الرسالة الثالثة

الموسومة بالأسطرنوميا في علم النجوم وتركيب الأفلاك

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ

اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنَّا قد فرغنا من رسالة المدخل إلى علم الهندسة، وبيَّنا فيها الهندسة الحسية والعقلية، واستوفينا الكلام في الخطوط والأشكال والزوايا التي لا بد للمهندسين أَنْ يعرفوها، ونُريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفًا مِن علم النجوم مثل ما فيها، فنقول:

إن علم النجوم ينقسم ثلاثةَ أقسام، قسم منها هو معرفة تركيب الأفلاك وكمية الكواكب وأقسام البروج وأبعادها وعظمها وحركاتها وما يتبعها من هذا الفن، ويسمى هذا القسم «علم الهيئة»، ومنها قسمٌ هو معرفةُ حَلِّ الزيجات وعمل التقاويم واستخراج التواريخ، وما شاكل ذلك، ومنها قسمٌ هو معرفة كيفية الاستدلال بدوران الفلك، وطوالع البروج، وحركات الكواكب على الكائنات قبل كونها تحت فلك القمر، ويسمى هذا النوع «علم الأحكام»، فنُريد أن نذكر في هذه الرسالة من كل نوع طرفًا شبه المدخل؛ كيما يسهل الطريق على المتعلمين ويقرب تناولُهُ للمبتدئين، فنقول:

أصل علم النجوم هو معرفة ثلاثة أشياء وهي الكواكب والأفلاك والبروج، فالكواكبُ أجسام كريات مستديرات مضيئات وهي ألفٌ وتسعةٌ وعشرون كوكبًا كبارًا التي أدركت بالرصد منها سبعة يقال لها: السيارة، وهي: زُحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، والباقية يُقال لها: ثابتةٌ ولكل كوكب من السبعة السيارة فلك يخصه.

والأفلاك هي أجسام كريات مشفات مجوفات، وهي تسعة أفلاك مركبة بعضها في جوف بعض كحلقة البصلة فأدناها إلينا فلك القمر وهو محيطٌ بالهواء من جميع الجهات كإحاطة قشرة البيضة ببياضها والأرض في جوف الهواء كالمح في بياضها، ومن وراء فلك القمر فلك عطارد، ومن وراء فلك عطارد فلك الزهرة، ومن وراء فلك الزهرة فلك الشمس، ومن وراء فلك الشمس فلك المريخ، ومن وراء فلك المريخ فلك المشتري، ومن وراء فلك المشتري فلك زحل، ومن وراء فلك زحل فلك الكواكب الثابتة، ومن وراء فلك الكواكب الثابتة فلك المحيط، وهذا مثال ذلك:

figure

وذلك أن الفلك المحيطَ دائمُ الدوران كالدولاب، يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض في كل يوم وليلة دورة واحدة ويدير سائر الأفلاك والكواكب معه، كما قال الله — عز وجل: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، وهذا الفلك المحيط مقسومٌ باثني عشر قسمًا كجزر البطيخة كل قسم منها يسمى بُرجًا، وهذه أسماؤُها: الحملُ والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، فكل برج ثلاثون درجة جملتها ثلاثمائة وستون درجة وكل درجة ستون جزءًا، كل جزء يسمى دقيقة جملتها واحد وعشرون ألفًا وستمائة دقيقة، وكل دقيقة ستون جزءًا يسمى ثانية وكل ثانية ستون جزءًا وكل جزء يسمى ثالثة، وهكذا إلى الروابع والخوامس وما زاد بالغًا ما بلغ، مثال ذلك:

figure

وهذه البروج توصف بأوصاف شتى من جهات عدة، وقبل وصفها نحتاج أن نذكر أشياء لا بد من ذِكْرها، منها: أن الزمان أربعة أقسام، وهي: الربيع والصيف والخريف والشتاء، والجهات أربعٌ، وهي: المشرق والمغرب والجنوب والشمال. والأركان أربعةٌ وهي: النارُ والهواءُ والماء والأرض. والطبائع أربعٌ وهي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. والأخلاطُ أربعٌ وهي: الصفراء والسوداء والبلغم والدم. والرياح أربع وهي: الصبا والدبور والجريباء والتيماء.

(١) فصل في ذكر صفة البروج

فنقول: منها ستة شمالية وستة جنوبية وستة مستقيمة الطلوع وستة معوجة الطلوع، وستة ذكور وستة إناث وستة نهارية وستة ليلية وستة فوق الأرض وستة تحت الأرض، وستة تطلع بالنهار وستة تطلع بالليل وستة صاعدة وستة هابطة وستة يمنة وستة يسرة وستة من حيز الشمس وستة من حيز القمر.

تفصيلها: أما الستة الشمالية فهي الحمل والثور والجوزاءُ والسرطان والأسد والسنبلة، وإذا كانت الشمسُ في واحد منها يكون الليلُ أَقْصَرَ والنهار أطول، وأما الستة الجنوبية فهي الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، وإذا كانت الشمسُ في واحدٍ منها يكونُ الليلُ أطول والنهار أقصر، وأما المستقيمة الطلوع فهي السرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس، وكل واحد منها يطلع في أكثر من ساعتين، وإذا كانت الشمس في واحد منها تكون هابطة من الشمال إلى الجنوب ومن الأوج إلى الحضيض والليل آخذ من النهار.

وأما المعوجة الطلوع فهي الجدي والدلو والحوت والحمل والثور والجوزاء، وكل واحد منها يطلع في أقل من ساعتين، وإذا كانت الشمسُ في واحد منها تكون صاعدةً من الجنوب إلى الشمال ومن الحضيض إلى الأوج والنهار آخذٌ من الليل، وأما الستة الذكور النهارية فهي الحمل والجوزاء والأسد والميزان والقوس والدلو، وأما الستة الإناث الليلية فهي الثور والسرطان والسنبلة والعقرب والجدي والحوت.

وأما الستة التي تطلع بالنهار فهي من البرج الذي فيه الشمسُ إلى البرج السابع منها، والستة التي تطلع بالليل هي من البرج السابع إلى البرج الذي فيه الشمس، وأما الستة التي من حيز الشمس فهي من بُرج الأسد إلى برج الجدي، والستة التي من حيز القمر هي من بُرج الدلو إلى برج السرطان، ومن وجهٍ آخرَ هذه البروجُ تنقسم أربعة أقسام، منها ثلاثة ربيعيةٌ صاعدةٌ في الشمال زائدة النهار على الليل، وهي: الحمل والثور والجوزاء، وثلاثة صيفية هابطة في الشمال آخذة الليل من النهار، وهي: السرطان والأسد والسنبلة، منها ثلاثة خريفية هابطةٌ في الجنوب زائدة الليل على النهار، وهي: الميزان والعقرب والقوس، ومنها ثلاثةٌ شتويةٌ صاعدةٌ من الجنوب آخذة النهار من الليل، وهي: الجدي والدلو والحوت.

وتنقسم هذه البروج من جهة أُخرى أربعة أقسام ثلاثةٌ منها مثلثات ناريات حارات يابسات شرقيات على طبيعة واحده، وهي: الحمل والأسد والقوس، وثلاثة منها مثلثات ترابيات باردات يابسات جنوبيات على طبيعة واحدة، وهي: الثور والسنبلة والجدي، وثلاثة منها مثلثات هوائيات حارات رطبات غربيات على طبيعة واحدة وهي: الجوزاء والميزان والدلو، ومنها مثلثات مائيات باردات رطبات شماليات على طبيعة واحدة، وهي: السرطان والعقرب والحوت، وكذلك من جهة أُخرى تنقسم هذه البروجُ ثلاثة أثلاث، أربعة منها منقلبة الزمان، وهي: الحمل والسرطان والميزان والجدي، وأربعة منها ثابتة الزمان وهي: الثور والأسد والعقرب والدلو، وأربعة منها ذوات الجسدين وهي: الجوزاء والسنبلة والقوس والحوت.

فقد بَانَ بهذا الوصف في هذا الشكل أن لو كانت البروج أكثر من اثني عشر أو أقل من ذلك لَمَا استمرت فيه هذه الأقسام على هذا الوجه الذي ذكرنا، فإذا بواجب الحكمة كانت اثني عشر؛ لأن الباري — جَلَّ ثناؤُهُ — لا يفعل إلا الأحكم والأتقن، ومن أجل هذا جعل الأفلاك كريات الشكل؛ لأن هذا الشكل أفضل الأشكال، وذلك أنه أوسعها وأبعدها من الآفات وأسرعها حركة ومركزُهُ في وسطه وأقطارُهُ متساوية ويحيط به سطحٌ واحد ولا يماس غيره إلا على نقطة ولا يوجد في شكل غيره هذه الأوصاف، وجعل أيضًا حركته مستديرة؛ لأنها أفضل الحركات، وهذه البروجُ الاثنا عشر تنقسم بين هذه الكواكب السبعة السيارة من عدة وجوه، ولها فيها أقسامٌ وخطوطٌ من وجوه شتى، فمنها البيت والوبال، ومنها الأوج والحضيض، ومنها الشرف والهبوط، ومنها الجوزهر يعني: الرأس والذنب، ومنها ربوبية المثلثات، ومنها ربوبيةُ الوجوه، ومنها ربوبيةُ الحدود، ومنها ربوبيةُ النوبهرات، ومنها ربوبية الاثنَي عشريات، ومنها ربوبيةُ مواضع السهام، وغير ذلك، وأن هذه الكواكب السيارة كالأرواح، والبُرُوج لها كالأجساد.

