العنكبوت

١

لمَّا رافقتُ أخي محسن إلى الحوش في المساء، كانت جمرات النار تلمع في حلقاتِ تدخين الجوزة. من حولنا شواهد القبور في الأحواش المتهدِّمة، وفي الطرقات الترابية؛ كأنَّها أشباحٌ ساكنة.

وقفتُ وراء أخي على باب الحوش، غطَّته الظُّلمة، وإن خمَّنتُ موضعَ المعلم عرابي — في استناده إلى جدارِ الحوش — من الْتماع الجوزة، وصوتها.

قال محسن: يريد أبي أن تفتح المقبرة.

أشعل المعلم عرابي فتيلةَ الكلُوب المُطفَأ.

– لماذا، لا قدَّر الله؟

– لا أعرف … هذا ما طلَبَه أبي.

وهو يُبدي التأثُّر: عائلتكم موتاها كثيرون!

ومسح شفتَيه بظاهر كفِّه.

– ثالث ميت في أقلَّ من ستة أشهُر.

مضى ناحيةَ الشاهد. رفع التُّراب بالكوريك؛ حتى ظهرتْ المجاديل.

غالبتُ الفضول والخوف، والرَّجل يغوص في الحفرة المُفضية إلى النوامة. اختفى بنزوله، حلَّتْ في الداخل ظلمةٌ قاسية؛ فلم أرَ شيئًا. حتى كلماتُ الرُّجل التي كانت تتناهى من الفتحة، حلَّ — بدلًا منها — صمتٌ وتوقُّع، وخوف.

كان الضوء المنبعث من الفتحة أعلى النوامة، قد كشف الأرض الرملية في أسفل، وإن تكاثفت الظِّلال في المواضع القريبة؛ حتى أخفَت الظُّلمة كلَّ شيء. يشرد تأمُّلي في الموت، وإغلاق القبر والمَلَكين والحساب عن أفعال الدنيا، هل يموت أبي؟ وهل يتحرَّك داخل القبر، أو يظلُّ ساكنًا؟ … يا هذا: مَن ربك؟ … ربي الله … صدقتَ. ما دينك؟ … ديني الإسلام … صدقت. فمَن نبيُّك؟ محمد رسول الله.

قلتُ لأبي: هل الملكان بشَرٌ مثلنا؟

زغدتْني أمي في غضب: لا تكفُر يا ولد.

قال أبي وهو يهرش مقدمة رأسه بطرَف إصبعه، كمَن يطلُب ذاكرته: لعلَّه يقصد إنْ كانا يظهران للميِّت على هيئة البَشَر.

كنتُ قد رافقتُ جنازةَ عمِّي عبد السميع إلى الحوش. اندسَّ الأولاد بين سيقان المشيِّعين. شخَطَ التُّرَبي: الْعبوا بعيدًا … لكنهم واصلوا الاندساس بين الأجسام، أو وقفوا على باب الحوش. تعالتْ أدعيةٌ وآيات القرآن، ونصائحُ الشيخ للميِّت حين يبدأ الملَكَان في حسابه: وستعلم يا عبد الله أنَّ الموت حقٌّ، وأنَّ الجنة والنار حقٌّ، وأنَّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها.

يطمئن أهلُ الميِّت على إغلاق المجاديل ويبدَءُون في الانصراف.

۲

ألِفتُ التردُّد على المقابر. أُخلِّف ميدانَ كرموز باتِّساعه وصخبه. أتشاغل — وأنا أمضى وراءَ مُحسِن في الطريق التُّرابي — بالمُطِلَّات من مستشفى دار إسماعيل إلى جوار أسوار المقابر. الأحواش على الجانبَين تهدَّمت أبوابها، ونُزعت نوافذها، وتشقَّقت الجدران؛ حتى ظهرتْ قوالب الحجارة البيضاء. وثمَّة مقابر تتناثر بين الأحواش، وتلاغط الصوات وهرولة الأقدام وراء النعوش، والأسبتة والحُصر وأقراص الرحمة وتلاوة القرآن وبوابير الجاز. يلقي أخي السلام على الجالسين داخل الأحواش أو الواقفين أمامها. سِحَن ألِفْنَا رؤيتها بتوالي قدومنا إلى العامود. يصرُّ أبي فنأتي في الموعد الذي يحدِّده. نخضع لتغير سحنته، والصوت الذي يتحول إلى حشرجة. تساعدنا أمي في استبدال ملابسنا وهي تعيد معنى الكلمات التي صرخ بها أبي. لا تقول كلَّ ما قاله، وإنْ شغلتْها العلاقة بين كلام أبي عن الموت، وضِيقه من العنكبوت في موضعٍ لا نراه داخل الحجرة. يكفي أن تطلبوا من المعلم عرابي أن يفتح النوامة وينظفها.

