وصمة وطن

توغلنا في مجاهل سُوق ليبيا، بين الأكشاك المتهالكة المملوءة بالبضائع الكاسدة، أقمشة، أوانٍ، مأكولات فاسدة وأخرى طازجة، خردوات، أحذية، إكسسوارات مفبركة، بطيخ وغيرها، وكلما طال بنا الدوران وطالت بنا الأزقة حاصرتنا الجُموع البشرية الذاهبة إلى كل مكان والآتية من كل مكان، وكلما لاحظ صديقي علي نصر الله أنني ضجرت كان يقول لي بصوته الهادئ المطمئن: اصبر يا أخي قَرَّبْنَا.

ونحن نُنهي آخر صف طويل لحلاقين بُلهاء تَفُوح من جنوبهم رائحة الدم مختلطة مع الشَّعر ممزوجة بكلونيا خمس خمسات، إذا به يدلف إلى زقاق ضيق تملؤه عربة كارو يجرها حماران، استطعنا أن نتجاوزهما عن طريق احتكاكنا بالحائط التُّرابي القبيح، ولحسن الحظ المكان ينتظر بعد الكارو مباشرة، كان دكانًا عجوزًا من الزنك وصاج البرميل، يديره عم سيف السبعيني الأصلع الذي يَكُحُّ في الدقيقة مرتين ويحمد الله، استقبلنا هاشًّا باشًّا، تربطه بصديقي علي نصر الله علاقةٌ قديمةٌ حميمة، عرَّفني به وعرَّفه بي، أضاف وفي وجهه ابتسامة عملاقة بسعة فم علي نصر الله الكبير وبغلظة شفاهه الغليظة، قائلًا: صديقي بَرَكَة دَا عايز يدخل معاينة.

مُشيرًا إليَّ بأصابعه الخمسة.

قال عم سيف وهو يتفحَّص وجهي من على قُربٍ مريب: ظاهر عليك يا ولدي ما بتصلي.

ضحكَ، ضحك علي نصر الله، ضحكتُ، ضحكنا.

قال له علي نصر الله: دا ما بيعمل أية حاجة، لا كويسة ولا كعبة: لا بصلِّي ولا بصوم ولا بسكر ولا بزني ولا بسف صاعوط ولا بدخن سيجار، لا يَعِد ولا يَفي، الكويسة إنه حافظ كل السُّوَر والآيات اللِّي أخدها في المدرسة.

عَلَّقَ عَم سيف ضاحِكًا: لو كان الناس دي كلها بتصلي من وين نحن نعيش؟!

كان يشغل نفسه بإعداد شيء ما، يَسْمعُ، يوجه الأسئلة ويكُح في نفس اللحظة، بالرغم من عمره المديد إلا أنه كان رشيقًا خفيفًا كالكديس، يخطو بسرعة وخفة في المساحة الضيقة التي لا تتعدى الاثني عشر مترًا مربعًا، يقفز على الأشياء، يمرُّ بينها، يسحبها بعيدًا عن طريقه، يتحدث معها، معنا، مع نفسه، كَحَّ، غسل وجهي بماءٍ تفوح منه رائحة الديتول، كَحَّ، مسح جبهتي بقطنة مشربة بمادة لها رائحة — مع بعض التحفظ أستطيع أن أقول إنها سيئة — كَحَّ، كان طويلًا منحنيًا وسيمًا عجوزًا ماكرًا وونَّاسًا، علي نصر الله يجلس قُربي يأكل بَلِيلَة لوبةٍ عدسيةٍ اشتراها من مريم السيدة الشابة التي تبيع العدسية قرب محل عم سيف، تركني أسترخي على الكرسي الهزاز البائس وأنا أهيم في العالم الذي يُمعن في الغموض، مَسَحَ وجهي بعطر الكلونيا، كَحَّ ثم أخذ يعمل، برفق، بصمت، بحب، بأدب، بمهارة في جبهتي، سألني فيما يُشبه الهمس بلغة فصيحة وكأنه حفظها من كتاب مطالعة: أتريدها دائمة أم مؤقتة؟