(٢) فصل في ذِكْر البيوت والوبال

فنقول: اعلم أَنَّ الأسد بيتُ الشمس والسرطان بيت القمر والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد والثور والميزان بيتا الزهرة والحمل والعقرب بيتا المريخ والقوس والحوت بيتا المشتري والجدي والدلو بيتا زحل، ولكُلِّ واحدٍ مِنْ هذه الكواكب الخمسة بيتٌ مِنْ حيز الشمس وبيتٌ مِنْ حيز القمر، ووبال كل كوكب في مقابلة بيته، وهذه الكواكبُ لبعضها في بيوت بعض مواضعُ مخصوصةٌ، فمنها الشرف والهبوط ومنها الأوج والحضيض ومنها الجوزهر، مثال ذلك:

تفسيرُ ذلك: فأما الشرفُ فهو أَعَزُّ موضع للكواكب في الفلك والهبوط ضده، والأوج أعلى موضع للكواكب في الفلك والحضيض ضده، فشرفُ الشمس في الحمل وهو بيت المريخ وأوجها في الجوزاء بيت عطارد وشرف زحل في الميزان بيت الزهرة وأوجه في القوس بيت المشتري وجوزهره في السرطان بيت القمر. ومعنى الجوزهر: تقاطُع طريق الكواكب لطريق الشمس بممرها في البُرُوج في موضعين؛ أحدهما يُسَمَّى رأس الجوزهر والآخر ذنب الجوزهر، وذلك أن زحل إذا سار في البروج يكونُ مسيرُهُ في ستة أبراج عن يمنة طريق الشمس ثم يعبر إلى الجانب الآخر ويسير ستة أبراج عن يسرة طريق الشمس، فيحدث لطريقها تقاطعٌ في موضعين أحدُهُما يسمى الرأس والآخر الذنب، وهذا مثاله:

ولكل كوكب من الخمسة السيارة جوزهر مثل ما لزحل مذكور ذلك في الزيجات، وأما المذكور في التقاويم فهو الذي للقمر، ويقال لهما أيضًا: العقدتان، وإنما اختص ذكرهما في التقاويم؛ لأنهما ينتقلان في البروج والدرج ولهما سير كسير الكواكب ولهما دلالة كدلالة الكواكب.

وإذا اجتمع الشمسُ والقمر في وقتٍ من الأوقات عند أحدهما في برج واحد ودرجةٍ واحدة انكسفت الشمس، ولا يكون ذلك إلا في آخر الشهر؛ لأن القمر يصير محاذيًا لموضع الشمس من البرج والدرجة فيمنع نور الشمس عن أبصارنا فنراها منكسفة مثل ما تَمنع قطعة غيم عن أبصارنا نور الشمس إذا مرت محاذية لأبصارنا ولعين الشمس، وإذا كانت الشمس عند أحدهما وبلغ القمر إلى الآخر انكسف القمر ولا يكون كسوف القمر إلا في نصف الشهر؛ لأن القمر في نصف الشهر يكون في البرج المقابل للبرج الذي فيه الشمس وتكون الأرض في الوسط فتمنع نور الشمس عن إشراقه على القمر فيُرى القمر منكسفًا؛ لأنه ليس له نور من نفسه، وإنما يكتسي النور من الشمس، ومثال ذلك:

وشرف المشتري في السرطان، وأوجه في السنبلة، ورأس جوزهره في الجوزاء، وشرف المريخ في الجدي وأوجُهُ في الأسد وجوزهره في الحمل، وشرف الزهرة في الحوت وأوجها في الجوزاء ورأس جوزهرها في الثور، وشرف عطارد في السنبلة وأوجه في الميزان وجوزهره في الحمل، وشرف القمر في الثور وأوجه في البروج متحرك يعرف موضعه ذلك من التقويم والزيج، وجملته أن القمر إذا قارن الشمسَ فهو عند الأوج أو قابلها فهو عند الأوج، وفي مقابلة شرف كل كوكب هبوطُهُ من البرج السابع مثله، وفي مقابلة الأوج الحضيض مثل ذلك، وفي مقابلة شرف رأس الجوزهر موضع الذنب من البرج السابع مثله.

(٣) فصل في ذكر أرباب المثلثات والوجوه والحدود

اعلم أن هذه الكواكب السيارة لبعضها في بيوت بعض شركة تسمى «ربوبية المثلثات»، ولها فيها أقسام تسمى «الوجوه»، ولها فيها خطوط تسمى «الحدود»، تفصيل ذلك أن كل ثلاثة أبراج على طبيعة واحدة تسمى المثلثات كما بين من قبل ذلك، وتديرها ثلاثة كواكب تسمى أرباب المثلثات يستدل بها على أثلاث أعمار المواليد، فأرباب المثلثات الناريات بالنهار الشمس ثم المشتري وبالليل المشتري ثم الشمس وشريكهما بالليل والنهار زحل، وأرباب المثلثات الترابيات بالنهار الزهرة ثم القمر وبالليل القمر ثم الزهرة وشريكهما بالليل والنهار المريخ، وأرباب المثلثات الهوائيات بالنهار زحل ثم عطارد وبالليل عطارد ثم زحل وشريكهما بالليل والنهار المشتري، وأرباب المثلثات المائيات بالنهار الزهرة ثم المريخ وبالليل المريخ ثم الزهرة وشريكهما بالليل والنهار القمر.

(٤) فصل في ذكر أرباب الوجوه

اعلم أن كل برج من هذه الأبراج ينقسمُ ثلاثة أثلاث، كل ثلث عشر درجات يسمى وجهًا منسوبًا ذلك إلى كوكب من السيارة يُقال له: «رب الوجه» يُستدل به على صورة المولود وعلى ظواهر الأُمُور، تفصيل ذلك العشر درجات الأولى من برج الحمل وجه المريخ وعشر درجات الثانية وجه الشمس وعشر درجات الأخيرة وجه الزهرة وعشر درجات من الثور وجه عطارد والعشر الثانية وجه القمر والعشر الأخيرة وجه زُحل وعشر درجات من الجوزاء وجه المشتري والعشر الثانية وجه المريخ والعشر الأخيرة وجه الشمس.

وعلى هذا القياس إلى آخر الحوت كل عشر درجات وجهٌ لكوكبٍ واحدٍ على توالي أفلاكها — كَمَا بَيَّنَّا — فأما ذكر الحدود وأربابها فإن كل برج من هذه الأبراج ينقسم بخمسة أقسام مختلفة الدرج أقل جزء منها درجتان وأكثرها اثنتا عشرة درجة كل جزء منها يُسمى حدًّا منسوبًا ذلك الحد إلى الكوكب من الخمسة السيارة، يقال له: «رب الحد» يستدل به على أخلاق المولود وليس للشمس ولا للقمر فيها نصيب، وقد صورنا لحسابه دائرة فيها مكتوب حرفان الحرف الأول من اسم صاحب الحد والثاني كمية درج الحد وكذلك حساب الوجوه حرفان اسم صاحب الوجه حرف والثاني كمية درج الوجه وهذه أسماؤها: كيوان «ك» مشتري «م» بهرام «ب» شمس «ش» قمر «ق» زهرة «ز» عطارد «ع».

فأما الأوسعُ من الدائرةِ فهو حسابُ الحُدُود حرفان حرفان والدائرةُ الوُسطى حساب الوجوه.

(٥) فصل في ذكر الكواكبِ السيارة

فنقول: اثنان منها نيران وهما الشمس والقمر، واثنان منها سعدان وهما المشتري والزهرة، واثنان منها نحسان وهما زحل والمريخ، وواحد ممتزج وهو عطارد، وعقدتان وهما الرأس والذنب.

ذكر طبائعها: «الشمس» ذكر حار ناري نهاري سعد «زحل» بارد يابس ذكر نهاري نحس «المشتري» حار رطب ذكر نهاري سعد «المريخ» حار يابس أنثى ليلي نحس «الزهرة» باردة رطبة مؤنثة ليلية سعد «عطارد» لطيف ممتزج سعد «القمر» بارد رطب أنثى ليلي سعد أسود «الرأس» مثل المشتري «الذنب» مثل زحل.

ذكر أنوارها: نور الشمس خمس عشرة درجة أمامها، ومثل ذلك خلفها نور زحل والمشتري كل واحد تسع درجات قدامه، ومثل ذلك خلفه نور المريخ ثماني درجات أمامه ومثل ذلك خلفه، نور الزهرة وعطارد كل واحد سبع درجات أمامه ومثل ذلك خلفه، نور القمر اثنتا عشرة درجة قدامه ومثل ذلك خلفه.

ذكر ما لها من الأيام والليالي: اعلم أن الليل والنهار وساعاتهما مقسومةٌ بين الكواكب السيارة، فَأَوَّلُ ساعة من يوم الأحد من ليلة الخميس للشمس، وأول ساعة من يوم الاثنين ومن ليلة الجمعة للقمر، وأول ساعة من يوم الثلاثاء ومن ليلة السبت للمريخ، وأول ساعة من الأربعاء وليله الأحد لعطارد، وأول ساعة من يوم الخميس وليلة الاثنين للمشتري، وأول ساعة من يوم الجمعة وليلة الثلاثاء للزهرة، وأول ساعة من يوم السبت وليلة الأربعاء لزحل، فأما سائر ساعات الليل والنهار فمقسومة بين هذه الكواكب على توالي أفلاكها، مثال ذلك أن الساعة الثانية من يوم الأحد للزهرة التي فلكها دون فلك الشمس والساعة الثالثة لعطارد الذي فلكه دون فلك الزهرة والساعة الرابعة للقمر الذي فلكه دون فلك عطارد والساعة الخامسة لزحل والساعة السادسة للمشتري والساعة السابعة للمريخ والساعة الثامنة للشمس والتاسعة للزهرة والعاشرة لعطارد والحادية عشرة للقمر والثانية عشرة لزحل، وعلى هذا الحساب سائر ساعات الأيام والليالي يبتدئ من رب الساعة الأولى على توالي أفلاكها — كما بَيَّنَّا.

