مقدمة

إذا رجع الإنسان بمخيلته إلى بدايات الزمن الغامضة وجد أنه إذا لم تُنرِ الديانةُ الحقيقية ذهن الإنسان، ولم تفسر له العلوم الأشياء ونشأتها، فإنه قد يلاحظ مولد ما نسميه بالأساطير.

ففي ظلام الغابات الدامس، وعلى السُّهول التي تسطع عليها الشمس بنورها، وفي الكهوف التي قلَّما كانت تحمي ساكنيها من هجوم النُّمور الحادَّة الأنياب أو الدِّبَبة العملاقة، وفي البيوت الطافية بغير أمان فوق مياه البحيرات، وفي أعماق الأدغال الرطبة، وعلى سفوح الجبال، وعلى سواحل البحار، وفي كل مكان، نظر الإنسان إلى العالم الخطر الغامض، وتأمَّل في أموره.

فسأل الإنسان نفسه: «من أين تأتي الشمس؟ وما هي هذه الشمس؟» وأجاب على هذا السؤال بقوله: «الشمس قارب (أو عربة) يجلس فيه الإله المتألق المبهر، ويقوده عبر السماء.» ولما حيَّره القمر، فسر الإنسان الأول ذلك المضيء الأبيض بالتفكير فيه كقارب آخر، أو عربة أخرى تجلس فيها شقيقة إله الشمس.

وتساءل الإنسان: «ماذا يكمن وراء رعب الرعد والبرق؟» ولكي يحل غوامض هذا اللغز، وصل إلى صورة إله عظيم يجلس على عرشٍ في السماء، وصوته هو الرعد، ورسوله هو البرق. فإذا ما هاج البحر في عواصف مدمرة، فذلك سببه غضب إله الأمواج ذي الشعر الأزرق، وإذا ما أنتجت الحُبوب والأشجار بذورًا، كانت الأم الأرضُ كريمة. وإذا جاء القحط والمجاعات؛ فذلك بسبب غضبها، وعندئذٍ يجب استرضاؤها بالذبائح والصلاة.

حيَّر كثيرٌ من الأسئلة الأخرى سكانَ الأرض البدائيين؛ أصل النار، والشكل الذي جاء به مختلف أنواع الحيوان والنبات، وأسباب رفاهية بعض الناس، وشقاء البعض الآخر، وطبيعة الموت، ومسألة العالم الآخر.

ولكي يجيب قدامى الناس في تلك العصور على هذه الأسئلة، كونوا الأساطير، الأساطير التي يضمها هذا الكتاب، وكثيرًا غيرها. وظلت هذه الأساطير طوال عصور مديدة، غير مكتوبة، يتلقَّاها الابن عن أبيه شفويًّا، وينقلها الجيل إلى الجيل التالي بالكلمة المنطوقة بالفم، وفي معظم الأحوال كان يتناولها الكثير من التغييرات على يدِ من تسلموها. ويستطيع القَصَّاص الماهر أو الشاعر ذو الخيال الخصب أن يضيف إليها بعض اللمسات هنا وهناك، يتقبَّلها الناس في بيئته بصدرٍ رحب. وهكذا يحدث عادة أن مختلف روايات الأسطورة الواحدة التي تُروى في عدة أماكن مختلفة، بصورٍ يختلف كل منها عن الآخر. وأحيانًا يتناول شاعر عظيم، مثل هوميروس، أسطورةً ما، ويرويها بطريقته الخاصة، وبعد ذلك تغدو روايته تلك هي ما يتقبَّله كل فرد، وبواسطة أمثال أولئك الشعراء العظام، سرعان ما وصلتِ الأساطير أخيرًا إلى مرحلة تدوينها.

