الفصل الأول

مَجْلِسُ الْمَلِكِ مَعَ الْقُصَّاصِ

(١) حُبُّ الْقِصَصِ

حِكايَةٌ حَدَثَتْ في بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، في زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمانِ. كانَ يَعِيشُ مَلِكٌ عَظِيمُ الْجَاهِ وَالشَّانِ، لَهُ جَبَرُوتٌ وَسُلْطانٌ. ظَلَّ هذا الْمَلِكُ يَرْعَى قَوْمَهُ في بَلَدِهِ الْبَعِيدِ، في سَلامٍ وَأَمانٍ. امْتازَ هذا الْمَلِكُ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْمَكْرِ وَالدَّهاءِ، قَويُّ الْفِطْنَةِ وَالذَّكاءِ. يَتَأَمَّلُ في كُلِّ ما يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الْأُمُورِ، تَأَمُّلَ عاقِلٍ خَبِيرٍ بَصِيرٍ. لَمْ يَكُنْ هذا الْمَلِكُ يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ في تَحْصِيلِ الْمَعْلُوماتِ. لَمْ يَكْتَفِ بِما عِنْدَهُ مِنْ مَوْهِبَةٍ، وَما أُوتِيَ مِنْ مَعْرِفَةٍ طَيِّبَةٍ. لَمْ يَدَّخِرْ وُسْعًا في الْمُطالَعَةِ وَالْمُراجَعَةِ، وَفِي الْمُحاوَرَةِ وَالْمُشاوَرَةِ. لَبِثَ يُمِدُّ عَقْلَهُ بِمُخْتَلِفِ الْآراءِ الْواسِعَةِ، وَالْمَعْلُوماتِ النَّافِعَةِ. أَحاطَ في مَجالاتِ الْحَياةِ بِالْأَخْبارِ الدَّقِيقَةِ، وَالْحَقائِقِ الْوَثِيقَةِ. أَصْبَحَ يُدْرِكُ ما تَنْطَوِي عَلَيْهِ صُدُورُ النَّاسِ، مِنْ أَهْواءٍ شائِعَةٍ. كانَ هذا الْمَلِكُ الذَّكِيُّ شَدِيدَ الشَّغَفِ بِسَماعِ الْقِصَصِ الْمُتَنَوِّعَةِ. كانَتِ الْقِصَصُ تُتِيحُ لَهُ أَنْ تَزْدادَ مَعْرِفَتُهُ بِالْحَياةِ وَالْأَحْياءِ. يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يُخَصِّصَ وَقْتًا طَوِيلًا لِسَماعِ ما يَحْكُونَهُ لَهُ. لِحُبِّهِ سَماعَ الْقِصَصِ كَان يَحْزَنُ إِذا بَلَغَتِ الْقِصَّةُ نِهايَتَها. كانَ يَتَمَنَّى سَماعَ قِصَّةٍ لا تَنْتَهِي، وَإِنْ طالَتِ الْجَلَساتُ.

(٢) جائِزَةُ الْمَلِكِ

بَحَثَ الْمَلِكُ عَنْ قاصٍّ يُحَدِّثُهُ بِقِصَّةٍ لا تَنْتَهِي طُولَ الْعُمْرِ. لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَقُصُّ عَلَيْهِ قِصَّةً يَتَوافَرُ لَها هذا الْقَدْرُ. اشْتَدَّتْ رَغْبَةُ الْمَلِكِ في سَماعِ الْقِصَّةِ الْمَنْشُودَةِ الْمُتَّصِلَةِ. ظَلَّ يَبْحَثُ جاهِدًا عَنْ قاصٍّ نابِهٍ، يُحَقِّقَ لَه رَغْبَتَهُ. لَمْ يَهْتَدِ الْمَلِكُ إِلَى وُجُودِ ذلِكَ الْقاصِّ الْبارِعِ الذَّكِيِّ. طالَ بَحْثُهُ عَنْهُ. أَعْياهُ الْأَمْرُ، وَلكِنَّهُ بَقِيَ عَلَى رَغْبَتِهِ. لَجَأَ إِلَى طَرِيقَةٍ مُغْرِيَةٍ، لَعَلَّها تُحَقِّقُ لَهُ مَطْلَبَهُ الْعَزِيزَ. أَرْصَدَ الْمَلِكُ جائِزَةً كَبِيرَةً مِنَ الْمالِ، وَمِنْ نَفائِسِ الْجَواهِرِ. أَعْلَنَ أَنَّهُ يَهَبُ هذهِ الْجائِزَةَ لِقاصٍّ عَلَى تَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِهِ قادِرٍ. طَمِعَ الْقاصُّونَ في نَيْلِ الْجائِزَةِ، فَجاءُوا مِنْ مُخْتَلِفِ الْبُلْدانِ. ظَلَّ الرُّواةُ يَحْكُونَ لِلْمَلِكِ مِنَ الْقِصَصِ أَطْوَلَ ما يَعْرِفُونَ. كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ يَطْمَعُ في الْحُصُولِ عَلَى الْجائِزَةِ الثَّمِينَةِ. عَجَزَ الرُّواةُ — عَلَى اخْتِلافِهِمْ — عَنْ أَن يُحَقِّقُوا رَغْبَةَ الْمَلِكِ. ماذا يَصْنَعُونَ؟ أَطْوَلُ قِصَّةٍ كانَ مِنَ الْمَحْتُومِ أَنْ تَنْتَهِيَ. كُلُّ قِصَّةٍ تُخْتَمُ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامٍ، أَوْ أَسابِيعَ، أَوْ شُهُورٍ. كُلَّما تَمَّتْ أَحْداثُ الْقِصَّةِ خابَ أَمَلُ صاحِبِها في نَيْلِ الْجائِزَةِ.