ذكر ما للكواكبِ من الأعداد

إن هذه الكواكب السيارة لكل واحد منها دلالةٌ على أعداد معلومة من السنين والشُّهُور والأيام والساعات يُستدلُّ بها على كمية أعمار المواليد وعلى طُول بقاء الكائنات في عالم الكون والفساد، فمنها:

زحل المشتري المريخ الشمس الزهرة عطارد القمر
العظمى ١٦٥ ٤٢٩ ٢٦٤ ١٤١ ١١٥١ ٤٨٦ ٥٢٥
الكبرى ٥١ عط سو قط قب عو مح
الوسطى ٤٣ مه ب م بط مب مح لط
الصغرى ح يب يه يب ح كه
العدادات ك يب ل ي ح صح
الرأس ح الذنب ب الجميع عه

ذكر دوران الفلك وقسمة أرباعه

الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض، فيكون في دائم الأوقات نصف الفلك ستة أبراج مائة وثمانين درجة فوق الأرض ويسمى يمنة، والنصف الآخر ستة أبراج مائة وثمانين درجة تحت الأرض يسمى يسرة، وكلما طلعت درجة من أفق المشرق غابت نظيرتها في أفق المغرب من البرج السابع منه فيكون في دائم الأوقات ستة أبراج طلوعها بالنهار وستة طلوعها بالليل ويكون في دائم الأوقات درجة في أفق المشرق وأخرى نظيرتها في أفق المغرب ودرجة أخرى في كبد السماء ويسمى وتد العاشر، وأخرى نظيرتها منحطة تحت الأرض تسمى وتد الرابع فيكون الفلك في دائم الأوقات منقسمًا بأربعة أرباع كل ربع منها تسعون درجة، فمن أفق المشرق إلى وتد السماء تسعون درجة، يقال لها: الربع الشرقي الصاعد في الهواء، ومن وتد السماء إلى وتد المغرب تسعون درجة يقال لها: الربع الجنوبي الهابط، ومن وتد المغرب إلى وتد الأرض تسعون درجة يقال لها: الربع الغربي الهابط في الظلمة، ومن وتد الأرض إلى وتد المشرق تسعون درجة يقال لها: الربع الشمالي الصاعد، وهذا مثال ذلك:

ذكر دوران الشمس في البروج وتغييرات أرباع السنة

الشمس تدور في البروج الاثني عشر في كل ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا وربع دورة واحدة تقيم في كل برج ثلاثين يومًا وكسرًا، وفي كل درجة يومًا وليلة وكسرًا تكون بالنهار فوق الأرض وبالليل تحت الأرض وتكون في الصيف في البروج الشمالية في الهواء وتقرب من سمت رءوسنا وتكون في الشتاء في البروج الجنوبية وتنحط في الهواء، وتبعد من سمت رءوسنا، وفي الأوج ترتفع في الفلك وتبعد من الأرض، وفي الحضيض تنحط في الفلك وتقرب من الأرض والدائرة الآتية مثاله وصورته:

ذكر نزول الشمس في أرباع «الفلك وتغييرات الأزمان»

إذا نزلت الشمس أول دقيقة من برج الحمل استوى الليل والنهار، واعتدل الزمان، وانصرف الشتاء، ودخل الربيع، وطاب الهواء، وهب النسيم فذابت الثلوج، وسالت الأودية، ومدت الأنهار، ونبعت العيون، ونبت العشب، وطال الزرع، ونما الحشيش، وتلألأ الزهر وأورق الشجر، وتفتح النور، واخضرَّ وجه الأرض، ونتجت البهائم، ودرت الضروع، وتكوَّنت الحيوانات، وانتشرت على وجه الأرض، وأخرجت الأرض زخرفها وازَّينت، وفرح الناس واستبشروا، وصارت الدنيا كأنها جارية شابة تزينت، وتجلت للناظرين.

ذكر دخول الصيف

إذا بلغت الشمس آخر الجوزاء وأول السرطان تناهى طول النهار وقصر الليل، وأخذ النهار في النقصان، وانصرف الربيع، ودخل الصيف، واشتد الحر، وحمي الهواء، وهبت السموم، ونقصت المياه، ويبس العشب، واستحكم الحب، وأدرك الحصاد، ونضجت الثمار، وسمنت البهائم، واشتدت قوة الأبدان، وأخصبت الأرض، وكثر الريف، ودرت أخلاف النعم، وبطر الإنسان، وصارت الدنيا كأنها عروس غنية منعمة رعناء ذات جمال.

ذكر دخول الخريف

وإذا بلغت الشمس آخر السنبلة وأول الميزان استوى الليل والنهار مرة أخرى، وأخذ الليل في الزيادة على النهار، وانصرف الصيف ودخل الخريف وبرد الهواء وهبت ريح الشمال، وتغير الزمان، وجفت الأنهار، وغارت العيون، واصفر ورق الأشجار، وصرمت الثمار، وديست البيادر، وأحرز الحب، وفني العشب، واغبر وجه الأرض، وهزلت البهائم، وماتت الهوام، وانحجزت الحشرات، وانصرف الطير والوحش يطلب البلدان الدفئة، وأخذ الناس يحرزون القوت للشتاء، وصارت الدنيا كأنها كهلة مُدْبِرة قد تَوَلَّتْ عنها أيامُ الشباب.

ذكر دخول الشتاء

وإذا بلغت الشمس آخر القوس وأول الجدي؛ تناهى طول النهار، وأخذ الليل في الزيادة، وانصرف الخريف، ودخل الشتاء، واشتد البرد، وخشن الهواء، وتساقط ورق الأشجار، ومات أكثرُ النبات، وانحجرتْ هوام الحيوانات في باطن الأرض، وضعفتُ قوى الأبدان، وعَرِيَ وجهُ الأرض من زينته، ونشأت الغيوم، وكثرت الأنداء، وأظلم الهواء، وكلح وجه الأرض، وهرم الزمان، ومُنع الناس عن التصرُّف، وصارت الدنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت، وإذا بلغت الشمس آخر الحوت وأول الحمل عاد الزمان كما كان في العام الأول وهذا دأبه، ذلك تقديرُ العزيز العليم.

ذكر دوران زحل في البرج وحالاته من الشمس

زحل يدور في البروج الاثني عشر — في كل ثلاثين سنة بالتقريب — دورةً واحدة، يقيم في كل برج سنتين ونصفًا وفي كل درجة شهرًا، وفي كل دقيقة اثنتَي عشرة ساعة، وتُقابلُهُ الشمسُ في كل سنة مرة واحدة إذا صارت الشمسُ في السابع منه وتربعه مرتين، مرة يمنة ومرة يسرة، وتقارنه في كل سنة مرة إذا صارتْ معه في برجٍ واحد ودرجة واحدة، ثم تجاوزُهُ الشمسُ، ويظهر زحل بعد عشرين يومًا من المشرق بالغدوات قبل طلوع الشمس، ويسيرُ زُحلُ من وقت مفارقة الشمس إلى أن تقارنه مرة أخرى ثلاثمائة واحدًا وثمانين يومًا، من ذلك مائة وثلاثة وعشرون يومًا مستقيمًا مشرقًا ومائة وأربعة وثلاثون يومًا راجعًا ومائة وأربعة وعشرون يومًا مستقيمًا مغربًا، وذلك دأبهما في كل سنة، وفيما يلي مثال ذلك:

ذكر دوران المشتري في البروج وحالاته من الشمس

المشتري يدور في البروج الاثني عشر في اثنتي عشرة سنة بالتقريب مرة واحدة يقيم في كل برج سنة وفي كل درجتين ونصف شهرًا وفي كل خمس دقائق يومًا وليلة، وتقابله الشمس في كل مرة إذا صارتْ معه في البرج السابع منه، وتربعه مرتين مرة يمنى ومرة يسرى، وتقارنه في كل سنة مرة إذا صارت معه في برج واحد ودرجة واحدة، ثم تجاوزه الشمس ويظهر المشتري بعد عشرين يومًا من المشرق بالغدوات قبل طلوعها، ويسير المشتري من وقت مفارقتها إلى وقت مقارنتها دفعة أخرى ثلاثمائة وتسعة وتسعين يومًا من ذلك مائة وأربعة وأربعون يومًا مستقيمًا مشرقًا ومائة وأحد عشر يومًا راجعًا ومائة وأربعة وأربعون يومًا مستقيمًا مغربًا، وذلك دأبهما، وهذه دائرة مثال ذلك المذكور وصورته:

ذكر دوران المريخ في الفلك وحالاته من الشمس

المريخ يدور في الفلك في مدة سنتين إلا شهرًا واحدًا بالتقريب يقيم في كل برج خمسة وأربعين يومًا يزيد وينقص ويقيم في كل درجة مقدار يوم وبعض يوم، فإذا رجع في البرج أقام فيه ستة أشهر يزيد وينقص وتقابله الشمس في هذه المدة مرة واحدة عند رجوعه من البرج السابع وتربعه مرتين مرة يمنى ومرة يسرى وتقارنه في هذه المدة مرة إذا صارت معه في برج واحد ودرجة واحدة، ثم تجاوره الشمس ويسير المريخ تحت شعاع الشمس مقدار شهرين، ثم يظهر بالغدوات من المشرق قبل طلوع الشمس مقدار شهرين، ويسير المريخ من وقت مفارقة الشمس له إلى أن تقارنه مرة أخرى ٨٥٨ يومًا من ذلك ٣٢٥ يومًا مستقيمًا مشرقًا و٨٨ يومًا راجعًا و٤٥٥ يومًا مستقيمًا مغربًا وهذا دأبه، ذلك تقدير العزيز العليم.

ذكر دوران الزهرة في الفلك

الزهرة تدور في البروج مثل دوران الشمس غير أنها تسرع السير تارة فتسبق الشمس وتصير قدامها، وتارة تبطئ في السير فترجع وتصير خلفها فتقارنها مرة وهي راجعة ومرة أخرى وهي مستقيمة، فإذا قارنتها وهي راجعة ظهرت بعد خمسة أيام طالعة من المشرق بالغدوات قبل طلوع الشمس وترى ثمانية أشهر تطلع في أواخر الليل، فيقال لها: مشرقية ثم تسرع في السير وتلحق بالشمس وتسير تحت شعاعها ثلاثة أشهر لا ترى، ثم تظهر بالعشيات في المغرب بعد غروب الشمس فترى ثمانية أشهر ثم تغيب في أول الليل وتسمى مغربية فمن وقت مقارنتها الشمس وهي مستقيمة إلى أن تقارنها مرة أخرى يكون ٤٧٨ يومًا، ومن ذلك تكون ٤٥ يومًا راجعة والباقي مستقيمة وأكثر ما تبعد عن الشمس ٤٨ درجة قدامها، ومثل ذلك خلفها، وذلك دأبها.

