مصطفى لطفي المنفلوطي

figure

في فترة من تاريخ ثقافتنا، وفي أيام لا تتجاوز أيام الحرب العالمية الأولى، كان السائل يسأل: من أكتب الكتاب في لغتنا العربية؟ فيسمع الجواب من الكثرة الغالبة بين قراء تلك الفترة: إنهما اثنان: الشيخ علي يوسف والشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي!

وربما حرص المجيب على تقديم لقب الشيخ على الاسم، خلافًا للعادة في تداول أسماء المشهورين.

وكانت عصبية لا شك فيها، قد نسميها بالعصبية الأخوية، أو العصبية المحلية، أو العصبية الفخرية، ولكنها — بأي الأوصاف وصفناها — وزنة لازمة لتصحيح التقدير في موازين الأدب والأدباء، فلا تصح هذه الموازين ولا تعرف الحقائق التي كمنت زمنًا وراء أسباب الإقبال والإعراض على مدارس الكتابة عندنا بغير الوقوف على معنى تلك العصبية.

ونسأل: ما معناها؟

فلا نستطيع أن نقول إنها عصبية من المعممين والمطربشين؛ لأن السيد توفيق البكري والشيخ عبد العزيز جاويش والشيخ حفني ناصف قبل ذلك كانوا من المعممين، ولكنهم لم يحسبوا في عداد الزمرة التي تجنح إليها تلك العصبية وتخصها بالتنويه والتفضيل.

كذلك لا نستطيع أن نقول إنها عصبية السبق إلى موضوع الكتابة المختارة؛ فإن المويلحي الكبير والمويلحي الصغير قد سبقا معًا إلى الكتابة في موضوع المقالة الإنشائية والمقامة الأدبية، وكتب كلاهما في الصحف السياسية كما كتب علي يوسف دائمًا وكما كتب المنفلوطي أحيانًا، ولكنهما لم يحسبا في عداد تلك الزمرة، ولم يسمع لكتاب «عيسى بن هشام» ذكر بين نماذج الإنشاء التي اختارها للتلاميذ مدرسو اللغة العربية كما اختاروا مقالات «النظرات» و«العبرات» و«المختارات» و«مجدولين» و«في سبيل التاج»، وكل كتاب ألفه المنفلوطي أو ترجمه بمعونة غيره.

ولم تكن العصبية عصبية المعهد الذي انتمى إليه علي يوسف والمنفلوطي؛ لأنهما أزهريان لم يتما التعليم الأزهري، والمدرسون الذين يزكونهما في دروس الإنشاء أو يتشيعون لهما في «الحزبية الأدبية» أكثرهم من خريجي دار العلوم، وبينهم وبين إخوانهم الأزهريين منافسة لا تخفى.

إنما كانت تلك العصبية في حقيقتها عصبية المعرفة باللغة الأجنبية والجهل بها، فهي لا تشمل المطلع على لغة أجنبية ولو كان من أصلاء المعممين كالسيد توفيق البكري، وهي لا تستثني أحدًا يجهلها ولو كان من غير المعهد الذي ينتمي إليه المعجبون، وقد لحق بالكاتبين المعممين كاتب مطربش كان له سهمه في هذه العصبية؛ لأنه لم يحصِّل من اللغات قسطًا يعتمد عليه في المطالعة والكتابة، وهو مصطفى صادق الرافعي خريج المدرسة الابتدائية وربيب الأسرة «المشيخية».

وقد كانت «العصبية اللغوية» لا تخلو من ناحيتها الفكاهية كما هو الشأن في كل عصبية من قبيلها، ولكن أصحابها لم ينفردوا بهذه الناحية الفكاهية؛ لأنهم كانوا يقابلون من الطرف الآخر بناحية تضارعها أو تزيد عليها في نزعتها المضحكة؛ إذ كان «المتفرنجون» يومئذ يزهون برطانتهم المستعارة زهو الحديث النعمة، أو زهو الغني الذي نسميه «غني الحرب»، وإن كان غناه من غيرها، وقد كان بعض هؤلاء المتفرنجين ينسى لغته — اللغة الأم كما يقال — في عرض الخطاب فيلوي لسانه بالكلام الدارج في الإنجليزية أو الفرنسية، كأنه يجهل ما يقابله باللغة العربية الفصيحة أو العامية.