وتُغالِب التأثير: والدكم بخير.

۳

لمَّا غادر المحامي الأشيب حجرة أبي؛ طالت وقفة أمي معه في الصالة الواسعة. تسلَّل إلى آذاننا كلمة «الوصيَّة»، تكرَّرتْ في حديثهما، وعكست نظراتنا المندهِشة تخمينًا بما استدعى أبي المحامي من أجْلِه.

همَسَ مُحسِن بالسؤال: عرَفْنَا العنكبوت … فماذا عن الوصيَّة؟!

كان يتحدَّث عن شيء لا نراه، ويشير إليه. تعود نظراتنا خائبة من التحديق في زوايا السقف والجدران. أخمِّن أنَّه رأى السمك العنكبوت في التكوينات التي صنَعَها نشْعُ الرطوبة وتساقُط الطِّلاء.

هزمتْ أمي رأسها: يحيا فكرة الموت.

وأردفتْ: قال للمحامي إنه يريد إرضاء ضميره.

هتف محسن: هو لا يملك شيئًا حتى يوزِّعه علينا.

وأطلق من أنفه ضحكةً مكتومة: ربما وزَّع علينا بالتساوي ما كان يحرسه في الساحل.

حين أشار إلى الأسماك المتقافِزة على كورنيش الشاطئ، وعلى الرصيف، في منطقة حراسته أمام قبر الجندي المجهول؛ خمَّن أنَّ الواقفين على الشاطئ رأوا ما رأى. بدتْ في تشابُك الخيوط حول أجسادها القنفذية مختلفةً عمَّا يحمله صيد السنَّارة والطراحة والجرَّافة. كأنها العنكبوت التي يراها في الأركان والزوايا والأسقف وأعلى الجدران.

أصرَّ على ما رأى، حتى عاد إلى البيت بخطابِ الإحالة إلى الاستيداع. لزم حُجرته خمسةَ أيام لا يغادرها. جلَسَ إلينا — بعدها — في الصالة. سأَلَنا عن دروسنا. كلَّمَ أمي فيما لم يكُن يشغله من أمور البيت. تمشَّى — ذات عصر — إلى مقهى الوردة في أول شارع اللبان، وطالتْ جلسته إلى ما بعد العشاء. بدا كأنَّه استردَّ نفسه، وعاد إلى مألوفِ حياته، لكنَّ شيئًا ما غيرَ مرئي وسَمَ ملامحه وتصرُّفاته. وكان يُطيل الصمت، ويكتفي بالإجابة عن الأسئلة. فاجَأَنا بالحديث عن عنكبوتِ البحر. لم يكُن يتصوَّر أنَّها ستُطالِعه في زوايا الحُجرة.

٤

بلَّلتْ أمي — بلُعابها — طرَف الفستان. جرَتْ على ما تصوَّرتُ أنه المقصود بالعنكبوت، لكنَّ أبي ظلَّ على تحذيراته وإشاراته إلى مواضع، أخفقتْ أمي في أن تجِدَ فيها ما يُشير إليه.

لم تعُد أمي التي نعرفها.

بدَتْ صامتةً، لكنَّ ملامحها عكسَت الحزنَ وفقدان الحيلة. استطال وجهها المستدير، وتهوَّش شَعرها؛ فلَمْ تُعنَ بأنْ تمشِّطه. فكَّتْ الإيشارب من رأسها؛ فانسدَلَ الشَّعر حول الوجه، وعلى الكتفَين. كانت تقف على باب الحجرة التي يجلس أبي في داخلها. ترقُب حركاته وتصرُّفاته، ولا تستطيع أن تتصرَّف، وإنْ حرصتْ — عندما يأتي الليل — على أن تدور في الشقة، تُبَسمِل وتُحَوقِل، وتُطلِق بخور اللبان والجاوي والفسوخ في زوايا البيت، تطرد الأرواح الشريرة، وتُبعِد أذى النظرات الحاسدة.

