موت قارع الأجراس

ترامى دويُّ الانفجار من ناحية الباب الرئيسي لمجمع الكنيسة. خمَّن أن الاقتحام بدأ. اختلط هديرُ جنازير الدبابات وطلقات الرصاص والصرخات والتحذيرات من داخل الكنيسة. امتدَّت يداه — بتلقائية — في وقفته داخل الطابق الأول من البُرج. تقلَّصت على الحبال، تهزُّها. علا قرعُ الأجراس. توالت حركةُ يدَيه بآليةٍ سريعة، يريد أن يُطلق الصوت إلى آخر مداه، أبعد حتى من آفاق البحر.

كان قد ترك — بالحدس — وقفته على سطح كنيسة القيامة. اعتاد التنقُّل بين القيامة والمغارة والمَهْد، وكلِّ الأماكن التي أضاءت بالكلمات السماوية. حتى الصوامع والمَفَاوِز التي نحتتْ في باطن الصخر، اعتاد التردُّد عليها، يُسلم نَفْسَه إلى التراتيل والأناشيد الكورسية القديمة والترانيم السحرية، الغائبة المَصدر.

لم يكُن هذا هو الموعد الذي ألِفَ فيه الانطلاق إلى بيت لحم، بعيدًا عن الوقفة المتأمِّلة للقدس؛ المسجد الأقصى، وقبَّة الصَّخرة، وبركة السلطان، وقلعة النبي داود، والتلال السبعة، والبنايات العالية، والبنايات الشبيهة بالقلاع، والأسواق، والميادين، والطرق المتعرِّجة، والمتقاطعة، وأشجار الصنوبر، والأشجار المتداخلة كغابات صغيرة، والأفق الذي يبدأ فيه شاطئ البحر، الْتقاء الأرض بامتدادات المياه. شيء كالرائحة، يشعر به، يتصوَّره، وإن لم يرَه.

تحرَّك — بقوةٍ لم يعهدها في نفسه — تُظِلُّه زُرقة السماء. وفي أسفل، تترامى أشجار الكرمة والزيتون، والتِّلال المدوَّرة من كلِّ الجهات، وحقول القمح والشعير.

راعه — أسفلَ الجبل المطلِّ على مجمع الكنيسة — دباباتٌ في نواصي الطُّرق، وجنودٌ يقتحمون أبوابَ البيوت والمحالَّ المُغلَقة، وفُوهاتُ بنادقَ تطلُّ من النوافذ، وتناثرُ جثثٍ في مواضعَ متباعدة.

أخطأ — باللهفة — موضعَ نزوله. كاد يسقط على قمَّة المِئذنَة في الجامع القريب. فطِنَ إلى ما تحته دفَعَ نفسه ناحيةَ مجمع الكنيسة. نزل على السطح المُلاصِق لبرج الكنيسة ذي الطوابق الثلاثة.

تناهتْ — من أسفل — أصواتٌ تختلف عن الألحان التي اعتاد تصاعُدَها من الأرغن والصنوج وأداء المرتِّلين. يتردَّد صداها في الأسقف العالية والجدران المزدانة بالنقوش ولوحات القِدِّيسين.

اقترب من السُّور الحَجَري. أطلَّ على العشرات من الرِّجال والنساء والأطفال، يتدافعون نحو الباب الحديدي لساحة الكنيسة. يَطرُقونه، ويتصايحون.

أوْمَأ الأب لوقا بما يعني الإذن لهم بالدخول.

هزَّ رأسه للهمسة المحذِّرة: من بينهم رجالٌ مسلَّحون.

وقال في لهجةٍ باترة: مَن يحملْ سلاحًا يَترُكْه قبل أن تأذنوا له بالدخول.

نزل إلى داخل الكنيسة. في مواجهة الباب الرئيسي؛ صورةٌ من الفسيفساء تمثِّل سجودَ رجالٍ يرتدون زيَّ المجوس، يَسجُدون تحت قدمي السيد المسيح.