وكان المعنيون بالأدب منهم يبالغون في اشتراطهم تعلم اللغات لتكوين ملكة الكتابة، حتى خلطوا بين القدرة على الكتابة وبين القدرة على توسيع موضوعاتها وتصحيح معلوماتها واختيار مناسباتها العصرية بعد مناسباتها التقليدية، وما زالت العصبيتان على انفراج بعيد في الزاوية إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية بقليل، ثم أخذت هذه الفرجة شيئًا فشيئًا في الاقتراب حتى التقى الخطان أو كادا قبيل هذه الأيام؛ لأن دارسي العربية عرفوا اللغات الأجنبية وتعلموها واطلعوا على ثقافتها وعلى المترجم من روائعها، ودرس «المتفرنجون» آداب شعرائنا وكتابنا الذين سبقوا أيام الحضارة الفرنجية وتقدموها، فكفكفوا من غلوائهم الأولى وعلموا أن ملكة الكتابة قد توجد على أحسنها وأبلغها عند أديب لا يعرف كلمة من اللغات الأوروبية.

•••

وذات يوم من أيام الحرب العالمية الأولى، والزاوية المنفرجة آخذة في التلاقي والاقتراب، شاءت أزمة الصحافة المعطلة أو المقيدة أن أشتغل بالتعليم، ناظرًا لمدرسة المؤاساة الإسلامية ومدرسًا للأدب والترجمة، ثم مدرسًا بالمدرسة الإعدادية الثانوية، فمدرسة وادي النيل الثانوية.

وعلى صفحات كراسة الإنشاء التقيت بالأسلوب المنفلوطي لأول مرة، وعنيت بنقده لأول مرة في دروس التعليم، قبل عنايتي بنقده في مجال الثقافة الواسع ببضع سنوات.

•••

كانت الوصية الأولى لطالب «الإنشاء» عند أساتذة اللغة العربية بإجماع الآراء: اقرأ كتب المنفلوطي واكتب على منواله.

وكان موضوعات الإنشاء كلها تنتهي بالبكاء على بطل من الأبطال المألوفين في النظرات والعبرات، وهم كلهم أناس يبكون ويُبكى عليهم؛ لأنهم مخذولون منكسرون، أو مضيعون في ذمم اللئام وقرناء السوء، وقَلَّ منهم من هو مسئول عن خيبته أو قادر على إنصاف نفسه والاقتصاص لها ممن يجني عليه، وكان من ديدن التلاميذ إذا كان الموضوع في غير هذه الأغراض أن ينحرفوا به إلى عبارة محفوظة يستطردون بعدها إلى مناسبة للبكاء والشكوى، يسردونها أحيانًا بكلماتها المسطورة في القصة أو المقال.

في ذلك العهد كنت أناهز الخامسة والعشرين، وكانت قراءاتي المفضلة في فلسفة الحياة موزعة بين فكرتين تجتمع حولهما جملة الأفكار عن المثل الأعلى للشباب الناظر إلى مكانه من الدنيا ومن الناس، وهما: فكرة «السوبرمان» للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، وفكرة البطولة أو عبادة البطولة لتوماس كارليل فيلسوف البريطان الأيقوسيين، الذي كان بعض أبناء وطنه يلقبونه بالأيقوسي «المتجرمن»: لأن كتابته عن الأدب الألماني كانت أكثر وأقرب إلى الإعجاب من كتابته عن أدب بلاده.

وقد كتبت عن نيتشه مقالًا في مجلة «البيان» قبل الحرب العالمية، لعله كان أحد المقالات الثلاث أو الأربع الأولى التي كتبت عنه باللغة العربية، وتحدثنا كثيرًا مع الشيخ البرقوقي صاحب «البيان» عن كتاب «الأبطال»، فلم يهدأ حتى عهد إلى زميلنا الكبير «محمد السباعي» بترجمته والابتداء به قبل سائر الكتب المختارة للترجمة والتلخيص في برنامج المجلة.

