الخدعة١

لا بد لكل مرة من أول مرة، وأول مرة كانت ليلًا، وهناك قمر ينشر سلامًا فضيًّا، والنبع صافٍ يتدفق ماؤه على مهل، وبخرير حنون، ولا تملك حين ترى الماء وقد ذاب فيه القمر، ذوبانًا طازجًا يحدث أمامك، وفي الحال، إلا أن تظمأ، وتحاول أن تشرب، أو على الأكل تتذوق، وملت بجسدي كله، ومددت يدي وما كادت القطرات المتلألئة الباردة تصل إلى فمي، ما كدت أستمتع بلذة التذوق الأول، حتى رأيت، بجوار صورتي المهتزة اهتزاز درجات الأبيض والأسود فيها، واهتزاز القمر، صورة رأس آخر، رأس طويل ممتد إلى الأمام وكأنما امتدت يد جذبت ملامحه كلها بعنف إلى خارج وجهه، رأس طويل ينتهي بشق عرضي واسع سعة لا حد لها، وكأنما لا يكفي هذا فأيضًا شق بالطول، رأس جمل لا بد، بلا صوت، بلا ضجة، بلا حركة، فجأة كان الرأس، لم أذعر ولا صرخت، فقط التفت، لا لشيء إلا لأتأكد، كان قد ذهب القمر واختفى النبع والخرير ولا فضة، كنت وحدي وأمامي غير بعيد عني ذلك الرأس يطل عليَّ من فوق، لا أرى له جسدًا وإنما فقط رقبة، غليظة، طويلة، مقوسة، حادة من أسفل كأنها مخرطة، رقبة تنتهي من أمام برأس، ذلك الرأس، ولا جسد، والأغرب أني لا أعجب، ولا أتساءل كيف يمكن لرقبة أن تنبع من لا جسد، فهمي كله كان ذلك الرأس المطل عليَّ من أعلى، فهو حتى لم يكن يطل عليَّ، وكأنه لا يراني أو لست هناك بالمرة، وخوفي كان أن يراني فجأة، فينقض، ويَعَضَّ، ولكن، أبدًا، لا غضب في عينيه، لا انفعال، لا شيء، إنما عينان كبيرتان مستقرتان على الأمام، ولا شيء أمام.

وكأنما ردًّا على تساؤلاتي وظنوني التي تنشأ وتدور بلا حماس، في ركن المنظر الأيمن، وفي برواز صغير مربع وكما يحدث في برامج التليفزيون وعلى شاشته، حدث بدأ يدور، غامضًا كتمثيليات الكهنة في حجرات المعابد الخلفية كالتشخيص الصامت الذي يعيد به القسس العشاء الأخير وصلب المسيح رأيت ذلك الجمل مسحوبًا، وساحبه صاحبه وعلى وقع متئدٍ وكأنما كل خطوة حدث وتاريخ يمضيان، تم بلا مقدمات، بلا معركة، بلا فاعل أو طلقة أو سلاح، بلا شيء على الإطلاق يسقط الرجل ذو الجلباب الأبيض والعمامة، سقط الصاحب، سقط قتيلًا فحول رأسه المطروح فوق الأرض ورغم ظلام المشهد كانت بِركة دم، وأيضًا لا انطلق الجمل هاربًا، ولا جعجع، ولا ثار أو «ضرب بالقلة»، ظل واقفًا وقد تدلى مقوده في الهواء ينظر، من علٍ، أيضًا إلى أمام، نظرة مليئة بكل شيء إلى درجة اللاشيء، ثابتة مستمرة وكأنما كانت أبدًا وستظل تكون.

ورغم تأكدي أني لا أحلم، وأن ما حدث رأيته، قلت: حلم يقظة، رؤيا، تخريف، أبدًا لن تعود.

وفي الصباح، أي صباح، فلا زمن، كنت أستحم تحت الدش حولي ستارة تمنع تسرب الرذاذ، مستمتعًا إلى أقصى حد بأني داخل الحمام الخالي، وداخل الستارة النيلونية المزركشة، مع نفسي تمامًا، وإذا بشيء يداعب الستارة النيلونية المزركشة، ثم يزيحها وتظهر الشفتان الضخمتان أو بالأحرى الثلاث شفاه، منفرجة ومفتوحة وكأنما تنوي ابتلاع كل شيء بينها تبدو الأسنان، كبيرة، مطبقة، محكمة وكأنما تخاف إذا فتحت أن تفلت شيئًا، أي شيء.