اندسَّ وسطَ المجموعات المتناثِرة في القاعات والحجرات المفتوحة والردهات الطويلة المتقاطعة. امتلأت الكنيسة بما لم يكُن يتصوَّره. الطوائفُ الثلاث: الفرنسيسكان، الروم الأرثوذكس، الأرمن الأرثوذكس، هي — وحدها — تتردد على الكنيسة. يلتقَّى الزُّوار برهبانِ الطوائف الثلاث. يُؤدُّون القدَّاس، ويجلسون للاعتراف، ويطلبون النصيحة والبركة. ما يُشبه الذهول، وربما الخوف، كسا الملامح بهدوءِ متوتِّر. لم يكُن يتصوَّر مثل هذا العدد في مجمع الكنيسة، يدخل إليها فلا يغادرها. يؤدِّي الناس قدَّاسَ الأحد، وينصرفون. يستقرُّون على الأرائك الخشبية، يخفضون الرُّءُوس، ويشبكون الأيدي على الصدور. والشمامسة الصِّغار يرتِّلون الترانيم، ويهزُّون مجامر البخور. تُمازِج القراءة من الكتاب المقدَّس والأرغن والصنوج والأضواء والظلال والزجاج الملوَّن. والشموع فوق الشمعدانات وفي الأيدي والصلوات والاعتراف. وتضوُّع البخور ذي الرائحة الطيِّبة. أكثر من ثلاثمائة امتلأت بهم — بلا توقُّع — قاعات الكنيسة وحجراتها. حتى الردهات والمطابخ تناثَرَ فيها مَن لا يعرفهم، ولا الْتقى بهم في الكنيسة من قبل. اعتاد سِحَن البَشَر في الكنائس والأديرة. وفي المدينة؛ كنيسة القديسة كاترينا وكنيسة مغارة الحليب، ودير القديس أوغسطين، ودير القديس جيروم، ودير مار سابا، ودير القديس ثيوذوسيوس، والأسواق والميادين والشوارع الضيقة والبيوت ذات الطوابق القليلة والنوافذ الخشبية المفتوحة. وكان يتعرَّف إلى الوجوه التي تتطلَّع وتتأمَّل في لحظاتِ الزيارة الأُولى.

نزل في الدَّرَج إلى قاعةٍ صغيرة، تتوسط أربعَ حجراتٍ مغلقة. ثلاثة رجال، أخفت رءوسهم المحنيَّة ما إذا كان المستلقي على الأرض مصابًا أم ميِّتًا.

وقَفَ الأب لوقا في بداية الدرج، بقامته الفارعة، ولباسه الكهَنُوتي، وابتسامته المُشفِقة: هل هو متعب؟

اتَّجه أحد الرجال الثلاثة ناحيتَه بتعبيراتٍ متألِّمة: أصابتْه رصاصةٌ في ساقه.

قال الأب: لفُّوها بضمادةٍ؛ حتى تتحسَّن الظروف.

ثم وهو يشير إلى أعلى الدَّرَج: الصيدلية في داخلِ الحمامات.

دخَلَ من المدخل الصغير، الضيِّق. يضطر الداخل إلى الانحناء وهو يعبُر الإيوانَ البسيطَ إلى صدرِ الكنيسة. أربعة صفوف من الأعمدة الحجرية الوردية اللون. كلُّ صفٍّ أحد عشر عمودًا، والتاج كورنثيُّ النُّقوش، له صليبٌ بارز، وفوق صفَّي الأعمدة الجانبية جِداران خشبيَّان، تعلو كلَّ جدار عشرُ نوافذ، تُضيء الداخل بمساحات من الضوء. الأرض مفروشةٌ بالموزاييك. وثمَّة على الجدران صورٌ لميلاد المسيح، وليوحنا المعمدان يعمد المسيحَ في نهر الأردن، وللعشاء الأخير.

كانت الملامح والتصرُّفات والكلمات المرتبكة؛ تُنطق بالخوف والتوقُّع. السيدة التي تحمل الطفل — وحدها — أظهرتْ ما في نفسها: هل يُنقذوننا؟

وجهها خلا من التزويق. وعيناها الواسعتان العسليتان، لا تكادان تستقرَّان على شيء. ترتدي عباءةً من الكتان الأسود، طُرِّزت حواشيها بالدانتيلا البيضاء.

قال الأب لوقا في ابتسامته المُشفِقة: لا تحاولوا التعرُّف على ما يجري خارجَ الكنيسة، ولو من النوافذ.

– إنهم يُطلقون الرَّصاص على كلِّ شيءٍ يتحرَّك.

