعة القواعد السائدة وتطبيق القيم المتعارف عليها. وهكذا يصبح كل شيء هيِّنًا، ويعتمد الذهن على القاعدة العامة دون أن يجهد ذاته في التفكير، ويصبح السلوك أنماطًا متجانسة لا تنوُّع فيها، وتسود الروح المحافظة، فلا خلق ولا ابتكار ولا تجديد؛ فالأخلاقية إذن تضرب حول الفعل الإنساني نطاقًا من التنظيم الدقيق الذي يحول بينه وبين مواجهة الحياة مباشرة، بل يظل يواجه على الدوام ظِلًّا باهتًا للحياة. وعلى ذلك فهنا أيضًا يثور نيتشه على الأخلاقية، من حيث هي حالة عامة يخضع لها الناس، ويكون هدفه هو العودة إلى التحلل مما هو «عام» والدعوة إلى الخلق والابتكار الفردي، ومواجهة المرء لكل حالة على حدة، وإيثار الشعور «بالخطر» الناتج عن التجديد المستمر، على الشعور «بالأمان» الناتج عن الخضوع لقاعدة ثابتة. ويصل الحال بنيتشه في بعض الأحيان إلى أن يصف الأخلاقية بأنها «غريزة القطيع» في الفرد، وذلك لتحكُّم الشعور بالطاعة فيها، وتجانس سلوك الجميع في ظل قواعدها العامة.

وإذن فمن الممكن أن نفسر اللاأخلاقية عند نيتشه، في ضوء ما سبق، بأنها خروج عن الأخلاقية عامة، فضلًا عن التفسير السابق لها بأنها خروج عن نظام خاص في الأخلاق، وهو النظام الشائع بيننا، والموروث عن التراث الديني الأفلاطوني. والذي ينبغي أن نَحذره في كل هذا هو ألا نفهم هذا الخروج عن الأخلاق — سواء كانت أخلاقًا عامة أم خاصة — بأنه مخالفة لها، أو دعوة إلى السلوك على نحو مضاد لما تأمر به، وإنما هو استقلال عنها، وتقدير للأشياء على نحو يخالف تقديرها لها، ونقد للحالة الذهنية التي تتملك المرء حين يتبع قواعدها، أكثر مما هو نقد لمضمون هذه القواعد ذاتها.

إرادة القوة

على أننا لم نتناول إلى الآن سوى الجانب السلبي من آراء نيتشه؛ أعني الجانب الذي ينقد به الأخلاق، في عمومها وفي تفصيلاتها، فإلى أين تتجه دعوته الإيجابية إذن؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لن تكون إلا باستخلاص النتيجة المنطقية للنقد السابق؛ فنيتشه يدعونا إلى أن نستبدل بالحالة الأخلاقية شيئًا آخر، عبَّرنا عنه تعبيرًا عامًّا بكلمة تحقيق الحياة، وتلك ولا شك هي دعوته الإيجابية، ولكن ما هي وجهة هذه الدعوة؟ لكي نُجيب عن هذا السؤال، علينا أن نعرض بإيجاز لفكرتَي الإنسان الأرقى وفكرة إرادة القوة.

فعندما يصبح مدى تحقيق الحياة هو المعيار الذي يحلُّ محلَّ قيمتَي الخير والشر، فلا شك في أن غاية الإنسان لن تعود هي الوصول إلى حالة معيَّنة تحددها القواعد الأخلاقية المعمول بها، بل هي أن يكتسب مزيدًا من العلاء في الحياة على الدوام، وذلك هو ما يعنيه نيتشه بفكرة الإنسان الأرقى Übermensch، فكيف فُهمت هذه الفكرة عادة؟ لقد فُهمت على أنها مَظهر من مظاهر تأثر نيتشه بالفلسفة التطورية عند دارون، واعتقد الناس أنه يرمي إلى أن يُخرج التطور نوعًا إنسانيًّا أرقى، مثلما تطور الإنسان قبل ذلك عن القرد. ونحن لا ننكر أن نيتشه قد تأثر بالفعل بفلسفة دارون، واكتسب منها أكثر مما اعترف به؛ غير أن فكرة الإنسان الأرقى لا ينبغي أن تُفهم إلا في حدود المبدأ العام الذي أشرنا إليه من قبلُ؛ أعني الاستعاضة عن الأخلاقية بالسعي إلى النهوض بالحياة؛ فالإنسان الأرقى هو تجسُّد المثل الأخلاقي الأعلى عند نيتشه؛ فليس هو إنسانًا «طيِّبًا» يخضع للقيم الأخلاقية المعترَف بها، ويحاول تحقيق الخير وتجنب الشر، بل هو إنسان يسعى إلى مزيد من الحيوية في كل شيء. وإذا كان القائلون بالتفسير التطوري لفكرة الإنسان الأرقى عند نيتشه قد وجدوا نصوصًا تُعِينهم على رأيهم، كقوله: «إن كل كائن قد خلق من قبلُ شيئًا يعلو عليه … إنكم قد سلكتم الطريق من الدودة إلى الإنسان.» فلنذكر أن نيتشه يقول بعد ذلك مباشرةً: «ولكن ما زال فيكم من الدودة الكثير. لقد كنتم في وقتٍ ما قرودًا، وما زال الإنسان إلى اليوم قردًا أكثر من القرد.»١٢

