البيت الفرنسي

انظرْ من النافذة العلوية؛ تطلَّ على أسطح البيوت المجاورة الواطئة. خلَتْ ممَّا يشغلها أو يميِّزها. يمتدُّ الفراغ من آخر الأسطح إلى مواجهة قصر العَلَم، وامتدادات بناياته إلى الخليج المترامي في الأفق. يعلوه العَلَم ذو الألوان الثلاثة والخنجر. وثمَّة بيوتٌ من الطين، تناثرتْ في مساحات الخَلاء، طُليتْ بالجصِّ والقشِّ، وسُدَّت أبوابها وثغراتها بالحصير والستائر المجدولة من قِطَع القماش الملوَّن. وفي اليمين قلعة الجلالي تطلُّ على جامع الخور. ارتفاع مئذنته؛ إلى مستوى الجبل الذي شُيِّدت فوقه قلعة الميراني. وفي الخليج سفُنٌ صغيرة متناثرة، تدور حول بدايات الجبال المتصاعِدة من قلب المياه، تعلوها بيوتٌ أشبه بالقلاع أو الحصون.

قلت: هل تطيب لك الإقامة في مسقط؟

زوى ما بين حاجبَيه: أنا لا أفعل شيئًا.

ثم في صوتٍ مُتلكِّئ: أنام وأصحو وأقرأ وآكل وأتجوَّل في الشوارع.

– أليس لك عمل؟

افترَّ فمه عن ابتسامة: أحيا مع ذكريات ميشيل.

ووشَّى صوته بتأثُّر: هذا هو عملي.

ثم وهو يضغط بآليةٍ على قنطرة نظَّارته الطبيَّة: القانون يأذن بالسفر إلى بلدٍ من العالم الثالث في فترة التجنيد … درستُ العربية، فأتيت إلى هنا.

الْتقيتُ به — للمرة الأُولى — بالقُرب من الباب الكبير، المفضي إلى داخل مسقط القديمة. بدَت المقارنة في تنقُّل نظرته بين خريطة الكتاب والمشهد أمامه. تشجَّع — ربما — بارتساماتِ الفضول في ملامحي: هل أنت عمَّاني؟

قالها بعربيةٍ تشُوبها لُكْنةٌ أجنبية. وأشار إلى القميص والبنطلون: أنت لا ترتدي اﻟ…

أكمَلَ المعنى بيدَيه، تصنعان انسدال الدِّشْدَاشَة.

قلتُ: أنا مصري.

– وأنا فرنسي.

ومدَّ يده مُصافِحًا: هذا هو يومي الثالث في مسقط.

في حوالي الثانية والعشرين. انزلقتْ قبَّعة الخوص على مؤخرة رأسه؛ فبدا شَعرُه الأصفر المهوَّش. وجهٌ مستطيل أبيض، وإن مال إلى الشُّحوب، وأنفٌ حادٌّ، مقوَّس قليلًا. تطلُّ من وراء النظَّارة الطبيَّة عينان خضراوان، عميقتان. وثمَّة ابتسامةٌ واسعة سخيَّة، تملأ الوجه كلَّه. يرتدي بنطلون جينز، وقميصًا مقلَّمًا، أهمَلَ ياقته؛ فتكرمشتْ واتَّسخت. تتدلَّى من فوق كتفَيه حقيبةٌ جِلديَّة، ويدسُّ قدمَيه في «نعال» ممَّا يرتديه العمَّانيون، ويُكثر من إعادة النظَّارة المُنزلِقة على الأنف إلى موضعها.

مضتْ خطواتنا — بتلقائيَّة — في الشوارع الضيِّقة. أعرف من الفرنسية، ما يُعينني على الفهم. الأشهُر الثلاثة التي أمضيتُها في مسقط، أتاحتْ لي الإجابة عن أسئلته. أوضحتُ ما استلفَتَ تأمُّلَه. الأسوار والباب الكبير والباب الصغير وباب المثاعيب والمقابر أعلى التلِّ الترابي والسوق الخشبي وبيت السيد نادر والسفارة الإنجليزية والطريق إلى سداب والروائح المتضوِّعة في الجوِّ.