نزع الرجل الكوفيَّة من حول رأسه: هل نظلُّ داخل الكنيسة؟

ثم وهو يضَعُ الكوفيَّة على ظَهْر الكرسيِّ: ماذا نفعل إذا نَفدَ الطعام؟

الْتفتَ الأب إلى الناحية المُقابِلة، فلا يرى الرجل تعبيراتِ عينَيه: لا تَسْتَبِق الظروف.

قالت السيدة: لن يتركها أهلُنا.

واتَّجهتْ بنظرةِ الخوف إلى الرجال الواقفين: لن يتركونا.

قال الشابُّ ذو الندبةِ الطولية في وجهه، وهو يتَّجه بنظرةٍ شاردة إلى الصليب الهائل في مواجهةِ قاعة الصلوات: لو أنَّهم حاولوا الاقتحام؛ فلن يجِدُوا أحياءً.

نطق الفزعُ في عينَي السيدة: الاقتحام مستحيل … يقتحمون بيتَ الله؟

ثم في صوتٍ يُخالطه نشيج: هل يُنقذوننا؟

قال الشابُّ: مَن تقصدين؟

وهي تزيد من احتضانها للطفل: أهلنا … هل يُنقذوننا؟

علا صُراخ الطفل. تلفَّتَت السيدة في حيرة. أدرك الرجال أنَّها تريد أن تُرضعه؛ مضوا إلى خارج الحُجرة، وأغلقوا الباب.

نزل الدرجات الرُّخامية إلى مغارة المهد، أُضيئت العتمة بقناديلَ كثيرة. معظم الجدران مكسوَّة بالرخام، والسقف من الصخور الطبيعية. وثمَّة الموضع الذي ولد فيه المسيح، يُقابله تجويفٌ في الصَّخر، ينزل ثلاث درجات. اعتاد الاسترخاءَ في مدخل المغارة. يهَبُ سمعَه لأصواتِ السماء، والأنغام العلويَّة، والكلمات المضيئة، وتضوُّع الأسرار. يتخيَّل قُدومَ السيدة العذراء ويوسف النجَّار إلى بيت لحم. جاءها المخاض؛ فنسيا ما قَدِما من أجله: تسجيل اسمَيهما في الإحصاء الذي أمَرَ به القيصرُ أغسطس. لجآ إلى المغارة القريبة؛ لتلِدَ مَن بذَلَ نَفْسه فِديةً عن الآخرين.

مضى في الطريق نفسه الذي يشهد احتفالاتِ عيد الميلاد. تتعالى من كنيسةِ القِديسة كاترينا أصواتُ الترانيم والتراتيل. الدورة الثابتة من الكنيسة إلى المغارة، وتعود ثانية.

تناهتْ أصواتٌ من جُرن العمودية. الأرض من الرُّخام الأبيض، والسَّقف يستند إلى ستَّة أعمدةٍ ضخمة، والأضلاع مثمَّنةٌ، منحوتةٌ من الحَجَر الوردي.

انتزع العجوز ضحكةً: كنتُ أصفُّ البضاعة على الأرفُف عندما وصَلَ الجنود.

في حوالي الخامسة والستين. يميِّزه حاجبان كثيفان متصلان من أعلى الأنف، ولحيةٌ طويلة مشعثة، وعيناه ملتمعتان كأنَّه يهمُّ بالبكاء.

أتأمَّل وقْع كلماته في أعين المتناثرين على الكراسي في قاعة الطعام الصغيرة. مائدة خشبية حولها اثنا عشر كرسيًّا. على الجدار الأيمن نافذة مغلقة من الزجاج الملوَّن، يقابلها صورةٌ كبيرة للعذراء تحمل وليدها، ويتوسط الجدار — قبالة الباب — صليبٌ هائل من الخشب.

أضاف الرجل، ربما ليبدِّد الصمت: دكَّانتي في أول الطريق إلى بيت ساحور.

واستعاد ضحكته الشاحبة: هذه المرَّة فقط أبيع لَكُم الكلام.

ظلَّت الأفواه على صمتها، والأعيُن في شرودها الحزين. لا محاولة للمشاركة. ضرَبَ جبهتَه بباطن كفِّه كالمتذكِّر: ماذا يفعل الأولاد؟

وخالَطَ صوته نشيجٌ: سيفاجَئُون بغيابي عن الدكَّان المفتوح.

لاحَظَ قدرته على التنقُّل من الضحك إلى البكاء. تدمع عيناه إذا ضحك، وتدمعان إذا غلبه البكاء. اختلط الأمر عليه. لم يُحسن التخمينَ إن كان العجوزُ يضحك أو يبكي.