وفي هذه العبارة الأخيرة يتضح لنا أن ما يرمي إليه نيتشه من فكرة الإنسان الأرقى يختلف عن مجرد التقدم التطوري؛ إذ إن التطور لا يقول أبدًا إن الإنسان لا يزال إلى اليوم قردًا أكثر من القرد، أو أن فيه من الدودة الكثير. ولكن ما يعنيه نيتشه بكلمة القرد، أو الحيوانية بوجه عام، هو نزعتها إلى الثبات. فهو يحمل على خضوع الحياة الحيوانية لإيقاع ثابت، وسيرها على وتيرة واحدة، ويؤكد ضمنًا أن «الأخلاقية» بما فيها من قواعد تنظيمية يخضع لها المرء آليًّا، دون أن يشعر بالمخاطرة أو الابتكار، تعني أن الإنسان لم يتقدم عن مستوى الجمود الحيواني كثيرًا، فليست فكرة الإنسان الأرقى بهذا المعنى إلا دعوة إلى التقدم الحيوي المطرد، واستبدال تجدُّد الحياة بتجانس الأخلاقية.

فإذا نظرنا إلى فكرة إرادة القوة،١٣ على أنها هي بدورها تعبير عن دعوة نيتشه إلى إحلال تحقيق الحياة محل الأخلاقية، لصادفنا من أول الأمر إشكالًا غير هيِّن؛ ذلك لأن قدرًا كبيرًا من جهد نيتشه قد وُجه إلى نقد فكرة «إرادة الحياة» عند شوبنهور، بحيث يبدو أن إرادة القوة وإرادة الحياة في طرفَي نقيض؛ ذلك لأن إرادة القوة لا تسعى إلى مجرد الحياة ولا تكتفي بها، بل تسعى إلى القوة أيضًا. على أن في وسعنا أن نحلَّ هذا الإشكال إذا قلنا إن القوة عند نيتشه لا تعني أكثر من امتلاء الحياة وتركيزها فحسب. وما كان نقده لشوبنهور راجعًا إلى وجود كلمة «الحياة» عند هذا الأخير، بل لأن شوبنهور قد نظر إلى الحياة نظرة سلبية أوَّلًا؛ أي إنه لم يتجاوز نطاق «الاكتفاء بالحياة»، لا طلب المزيد منها، ولأنه قد حمل على إرادة الحياة هذه — مع اعترافه بأنها هي المبدأ الكوني الشامل — وعدَّها مصدر الشرور جميعًا. وإذن، فإرادة القوة عند نيتشه ما هي إلا تعبير آخر عن مبدأ تحقُّق الحياة وامتلائها.

ولسنا في حاجة إلى جهد كبير حتى نستبعد بقية المعاني الباطلة التي ارتبطت بفكرة إرادة القوة هذه. وأكثر هذه المعاني الباطلة شيوعًا، ذلك المعنى الذي ذاع خلال الحرب العالمية الأولى، وخلال فترة الحكم النازي في ألمانيا، واتُّخذ وسيلة لتقوية الروح العسكرية الألمانية؛ وأعني به إعطاء مدلول سياسي لكلمة «القوة»، وتفسير إرادة القوة بأنها دعوة إلى اتخاذ الحرب وسيلة حاسمة لفض الخلافات بين البشر. وإن نيتشه ذاته ليرد على هذه التفسيرات الباطلة حين يقول عن كتاب إرادة القوة: «ودِدت لو كتبته بالفرنسية، حتى لا يبدو عاملًا مؤديًّا إلى تقوية أي طموح دولي ألماني.» وينفي عن كتابه أية دعوة إلى العدوان فيقول: «إنه كتاب للتفكير فحسب، ينتمي إلى أولئك الذين يجدون في التفكير متعة فحسب.» فتكراره لكلمة «فحسب» مرتين، يدل على شعوره بأنه كان سيجد من الشُّرَّاح من يسيئون فهم إرادة القوة، بإضفاء مدلول سياسي عليها.

