ونس

تشاغَلَ بتأمُّل خطواتها في الردهة المستطيلة. وضَعَت الفازة الخزفيَّة على ترابيزةٍ صغيرة في رُكن الردهة. تقلَّصت ملامحها بما يعكس التخوُّف من أن تصطدم الأقدام بها. مسحَت المكان بعينَين متنبِّهتَين. أمسَكَت الفازة. ظلَّت تُفاضِل بين قِطَع الأثاث، ثم وضعتْها فوق البوفيه ذي الضلفتَين الزُّجاجيتَين. صفَّت في داخله كُئوسًا وأكوابًا وتماثيلَ صغيرة. تبيَّنتْ أنَّ الفازة أخفتْ صورةً لهما عندما رافقتْه إلى البعثة الدراسية. وضعَت الصورة في الأمام.

أشار إلى شرخٍ متعرِّج في زاوية الصالة: لم أرَ هذا الشرخ من قبل!

– ربما لم تلحَظه … لكنَّه موجودٌ من فترة.

قالت وهي تنظُر إلى أسفلِ حامل التليفون: هل اتصلتَ بأحد؟

رفع عينَيه في تثاقُل: ماذا؟

– هل استعملتَ التليفون؟

وهو يهزُّ رأسه: دقائق … أبلغتُ المكتب بإنهاء أوراق مهمَّة.

– ألَمْ نتَّفق على الابتعاد عن كلِّ شيء؟

قال في لهجةٍ تبريرية: إنَّها أوراقٌ عاجلة.

هزَّت إصبعها: جِئنا إلى العجمي في الشتاء لنحيا بمُفردنا.

وشى صوتُه بانفعال: لم أتصوَّر كلَّ هذا الصَّمت. نحن في مقبرةٍ مُؤثَّثة!

راقتْ له الفكرة، يقضيان أسبوعًا في الشاليه القريب من شاطئ البحر. يخلوان إلى نفسَيهما. لا أصدقاء، ولا إذاعة، ولا تليفزيون، ولا صُحف. حتى ما يحتاجانه من طعام؛ يأخُذانه قبل أن يُغلِقا عليهما بابَ الشاليه. وجَدَ في اقتراحها ما يُعينه على مراجعةِ الأمور والتأمُّل، وتبيُّن الصوابِ والخطأ.

مع أنه قفَزَ — بتلقائية — فوق السُّلَّمة المكسورة، وهو يصعد إلى الباب الخارجي؛ فإنه أحسَّ بالغربة في تأمُّله للشاليه. غِلالات شفيفة، سحبتْ وراءها الصُّور في ذاكرته. لم يألف الشاليه في البداية؛ كان قد مضى عامان على زيارتهما الأخيرة له. قدِمَا إليه — مثل كلِّ مرَّة — بمفردهما. فاجأهما انقطاعُ حرارة التليفون؛ عاد بالسيارة إلى أول الحيِّ، صحِبَ عاملًا أعاد الحرارة … انشغل — في اللحظة التالية — بمخاطبةِ أهلٍ وأصدقاءَ في الإسكندرية، وخارج المدينة.

كان البحر في امتدادِ الأفق، يجلس في الفراندة المجاوِرة لباب المَدخَل. يقرأ ويتناول الطعام، دون أن يُعاني نظراتِ فضول. تناثرَت الشاليهات — فيما بعد — وموادُّ البِناء والمخلَّفات في المساحات الخالية. تخلَّلتها الشوارع المُتقاطِعة. أهمَلَ — موضعه القديم، واكتفى بالجلوس في داخل الشاليه. يترامى — من النافذة المفتوحة — هديرُ الأمواج، واختلاطُ رائحة اليُود والمِلح، وأصداء أجهزة الراديو والتلفزيون والمناقشات من الشاليهات القريبة، واحتكاكات الأقدام في نِثار الحصى، ونداءات الباعة في أشهُر الصيف.

مضت إلى المطبخ الذي تطلُّ نافذته على ساحةٍ أحاط بها سُور. عادتْ بإبرةٍ وخيطٍ. جلستْ على رُكبتَيها بجوار الكنبة. حاولتْ أن ترتُق التمزُّق في جانب المَسنَد.

تأمَّلها بجانبِ عينه. قميصُ النوم الواسع من القطن الأبيض، بأزراره المقفولة حتى الرقبة؛ لم يُخفِ القامة الأقرب إلى الهُزال، وتباينَت التجاعيد في الجبهة وحول العينَين والفم، مع الشَّعر المصبوغ بالسَّواد. وثمَّة زغبٌ خفيف فوق شفتها العليا. وتقاطُعات من العروق الزرقاء، تبدو تحت البشرة، وإن ظلَّت ابتسامتها السخيَّة تملأ وجهها كلَّه.

– هل تحبِّينني؟

توقفتْ عن الرتْق: ماذا قلتَ؟

– هل تحبِّينني؟

أسندتْ جبهتها إلى ظاهر كفِّها: ياه … تسألني بعد هذا العمر؟

وهو يغتصب ابتسامةً: أعترف أنِّي أتعبتُكِ أحيانًا.

أدار المفتاح في الباب. فاجأتْه وقفتُها إلى جوار البوفيه، بيدها تمثالٌ صغير من الرخام، انعكستْ رؤيتها له. هزات متوالية للتمثال، ثم أعادته إلى موضعه فوق البوفيه.

قالت في صوتٍ ممزَّق: لو أنك تأخرتَ لحظةً؛ كنتُ سأحطمه.

تكلَّمتْ عن الوقت الذي يمضي بلا معنى، والوحدة. وتكلَّم عن ظروف العمل، والقارب ذي المِجْدافين، والمستقبل.