عند انحناءه الطريق، أشار إلى بيتٍ بالقرب من زاوية السُّور، ومن الباب الكبير. يعلو الفضاءَ وراءه برجٌ مستدير، يندغم مع امتداد السُّور.

البيت بارتفاع خمسة أدوار، النوافذ الخارجية على شكل عُقود ومُقَرْنَصات، ويُحيط بالسطح درابزين خشبي، والنحت الخشبي على الأبواب والجدران. يطلُّ على حديقة متشابِكة الأشجار. وعلى اليسار، مبنًى منخفضٌ بارتفاع الطابق الأول، صُنع بابه ونوافذه من خشب الساج.

– البيت قديم. كان مسكنًا للقنصل الفرنسي في مسقط … لم يعُد يسكنه الآن سواي وثلاثةٍ من الهنود ينصرفون بعد وقت العمل.

واصطنع ابتسامة: يسمِّيه الناس البيت الفرنسي.

قاعة الدور الأرضي، كأنها بَهْو فندقٍ كبير. يتوزَّع في وسطه وأركانه، أثاثٌ حديث فرنسيُّ الطِّراز. فُرشَت الأرضُ بالسجاجيد الفاخرة. والإضاءة خافتةٌ، وثمَّة نوافذ زجاجية بامتداد الردهة المطلَّة على الجانب، تَبِين من وراء الستائر المُسدَلة. وفي نهاية القاعة بابان مفتوحان، يُفضيان إلى مكاتب وأرفُف، صُفَّت عليها مجلَّدات. وعلى الحوائط الخالية من النوافذ لوحاتٌ تآكلتْ حوافُّها، عن مسقط القديمة، يتخلَّلها أقنعةٌ ورماحٌ أفريقية وقُرون حيوان. وأوسط السقف مروحةٌ لا تعمل، وإن تعالى هدير المكيِّفات.

في الأيام الأُولى، لم يكُن يُطيق الحياة في المدينة ذات البيوت القديمة المتلاصِقة، والظُّلمة التي يفرضها ضيق الشوارع، والمصاطب أمام الدكاكين، والدشاديش، والألحفة، وهمود الحركة، وروائح الطعام والبخور والزيت الذي يضعه الهنود على أجسادهم.

– ألِفْت بعد ذلك ما في المدينة من غرابة.

ورفع عينَيه في تثاقُل: ولعلِّي أحببتُها.

تعدَّدت زياراتي له في البيت الفرنسي، وزياراته لي في فندق الكورنيش المطلِّ على سُوق السَّمك بمطرح، وتعدَّدَت لقاءاتنا في شوارع وأزقَّة مسقط القديمة. أُمضي اليوم أحمل الخرائط والكاميرا، أطيل التوقُّف أمام كلِّ ما أرى أنَّه يصلُح للتصوير. أختار الزاويةَ والكادر ودرجة الضوء والظلال. أحرص حتى على سقَّاطات الأبواب والمُقَرنَصات والنقوش والزَّخارف الخشبية، وعلى مواضع التآكل، وتساقُط الطِّلاء، وبُقَع المِلح، والصَّدأ في النوافذ الحديديَّة، بتأثير رطوبة الخليج القريب، وما ترسمه من أشكالٍ وتكوينات.

عملي أن أسجِّل مسقط القديمة في صورٍ، قبل أن تبدأ البلدوزرات والمعاوِل في إزالتها. مسقط الجديدة — خارج الأسوار — امتداداتها إلى مطار السيب. ميادين ودوارات وشوارع وجسور وبنايات عالية وأحياء موجودة في الخرائط، وإن لم يبدأ إنشاؤها في مساحات الخَلاء.

قلتُ وأنا أنفض العرَق من جبهتي: بدأ الحرُّ ولم ينتصف مارِسُ.