والحقُّ أن مجرد إضفاء مدلول محدد على فكرة إرادة القوة، يؤدي حتمًا إلى الوقوع في تناقض داخلي؛ إذ إن إرادة شيء معيَّن تكف عن السعي حين تصل إلى هذا الشيء، كما هو الحال في القوة السياسية مثلًا، بينما تتصف الإرادة بأنها حركة دائمًا لا تعرف حدًّا تقف عنده، فإرادة القوة ينبغي أن تفهم على أنها سعي متواصل إلى مزيد من الامتلاء في الحياة فحسب. ومن أوضح الدلائل على أن إرادة القوة لا يمكن أن يكون لها عند نيتشه مدلول اجتماعي أو سياسي، إنَّه يتحدث عنها لأول مرة بوضوح في كتاب زرادشت، في فصلٍ عنوانه «العلو على الذات Von der Selbstüberwindung»١٤ فالفكرة إذن متعلقة بالذات الإنسانية، لا بالدولة أو المجتمع.

والحقُّ أن المقصود في نهاية الأمر بإرادة القوة هو أن تحل محل الأخلاقية، فحين يأبى الإنسان أن ينحصر في نطاق نظام من الأوامر والنواهي، وأن يقيد نفسه بقيم ثابتة، أيًّا كانت، فعندئذٍ سيتخذ لنفسه هدفًا آخر، هو المزيد من العلاء بحياته، والسعي إلى إثرائها وتركيزها سعيًا لا يقف عند حد، وهذا السعي هو إرادة القوة. فللفكرة بهذا المعنى من المرونة والقابلية للتشكل ما يجعلها في نظر نيتشه بديلًا صالحًا للروح الأخلاقية بوجه عام، وما يجعلها تعبيرًا عن رغبته في إحلال التوجيه الحيوي الحركي للسلوك محل التوجيه الأخلاقي السكوني له، واستبدال النظرة الكمية الموحدة إلى الأخلاق بالنظرة الكيفية المتضاربة إليها.

قيمة النقد الأخلاقي

وأخيرًا، فليس من العسير أن يفاضل المرء بين قيمة الجانب السلبي والجانب الإيجابي في تفكير نيتشه الأخلاقي. فبينما تنتمي نظرية الإنسان الأرقى أو إرادة القوة إلى نيتشه وحده، نجد أن نقده الأخلاقي قد أصبح يكوِّن جزءًا أساسيًّا من تاريخ الأخلاق؛ فالقيمة الكبرى لتفكير نيتشه في هذا الميدان إنما ترجع إلى قدرته على الهدم أكثر مما ترجع إلى قدرته على البناء.

على أن من الضروري أن نفرق بين وجهَي النقد عنده؛ أعني الوجه الذي ينقد فيه الأخلاق الشائعة، وذلك الذي ينقد فيه الأخلاقية بوجه عام. فإذا كان نيتشه قد ارتكب ما يُعَد من وجهة نظرنا أخطاء، في نقده للأخلاق الشائعة، فقد نبَّهَنا إلى هذه الأخطاء في موضعها بما فيه الكفاية، وما زالت له علينا في هذا الصدد كلمة تقدير ختامية؛ ذلك لأن المرء مهما اختلف مع نيتشه في تفصيلات نقده للأخلاق السائدة، فلا بُدَّ أن يتفق معه على أن تلك الأخلاق تستحق النقد. ولا شك في أن أسباب عدم اكتفاء الناس بهذه الأخلاق سوف تختلف باختلافهم؛ غير أن المفكرين الأمناء منهم على الأقل سوف يشعرون بنقصٍ معيَّن فيها. والحق أن العيوب التي أخذها نيتشه على أخلاق عصره هي في عمومها عيوب حقيقة. وليست مجرد انتقادات خلَقها خياله. وإذا كان المجتمع الأوروبي اليوم لم يعُد يشعر بتلك العيوب بمثل هذا الوضوح، فما ذلك إلا لأن الفترة التي انقضت بعد نيتشه، على قِصَرها، كانت فترة حافلة بالثورة والتجديد، ثبتت فيها أركان ذلك النقد الأخلاقي حتى غدَا جزءًا من تراثه الفكري. أمَّا من كان يعيش في عصر نيتشه، فلا شك أنه كان يدرك أهمية الاحتجاج الصارم الذي وجَّهه إلى مبادئ عصره الأخلاقية. فمن المؤكد أن الأخلاق الفلسفية الموروثة عن المذاهب العقلية التقليدية، كانت توغل في التجريد، وفي اقتلاع الإنسان من التربة التي أنبتته في هذا العالم، وأعانتها الأخلاق الدينية في هذا السبيل، حتى أصبحت الدعوات الأخلاقية تتنافس في خلْق إنسان تجريدي يكاد يكون غريبًا عنه تمامًا، ونحن ما زلنا نعاني من مثل هذه الصورة الغريبة التي تُصوِّر الأخلاق بها الإنسان في الشرق، بل إنها عندنا لأبعد عن حقيقتنا مما كانت عندهم. فللفيلسوف إذن كل الحق في أن ينقد تلك الأخلاق الشائعة من أساسها، ويحمل على ادِّعائها السمو بالإنسان، مع أنها في الواقع تُبعِده عن واقعه الحي، وترسم له مُثُلًا عليا خيالية، ويظل هو حائرًا بين هذه المُثُل البعيدة وبين الواقع الفعلي الذي لا يلمس لها أثرًا فيه، وتتولد من حيرته هذه شتى أنواع الانحرافات. ولو اكتفينا من نقد نيتشه للأخلاق الشائعة بحملته على نزعتها التجريدية ودعوته إلى رد اعتبار المحسوس، والاعتراف به عنصرًا أساسيًّا في الطبيعة الإنسانية؛ لو اكتفينا بذلك وحده، لكان فيه ما يبرر رفع نيتشه إلى مصاف كبار المفكرين الأخلاقيين.