ذكر دوران عطارد في الفلك وحالاته من الشمس

حالات عطارد من الشمس مثل حالات الزهرة منها غير أن عطارد من وقت مفارقة الشمس وهو مستقيم السير إلى أن يقارنها مرة أخرى على تلك الحال؛ يكون ١٢٤ يومًا من ذلك ٢٢ يومًا راجعًا والباقي مستقيمًا، وأكثر ما يبعد من الشمس ٢٧ درجة قدامها ومثل ذلك خلفها، ويرجع في كل سنة ثلاث مرات، ويحترق ست مرات، ويشرق ثلاث مرات، ويغرب ثلاث مرات، وذلك دأبه.

ذكر دوران القمر في الفلك وحالاته من الشمس

القمر يدور في البروج في كل سنة عربية اثنتَي عشرة مرة في كل شهر مرة، ويقيم في كل برج يومين وثلثًا وفي كل منزل يومًا وليلة وفي كل درجة ساعتين بالتقريب، ويقابل الشمس في كل شهر مرة، ويربعها مرتين مرة يمنة ومرة يسرة، ويقارنها في كل شهر مرة فلا يرى يومين، ثم يظهر في المغرب بعد مغيب الشمس، ويهل ثم يزيد في نوره كل ليلة نصف سبع إلى أن يستكمل ويمتلئ من النور ليلة البدر الرابع عشر من كل شهر، ثم يأخذ في النقصان فينقص كل ليلة نصف السبع إلى أن يمحق في آخر الشهر.

وللقمر في البُرُوج ثمانيةٌ وعشرون منزلة — كما قال الله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ وفي كل ثلاثة أبراج منها سبعةُ منازل، وفي كل بُرج منزلتان وثلث، وهذه أسماؤُها: السرطان البطين الثريا الدبران الهقعة الهنعة الذراع، وهذه منازلُ الربيع: النثرة الطرف الجبهة الزئرة الصرفة العواء السماك، وهذه منازل الصيف الغفر الزبانيان الإكليل القلب الشولة النعائم البلدة، وهذه منازل الخريف: سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية الفرع المقدم الفرع المؤخر بطن الحوت، وهذه منازل الشتاء: الحمل بيت المريخ وشرف الشمس وهبوط زحل ووبال الزهرة، وهو برج ناري شرقي ذكر منقلب طبيعته المرة الصفراء ربيعي إذا نزلت الشمس أول دقيقة منه استوى الليل والنهار، وأخذ النهار يزيد والليل ينقص ثلاثة أشهر تسعين يومًا.

وله ثلاثة أوجُه وخمسة حدود «الثور» بيت الزهرة وشرف القمر ووبال المريخ وهو برج ترابي ليلي جنوبي ثابت ربيعي، وطبيعته المرة السوداء، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الجوزاء» وشرف الرأس وهبوط الذنب ووبال المشتري وهو برج هوائي ذكر نهاري غربي ربيعي دموي ذو جسدين وفي آخره ينتهي طول النهار وقصر الليل، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، و«السرطان» بيت القمر وشرف المشتري وهبوط المريخ ووبال زحل وهو برج مائي أنثى ليلي شمالي منقلب صيفي بلغمي.

وفي أوله يبتدئ الليل بالزيادة والنهار في النقصان تسعون يومًا، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الأسد» بيت الشمس وليس فيه شرف ولا هبوط وهو وبال زحل وهو برج ناري ذكر نهاري شرقي ثابت صيفي طبيعته مرة صفراء وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «السنبلة» بيت عطارد وشرفه وهبوط الزهرة ووبال المشتري وهو برج ترابي ليلي أنثي جنوبي صيفي ذو جسدين طبيعته السوداء، وفي آخره يستوي الليل والنهار مرة أخرى، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الميزان» بيت الزهرة وشرف زحل وهبوط الشمس ووبال المريخ وهو برج ذكر هوائي نهاري غربي منقلب خريفي دموي، وفي أوله يبتدئ الليل بالزيادة على النهار ثلاثة أشهر تسعون يومًا.

وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «العقرب» بيت المريخ وهبوط القمر ووبال الزهرة وهو برج مائي ليلي أنثى خريفي شمالي بلغمي، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «القوس» بيت المشتري وشرف الذنب وهبوط الرأس ووبال عطارد وهو برج ناري ذكر نهاري ذو جسدين خريفي طبيعته المرة الصفراء، وفي آخره ينتهي طولُ الليل وقِصَرُ النهار وله ثلاثةُ وُجُوه وخمسة حدود، «الجدي» بيتُ زحل وشرف المريخ وهبوط المشتري ووبال القمر وهو برجٌ ترابيٌّ ليلي منقلب طبيعتُهُ السوداء شتوي جنوبي وفي أوله يأخذ النهار في الزيادة والليل في النقصان ثلاثة أشهر، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الدلو» بيت زحل وليس فيه شرفٌ ولا هبوط بل هو وبال الشمس وهو برج هوائي ذكر ناري غربي ثابت شتوي دموي وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الحوت» بيت المشتري وشرف الزهرة وهبوط عطارد ووباله وهو برج مائي أنثي ليلي شمالي بلغمي، وفي آخره يستوي الليل والنهار، ثم تنزل الشمس أول الحمل، ويستأنف الزمان مثل ما كان في العام الأول، ذلك تقدير العزيز العليم.

(٦) فصل في قران الكواكب

وهذه الكواكب السيارة تسير في هذه البروج الاثني عشر بحركاتها المختلفة — كما بينا — فربما اجتمع منها اثنان في برج واحد وثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو كلها، وإذا اجتمع منها اثنان في درجة واحدة من البرج يقال: إنهما مقتربان، وأما في أكثر الأوقات فإنها تكونُ متفرقة في البروج فيعرف مواضعها في البروج والدرج كيف كانت متفرقةً أو مجتمعة من التقويم أو الزيج.

ذكر البيوت الاثني عشر

إذا ولد مولود أو حدث أمر من الأُمُور فلا بُدَّ من أن تكون في تلك اللحظة درجة طالعة من أفق المشرق فمن تلك الدرجة إلى تمام ثلاثين درجة فما يتلوها يُسمى طالع بيت الحياة سواء كانت تلك الدرج من برج واحد أو من برجين، ومن تمام ثلاثين درجة إلى تمام ستين درجة يسمى الثاني بيت المال، وإلى تمام تسعين درجة يسمى الثالث بيت الإخوة، وإلى تمام مائة وعشرين درجة يسمى الرابع بيت الآباء، وإلى تمام مائة وخمسين درجةً يسمى الخامس بيت الأولاد، وإلى تمام مائة وثمانين درجة يُسمى السادس بيت الأمراض، وإلى تمام مائتين وعشر درجات يسمى السابع بيت الأزواج، وإلى تمام مائتين وأربعين درجة يسمى الثامن بيت الموت، وإلى مائتين وسبعين درجة يسمى التاسع بيت الأسفار، وإلى تمام ثلاثمائة درجة يسمى العاشر بيت السرطان، وإلى ثلاثمائة وثلاثين درجة يسمى الحادي عشر بيت الرجاء، وإلى تمام ثلاثمائة وستين درجة يسمى الثاني عشر بيت الأعداد، وكل بيت من هذه البيوت يدل على أشياء كثيرة تركنا ذكرها؛ لأنها مذكورةٌ في كُتُب الأحكام بشرحها.

(٧) فصل في تَجَرُّد النفس واشتياقها إلى عالم الأفلاك

اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العاقل الفهم إذا نظر في علم النجوم وفكر في سعة هذه الأفلاك وسرعة دورانها وعظم هذه الكواكب وعجيب حركاتها وأقسام هذه البروج وغرائب أوصافِها كما وصفنا قبل؛ تشوقت نفسه إلى الصعود إلى الفلك والنظر إلى ما هناك معاينة، ولكن لا يُمكنُ الصعودُ إلى ما هناك بهذا الجسد الثقيل الكثيف، بل النفس إذا فارقت هذه الجثة ولم يعقها شيء من سوء أفعالها أو فساد آرائها وتراكم جهالاتها أو رداءة أخلاقها؛ فهي هناك في أقل من طرفة عين بلا زمان؛ لأن كونها حيث همتها ومحبوبها كما تكون نفس العاشق؛ حيث معشوقه، فإذا كان عشقها هو الكون مع هذا الجسد ومعشوقها هذه اللذات المحسوسة المحرقة الجرمانية وشهواتها هذه الزينة الجسمانية فهي لا تبرح من هاهنا ولا تشتاق الصعود إلى عالم الأفلاك ولا تفتح لها أبواب السماوات، ولا تدخل الجنة مع زُمَر الملائكة بل تبقى تحت فلك القمر سائحةً في قعر هذه الأجسام المستحيلة المتضادة تارة من الكون إلى الفساد وتارة من الفساد إلى الكون كلما نضجت جُلودُهُم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب لابثين فيها أحقابا ما دامت السماواتُ والأرضُ لا يذوقون فيها برد عالم الأرواح الذي هو الروحُ والريحان، ولا يجدون لذةَ شراب الجنان المذكور في القرآن، وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ، الظالمين لأنفسهم الكافرين لحقائق الأشياء ويروى عن رسول الله — صلى الله عليه وآله وسلم — أنه قال: «الجنة في السماء والنار في الأرض.»

ويُحْكَى في الحكمة القديمة أنه مَن قدر على خَلْع جسده ورفض حواسه وتسكين وساوسه وصعد إلى الفلك؛ جُوزي هناك بأحسن الجزاء، ويُقال: إن بطليموس كان يعشق علم النجوم، وجعل علم الهندسة سُلَّمًا صعد به إلى الفلك فمسح الأفلاك وأبعادها والكواكب وأعظامها ثم دَوَّنَه في المجسطي، وإنما كان ذلك الصعود بالنفس لا بالجسد وهكذا.