وتلفَّتُّ — بعفويةٍ — حولي: سأحاول أن أنتهي قبل مايو … قيل لي إنَّ الصيف شديدُ الحرارة.

وافقتُ على ملاحظته برماديَّة المكان في مدخل الباب الكبير. لم أقتصر على فلاش الكاميرا. لجأتُ إلى مساحة الضوء؛ تبرُز التكوينات والتفاصيل الصغيرة. ألِفَ إنصاتي لملاحظاته عمَّا يجب تصويره، وزاوية الالتقاط الصحيحة.

قال: أنا أبعث بصور كثيرةٍ إلى ميشيل.

أضاف للسؤال في ملامحي: إنَّها فتاتي.

لاحظ استجابتي المتابِعة: شقَّتها أمام شقتي … في ضاحيةٍ قريبة من باريس.

تناثرتْ كلماته عن ميشيل. استجابته لأسئلتي، وربما استمتاعه بها، قرَّبني من الحياة في باريس: الميادين والشوارع والأسواق والمقاهي وحركة المرور ولوحات الفنانين على كورنيش السين، وأكشاك الكتب والصحف في نواصي الطُّرق. أتخيَّل — من أحاديثه — ملامحها: القائمة الضئيلة المتناسِقة. الشَّعر الحِنطي الناعم المُنسَدِل على الكتفَين، يتطاير مع حركة الرأس السريعة. العينَين البنيتَين الواسعتَين، تظلِّلُهما رموشٌ طويلة. الغمَّازة أسفل الذقن، تُضيف إلى ملاحة الوجه. العِطر الذي تحرص عليه، يتسلَّل في داخله بالنشوة. الطبيعة القلِقة. العفويَّة في الكلام. حبُّها للسَّهر والغناء، ولأفلام آلان ديلون وجان بول بلموندو وكاترين دينيف، وتفضيلها لفرانسواز ساجان على كتَّاب الرواية الجديدة. حتى برامج التليفزيون أتمثَّلها من جلساته مع ميشيل، في غرفته المطلَّة على سُوقٍ للخُضَر.

– هل هو سوق مهمٌّ؟

– أبدًا … هو مجرَّد سوق … تطلُّ عليه شقَّة أُسرتي … في الطابق نفسه شقَّة ميشيل.

ثم وهو يفرد يدَيه، يحتضن ما لا أراه: إنَّها صديقةٌ قديمة.

لاحَظَ اتجاه نظرتي نحو التمثال الخشبي الذي توسَّط كومودينو في رُكن الحجرة. عربيٌّ يرتدي الدِّشْدَاشَة، ويضع على رأسه العِقال: إنَّه يذكِّرني بابتعادي عن فرنسا.

أُغمض عيني وهو يحدِّثني عن الحياة في باريس. تتشابك الصُّور في حكاياته، وما قرأتُه في الصُّحف التي استعرتُها منه. يختلط ما أتخيَّلُه، بما أحياه، وما أحنُّ إليه. ميدان الشانزلزيه وميدان أبي العبَّاس وقلعة الميراني وقوس النصر، ورسَّامي البورتريه على كورنيش السين، وأهازيج السحر من مئذنة سيدي علي تمراز، وصلاة الشيعة في جامع الرسول الأعظم، وسُوق نور الظَّلام، وباعة السَّمك في مطرح، وحلقة الأنفوشي، وبرج إيفل، وصيد العصاري في الميناء الشرقي، وقلعة الجلالي، وبقايا سجن الباستيل، والموالد، والأذكار، وقصر فرساي، وشارع الميدان، والبوليفار، والمسلَّة المصرية، ومونمارتر، وبيوت جريزة وثويني بن شهاب، والزَّواوي، وميدان الإتوال، وقلعة قايتباي، وكنسية نوتردام، ومتحف اللوفر، والمتحف الروماني في طريق جمال عبد الناصر، والمشربيات، والشُّرفات الحجرية ذات النقوش والثقوب، بدلًا من النوافذ في واجهات البيوت الحديثة.