أمَّا حين يوجِّه نيتشه نقده إلى الأخلاقية بوجه عام، فإن محاولته تُهدد بالوقوع في التناقض في كل لحظة من لحظاتها؛ ذلك لأن الأخلاقية بمثل هذا المعنى الشامل ليست حالة طارئة، بل هي المظهر الأساسي للنشاط التقويمي في الإنسان. والذي لا شك فيه أن نقد نيتشه للأخلاقية كان بدوره راجعًا إلى دوافع أخلاقية؛ فهو حين يحمل على ما تتضمنه الروح الأخلاقية من شعور بالطاعة واكتفاء باتِّباع القواعد المصطلح عليها دون تجديد، إنما يرمي من ذلك إلى خلق أفراد «أفضل» هم الذين يتحكم «الخطر» في حياتهم، ويخلقون قاعدة سلوكهم في كل حالة، وهؤلاء الأفراد «الأفضل» هم أرفع من غيرهم في سلم الأخلاقية، بمقياس نيتشه الخاص. فمثل هذا التقويم إلى خير وشر ليس أمرًا عارضًا، بل هو كامن في ذهن الإنسان بوجه عام، حتى في ذهن أولئك الذين ينقدونه. أمَّا في تفصيلات نقده للأخلاقية، حين يحمل على الشعور بإطاعة قواعد سلوكية عامة، فلا شك أن هذا ليس إلا مظهرًا من مظاهر تلك الفكرة التي لازمت نيتشه دائمًا؛ وأعني بها النفور من كل ما هو عام، والارتياح إلى الفردية المطلقة. وحسبنا هنا أن نلاحظ أن القاعدة لم تصبح عامة إلا لأن التجربة الإنسانية الطويلة قد أثبتت صلاحيتها، وأن اتِّباع القاعدة العامة لا يتنافى على الإطلاق مع إمكان التصرف الفردي في تطبيقاتها الخاصة. أمَّا التخلي عن كل مبدأ عام في السلوك، فقد يصلح لتنظيم حياة فرد منطوٍ على نفسه، لا يتعامل إلا مع أفكاره ولا يمارس أخلاقيته إلا عليها، أمَّا المجتمع الذي يحيا فيه الإنسان حياته الفعلية، فإنه ينهار من أساسه لو أصبح التجديد الدائم في القواعد الأخلاقية التي يسلك الأفراد بمقتضاها غاية في ذاتها.

١  «العلم المرح»، فقرة ٣٨٠.
٢  «الفجر»، فقرة ١٢٣. انظر أيضًا النص رقم «٢».
٣  المرجع نفسه، فقرة ١٣٢.
٤  أمور إنسانية، إنسانية إلى أقصى حد، الجزء الأوَّل، فقرة ٥٧.
٥  بمعزل عن الخير والشر، فقرة ٢٦٢. انظر في هذا الموضوع أيضًا النص رقم «٣».
٦  انظر أيضًا التقريب بين كلمتَي ساذج schlicht ورديء schlecht في «الفجر»، فقرة ٢٣١.
٧  هكذا تكلم زرادشت: المقدمة.
٨  انظر النص رقم «٣».
٩  «أصل نشأة الأخلاق»، الجزء الأوَّل، فقرة ١٦.
١٠  المرجع نفسه.
١١  «العلم المرح»، فقرة ٣٤.
١٢  هكذا تكلم زرادشت: الفقرة الثالثة من المقدمة.
١٣  انظر النص رقم «٤».
١٤  انظر النص رقم «٤».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