قال الرجل ذو البشرة السمراء، المُصطبِغة بلونٍ نُحاسي: لن يُتيح لهم الجنود أن يتركوا البيت.

غمغَمَ بدعواتٍ للشابِّ الذي هزمه الصَّرع. لم يبلغ العشرين. أنفه الصغير لا يتَّسق مع اتساع عينَيه، وغِلظة شفتَيه، واستدارة وجهه. سبَقَه إليه القريبون، أحاطوا بالشابِّ وهو يتلوَّى على الأرض. زاغتْ عيناه، وغلَبَ البياض عليهما، واعوجَّ فمه. ثم انتفض. تعاقبت الرجفات، وصرخ. تخشَّب، وتشنَّج، وطفح اللُّعاب كالرَّغاوَى من جانبَي فمه. بدا المُلتفُّون حوله — ثلاثة رجال وسيدة — فاقدي الحيلة. مدَّ يده دون أن يفطِنوا. مسَّدَ رأسَ الشابِّ؛ فهدأ.

قال الأب لوقا: هل هو الخوف؟

هزَّ الرجل البدين رأسه دلالةَ النفي: لا صلة لمرضه بما يحدُث الآن!

قال خادم الكنيسة: هل يمكن نقله إلى المستشفى؟

وخنق الانفعال صوته: مستشفى الحسين قريب.

قال الأب جورج: الجنود على الأبواب … لن يأذنوا لأحدٍ بالدخول، وإن طالبوا بخروج الجميع.

لاحظ تقارُب الرءوس لشبَّان ثلاثة، يرتدون ما يشبه الأفرول. همس أوسطُهم وهو يُشير إلى جهةٍ غير محدَّدة: هل نأخذ السلاح ثانية؟

قال الشابُّ ذو النَّظَّارة الطبيَّة: لماذا؟

– ربما حاول الجنود دخول الكنيسة.

– لن يحاولوا … هذه كنيسة.

قال الشابُّ ذو الشَّعر المهوش: اشترط الرُّهبان تسليم الأسلحة … علينا أن نحترم إرادتهم.

قال الشابُّ في الوسط: فكرتُ أن نُدافع عن الكنيسة.

قال الشابُّ ذو النَّظَّارة الطبيَّة: دع الآباء يتصرَّفون!

تنبَّه على دوي الانفجار. تبعه أصواتُ دبابات. تنقَّل بين جوانب السطح، يحدِّق في تفرُّعات الشوارع المُفضية إلى الكنيسة. عَمَّق اقترابُها من الصَّمت السادر. البيوت والدكاكين والنوافذ أغلقتْ أبوابها. حتى الأسطح خلَت من الحياة، وخلَت المنطقة حول الكنيسة من المارَّة والجالسين، والمُطلِّين من النوافذ، والواقفين خلْفَ الأبواب. اجتذبهم الخوف من القنَّاصة المتناثرين فوق الأسطح، ووراء أَخِصَّة النوافذ المغلقة.

اختلط الصياح والصراخ وهدير الدبابات وصوت الرصاص. انسلَّ — بجسده — إلى برج الكنيسة. امتدَّت يده — في وقفته — إلى الحبال المتصلة بالأجراس أعلى البرج. توالى هزُّه للحبال. عَلَت الأجراس، واتَّسع صداها في فضاءاتٍ بعيدة. زاد من هزِّ الحبال، فامتدَّ قرعُ الأجراس. وضَعَ قوَّته فيما يفعله. حاول التخمين. الدبابات حول الكنيسة، والجماعات الهاربة من القنَّاصة، والرُّهبان، والقساوسة، والشمامسة، وغياب قدَّاس الأحد. ترِدُ نواقيس الكنائس في امتداد إلى المُدن والقرى. يرتفع الأذان — كما حدَثَ في مرَّاتٍ سابقة — من الجوامع وأسطُح البيوت. يتنبَّه مَن تختفي أو تُسحب، في أسماعهم صيحات الاستغاثة؛ فيتصرَّفون.

لم يفطن — في انفعاله — إلى الجدار المفتوح في جانب البرج، ولا إلى القنَّاصة الذين رأوا مَن يحرِّك الأجراس، فصوبوا إليه رصاصهم.

٧ / ٤ / ٢٠٠٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