ويُحكى عن هرمس المثلث بالحكمة، وهو إدريس النبي — عليه السلام — أنه صعد إلى فلك زحل، ودار معه ثلاثين سنة حتى شاهد جميع أحوال الفلك، ثم نزل إلى الأرض فخبر الناس بعلم النجوم، قال الله تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا.

وقال أرسططاليس في كتاب الثالوجيا شبه الرمزاني: ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني، وصرتُ كأني جوهرٌ مجردٌ بلا بدن، فأكون داخلًا في ذاتي خارجًا عن جميع الأشياء، فأرى في ذاتي من الحُسْن والبهاء ما أبقى له متعجبًا باهتًا فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الفاضل الشريف.

وقال فيثاغورس في الوصية الذهبية: إذا فعلت ما قلت لك يا ديوجانس وفارقت هذا البدن حتى تصير نحلًا في الجو فتكون حينئذٍ سائحًا غير عائد إلى الإنسانية ولا قابل للموت.

وقال المسيح — عليه السلام — للحواريين في وصية له: إذا فارقت هذا الهيكل فأنا واقف في الهواء عن يمنة عرش ربي وأنا معكم حيثما ذهبتم فلا تخالفوني حتى تكونوا معي في ملكوت السماء غدًا.

وقال رسول الله لأصحابه في خطبة له طويلة: «أنا واقف لكم على الصراط وأنكم ستَرِدُون على الحوض غدًا فأقربكم مني منزلًا يوم القيامة من خرج من الدنيا على هيئة ما تركته، أَلَا لا تُغيروا بعدي ألا لا تبدِّلوا بعدي.»

فهذه الحكايات والأخبار كلها دليلٌ على بقاء النفس بعد مفارقة الجسد وأن الإنسان العاقل إذا استبصرتْ نفسه في هذه الدنيا وصَفَتْ من درن الشهوات والمآثم، وزهدت في الكون ها هنا، فإنها عند مفارقة الجسد لا يعوقها شيء عن الصعود إلى السماء ودخول الجنة والكون هناك مع الملائكة وفي مثل هذه النفوس قيل بالعربية شعر:

وما كان إلا كوكبًا كان بيننا
فودعنا جادت معاهده دهم
رأى المسكن العلوي أَوْلَى بمثله
ففاز وأضحى بين أشكاله نجم

وقيل بالفارسية بيت:

خواهي تأمرك نيا بدترا
خواهي كزمك بهابي أمان
زير زمين خيره نهفتي بجوي
بس بفلك برشوبي نرد بان

وقيل أيضًا:

خنك أين أفتاب وزهره وماه
كه نباشند جاودانه تباه
همه بريك نهاد خويش دوند
كه نكردند هركزا زيك راه
راست كوئي ستار كان ملك أند
جشمه أفتاب شاهنشاه
ته بخوانيد نائحة مشغول
يا بتديين كين وحرب وسياه
دوستا نند بيش روياروي
يك بديكر همي كنندنكاه

فمن بلغ رتبة نفسه هذه المرتبة كما ذكرت من قبل صار بهذه المنزلة، إلا أن في هذه السماوات جنة لكنها محفوفةٌ بالمكاره، «قال» الله — عز وجل: إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ، وإنما ذكرنا هذه المعاني في هذه الرسالة؛ لأن أكثر أهل زماننا الناظرين في علم النجوم شاكُّون في أمر الآخرة، متحيرون في أحكام أمر الدين، جاهلون بأسرار النبوات، منكرون البعث والحساب، فدللناهم على صحة أُمُور الدين من صناعتهم، واحتججْنا عليهم من علمهم؛ ليكون أقرب من فهمهم وأوضح لتبيانهم.

(٨) فصل في علة انحصار الأفلاك والبروج والكواكب في عدد مخصوص

اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علة كون الأفلاك تسع طبقات والبروج اثني عشر والكواكب السيارة سبعة ومنازل القمر ثمانية وعشرين واقتصارها على هذه الأعداد؛ فيه حكمةٌ جليلةٌ لا يبلغ فهم البشر كُنه معرفتها، ولكن نذكر من ذلك طرفًا؛ ليكون تنبيهًا لنُفُوس المتعلمين المرتاضين بالنظر في خواص العدد ومطابقة الموجودات لخواص العدد وطبيعته على رأي الحكماء الفيثاغوريين، وذلك أن هؤلاء الحكماء لَمَّا نظروا في طبيعة العدد وجدوا لكل عدد خَاصِّيَّة ليست لغيره ثم تأملوا أحوالَ الموجودات فوجدوا كل نوع منها قد اقتصر على عدد مخصوص لا أقل ولا أكثر، ثم بحثوا عن طبيعة ذلك الموجود وخَاصِّيَّة ذلك العدد فكانا مطابقين، واستبان لهم إتقانُ الحكمة الإلهية فيها، فمن أجل هذا قالوا: إن الموجودات بحسب طبيعة العدد وخواصه.

فمن عرف طبيعة العدد وأنواعه وخواص تلك الأعداد؛ تبين له إتقانُ الحكمة وكون الموجودات على أعداد مخصوصة، فكون الكواكب السيارة سبعة مطابقٌ لأول عدد كامل، وكون الأفلاك تسعةً مطابق لأول عدد فرد مجذور، وكون البروج اثني عشر مطابق لأول عدد زائد، وكون المنازل ثمانية وعشرين مطابق لعدد تام، ولما كانت السبعة مجموعة من ثلاثة وأربعة وكان الاثنا عشر من ضرب ثلاثة في أربعة وثمانية وعشرون من ضرب سبعة في أربعة؛ فبواجب الحكمة صارت مقصورة على هذه الأعداد، وكانت السبعةُ والاثنا عشر والتسعة مجموعُها ثمانية وعشرون عددًا؛ لتكون الموجودات الفاضلة مطابقةً للأعداد الفاضلة.

(٩) فصل في حكمة اختلاف خواص الكواكب

وأما الحكمةُ في كون الكواكب السبعة السيارة اثنان منها نيران واثنان منها سعدان واثنان نحسان وواحد ممتزج، وكون البروج الاثني عشر أربعة منها منقلبة وأربعة ثابتة وأربعة ذوات جسدين، وكون العقدتين في خللها؛ فالحكمةُ في ذلك أكثر مما يُحصى، ولكن نذكر منها طرفًا ليكون دليلًا على الباقي، وذلك أن الباري — سبحانه وتعالى — بواجب حكمته جعل حال الموجودات بعضها ظاهرًا جليًّا لا يخفى وبعضها باطنًا خفيًّا لا تدركه الحواس، فمن الموجودات الظاهرة الجلية جواهر الأجسام وأعراضها وحالاتها، ومن الموجودات الباطنة الخفية جواهر النفس، ومن الموجودات الظاهرة الجلية للحواس أيضًا أمور الدنيا، ومن الموجودات الباطنة الخفية عن أكثر العقول أُمُور الآخرة ثم جعل ما كان منها ظاهرًا جليًّا دليلًا على الباطن الخفي، فمن ذلك النَّيِّران: الشمس والقمر؛ فإن أحدهما الذي هو القمر دليلٌ على أمور الدنيا وحالات أهلها من الزيادة والنقصان والتغيير والمحاق، والأخرى التي هي الشمس دليل على أمور الآخرة وحالات أهلها من التمام والكمال والنور والإشراق.

ومن ذلك حالُ السعدَين المشتري والزهرة؛ فإن أحدهما دليلٌ على سعادة أبناءِ الدنيا وهي الزهرة؛ وذلك أنها إذا استولتْ على المواليد دَلَّتْ لهم على نعيم الدنيا من الأكل والشرب والنكاح والميلاد، ومَنْ كانت هذه حالُهُ في الدنيا فهو من السعداء فيها، وأما المشتري فهو دليلٌ على سعادة أبناء الآخرة؛ وذلك أنه إذا استولى على المواليد دل لهم على صلاح الأخلاق وصحة الدين وصدق الورع ومحض التقى، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهو من السعداء في الآخرة.

ومن ذلك أيضًا النحسان: زحل والمريخ، فإن أحدهما دليل على منحسة أبناء الدنيا وهو زحل؛ وذلك أنه إذا استولى على المواليد دل ذلك على الشقاء والبؤس والفقر والمرض والعسر في الأمور، ومن كانت هذه حالُهُ في الدنيا فهو من الأشقياء فيها، وأما المريخ فإنه دليلٌ على منحسة أبناء الآخرة، وذلك أنه إذا استولى على المواليد دل لهم على الشرور من الفسق والفجور والقتل والسرقة والفساد في الأرض، ومن كانت هذه حالُهُ في الدنيا فهو من الأشقياء في الآخرة، وأما من استولى على مولده المشتري والزهرة فسعادتُهُما دلالة على السعادة في الدنيا والآخرة، ومن استولى على مولده زحل والمريخ فنحوستهما دلالة على منحسة الدنيا والآخرة، وأما امتزاج عطارد بالسعادة والنحوسة فهو دليلٌ على أمور الدنيا والآخرة وتعلق إحداهما بالأخرى، وأما كون البروج المنقلبة وحالاتها تدل على تقلُّب أحوال أبناء الدنيا، والبروج الثوابت تدل على ثبات أحوال أبناء الآخرة والبروج ذوات الجسدين تدل على تعلق أمور الدنيا والآخرة أحدهما بالآخر.

وقد قيل: إن طالع الدنيا السرطان وهو برجٌ منقلبٌ وأوتادُهُ مثله، وأما العقدتان اللتان تسمى إحداهما رأس التنين والأُخرى الذنَب فليسا بكوكبين ولا جسمين ولكنهما أمران خفيان — كَمَا بَيَّنَّا قبل — ولهما حركاتٌ في البرج كحركات الكواكب، ولهما دلالةٌ على الكائنات كدلالة الكواكب النحوس وهما خفيَّا الذات ظَاهِرَا الأفعال فخفاءُ ذاتيهما وظهورُ أفعالهما يدل على أن في العالم نفوسًا أفعالُها ظاهرة وذواتُها خفية يسمون الروحانيين، وهُمْ أجناسُ الملائكة وقبائلُ الجن وأحزاب الشياطين، فأجناسُ الملائكة هي نفوسٌ خيرةٌ موكلةٌ بحفظ العالم وصلاح الخليقة، وقد كانت متجسدةً قبلُ وقتًا من الزمان فتهذبت واستبصرت وفارقت أجسادها واستقلت بذاتها، وفازت ونجت وساحت في فضاء الأفلاك وسعة السماوات، فهي مغتبطةٌ فرحانةٌ مسرورةٌ ملتذةٌ ما دامت السماوات والأرض.