لجميع الأمم أساطيرها، ورغم إمكان تتبُّع مشابهة بين هذه الأساطير، فإنها تختلف في تفاصيلها حتى لتكون في مجملها مجموعة عجيبة من القصص. كما أن عملية خلق أساطير جديدة لم تتوقف أبدًا بين القبائل البُدائية في العالم. وهناك أساطير لم تدوَّنْ حتى الآن. فمثلًا تجد دارسي الأساطير يعيشون بين هنود أمريكا؛ كي يسمعوا من شفاه حكمائهم وشعرائهم تلك القصص التي يفسِّر بها الرجل الأحمر العالمَ حوله.

•••

لماذا ندرس الأساطير؟ ندرسها لأربعة أسباب على الأقل:

ما زالت هذه الأساطير تُدرس حتى الآن؛ لأن لها تأثيرًا عميقًا على جميع الآداب العظمى، وإنه لحقيقي أن الأساطير الإغريقية والرومانية قد أثرت تأثيرًا عميقًا، ولا سيَّما في الأدبين الإنجليزي والأمريكي. وقد أُعجب كتَّاب اللغة الإنجليزية العظام بالقصص التي حكاها القدماء. وقلما نستطيع فهم شكسبير، أو ملتون، أو كيتس، أو لويل، دون أن نُلمَّ بأساطير الأغارقة والرومان.

كذلك تلعب آلهة الأساطير وأنصاف آلهتها وأبطالها أدوارَهم أيضًا في الموسيقى. فكلمة «موسيقى» نفسها، تذكرنا بفضل الموزيات. وتروي كثير من الأساطير كيف اختُرعت أوَّليَّات الآلات الموسيقية لأول مرة. وهناك مؤلفات عديدة للعروض الموسيقية والصوتية أوحتْ بها الشخصيات القديمة التي تُروَى قصصها في هذا الكتاب.

كانت قصة أورفيوس ويوريديكي أول أوبرا كُتبت. ومنذ ذلك الحين صارتْ موضوعًا محبوبًا لدى المؤلفين الموسيقيين، وربما كان أشهر تناوُلٍ لهذه القصة هو ما ألَّفه جلوك، ويضم القطع المشهورة التي تُعزَف على آلة واحدة، والتي تُعزَف على آلتين، والتي يُغنِّيها شخص واحد، والتي يغنيها شخصان: لقد فقدت محبوبتي يوريديكي، وأورفيوس ويوريديكي. ومن القصص الأخرى التي جذبَتْ إليها الموسيقيين: قصص ميديا، وجاسون وإيفيجينيا. ومن المؤلفين الذين اقتبسوا الأفكار من علم الأساطير: ماسنيت، وأوفنياخ، وبورسيل.

ربما كان أعظم عباقرة الموسيقيين جميعًا، الذين اتخذوا موضوعاتهم من بيت الكُنوز الأسطورية هو ريتشارد واجنر، الذي استخدم أساطير وطنه في كثيرٍ من أوبراته، وخصوصًا قصة سيجفريد. ويحكي النصف الثاني من دورة الأوبرات الأربع، وهو حلقة نيبلونج، وتتضمن مغامرات ذلك البطل العظيم.

وزيادة على ذلك، فإن للأساطير تأثيرًا قويًّا على الفنون الأخرى؛ فقد فعل عظماء المصورين والنحاتين، في جميع العصور، مثلما فعل الموسيقيون؛ إذ وجدوا في هذه الأساطير القديمة إيحاءً لأجمل أعمالهم. وإن الصور التي تضمُّها صفحات هذا الكتاب لَتَشْهد بفصاحة على هذا الإيحاء.

ثم إن القصص في حد ذاتها، كثيرًا ما تكون جميلة ومسلية؛ فهناك قصص ما زالت تستهوي خيالَنا حتى اليوم؛ إذ نجد فيها نواةً للحقائق المكنية، ولكنها تُقرأ لغرض التسلية ولخططها الرائعة وشخصياتها البعيدة الصيت.