قبل أن أجيبه أجابه صديقي علي نصر الله: لا، مؤقتة، يمكن ما ينجح في المعاينة، وكان نجح حيجي مرة تانية يعمل واحدة دائمة، مُش كِدَا يَا بَرَكَة؟

حاولتُ أن أقول شيئًا، ولكنْ يداه القويتان أبقتا رأسي على وضعٍ حرج لا يَسْمَح بإنتاج الكلمات.

بدون أي تعليق من قِبله واصل عمله في جبهتي، بعد ما يقارب ربع الساعة سألني مرة أخرى ما إذا كنتُ أحتاج إلى علامات في الركب والمناكب وعظمة الشيطان.

أجابه علي نصر الله قائلًا: الآن لأ، خلينا نشوف بعد المعاينة.

قال مخاطبًا علي نصر الله: على ما أعتقد أنت قلت لي إنَّ واسطته قوية، يعني الشُّغُل ضمان ضمان، وكل الناقص هو موضوع الصلاة، وإن شاء الله تطلع حاجة زي الليل.

ردَّ علي نصر الله في قلق: نعم واسطته قوية، ولكن كل الناس اللِّي في «الشُّورت لِست short list» عندهم ضهر، ولكن نحنا نعمل العلينا والباقي على الله، الضمان عند الله.

قال بصوته الهادئ: كُح، كُح، كُح، نعم!

لم يمضِ وقت طَويلٌ بعد كَحَّتِهِ الأخيرة هذه حتى قال لي وهو يتأملني من بعيد؛ يتفحصني كفنان يتمعن لوحته التي خلص منها للتو: بسم الله ما شاء الله، إمام جامع بالتمام والكمال!

ثمَّ مدَّ لي المرآة، كان وجهي ليس بوجهي، أقرب منه إلى وجه دمية، على أحسن تقدير وجه مهرِّج مخبول، كانت العلامة السوداء التي صنعها على جبهتي السوداء أكثر سوادًا، ليس سوادًا آدميًّا جميلًا كسواد وجهي الذي أورثني إياه جَدي عبد الكريم إدريس، كان سوادًا يُشبه غَبِينَةً مُرَّةً أُحِسُّ بها تمزق أحشائي، سوادًا مثل حُرقةٍ تأكل كرامتي كإنسان، تُنْشِئُ في مملكة العبودية والتمييز السلبي مملكة الحزن، تثير فظاعةَ القَبَليَّة، الولاء الحزبي والثُّلة، تُوقِظُ كهوف الظلم مثل نار أوقدتها لتدفئك فالتهمتْكَ، مثل بَيضةٍ تفقسُ في روحك شظايا من نار، مثل جحيم يُصبح وطنك الذي تحبه، مثل أنْ تخونَ أنتَ وعيَكَ وثقافتَكَ التي ارتضيتها سلوكًا، أحسسْتُ بها جُرحًا عميقًا في تاريخي وحضارتي وإنسانيتي، رَدَدْتُ إليه المرآة، قال لي وهو لا يزال طويلًا عجوزًا مِكْحَاحًا مِلْحَاحًا: ما رأيك؟

أجابه صديقي علي نصر الله وهو يعطيه مالًا: جميلة.

توغلنا في مجاهل سُوق ليبيا بين الأكشاك المتهالكة المملوءة بالبضائع الكاسدة الفاسدة؛ أقمشة، أوانٍ، مأكولات تالفة وأخرى طازجة، خردوات، أحذية، إكسسوارات مفبركة، بطيخ، وغيرها، وكلما طال بنا الدوران والْتَوَتْ بنا الأزقة حاصرتنا الجُموع البشرية الذاهبة إلى كل مكان والآتية من كل مكان.

الخرطوم
٢ / ٦ / ٢٠٠٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