وأما عفاريت الجن ومردة الشياطين فهي نفوسٌ شريرةٌ مفسدة، وقد كانت متجسدة قبلُ وقتًا من الزمان ففارقت أجسادها غير مستبصرة ولا متهذبة فبقيتْ عميًا عن رؤية الحقائق صمًّا عن استماع الصواب بُكمًا عن النطق الفكري في المعاني اللطيفة، فهي سابحةٌ في ظلمات بحر الهيولى، غائصةٌ في قعر من الأجسام المظلمة ذي ثلاثة شعب تهوي في هاوية البرزخ كلما نضجتْ جلودُهُم بالبلاء بدلناهم جُلُودًا غيرها بالكون، فذلك دأبُهُم ما دامت السماوات والأرض لابثين فيها أحقابًا لا يجدون برد نسيم عالم الأرواح، ولا يذوقون لذة شراب المعارف، فهذه حالهم إلى يومِ يبعثون.

وأما الظاهر من تأثيرات الرأس والذنب فهو كسوفُ النيرين، وذلك أنهما من أَوْكَدِ الأسباب في كسوفهما، وإنما اقتضت الحكمةُ كسوف النيرين لكيما تزول التهمة والريبة من قلوب المرتابين بأنهما إلهان، فلو كانا إلهين ما انكسفا، وإنما صارتْ محنة الشخصين النيرين الجليلين بأمرين خفيين؛ ليكون دليلًا على أن أَعْظَمِ المحنة من الشيطان على الأنبياء — صلوات الله عليهم أجمعين — لأن الأنبياء هم شُمُوسُ بني آدم وأقمارُهُم، فمِن ذلك قصةُ إبليس مع آدم أبي البشر وإخراجه له من الجنة وقصة رُكُوبه مع نوح في السفينة وقصتُهُ مع إبراهيمَ خليل الرحمن يوم طُرِحَ في النار في إصلاح المنجنيق وقصته مع موسى — عليه السلام — حين وسوس إليه أن هذا الكلام الذي تسمع لعله ليس كلام رب العالمين، فعند ذلك قال موسى: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي، وقصته مع المسيح وزكريا ويحيى — عليهم السلام — وغيرهم من الأنبياء معروفةٌ يطول شرحها، وإنما ذكرنا هذه الأحرف في هذه الرسالة؛ لأن أكثر أهل زماننا الناظرين في علم النجوم شَاكُّون في أمر الآخرة، متحيرون في أحكام الدين، جاهلون بأسرار النبوات، منكرون للحساب والبعث، فدَلَلْنَاهم على تحقيق ما أنكروه من صناعتهم؛ ليكون أقرب من فهمهم وأوضح لبيانهم، وكذلك فعلنا في سائر رسائلنا التي عملناها في فنون العلوم.

(١٠) فصل في علم أحكام النجوم

وإذ قد ذكرنا طرفًا من علم الهيئة وتركيب الأفلاك شبه المدخل والمقدمات فنريد أن نذكر أيضًا طرفًا من علم «الأحكام» الذي يعرف بالاستدلال:

اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلماء مختلفون في تصحيح علم الأحكام وحقيقته، فمنهم من يرى ويعتقد أن للأشخاص الفلكية دلالات على الكائنات في هذا العالم قبل كونها، ومنهم من يرى ويعتقد أن لها أفعالًا وتأثيرات أيضًا مع دلالاتها، ومنهم مَن يرى ويعتقد أن ليس لها أفعالٌ ولا تأثيرات ولا دلالات البتة بل ترى أن حكمها حُكم الجمادات والموات بزعمهم، فأما الذين قالوا: إن لها دلالات فهُم أصحابُ الأحكام، وإنما عرفوا دلالاتها بكثرة العناية بالإرصاد لحركاتها وتأثيراتها والنظر فيها واعتبار أحوالها وشدة البحث عنها.

والناس لتصاريف أُمُورها على ممر الأيام والشهور والأعوام أمة بعد أمة وقرنًا بعد قرن كلما أدركوا شيئًا منها أَثبتوه في الكتب كما ذكروها في كتبهم بشرح طويل، وأما الذين أنكروا ذلك فهم طائفةٌ مِنْ أهل الجدل تركوا النظر في هذا العلم وأَعرضوا عن اعتبار أحوال الفلك وأشخاصه وحركاته ودورانه، وأغفلوا البحث عنها والتأمل لتصاريف أمورها فجهلوا ذلك وأنكروه وعادَوا أهلها وناصبوهم العداوة والبغضاء.

وأما الذين ذكروا أن لها مع دلالاتها أفعالًا وتأثيرات في الكائنات التي تحت فلك القمر، فإنما عرفوا ذلك بطريقٍ آخرَ غير طريق أصحاب الأحكام وبحث أشد من بحثهم واعتبار أكثر من اعتبارهم وهو طريق الفلسفة الروحانية والعلوم النفسانية وتأييد إلهي وعناية ربانية، ونُريد أن نذكر من هذا الفن طرفًا ليكون إرشادًا للمحبين للفلسفة والراغبين فيها ودلالة لهم عليها ورغبة فيها؛ أعني: علم الفلسفة.

فاعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك سماواته خلقهم الله تعالى لعمارة عالمه وتدبير خلائقه وسياسة بريته، وهم خلفاءُ الله في أفلاكه، كما أَنَّ مُلُوك الأرض هم خلفاءُ الله في أرضه، خلفهم وملكهم بلاده، وولَّاهم على عباده ليعمروا بلاده، ويسوسوا عبادَه، ويحفظوا شرائعَ أنبيائه بإنفاذ أحكامهم على عباده، وحفظ نظامهم على أحسن حالات ما يتأتى فيهم وأتم غايات ما يمكنهم من البلوغ إليها وأفضل نهايات ما يصلون إليها إما في الدنيا وإما في الآخرة.

فعلى هذا المثال والقياس تجري أحكامُ هذه الكواكب في هذه الكائنات التي تحت فلك القمر، ولها أفعال لطيفة وتأثيرات خفية تدق على أكثر الناس معرفتها وكيفيتها كما تدق على الصبيان والجهال معرفة كيفية سياسة الملوك وتدبيرهم في رعيتهم، وإنما يعرف ذلك منها العقلاء والبالغون المتأملون للأُمُور، فهكذا أيضًا لا يَعرف كيفية تأثيرات هذه الكواكب وأفعالها في هذه الكائنات إلا الراسخون في العلوم من الحكماء والفلاسفة، البالغون في المعارف الربانية، الناظرون في العلوم الإلهية، المؤيدون من السماء بتأييد الله وإلهامه لهم.

(١١) فصل في كيفية وُصُول قوى أشخاص العالم العلوي إلى أشخاص العالم السفلي «الذي هو عالم الكون والفساد»

اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن معنى قول الحكماء: «العالم» إنما هو إشارة إلى جميع الأجسام الموجودة وما يتعلق بها من الصفات، وهو عالم واحد كمدينة واحدة أو حيوان واحد، ولكن لما كانت الأجسامُ كلها تنقسم قسمين حسب، فمنها عالم الأفلاك ومنها عالم الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ويسمى عالم الكون والفساد؛ فنقول: إن أول حد عالم الأفلاك هو مِن أعلى سطح الفلك المحيط إلى منتهى مقعر سطح فلك الأثير، وهو فلك القمر ثم مما يلي الهواء، وحد عالم الأركان هو من مقعر سطح فلك القمر إلى منتهَى الأرض، ويسمى أحدُهُما العالم العلوي والآخر العالم السفلي؛ لأن العلوي هو مما يلي المحيط والسفلي مما يلي المركز، وأما الذي فوق الفلك فهو رتبةُ النفس الكلية التي هي ساريةٌ قواها في جميع الأجسام التي في العالمين جميعًا من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض بإذن الباري — جل ثناؤه.

واعلمْ يا أخي أن أول قوة تسري في النفس الكلية نحو العالم فهي في الأشخاص الفاضلة النيرة التي هي الكواكبُ الثابتة، ثم بعد ذلك في الكواكب السيارة، ثم بعد ذلك فيما دونها من الأركان الأربعة وفي الأشخاص الكائنة منها من المعادن والنبات والحيوان.

واعلم بأن مثال سريان قوى النفس الكلية في الأجسام الكلية والجزئية جميعًا؛ كمثال سريان نور الشمس والكواكب في الهواء، ومطارح شعاعاتها نحو مركز الأرض.

واعلم يا أخي بأن الكواكب السيارة ترتقي تارة بحركاتها إلى أعلى ذرى أفلاكها وأوجاتها، وتقرب من تلك الأشخاص الفاضلة التي تسمى الكواكب الثابتة، وتستمد منها النور والفيض والقوى، وتارة تنحط إلى الحضيض وتقرب من عالم الكون والفساد وتوصل تلك الفيضات والقوى إلى هذه الأشخاص السفلية فتسري فيها كما تسري قوةُ النفس الحيوانية في الدماغ، ثم بتوسط الأعصاب تصلُ إلى سائر أطراف البدن كما بَيَّنَّا كيفيتها في رسالة الحاس والمحسوس، فإذا وصلت تلك القوى والفيضات مع شعاعاتها إلى هذا العالم فإنها تسري أولًا في الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ثم يكون ذلك سببًا لكون الكائنات التي هي المعادنُ والنبات والحيوان ويكون اختلاف أجناسها وأنواعها بحسب اختلاف أشكال الفلك واختلاف الأماكن واختلاف الأزمان، لا يعلم أحدٌ كثرتها وفنون أشخاصها وتفاوُت أوصافها إلا الله — جَلَّ ثناؤُهُ — الذي هو خالقُها وبارئها ومنشئها ومصورها كيف شاء.