ثم أصبح الرأس كله معي، داخل الستارة، تحت الدش، دهشت قليلًا ولكني واصلت الاستحمام ورحت من خلال أسلاك الماء الرفيعة أتطلع مليًّا إلى العينين لعلي ألمح شيئًا، لعلي أعرف لماذا أطل وماذا يريد، لعلي أدرك للحظة أنه يراني حتى، ولكن، أبدًا، كان يطل، من علٍ وأيضًا إلى أمام.

فتحت الجريدة أقرأها، ولم أدهش حين شعرت بحركة، ولا حين اهتزت السطور، ثم تباعدت، وبلا صوت تمزيق اخترق الرأس الجريدة وأصبحت لا أرى سوى شفاهه الثلاث، يشع منظرها، قريبة جدًّا من وجهي، فتحات أنفه الواسعة أراها، بكل شعرة داخلها والأسنان كبيرة منظمة منطبقة ليس بينها فرجة.

ركبت الأتوبيس، والازدحام واصل حد الاختناق ولا هم لكل منا إلا المحافظة على كيانه، وفجأة وجدت الرأس الصامت الصائم عن الحركة يطل، كان مشهده كفيلًا بإثارة الذعر أو على الأقل التطلع، ولكن الغريب أن النادر من الركاب هو الذي انتبه، وحتى لم يطل انتباهه، إنما هي نظرة ألقاها كأنما تعود أن يلقيها ثم عاد إلى معركة المحافظة على ذاته، الأغلب الأعم لم يحفل حتى بمجرد الانتباه.

وفي المساء، داخل غرفة النوم المغلقة، ولا شيء هناك سوى الحب والرغبة، إذا بي أكتشف أن شيئًا يتسلل بغلظة بيننا، بلا عنف، وبلا حياء وربما بلا وعي بما يدور، ولكنه أصبح في النهاية بيننا، ولم تحتمل هي، بكل عنف وغضب واستنكار أزاحته جانبًا فانزاح، ولكنه، بتؤدة وبصبر وبإصرار عاد يتسلل بين صدرينا وبطريقة بدا معها أن لا فائدة من إزاحته.

ورغم أني لم أكن مندهشًا، أو غاضبًا بشدة، أو مستنكرًا، إلا أن شعورًا ما بدأت أحسه، شعورًا لا أجد له وصفًا فالقدماء ربما لم يعرفوه ولم يكتشفوا له اسمًا، لكنه أصبح موجودًا وملحًّا، وهكذا أخبرت زملائي في المكتب وأصدقائي وواحد منهم فقط هو الذي أبى أن يصدق أما الباقون جميعًا فقد ضحكوا وظلوا يشيرون حيالي ويضحكون وكأني، أخيرًا، رويت نكتة قديمة، كان واضحًا أنهم من زمن يعانون نفس الشعور، وأن رأس الجمل يظهر لهم في كل مكان وفي أي ساعة، ولكن السؤال، أهو نفس الرأس يظهر للجميع أم أن لكل منا رأس جمله الخاص؟ كما يقولون في الأساطير إن لكل منا أخته تحت الأرض أو فوقها أو ككتابه يوم القيامة الذي يعلق في عنقه؟

تشعبت المناقشات وامتدت، والغريب أن الجزء الأكبر منها كان في حضوره، وقد أطل علينا من الباب المؤدي لمكتب المدير، أطل بنفس طريقته، من فوق، أمامنا يحدق، صامت لا يتحرك، عيناه حافلتان بكل شيء إلى درجة اللاشيء، والمناقشات حامية صارخة أحيانًا قد تئوب إلى هدوء، حين يتخذ أحدهم وضع العالم العارف، وبصوت خافت يتكلم ويحلل، بينما رأس الجمل يطل عليه من فوق، مناقشات كالزوابع الصغيرة أو الكبيرة لا تلبث أن تذوب في بحر ساكن تمامًا كأن سطحه من زجاج، بحر واسع لا حد له ولا شاطئ.