غلبتْنا الحيرة، فلَمْ نَدرِ ماذا نفعل؟! بدتْ كلُّ الطُّرق مسدودة.

٥

– افتحوا المقبرة!

استعدتُ العِبارة من أبي. كانت عيناه مُتعَبتَين. خمَّنتُ أنَّه لم ينَمْ جيدًا.

– افتحوا المقبرة!

– لماذا؟

وهو يفرك لُزوجة العَرَق في صدره، ويَذرُوها في الهواء: أشعُر أنِّي سأموت.

– الطبيب طمأنك على صحتك.

وَشَى تهدُّج صوته بانفعاله: أنا الذي يشعُر باقتراب الموت، وليس الطبيب.

ثم وهو يزفر: طبيبكم حمار!

٦

تردَّدتُ على المستوصف المطلِّ على شارع اللبان، في أوقاتٍ من الليل والنهار. يصحبني الطبيب، أو يأتي بعد عودتنا إلى البيت. يفتح الحقيبة، ويضَع السمَّاعة في أذنَيه، يتحسَّس بها صدْرَ أبي وظهره وبطنه، يطالبه بأن يأخذ نفسًا عميقًا، ويحدِّق في اتساع عينَيه، ويضغط على جنبَيه، يرفع رأسه متنهدًا: لا شيء … أنت بُمب.

تخرُج الكلمات من فمه بطيئةً، مسترخية: لكنَّ الألم يقتلني.

ويشير إلى العنكبوت المستلقي على خيوطه في زاوية السقف: وتقتلني رؤيةُ هذا العنكبوت.

يُهمل الطبيب الالتفات إلى الموضع الذي أشار إليه أبي، يأخُذ القلم من جيب جاكتته العُلوي: ربما تحتاج إلى راحة.

يُجري على الورقة الصغيرة كلماتٍ بالإنجليزية: هذه مُقوِّيات … ستصبح بعد تناولها مثل الرَّهوان.

يمطُّ أبي شفتَيه — في انصراف الطبيب — دلالة أنَّه غيرُ مُقتنِع. تبوح عيناه بكلماتٍ، لا تنطق بها.

۷

أعود من المُستوصَف. يتناهى صوتُ أبي من داخل حُجرته، يسأل عن حقيقة مرضه؟ أتأمَّل تسانُدَ ظَهْره على السرير ذي الأعمدة من النحاس الأصفر. فُرشت عليه مُلاءة مطرَّزة الحواشي، وثُني أسفلَه لِحافٌ من الساتان.

قال لنا الطبيب إنَّ الوساوس هي ما يُعانيه أبي. حتى الأشعة والتحاليل، لم تُشِر إلى مرضٍ من أيِّ نوع. وكان أبي يشعُر بتسلُّل المرض واقتراب الموت. يُحكِم المِلحفةَ الكتَّانَ حول وجهه، ويكبس الطاقيَّةَ الصُّوفَ في رأسه. يتأمَّل التكوينات في السقف والجدران، تتشكَّل من اهتزازات الضوء المرتعِش للمبة المُدلَّاة، وثمَّة ذبابةٌ حاولت أن تتخلَّص من الْتصاق خيوط عنكبوت في زاوية السقف، ثم سكنتْ.

وهو يلتقط أنفاسه من فمه المفتوح: هذا الرجل؛ ليس الطبيبَ الوحيد في الحي … هاتوا طبيبًا آخر!

۸

بدَت الحركة في البيت غيرَ طبيعية؛ عرفتُ أنَّ أبي طلَبَ استدعاءَ طبيبٍ من محطة الرمل. جاء الطبيب، ولم يجِدْ شيئًا … لكنَّ أبي ظلَّ على يقينه أنَّه سيموت!

ما معنى أن يستيقظ المرء — ذات صباح — ليجِدَ نفسه ميتًا؟!

۹

بدَت أمي مذهولةً. همَسَت بصوتٍ متحيِّر بطَلَبه أن يكون دفْنُه على وجه الدنيا. رفَضَ النوامة؛ ينزلون به على الدَّرَجات الرُّخامية؛ حتى يوسِّدوه التراب في أسفل. يعيدون المجاديل؛ فتسودُّ الظُّلمة المتكاثِفة. غمغمتُ بما أتصوَّر أنَّها لم تتبيَّنه هي نفسها، واتَّجهتْ ناحيةَ الباب وهي تُغالِب الدَّمع.