تبيَّنت أنَّه يكتفي بجلساتنا في البيت الفرنسي؛ لِمَ لا يزورني في فندق الكورنيش، ولا ألتقي به داخل أسوار مسقط. لم يعُد أونوريه الذي أعرفه. بدا مهمومًا ومتخاذِلًا. لاك في فمه كلماتٍ، ينطقها. غير قادر على الكلام، أو أنَّه لا يريده. أَغمَضَ عينَيه؛ ربما ليفرض التركيز، ثم فتَحَهما وسرح في الفضاء. ظلَّ صامتًا؛ فاستحثثتُه بنظرةٍ مشجِّعة.

وشَتْ لهجته بمللٍ: توالي الأيام يتشابه … لا توقُّع، ولا تنبُّؤ.

واستطرَدَ في صوتٍ مُختنِق، كمَن يهمُّ بالبكاء: كما ترى … لا أجِدُ شيئًا أفعله.

– والقراءة … أليست فعلًا؟

– تنقلني إلى فرنسا … وإلى ميشيل.

– توحَّدت لديك؟

وهو يخبط فخذه بكفِّه: ربما!

عاودت التأكُّد من وقفته — بعد طول غياب — في بَهْو الفندق. تماوَجَ الضوء والظلُّ على ملامحه، في تلفُّته المرتبِك أولَ الطُّرقة المُفضية إلى المطعم. وشتْ ارتجافةُ صوته بما يُعانيه.

– أريد أن أعود إلى باريس.

لاحظتُ أنه يتعجَّل انتهاء الجرسون من وضْعِ الصينية فوق الترابيزة الرخام، عليها إبريقُ ومياهٌ ساخنة وفنجانان وأكياسُ شايٍ وسُكَّريَّة.

– ما يمنعك؟

– أقضي فترةً مثل التجنيد.

واختلج أنفه: وجودي هنا تكليف.

ثم وهو يَزفِر: هذا جزاء تعلُّمي العربية.

ميشيل سلسلةٌ لا نهاية لحلقاتها. حكايةٌ تتولَّد منها حكايات. يُعيد تأمُّل الأسطر على ورقةٍ صغيرة، أشبهَ بورقةِ كرَّاسة.

– هل فقَدَت الأملَ من عودتي؛ لِمَ تخاطبني في كل رسائلها بهذه الكلمات: أنت تحبُّ فينبغي أن تفهم ظروف مَن تحبُّ، مفروضٌ أنَّ حبَّه سكَنَ قلبك. لو أنَّها … وماذا بعد؟

•••

كان الوقت ظُهرًا. وَشَى الصمتُ بخلوِّ البناية. أُسدلَت الستائرُ على النوافذ الزجاجية؛ فلَمْ يعُد إلا الضوء الخافت من غرفة المكتبة. أعاد الصدى ندائي باسمه. صعدتُ الدَّرج الخشبيَّ ناحيةَ اليسار أُغالِبُ الظَّلام بخطواتٍ حذِرة. مسحتُ الحجرات المُوصَدة والمفتوحة، يسودها السكون والرَّمادية الشفيفة. وثمَّة تيارُ هواءٍ يصطدم بساقَيَّ من موضعٍ لا أتبيَّنه. كتمتُ الصَّرخة — بتلقائية — لرؤيته وهو يضغط — بقبضتَيه — على تمثالِ العربيِّ ذي الدِّشْدَاشَة والعِقال.

طالتْ وقفتي. لم أتصوَّر أنَّه يراني؛ لكنَّه توقَّف عمَّا يفعله. أخلَى يدَيه من التمثال. أدركتُ أنَّه أحسَّ بوجودي، لمَّا أدار رأسه ناحيتي. اكتستْ ملامحه الهادئة شراسةً غريبة. انزلقَت النظَّارة الطبيَّة — بالانفعال — على أنفه. دفَعَها بإصبعه، ورماني بنظرةٍ غامضة، لم أقوَ على مواجهتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