أنا شخصيًّا، رغم أنه يظهر لي في اليوم أكثر من مرة وفي آخر الأماكن توقعًا أن أراه، أحيانًا أكاد أشك في عقلي وفي حواسي وأرفض أن أصدق ما أرى، بل حتى ما يراه الآخرون معي، هناك خطأ ما لا بد، أثور وأرفض ما تشاء لي الثورة والرفض ولكنها نوبات، ليست سوى نوبات لا تلبث، بهدوء، أن تذوب، بنفس التؤدة التي يظهر بها رأس الجمل، كل ما يحدث أنه لدى كل نوبة، خاصة إذا أدت بي إلى غيظ أو انفعال تزداد بشدة مرات ظهوره، بحيث أراه كلما تلفت، أينما سرت، أينما ذهبت، من أمامي وورائي ويميني ويساري وأمامي، بل، وهذا هو المرعب أحيانًا أراه داخلي أنا، موجودًا بتحديقته الأمامية التي لا تطرف داخل ذاتي الخاصة تمامًا، وأسراري، بل أحيانًا أراه في طفولتي يطل على أمي وهي تضعني أو ربما على أبي وهو يخلفني، أحيانًا وأنا أرنو إلى المستقبل ومن خلال أكوام المشاريع والخطط، بأذنيه الصغيرتين الغريبتين تزيحان الأكوام جانبًا ليظهر الرأس ويعلو ويبدأ يأخذ وضعه التقليدي.

ماذا أفعل؟

كلما سألت الناس قالوا افعل مثلما يفعل الناس، وأسأل ماذا يفعلون؟ فأجدهم لا يفعلون شيئًا بالمرة، أحيانًا يحاول البعض لمسها والتمليس عليها وهدهدتها، أحيانًا يثور البعض ويغضب ويسبها، بعض آخر يركلها وينطحها ولكن رأس الجمل تبقى دائمًا كما هي، ويبقى الناس كما هم، تبدو لهم بطريقة يعجبون لها أول الأمر، ثم يتحدثون فيها، ثم يملون الحديث، ولا يعود ذلك الوجود الغريب لرأس الجمل ظاهرة قابلة للتوقف أو حتى النظر، بل تتحول على يد الناس، وهم في هذا عباقرة، إلى ظاهرة مفيدة، مرة في الاعتذار عن تأخير، في تبرير اشتداد الحرارة في الصيف، في التبشير بحلول النعمة إذا حلت أو العثور على علامة للنقمة.

ويتم هذا كله دون أن يثير دهشة أحد، أو استغرابه أو حتى يفكر لحظة ويتأمل، وربما لهذا فرأس الجمل لا يكف عن الظهور، ربما لو اندهشنا، فقط اندهشنا، كلنا اندهشنا كلما ظهر لما ظهر، ربما نحن مرضى، كلنا مرضى قد أصبنا يومًا بمس في خيالنا ترك آثاره، على هيئة رأس جمل، أو ربما الإصابة قضت فينا على مراكز الدهشة والعجب أو ربما شيء آخر، ربما التطور، أجل التطور قد وصل بنا إلى مرحلة الإنسان الذي لا بد أن يظهر له رأس الجمل، بحيث تكون الكارثة لا أن يظهر، وإنما أن نستيقظ ذات صباح فنجده لا يظهر، أي مصيبة ساعتئذٍ وأي ضياع، وماذا نفعل ونحن قد أصبحنا لا نحيا الحياة أو نزاولها لأننا نريدها وإنما لأنه يطل علينا كلما شرعنا في عمل الشيء أو مزاولة الانفعال، لولا إدراكنا أنه سيطل لما أقدمنا أبدًا على شيء، ولولا إدراكي لوجوده ما كنت أبدًا قد أقدمت على ما أقدم عليه الآن، فالآن، وبلا ذرة دهشة أو غرابة ودون أن أرفع رأسي متأكد أن رأس الجمل يطل عليَّ، ذلك الرأس العالي الطويل وكأنما مطت ملامحه كثيرًا إلى أمام والشفاه الثلاث الكبيرة إلى حد الورم، والأسنان المتراصة، سنة كبيرة بجوار سنة كبيرة، منطبقة تمامًا ولا فرجة بينها، إلى أمامه يتطلع ولا يتحرك، لا يغضب ولا يرضى، لا يحفز ولا يثبط، لا يفعل شيئًا أبدًا إلا أن يطل، مجرد يطل.

١  كُتِبَت في أبريل ١٩٦٩ وكانت أول قصة نُشِرَت بعد التحاق الكاتب بالأهرام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