اختلج أنفه: حلبة السِّباق كانت بلا أفق.

رفعَت الصورة أمام عينَيها، بحيث يراها في جلسته وراءها.

– لم يكُن قد حصَلَ على الإعدادية.

تلاحقَت، واختلطت، في ذهنه عشرات الصور: تشبُّثه بساقَيه وهو يصرخ بعد أن تركه في بداية يوم الدراسة الأول، تحطُّم مصباح الصالة بقذفه الكُرةَ، تلويحة يدِه وهو يمضي إلى الصالة الداخلية بالمطار.

– أكبر أولاده الآن في هذه السِّن.

التمعت عيناه بوميض التذكُّر: كنتُ أعيب عليه قلةَ رسائله؛ فانقطعتْ.

– الحياة في أمريكا تختلف عن الحياة هنا … مَن لا يعمل يموت!

قبل أن يميل إلى داخل الدائرة الجمركية، أشار إليه بأصابعَ ثلاثة؛ ففهِمَ المعنى. طالَبَه برسالةٍ كلَّ أسبوع؛ فوعَدَه بثلاثة. بادَلَه تقبيلَ أطراف الأصابع، وقذْفَ القُبْلةِ في الهواء. توالَت الرسائل منتظِمَةً كما وعَدَه، ثم تباعدتْ، ثم تباعدتْ، حتى اختفتْ تمامًا.

– لماذا ابتسمتَ؟

– وهل ينبغي أن أحزن؟

– أبدًا؛ ابتسمتَ فجأةً.

ثم في لهجةٍ حانية: هل تذكرتَ شيئًا؟

قذفتْه الدرَّاجة في اصطدامها بسُور الحديقة؛ صرخَت الأمُّ من الخوف. لم يقوَ على كتْمِ ضحكته لرؤية الصغير ذي السنوات الستِّ. لا يَبين من الماء المختلط بالطين سوى الْتماع عينَيه وبياضِ أسنانه.

تنهَّدَ: شقاوة طفولته، لم تكُن تنبئ بالتعقُّل الذي صار عليه.

تناوَلَ المجلة المنزوعة الغلاف — بعفويَّة — من الحامل الخشبيِّ بين مَقعدَين. مسَحَ العناوين بنظرةٍ غير متأمِّلة، ثم دسَّ المجلة في الحامل.

شعرتْ أنها تحمل عاطفةً كبيرة نحو هذا الرجل الجالس أمامها، ونظراته شاردةٌ فيما لا تتبيَّنه.

بدا متمهِّلًا بطيئًا، في كلماته وإيماءاته، ويشكو من النهَجَان كلما بذَلَ مجهودًا. فقدَت العينان بريقهما، وأحاطت بهما هالاتٌ سوداء. أطلَّت من فتحتَى الأنف شعيراتٌ بيضاء، وإذا أطبق شفتَيه تهدَّلَ خداه، وإن خلا الوجه من التجاعيد والنُّدوب.

تأكدتْ من تثبيت السلسلة بين ساقَي السُّلَّم الخشبيِّ. اهتزتْ في وقفتها، ثم تماسكتْ بإسناد يدٍ إلى إفريز الشُّرفة، وإمساك اليد الأخرى بالمِنفضة، تحاول أن تُزيل التُّراب عن الستارة المُسدَلة. مالتْ برأسها إلى الوراء، وأطالَت التأمُّل. لاحظَت الْتصاق الأتربة في ثنايا الستارة. نزعت المشابِكَ من أعلى الشُّرفة، ونزلتْ بالستارة.

أعلَنَ حُزنه لموت شجرة الخوخ في الحديقة: أوصيتُ حارس الشاليه المواجِه لنا أن يعتني بريِّها.

– لم أكُن أنتظر أن تُثمر … حزني لأنها ماتت تمامًا.

قام من جلسته: هل تُريدين السَّير؟

– أين؟

– خارجَ الشاليه.

– لا أحد على الشاطئ.

اغتصب ابتسامة: لن يخطفنا أحد … والحرَّاس أكثرُ من الشاليهات.

فتَحَت الباب. لامستْ بشرتها هبَّةُ هواء باردة؛ أغلقَت الباب، وعادت إلى حجرة النَّوم. وضعتْ على رأسها وكتفَيها شالًا من الصُّوف، وخرجت.

اختفى البحر في ظُلمةٍ داكنة، وعمَّق السكون صوتُ توالي الموج على الشاطئ، واصطدامُ أقدامهما باختلاط الرمل والحصى.

لاحَظَ أنهما يستعيدان ذكرياتٍ تحدَّثا عنها في الشاليه؛ فسكتَ. أسلَمَ كلٌّ منهما نفسه إلى عوالم بعيدة وقريبة، وجُزُر يحيا فيها بمفرده، ومع آخرين.

كان السَّير قد استغرقهما تمامًا حين تناهتْ موسيقى خافتة من موضعٍ قريب. أحاط أذنه بيده يُصيخ السمع، ودارت حول نفسها تتبيَّن مصدرَ الصوت.

– الضوء يأتي من هناك.

أسرعتْ خطواتهما — بتلقائية — ناحيةَ الشاليه. الضوء الخافت المتسرِّب من أسفل الباب المغلَق، أتاح لهما مجاوزةَ قِطَع الأخشاب المُتناثِرة فوق الرمال. تناهت الموسيقى من الداخل ممتزجةً بكلماتٍ غير واضحة ونداءاتٍ وضحكات.

تلفَّتَ حوله وهو يُقاوِم لُهاثَ أنفاسه.

– نحن وسكَّان هذا الشاليه وحدنا في المنطقة.

همست: هل نَطرُق الباب؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