زفرتْ في حيرتها: كلِّموه أنتم!

١٠

صحبَني محسنٌ إلى حلقة السَّمك، تشاغلتُ عن الرائحة النفَّاذة بتأمُّل الصالة الواسعة. يستند سقفها إلى كَمَراتٍ من الحديد، وتتناثر في الأرض المبلَّلة بالماء طبالي السَّمك ومستطيلات الثلج، وتتلاغط أصوات البيع والشراء والفريشة وراء الطاولات والعربات الصغيرة. وثمَّة رائحةٌ نفَّاذة من الطحالب والأعشاب وبقايا الأسماك والمياه الآسِنة.

قال محسنٌ لملامح الرجل المتسائلة في وقفته أمام القُرمة: أبي بخير ويسلِّم عليكم.

سأل باعةٌ وصيَّادون عن أبي؛ فعرفتُ أنهم يعرفونه، ويعرفون أخي.

نزع العجوز ذو «البنش» المكويِّ مَبْسِم الشِّيشة من فمه، وزوى ما بين حاجبَيه الكثيفَين: هل قال لك قناديل البحر؟

قال مُحسن: السَّمك العنكبوت.

قال العجوز: لعلَّه تكلم عن السمك الرعَّاش.

قال محسنٌ في إصرار: السَّمك العنكبوت.

مطَّ الرجل شفته السُّفلى: لا أعرفه!

۱۱

فاجأنا أبي بما لم نتوقَّعه.

أطال التطلُّع إلى السقف والجُدران، كأنَّه يتأمَّل التكوينات والأشكال التي صنَعَها تساقط الطِّلاء. أعاد تأمُّل ما لم أرَه في زاوية السَّقف. توالتْ ضرباته على كتفَيه وصدره وفخذَيه، كمَن يطرد حشراتٍ صغيرةً لا نراها. همَّ أن يَنضُو ثيابه عن جسده، لولا أن أمسكتْ أمي يده وهي تصرُخ. نزع جِلبابه بحركةٍ واحدة. اهتزَّ جسمه بالانفعال، واعتراه نشيجٌ ورجفات، وتقلَّصتْ ملامح وجهه، واتسعتْ عيناه، وتهدَّل فكُّه، وتكوَّرتْ قبضتاه واهتزَّتا، وحدَّق فيما لا يتبيَّنه أحد. خلتْ عيناه من السَّواد تمامًا، لم يعُد فيهما إلا البياض. بصَقَ على شارب صرصار يُطلُّ من ثقبٍ في الجدار. أدركتُ أن فمه قد امتلأ بالكلمات، وإن عجَزَ لسانه عن النُّطق بها. تداخلتْ — بالانفعال — حشرجةٌ في صوته فسَكَت. شبك أصابعه. أدارها كمَن يغزل خيوطًا، وإن ظلَّ فمه الفاغر على صمته؛ فلم أعرف ماذا يقصد؟ حاوَلَ أن يتكلَّم؛ لَاكَ الكلماتِ في فمه، لكنَّها لم تخرُج من بين شفتَيه، ثم علا صوتُه بكلماتٍ أشبهَ بالغمغمة: الرُّوح ترفض الخروجَ إلا ببرهان.

بَحْلَقتْ عينا محسن بالدهشة: برهان؟!

في كلماته المغمغمة: يأتيها ملَكُ الموت بتفَّاحة من الجنَّة مكتوب عليها: بسم الله الرحمن الرحيم.

۱۲

صحونا على ارتطامات، وصوت أبي كالمستغيث.

تسلَّل من انفراجة الباب ضوءٌ مستطيل، ممتدٌّ على أرضَ الحُجرة. وكان أبي مُستلقيًا على ظَهره. جحظتْ عيناه، وانفتح فمه. بدا أنَّه عانى اعتصارَ قبضةٍ قاسية. وثمَّة عنكبوت — لم تكُن قد فطنت إلى وجودها — تغزل خيوطها، فتشكِّل ما يُشبه الغيمة في أعلى السرير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