figure
الْمَلِكُ يُفَكِّرُ فِيمَنْ يُحَقِّقُ لَهُ مَطْلَبَهُ الْعَزِيزَ.

(٣) الْوَسِيلَةُ الْأَخِيرَةُ

أَسِفَ الْمَلِكُ أَشَدَّ الْأَسَفِ حِينَ رَأَى عَجْزَ الْمُحَدِّثِينَ وَالرُّواةِ. إِنَّهُمْ جَمِيعًا لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَلْبِيَةَ رَغْبَتِهِ في قِصَّةٍ لا تَنْتَهِي. لَجَأَ الْمَلِكُ إِلَى آخِرِ وَسِيلَةٍ عِنْدَهُ، لِيُغْرِيَ بِها جَمْعَ الرُّواةِ. أَذاعَ الْمَلِكُ — في جَمِيعِ الْبُلْدانِ — نَبَأً عَجيبًا غايَةَ الْعَجَبِ: سَيُعْطِي نِصْفَ مالِهِ لِمَنْ يَقُصُّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي رَغِبَ فِيها! لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِن الْمُحَدِّثِينَ وَالرُّواةِ الظَّفَرَ بِالْجائِزَةِ الْجَدِيدَةِ. اشْتَدَّ حُزْنُ الْمَلِكِ لِخَيْبَةِ الْقُصَّاصِ في بُلُوغِ مَأْرَبِهِ الْعَزِيزِ. وَعَدَ الْمَلِكُ مَنْ يُحَقِّقُ رَغْبَتَهُ بِإِشْراكِهِ في نِصْفِ مُلْكِهِ. سَيُصْبِحُ صاحِبُ الْقِصَّةِ الْفائِزَةِ مُقاسِمًا لَهُ في كُنُوزِهِ وَسُلْطانِهِ! تَسامَعَ الرُّواةُ وَالْمُحَدِّثُونَ في مُخْتَلِفِ الْأَرْجاءِ بِالْوَعْدِ الْجَدِيدِ. ازْدادَ طَمَعُهُمْ في الْحُصُولِ عَلَى تِلْكَ الْجائِزَةِ الْبَعِيدَةِ الْمَنالِ. أَقْبَلُوا مِنْ هُنا وَهُناكَ، يَعْرِضُونَ كُلَّ ما عِنْدَهُمْ مِنْ ذَخائِرَ. كانَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ بَذَلَ جُهْدَهُ في الْبَحْثِ وَالتَّقَصِّي. جَمَعَ الرُّواةُ الْقِصَصَ الَّتِي تَتَسَلْسَلُ حَلقاتُها إِلَى أَبْعَدِ حَدٍّ مُمْكِنٍ. طالَتْ جَلَساتُ الْمَلِكِ إِلَيْهِمْ، يَسْتَمِعُ إِلَى ما عِنْدَهُمْ مِنَ الْقِصَصِ. لَمْ يَسْتَطِعْ واحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُحَقِّقَ رَغْبَةَ الْمَلِكِ، فَيَظْفَرَ بِالْجائِزَةِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