(١٢) فصل في بيان كيفية سعادات الكائنات ومناحسها

اعلمْ أن الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، والكواكب أيضًا هكذا دائمة، وأن الحركات على توالي البروج كما هو بين في الزيجات والتقاويم، وهكذا أيضًا الكائنات دائمة في الكون والفساد متصلة لا تنقطع ليلًا ولا نهارًا ولا شتاءً ولا صيفًا، ولكن إذا اتفق في وقت من الزمان أن تكون الكواكبُ السيارةُ في أوجاتها أو إشرافها أو بيوتها أو حدودها أو يكون بعضها من بعض على النسبة الفُضلى التي تُسمى النسبة الموسيقية، وهي النصف والثلث والربع والثمن، سرت تلك القوى عند ذلك من النفس الكلية ووصلت بتوسط تلك الكواكب إلى هذا العالم السفلي الذي هو دون فلك القمر وحدث بذلك السبب الكائنات على أعدل مزاج وأصبح طبائع وأجود نظام ونشأت ونمت وتمت وكملت وبلغت إلى أقصى مدى غاياتها وتمام نهاياتها التي هي قاصدة نحوها، وتسمى تلك الأحوال والأوصاف وما يتكون عنها سعادة وخيرات، وإذا اتفق أن يكون شكل الفلك ومواضع الكواكب على ضد ذلك كان أمر الكائنات بالضد أيضًا، وتناقصت من بلوغ غاياتها وتمام نهاياتها، وسميت تلك مناحس الفلك وسبب الشرور ولا يكون ذلك بالقصد الأول، ولكن بأسباب عارضة كَمَا بَيَّنَّا في رسالة الآراء والمذاهب في باب علل الشرور وأسبابها، فاعرفْها من هناك — إن شاء الله وحده.

(١٣) فصل في علة اختلاف تأثيرات الكواكب في الكائنات الفاسدات التي دون فلك القمر

اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن إشراق الكواكب على الهواء ومطارح شعاعاتها على مركز الأرض على سَنن واحد، ولكن قبول القابلات لها ليس بواحد، بل مختلف بحسب اختلاف جواهرها.

مثال ذلك أن الشمس إذا أشرقتْ من الأفق أضاءت الهواء من نورها، وسخن وجه الأرض من انعكاس شعاعاتها — كما بيَّنا في رسالة الآثار العلوية — وجف الطين، وذاب الثلج، ولان الشمع، ونضج الثمر، ونتن اللحم، وابيضت ثياب القصارين، واسودت وجوههم، وانعكس الشعاع من السطوح الصقيلة الوجوه كوجه المرايا، وسَرَى الضوء في الأجسام الشفافة كالزجاج والبلور والمياه الصافية، وقويتْ أبصارُ أكثر الحيوانات، وضعفت أبصار بعضها كالبوم والخفافيش وبنات وردان وما شاكلها من الحيوانات، فيكون اختلاف تلك التأثيرات في هذه الأشياء بحسب اختلاف جواهرها وتركيبها ومزاجها وقبولها، وإلا فالإشراقُ واحد، وعلى هذا المثال اختلافُ قبولها لتأثيرات سائر الكواكب في المواليد وتحاويل السنين.

ومثال آخر، إذا اتفق للفلك شكل محمود من سعادة أحوال الكواكب في وقتٍ من أوقات الأزمان، ويولد في ذلك الوقت عدة مواليد مِن أجناس الحيوانات ومواليد الناس، ولكن يكون بعضُهُم من أولاد الملوك والرؤساء، وبعضُهُم من أولاد التجار والدهاقين وأرباب النعم، وبعضهم من أولاد الفقراء والمساكين والمكدين فلا يكون قبولهم لسعادة الفلك على سنن واحد، بل كُلُّ واحد منهم بحسب مرتبته، وذلك أن أولاد المكدين إذا حسنتْ أحوالهم من السعادة فهو أن يبلغوا مرتبة أولاد التجار وأرباب النعم وأوساط الناس، وإذا حسن أولاد التجار، فهو أن يبلغوا مرتبة أولاد الملوك، وأولاد الملوك إذا قبلوا سعادة الفلك ارتقوا وبلغوا سرير الملك والسلطان، وإن نحسوا قصر بهم عن ذلك، وكذلك كُلُّ واحدٍ من أولئك الذين تقدم ذِكْرُهُم ينحط من درجة إلى ما دونها في المرتبة.

ومثال آخر، أنه اتفق عدة مواليد في طالع واحد ووقت واحد في بُلدان مختلفة، وشكل الفلك يدل على أن يكونوا شعراء خطباء، غير أن بعضهم في بلاد العرب، وبعضهم في بلاد النبط، وبعضهم في بلاد الأرمن، فقبولُهُم يختلف لأن العربي أسرع قبولًا لخَاصِّيَّة بلده، والنبطي دون ذلك، والأرمني دونه، وعلى هذا المثال والقياس تختلف تأثيرات الكواكب في الكائنات. وقد ذكرت علل ذلك في كتب الأحكام بشرح طويل، فاعرفْه من هناك.

واعلمْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن لهذه الكواكب السيارة في أفلاكها المختصة بها حالاتٌ مختلفةٌ.

فمن ذلك: السرعة في السير والإبطاء في الحركة والوُقُوف والاستقامة والرجوع والارتفاع في الأوجات والانحطاط إلى الحضيض والكون في الميل والذهاب في العرض والبُلُوغ إلى الجوزهر وما يشاكل ذلك من الأوصاف المختلفة، ولها أيضًا في هذه البروج أقسامٌ وأنصبةٌ كالبيوت والوبال والشرف والهبوط والمثلثات والحدود والنوبهرات وما شاكل ذلك، ولها أيضًا مناظرات بعضها إلى بعض، واتصالات ومقارنات وانصرافات واحترافات وتشريق وتغريب، والكون في الأوتاد أو ما يليها أو الزوال عنها وما شاكل هذه الأوصاف المذكورة في كتب الأحكام بشرح طويل، وقد ذكرنا طرفًا من هذه الأوصاف فيما تقدم من هذه الرسالة.

واعلم يا أخي أن هذه الكواكب السيارة تسير في مُوازاة هذه البُرُوج بحركاتها المختلفة، فربما اجتمع اثنان منها في بُرج واحد أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو كلها، وذلك في الندرة في الأزمان الطوال، وأما في أكثر الأوقات فتكونُ متفرقة في البروج ودرجاتها، وتعرف مواضعها من البروج والدرج والدقائق من التقاويم والزيجات في أي وقت وأي زمان شئت.

واعلم يا أخي أن الشمس من بين الكواكب كالملك، وسائرها كالأعوان والجنود في التمثيل، والقمر كالوزير وولي العهد، وعطارد كالكاتب، والمريخ كصاحب الجيش، والمشتري كالقاضي، وزحل كصاحب الخزائن، والزهرة كالجواري والخدم، والأفلاك لها كالأقاليم، والبروج كالبلدان والسوادات والحدود والوجوه كالمدن، والدرجات كالقرى، والدقائق كالمحال والأسواق في المدن والثواني في الدقائق كالمنازل في المحال والدكاكين في الأسواق، والكواكب في البروج كالأرواح في الأجساد، والكوكب في بيته كالرجل في بلده وعشيرته، والكوكب في شرفه كالرجل في عِزِّهِ وسلطانه، والكوكب في مثلثه كالرجل في منزله أو دكانه أو ضيعته، والكوكب في وجهه كالرجل في زِيِّهِ ولباسه، والكوكب في حده كالرجل في خلقه وسجيته، والكوكب في أوجه كالرجل في أَعْلَى مرتبته، والكوكب في حيزه كالرجل في حاله اللائقة به وفي أصحابه ورفقائه.

والكوكب في وباله كالرجل المختلف المدبر، والكوكب في غير حيزه كالرجل في حال منكر، والكوكب في برج لا حظ له فيه كالرجل الغريب في بلدة غريبة، والكوكب في هبوطه كالرجل الذليل المهين، والكوكب في حضيضه كالرجل الوضيع الحال الساقط عن مرتبته، والكوكب تحت الشعاع كالبطل المحبوس، والمحترق كالمريض، والواقف كالمتحير في أمره، والراجع كالعاصي المخالف، والسريع السير كالمقبل الصحيح، والبطيء السير كالضعيف الذاهب القوة، والكوكب في التشريق كالرجل النشيط، والكوكب في التغريب كالهرم.

والناظر كالطالع الذاهب نحو حاجته، والمنصرف كقاضي وطره، والمقترنان من الكواكب كالقرينين من الناس، والكوكب في الوتد كالرجل الحاضر للشيء الحاصل فيه، ومائل الوتد كالجاني المنتظر، والزائل كالذاهب أو الفائت، والكوكب في الطالع كالمولود في الظهور أو الشيء في الكون، وفي الثاني كالمنتظر الذي سيكون، وفي الثالث كالذاهب إلى لقاء الإخوان، وفي الرابع كالرجل في دار آبائه أو الشيء في معدنه، وفي الخامس كالرجل المستعد للتجارة أو الفرحان بما يرجو، وفي السادس كالهارب المنهزم المتعوب، وفي السابع كالرجل المبارز المنازع المحارب، وفي الثامن كالرجل الخائف الوجل، وفي التاسع كالرجل المسافر البعيد من الوطن الزائل من سلطانه، وفي العاشر كالرجل في عمله وسلطانه المعروف المشهور به، وفي الحادي عشر كالرجل الواد الموافق المحب، وفي الثاني عشر كالمحبوس الكاره لموضعه المبغض لما هو فيه.