وأخيرًا هذه الأساطير حلقةُ اتصال هامَّة بالماضي. وكثيرًا ما تكون هي المصدر الوحيد لمعارفنا عن الكيفية التي نظَر بها أسلافنا الأقدمون إلى العالم حولهم، وكيف فسروا ظواهره العديدة. وكذلك، كثيرًا ما ندهش لنجد أنه بسببِ استخدام الأقدمين لفكرة معينة لتفسير لُغزٍ من ألغاز الطبيعة. وربما أنه لا تزال لدينا كلمة تحتفظ بتلك الفكرة. واللغة الإنجليزية زاخرة بالمصطلحات التي يرجع أصلُها إلى تلك الأساطير القديمة، والتي لا يمكن تفسيرها إلا بدراسة تلك الأساطير. فمثلًا الكلمة «جانيتور» الشائعة الاستعمال، ترجع إلى جانوس الإله ذي الرأسين، حارس الأبواب، الذي عَبَدَه الرومان، وكذلك كلمة «يونية» مشتقة من «جونو» ملكة الآلهة عند الرومان، بينما اشتق «يوم الخميس» من «ثور» إله الحرب لدى القبائل الجرمانية القديمة. وإننا لنمتدح الطعام بقولنا: «طعمه كالعسل» الذي كان طعام آلهة جبل أوليمبوس. كما أن فكرتنا عن العالم السفلي لَتُشبه كثيرًا فكرة هوميروس وفرجيل. هذا وإننا مقيدون بالماضي في عدة نواحٍ، ومن الخير أن ندرس الأساطير القديمة، حتى نستطيع أن نفهم عصرنا نفسه.

•••

توجد الأساطير في جميع أنواع الكتابات. فهناك أولًا المستندات القديمة التي كُتبت فيها أولًا. فإذا قرأ الإنسان هوميروس أو فرجيل أو أوفيد، استطاع أن يجد الأساطير بالصورة التي تبلورت فيها بين الأقوام الذين ألَّفوها. وبنفس هذه الطريقة نجدها في الإداس للشعوب السكندناوية، وكُتب الشرق المقدسة. وتمدنا المؤلفات المشابهة بأساطير الأمم والأجناس الأخرى.

وكثيرًا ما جمع الدارسون في عصورٍ لاحقة، قصصًا قديمة، فقد روى جوفري الذي موطنه مونموث، وهو كاتب إنجليزي من القرن الثاني عشر، روى بعض الأساطير التي حكاها الكلت عن حاكمهم الملك «آرثر» وفرسانه الذائعي الصيت. وفي العصر الحاضر يجمع الدارسون قصص الهنود الحمر والإسكيمو والقبائل الأفريقية، ورجال أدغال أستراليا.

وعلاوة على هذا، يستعمل شعراء جميع الأمم وقصَّاصُوهم الأساطير في أغراضٍ شتى، فيعيدون روايتها بلغتهم شعرًا ونثرًا، وفي القصص القصيرة وشعر الملاحم والمسرحيات. فهذا «دانتي» يستعمل «يولوسيس» البطل الإغريقي، فيروي جزءًا من قصته في جحيمه «إنرفرنو». ويعيد شكسبير صياغة حلقات معينة من الحرب الطروادية في «ترويلوس وكرسيدا». ويروي «جوتيه» قصة إيفيجينيا في تاوريس. ويروي راسين قصة أندروماخي، كما يروي وليم موريس في ملحمة مطوَّلة مغامرات جاسون؛ بحثًا عن الجزة الذهبية. وبالمثل كُتبت عدة روايات عن هيلين الطروادية، ومغامرات الملك آرثر وفرسانه.

غير أن الشعراء يجدون استعمالًا آخر للأساطير في تلميحاتهم وإشاراتهم وتشبيهاتهم، وغير ذلك من الصور البيانية والبديعية. ونذكر في هذا الكتاب مئات السطور لتوضيح هذه الحقيقة، ولكن بوسع المرء أن يبرهن على هذا؛ بالرجوع إلى مؤلفات أي شاعر إنجليزي تقريبًا، وإلى نثر بعض الكتاب أمثال تشارلز لام، وجون روسكين؛ إذ تلمع صفحات ما كتبوه بأسماء شخصيات من الأساطير الإغريقية والرومانية.