وإذا توارى كوكبان منها في درجة من الفلك فيقال: إنهما مقترنان، وإذا جاوز أحدهما الآخر فيقال: قد انصرف، وإذا لحق بالآخر فيقال: قد اتصل به، والاتصالُ قد يكون بالمقارنة وقد يكون بالنظر، وهو أن يكون بينهما ستون درجة سدس الفلك أو تسعون درجة ربع الفلك أو مائة وعشرون درجة ثلث الفلك، أو مائة وثمانون درجة نصف الفلك، فإذا تناظرا في التسديس فهما كالرجلين المتوادين بسبب من الأسباب، وإذا تناظرا في التثليث فهما كالرجلين المتفقين في الطبع والخلق، وإذا تناظرا في التربيع فكالرجلين المتعاملين اللذين يدعي كل واحد منهما الأمر لنفسه، وإذا تناظرا في المقابلة فهما كالرجلين المتنازعين أو كالشريكين المتغارمين، وهذا مثاله وصورته:

فقد تبين بهذه الصورة أن مناظرة الكواكب بعضها إلى بعض من سبعة مواضع من درجات الفلك ومعنى مناظراتها ومطارح شعاعاتها.

واعلم أن الكواكب تطرح شعاعاتها إلى جميع درجات الفلك فتضيئها وتملأها نورًا وضياءً، كما أن السراج يضيء جميع أجزاء الدائرة وبسيطها، وإنما ذكر علماء النجوم سبعة مواضع منها لظهور أفعالها وبيان تأثيراتها في هذا العالم من تلك الدرجات المعلومة لمناسبات بعضها بعضًا؛ لأن أفعال الكواكب وتأثيراتها في هذا العالم إنما هي بحسب مناسباتها من الأرض؛ أعني: نسب أجرامها إلى جرم الأرض وأبعادها من مركز الأرض، أو بحسب تناسُب حركاتها بعضها إلى بعض، وقد بيَّنا طرفًا من علم هذا النسب في رسالة الموسيقى.

(١٤) فصل في أن المنجم لا يدعي علم الغيب فيما يخبر به من الكائنات

واعلم أن كثيرًا من الناس يظنون أن علم أحكام النجوم هو ادعاء الغيب، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأن علم الغيب هو أن يعلم ما يكون بلا استدلال ولا علل ولا سبب من الأسباب، وهذا لا يعلمه أحد من الخلق، كذلك لا منجم ولا كاهن ولا نبي من الأنبياء ولا ملك من الملائكة إلا الله — عز وجل.

واعلم يا أخي أن معلومات الإنسان ثلاثة أنواع، فمنها ما قد كان وانقضى ومضى مع الزمان الماضي، ومنها ما هو كائن موجود في الوقت الحاضر، ومنها ما سيكون في الزمان المستقبل، وله إلى هذه الأنواع الثلاثة من المعلومات ثلاثة طرق؛ أحدها السماع والإخبار لما كان ومضى، والآخر هو الإحساس لما هو حاضر موجود، والثالث الاستدلال على ما هو كائن في المستقبل، وهذا الطريق الثالث ألطف الطرقات وأدقها، وهو ينقسم إلى عدة أنواع؛ فمنها بالنجوم، ومنها بالزجر والفأل والكهانة، ومنها بالفكر والروية والاعتبار، ومنها بتأويل المنامات، ومنها بالخواطر والوحي والإلهام، وهذا أَجَلُّهَا وأشرفها، وليس ذلك باكتساب، ولكن موهبة من الله — عز اسمُهُ — لمن شاء أن يجتبيه من عباده، فأما علم النجوم فهو اكتساب من الإنسان وتكلف وجهد واجتهاد في تعلم العلم وطلبه، وهكذا الزجر والفأل، والنظر في الكف وضرب الحصى والكهانة والقيافة والعرافة وتأويل المنامات وما شاكلها؛ كلها يحتاج الإنسان فيها إلى التعلُّم والنظر والفكر والروية والاعتبار، وهذا الفن من العلم يتفاضلُ فيه الناس بعضهم على بعض، وكل واحد يختص بشيء منه.

واعلم يا أخي أن الكائنات التي يستدل عليها المنجمون سبعةُ أنواع، فمنها الملل والدول التي يستدل عليها من القرانات الكبار التي تكون في كل ألف سنة بالتقريب مرة واحدة، ومنها أن تنتقل المملكةُ من أمير إلى أمير، ومن أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن أهل بيت إلى أهل بيت آخرَ، وهي التي يستدل عليها وعلى حُدُوثها من القرانات التي تكون في كل مائتين وأربعين سنة مرة واحدة، ومنها تبدل الأشخاص على سرير الملك، وما يحدث بأسباب ذلك من الحروب والفتن التي يستدل عليها من القرانات التي تكون في كل عشرين سنة مرة واحدة، ومنها الحوادثُ والكائنات التي تحدث في كل سنة من الرخص والغلاء والجدب والخصب والحدثان والبلاء والوباء والموتان والقحط والأمراض والأعلال والسلامة منها، ويستدل على حدوثها من تحاويل سني العالم التي تؤرَّخ بها التقاويم، ومنها حوادث الأيام شهرًا شهرًا ويومًا يومًا التي يستدل عليها من الأوقات والاجتماعات والاستقبالات التي تؤرخ بها في التقاويم، ومنها أحكام المواليد لواحدٍ واحد من الناس في تحاويل سنيهم بحسب ما يوجبُهُ لهم تشكُّل الفلك ومواضع الكواكب في أُصُول مواليدهم وتحاويل سنيهم، ومنها الاستدلال على الخفيات من الأُمُور كالخبر والسرقة واستخراج الضمير والمسائل التي يستدل عليها من طالع وقت المسألة والسؤال عنها.

واعلم يا أخي أنه ليس في معرفة الكائنات قبل كونها صلاح لكل واحد من الناس؛ لأن في ذلك تنغيصًا للعيش واستجلابًا للهمِّ واستشعارًا للخوف والحزن والمصائب قبل حلولها، وإنما نظر الحكماء في هذا العلم وبحثهم عن هذه السرائر ليرضوا بذلك نفوسهم، ويستعينوا بهذا العلم على الترقِّي إلى ما هو أشرفُ منه وأَجَلُّ؛ وذلك أن الإنسان العاقل المحصل المستيقظ القلب إذا نظر في هذا العلم وبحث عن هذا السر وعن أسبابه وعِلَلِه واعتبرها بقلب سليم من حب الدنيا انتبهت نفسه من نوم الغفلة، واستيقظتْ من رقدة الجهالة، وانتعشتْ وانبعثتْ من موت الخطيئة، وانفتحتْ لها عينُ البصيرة، فأبصرتْ عند ذلك تصاريف الأُمُور، وعرفت حقائق الموجودات، ورأت بعين اليقين الدار الآخرة، وتحققت أمر المعاد، وعلمت عند ذلك بها ومن أجلها وتشوفت إليها، وزهدت في الكون في الدنيا، فعند ذلك تهون عليها مصائبُ الدنيا، فلا تغتم ولا تجزع ولا تحزن إذا علمت موجبات أحكام الفلك من المخاوف والمصائب، كما ذُكر عن رسول الله أنه قال: من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب. وتصديق ذلك قول الله تعالى: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ.

واعلم يا أخي أن في معرفة علم النجوم فوائد كثيرة، فمنها: أن الإنسان إذا علم ما يكون من حادث في المستقبل أو كائن بعد الأيام؛ أمكنه أن يدفع عن نفسه بعضها لا بأن يمنع ويدفع كونها ولكن يتحرز منها أو يستعد لها كما يَفعل سائرُ الناس ويستعدون لدفع برد الشتاء بجمع الدثار ولحر الصيف بأخذ الكن ولسني الغلاء بالادخار ولمواضع الفتن بالهرب منها والبُعد عنها وترك الأسفار عند المخاوف وما شاكل ذلك، مع علمهم بأنهم لا يُصيبُهُم منها إلا ما كتب الله لهم وعليهم.

وخصلة أخرى أيضًا، وهي أنه متى علم الناس الحوادث قبل كونها أمكنهم أن يدفعوها قبل نزولها بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى والتوبة والإنابة إليه وبالصوم والصلاة والقربان والسؤال إياه أن يصرف ما يخافون نزوله ويرفع ويدفع عنهم ما يحذرون منه.

واعلم يا أخي أنك إن نظرت في أسرار النواميس، وتأملت سنن الشرائع وأحكام الديانات، علمت وتبين لك أن أجل أغراض واضعي النواميس كان هذا الذي ذكرت لك، وذلك أن موسى — عليه السلام — أوصى بني إسرائيل، فقال لهم: احفظوا شرائع التوراة التي أنزل الله عليَّ واعملوا بوصاياها، فإن الله تعالى يسمع دعائكم، ويرخص أسعاركم، ويخصب بلادكم، ويكثر أموالكم وأولادكم، ويكف عنكم شر أعدائكم، ومتى خفتم حوادث الأيام ومصائب الزمان، فتوبُوا إلى الله جميعًا توبةً نصوحًا، واستغفِروا، وصلُّوا له، وصوموا، وتَصَدَّقُوا في السر والعلانية، وادعوه خوفًا وتضرعًا حتى يصرف عنكم شر ما تخافون، ويدفع عنكم ما تحذرون، ويكشف عنكم ما ينزل بكم من محن الدنيا ومصائبها وحوادث أيامها، وعلى هذا المثال كانت وصية المسيح — عليه السلام — لأصحابه الحواريين، ولا حاجة بنا أن نُكرر وصية محمد لأمته.

•••

واعلم أن الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل الورع والمتنسكين قد نَهَوْا عن النظر في علم النجوم وإنما نهوا عنه؛ لأن علم النجوم جزءٌ من علم الفلسفة، ويكره النظر في علوم الفلسفة للأحداث والصبيان وكل من لم يتعلم علم الدين ولا يعرف من أحكام الشريعة قدر ما يحتاج إليه وما هو فرض عليه ولا يسعه جهله وتركه، فأما من قد تعلم علم الشريعة وعرف أحكام الدين وتحقق أمر الناموس، فإن نظره في علم الفلسفة لا يضره بل يزيده في علم الدين تحققًا، وفي أمر المعاد استبصارًا وبثواب الآخرة وبالعقاب الشديد يقينًا، وإليها اشتياقًا وفي الآخرة رغبة وإلى الله تعالى قربة، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا طريق السداد وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد.

(تمت الرسالة الثالثة في الأسطرنوميا من رسائل إخوان الصفاء، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطيبين الطاهرين.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