كذلك نجد في الإعلان إشارات عديدة إلى الأساطير؛ فقد تُسمَّى سيارة ما باسم ربة رومانية، وقد يوضع اسم عداء سريع على «رادياتير» سيارة. وقد يَحمل نوعٌ من مواد اللحام اسم عملاق قديم، أو يحمل قلمٌ رصاص اسمَ ربة الحب الرشيقة، أو تُسمَّى عملية معالجة إطارات السيارة باسم رب كير الحداد. ومن الممتع ملاحظة الكيفية التي يستخدم بها كُتَّاب الإعلانات تلك القصص القديمة.

أضف إلى كل ما سبق أن صياغة الأساطير ما زالت تستهوي الكتَّاب المحدثين. فهم لا يؤمنون، كما فعل قدامى مؤلفي الأساطير بالقصص التي يروونها، ولكن يسرُّهم خَلْقُها، كما يُسَرُّ بها قراؤهم أيضًا. فهذا جويل تشاندلر هاريس يضعُ الأساطير في فم شخصيته «العم ريموس». وهذا لورد دنساني يروي قصص آلهة بيجانا من تأليفه هو نفسه. وكل فرد يعرف بيتر بان الشهير للسير جيمس م. باري، ويذكرنا هذا الاسم برب الطبيعة الإغريقي بان.

بعض التعاريف

  • الأسطورة: هي رواية أعمال إلهٍ أو كائنٍ خارق ما. تقص حادثًا تاريخيًّا خياليًّا، أو تشرح عادة أو معتقدًا أو نظامًا أو ظاهرة طبيعية (وبستر). وللأجناس أو الأمم أو القبائل أو الأماكن أساطيرها الخاصة.
  • الميثولوجيا: هي نظام الأساطير كما يرويها جنسٌ معين. كما يعني هذا اللفظ أيضًا دراسة الأساطير بصفةٍ عامة، أو علم الأساطير.
  • تعدد الآلهة: هو الإيحاء بوجود عدَّة آلهة كما نجد في جميع علوم الأساطير. ويمكن تخيل هذه الآلهة في صورة بشرية (كما لدى الأغارقة والرومان)، أو في صورة حيوان وإنسان معًا (كما لدى قدماء المصريين)، أو كمخلوقات خرافية (كالتنين الصيني).

•••

بعد هذه المقدمة الأكاديمية التي فرَضها الموضوع المعالَج بين دفتي هذا الكتاب وأهميَّته القصوى، أرجو أن أكون قد وُفِّقت في تقديم بعض أساطير الأولين بكل ما تتضمنه أساطير اليونان والرومان من فكرٍ ثاقبٍ وابتكار خلَّاب نادر، ظلَّت القرون تشيد بروعته، وتتمشدق بوسامته كمصدرٍ أول لكل ما طار صيتُه بعد ذلك من أساطير أخرى في بلادٍ أخرى، كالأساطير الهندية، والصينية، والمصرية القديمة.

وإني بهذا الكتاب أود من صميم قلبي أن أكون قد أسديتُ خدمة طيبة للمكتبة الكلاسيكية، بتقديم هذا العرض السليم الدقيق البنيان والأركان للأساطير الرائعة التي طالما تمشدق بها الإغريق والرومان، والتي على أكتافها قامتْ أعظم الأعمال الأدبية التي أكسبت أصحابها عظيمَ الشهرة والمجد العريض.

وفي الختام، لا يسعني إلا أن أشكر المولى العظيم على توفيقه إيَّاي بأن ساعدني حتى أتممت هذا العمل الهام، رغم كل ما تطلَّبه من تعبٍ ومجهودٍ، فضلًا عن العبء المادي الكبير.

والله ولي التوفيق.

أمين سلامة
١ / ٦ / ٨٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