ونشبت الحرب العالمية الأولى بعد قليل، فلم يكن لقراء الأدب الغربي يومئذ حديث في غير فلسفة «نيتشه»؛ داعية القوة والعظمة عند الألمان ومحرك القوم في رأي بعض النقاد إلى الحرب والمغامرة في سبيل السيادة على العالمين.

ولم أكن قط مؤمنًا بفلسفة نيتشه، ولا معجبًا بسوبرمانه على صفته المترددة بين أشتات أقواله ودعواته، فقد كان مثال القوة المحبوبة عندي ذلك البطل القوي الذي يعطي الضعفاء من قوته ولا يأخذ من ضعفهم لنفسه، مجتمعين كانوا أو متفرقين.

ولم يكن بطل كارليل كذلك مثلي الأعلى في تقدير العظماء، وإنما كان النفور من استكانة الضعف عندي أقوى من الأعجاب بسطوة البطولة، ما لم تكن بطولة فداء وزجر للطغاة من الأبطال، وقد حفزني التفكير اللاعج في هذه المسألة — أثناء السنة الأولى من سنوات الحرب — إلى تأليف رسالتي عن «مجمع الأحياء» للموازنة بين فلسفة القوة وفلسفة السوبرمان وفلسفة المثل الأخلاقية العليا، وجعلت ذلك على ألسنة الحيوان من الثعلب والقرد والحمامة والأسد وابن آدم وبنت حواء إلى ختام الرسالة بخطاب الطبيعة، وفي خطاب القرد أقول عن الخير أمام القوة:

وبحسب الخير أنه منذ اهتدى إليه الناس تراجعت القوة وتمردت النفوس على شريعتها، فأصبح أقوى الأقوياء لا يجرؤ على الاعتداء والجور باسم القوة العمياء، إلا أن يتمحل لها المعاذير ويتذرع لها بسبب من الحق والعدل، فبطل القول القديم: اعمل ما تستطيع. وخلفه القول الجديد: اعمل ما يحق لك عمله، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ولست أعني أن القوة العمياء قد خضعت للحق كل الخضوع ودانت له في الصغائر والكبائر، فهذا ما لا يدعيه الحق، وما ينبغي للحق أن يدعي ما ليس له، ولكن عنيت أن الناس لا يسلمون اليوم بظلمها وإن اضطروا إلى الخضوع لها، ولا تقتنع ضمائرهم بشريعتها، وإن لم تكن لهم حيلة في تبديلها. ويا ضيعة العالم إن سلموا! ويا سوء المنقلب إن اقتنعوا! إذ ليس وراء ذلك إلا أن يسترخي الأقوياء فيفقدوا العزيمة والمضاء، وينزل الضعفاء عن الحياة بنزولهم عن الرجاء، فتنعدم القوة الحافزة المجددة بين هؤلاء وهؤلاء، وينهار سلم النشوء والارتقاء إلى حضيض الموت والفناء، فاذكروا يا قوم — أقوياءكم وضعفاءكم — أن التسليم للقوة الغاشمة يفسد القوي منكم والضعيف، وأنه لا شيء يشرف التسليم له الأقوياء، كما يشرف الضعفاء، غير الحق، فاتخذوه لكم قبلة وإمامًا، واجعلوه لكم صاحبًا ولزامًا، واذكروا أن العالم لم يسلك طريق هذه الآداب وله ندحة عن سلوكها، ولم يلجأ إليها وفي وسعه الاستغناء عنها؛ لأن الطبيعة لا تملك الخيار بين طريقين.

ولقد بلغ بي الاشمئزاز من الاستكانة للضعف مبلغ النفور الحسي مما لا يطاق النظر إليه بالأعين أو لا يطاق شمه بالأنوف، وبعض ذلك ظاهر من القصيدة التي نظمتها خلال الحرب العالمية، وقلت فيها أوجه الخطاب إلى الشباب الضعفاء:

نحوا وجوهكم عني فقد سئمت
نفسي المقابر في أسلاخ أحياء
في كل دار شباب ينهضون بها
إلى العلا بين جيران وأعداء
لا يحفلون أعاشوا وهي ناجية
أم أصبحوا طي أرماس وأحناء
يعلو بهم ذكر من بادوا ومن لحقوا
وأنتم عار آباء وأبناء

ويتصور القارئ «معلم إنشاء» يعالج في طويته كل هذا النفور الثائر على أعراض الاستكانة والخور، ثم يرى أمامه — عند جمعه لأول محصول من محاصيل الكراسات الإنشائية — تلًّا من تلك الكراسات لا تخلو إحداها من ميزاب دمع أو مأتم شجو وأنين!

لقد كانت «مظاهرة» ضعف لم أجد ما أقابلها به غير مظاهرة سخرية تصلح لها، أوحاها إلي منظر حجرة المطبخ التي تطل عليها الفرقة المدرسية، وفيها خزين اللوازم المدخرة لإعداد الطعام من البصل والثوم والأرز والدقيق وما إليها، وكانت المدرسة الإعدادية التي اشتغلت بالتعليم فيها مع صديقي المازني مدرسة «نصف داخلية»؛ أي إنها تقدم طعام الغداء للطلبة ولمن يشاء من المدرسين، مع خصم ثمن الوجبات آخر الشهر من المرتب وعليه الزيادة من حساب القهوة أو الشاي أو الأشربة الصيفية.

واستدعيت الطباخ إلى الغرفة، وسألته سؤال العارف كما يقال: أعندك بصل صعيدي حار؟

قال الرجل مستغربًا: كل البصل الذي عندنا من الصعيد، ومن الصنف الجيد، والغالب عليه أنه حار شديد الحرارة!

قلت: حسن، هذا ما نريد، فإذا جاءك أحد من تلاميذ هذه الفرقة فأعطه ما يطلب من هذا الصنف، ولا تتركه يفارقك حتى تذيقه الكفاية منه لمسيل الدموع؛ مقدار منديل أو منديلين، وقدم الحساب — باسمي — إلى ضابط المدرسة السيد عبد الحميد.

وكان السيد عبد الحميد هذا من أظرف الضباط الذين عرفناهم في المدارس الثانوية، وهو الذي كنا نسأله عن الحضور صباحًا: هل دق الجرس الثاني؟ فيجيب وهو جاد لا يبتسم: من زمان يا أستاذ، قبل الأول!

وانصرف الرجل وهو لا يصدق أذنيه، حتى واجهته بالضابط الظريف وأفهمت هذا سر «المظاهرة» فتممها من فنونه المعهودة: ومنها أن البصل لازم للعمل في حصة الإنشاء، ومنها أن المطبخ قد أصبح ملحقًا بالمعمل في دروس هذا الأستاذ! إلى آخر ما اخترعته بديهته التي لم تكن تخذله في مثل هذا المقام.

والتفت إلى الطلبة قائلًا: من كان منكم يخزن في عينيه فائضًا من الدمع فالبصل أولى بمهمة تصريفه من كراسة الإنشاء!

•••

ولا يحسبني القارئ العصري الحديث أنني بالغت في شعوري بإفراط المنفلوطي في البكاء أو بإفراط فئة من شباب تلك الآونة في النعومة والفتور، فإنني لم أقل عن دموع المنفلوطي بعض ما رثاه به شوقي وهو يقول من أبيات كثيرة:

من شوه الدنيا إليك فلم تجد
في الملك غير معذبين جياع؟
أبكل عين فيه أو وجه ترى
لمحات دمع أو رسوم دماع؟

أما الشباب الناعم فقد كان موضوعًا مألوفًا مطروقًا بين موضوعات التمثيل الفكاهي والأحاديات المسرحية «المنولوجات». وكان أشهر الممثلين المغنين سلامة حجازي يخصهم بغير قليل من نغماته، وإحداها قصيدة الدكتور شدودي التي نظمها بعنوان: «فتى العصر» وقال في مطلعها:

بالله قل لي يا فتى العصر
ماذا تركت لربة الخدر؟

فلم تكن سورة «السوبرمانية» ولا البطولة المعبودة هي التي كانت تحضرني حين رأيت الكراسات أمامي تفيض بكلمات «النظرات» و«العبرات»، وبعضها منقول بحروفه من مقالات هذا الكتاب أو ذاك.

وقد عرفت أسلوب المنفلوطي في الصحف قبل التقائي بأسلوبه المنقول في كراسات الإنشاء، ولكنني كنت أتناوله من جانب المطالعة الأدبية العامة ولم أنظر إلى الجانب «التربوي»، ولا شعرت بالاتصال بينه وبين غاشية الضعف عند ناشئتنا قبل أن أشهد هذا الأثر في أكبر معاهد التعليم «الأهلي» في تلك الآونة.

•••

وسرعان ما وصلت قصة الدموع والبصل إلى السيد المنفلوطي من طريق المطبخ أو طريق الفرقة أو طريق الضابط الظريف؛ فقد أشار إليها في أول لقاء بيننا بعد ذلك بالمكتبة التجارية، ولم أكن ألقاه كثيرًا في المجالس الخاصة، ولا أذكر أنني لقيته في مجلس خاص غير مرة أو مرتين ببيت الأمة، ولكنني كنت أشتري أكثر كتبي العربية من المكتبة التجارية فألقاه هناك بين حين وآخر، ويجري بيننا الحديث كثيرًا في المسائل العامة، وقليلًا في المسائل الأدبية والثقافية. وفي هذه المرة لقيته يوقع على بعض الأوراق، فقال لي بلباقته «البلدية» التي اشتهرت عنه: بسم الله، أو «بسم اللا» باللهجة الدارجة، وهي كما يعلم القراء دعوة إلى الطعام.

فقلت له سائلًا: «بسم اللا» في التوقيع فقط أو في قبض الفلوس؟!

فعاد يقول بتلك اللهجة البلدية أيضًا: الحكاية لا تستحق «مش قد المقام»، إنها أرخص من «البصل»!

قلت مجاريًا في سياقه: ولعله أحلى من العسل. على حد نداء الإخوان في منفلوط.

ولاح لي في المناقشة الوجيزة التي جرت بيني وبينه، على أثر ذلك، أنني لم أنفذ منه إلى موضع إقناع في كل ما ذكرته عن أدب الشكاية أو أدب البكاء، وأيقنت أنه غير قابل للتحول عن الشعور التقليدي بأن العاطفة هي الرقة وأن الرقة هي البكاء، وكل ما سمعته منه حول هذا المعنى يتلخص في أنه يسأل الله أن يلهمه إعطاء الرحمة حقها وإعطاء البأس حقه، ولعله عنى بذلك تصويره للعاشق المبارز في قصة «ماجدولين»، وتصويره للبطل المغامر في قصة «في سبيل التاج»، ووصاياه الحسنة فيما كتب عن القضية الوطنية، وهو غير قليل بتوقيع منه أحيانًا أو بغير توقيع.

•••

وكانت أيام الأعياد مجتمع الأدباء بمجلس الزعيم الكبير سعد زغلول، فلقيت المنفلوطي مرة من هذه المرات ومعنا جعفر ولي باشا — وزير الحربية يومئذ — وهو كثير الاطلاع على منظوم العرب ومنثورها، وأساتذة لا أعرفهم، فجرى الحديث عن أساليب بعض الكتاب، فقال سعد: إنني أتناول أسلوب هؤلاء الكتاب جملة جملة، فإذا هي جمل مفهومة لا بأس بها في الصياغة، ولكنني أتتبع هذه الجمل إلى نهايتها فلا أخرج منها على نتيجة، ولا أعرف مكان إحداها مما تقدمها أو لحق بها، فلعل هؤلاء الكتاب يبيعون بالمفرق «بالقطاعي» ولا يبيعون بالجملة!

قال الشيخ المنفلوطي: يغلب يا باشا أن يشيع هذا الأسلوب بين الصحفيين الذين يكلفون ملء فراغ، ولا تتيسر لهم المادة في كل موضوع.

فابتسم الباشا، وقال الشيخ: «إنك يا أستاذ تتكلم عن الصحفيين وهنا واحد منهم!» ثم التفت إلي وقال: «ما رأيك يا فلان؟»

قلت: «هو ما يقول الشيخ المنفلوطي مع استدراك طفيف.»

قال: «ما هو؟»

قلت: إن هذا الأسلوب هو أسلوب كل من تصدى لملء فراغ لا يستطيع ملأه سواء كتب في الصحافة أو في غير الصحافة.

وعاد الشيخ المنفلوطي، فقال: «إن العقاد لا يحسب من الصحفيين لأنه من الأدباء.»

قال الباشا: «أوكذلك؟»

ثم تفضل بوصف موجز لكاتب هذه السطور، ليس من حقنا أن نرويه.

ولسنا نريد أن نحصر الأدب المنفلوطي كله في هذه الزاوية التي تلاقينا لديها على كراسات الإنشاء، فهكذا عرفناه ويعرفه غيرنا إذا لقيه من هنا وعلى يمينه «سوبرمان» نيتشه و«بطل» كارليل، وعلى يساره قضية تربوية في إبان أزمتها.

ولكن المنفلوطي في غير هذه الزاوية، يعرف بمكانته الأدبية العامة، فلا يعرف له نظير بين أعلام الأدباء الناثرين من مطلع النهضة الكتابية قبل مولده إلى ما بعد وفاته، فليس بين أدبائنا الناثرين من استطاع أن يقرب بين أسلوب الإنشاء وأسلوب الكتابة كما استطاع صاحب «النظرات» و«العبرات»، فربما ذهب القصد في الكتابة بجمال الإنشاء في أساليب الناثرين المجيدين، ربما ذهب الأسلوب «الإنشائي» الجميل بالمعنى المقصود في كتابة أدباء الفكر والتعبير، ولكن المنفلوطي — قبل غيره — هو الذي قارب بين الجمال والصحة على نسقه الفصيح في سهولة لفظ ووضوح معنى وسلاسة نغم، وهو لا يبلغ مبلغ التبرج بالصقل والزينة، ولا يترك التبرج والزينة ترك المتقشف في مسوح النساك، وليس لدروس الإنشاء نموذج أصلح من هذا النموذج من وجهته الفنية، وعن أدبه هذا أقول في بعض فصول «المراجعات»: إنه أحد الذين أدخلوا المعنى والقصد في الإنشاء العربي، بعد أن ذهب منه كل معنى وضل به الكاتبون عن كل قصد، وكانت الكتابة قبل جيله قوالب محفوظة تنقل في كل رسالة، وكانت أغراض الكتابة كخطب المنابر تعاد سنة بعد سنة بنصها ولهجة إلقائها.

وقد اطلعت على مجموعة وافية مما كتب المنفلوطي للفن وما كتب بغير كلفة، فكان لكتابته على كلا النمطين المتباعدين طابع الرائد المجاهد في أمثال هذه الرسالة: رسالة التقريب بين حفاوة الإنشاء ورخصة الخطاب واطراح الكلفة.

ويتمثل طابع الرائد في تباعد الشقة بين موضع الحفاوة وموضع الرخصة مما يكتب للفن وما يكتب لخاصة أمره، فكان المنفلوطي «يدبج» مقالاته الفنية فلا يفوته موضع العناية بكل كلمة وكل فاصلة، وكان يكتب رسائله لصحبه — ومنهم المتعلمون بل المعلمون — فلا يبالي أن ترد فيها أمثال هذه التعبيرات الدارجة: «فيدوني تلغرافيًّا» أو «مرسول لحضرتكم» أو «تأملوا الأسطوانات حتى لا تكون مستعملة ثم أرسلوها في البوسطة» أو «فهموها أن ترسل شهادة المدرسة المتخرجة فيها» أو «أهديك سلامي» أو «تلامذتك بخير يسلمن عليك وأرجو تبليغ سلامي لحضرات الأفاضل إخوانك المعلمين».

وكلها من شواهد النظر إلى الكتابة الفنية، كأنما هي كتابة «الاستعداد والحفاوة»، وما عدا ذلك من كتابة الأغراض الخاصة فرخصة العرف فيها أولى من كلفة الاستعداد، أو كلفة «السمعة والحشمة!»

وتعيد إلينا قدرة المنفلوطي على تبسيط الأسلوب الجميل كلمة «أناتول فرانس» التي يقول فيها: «إن البساطة الجميلة هي القدرة على إخفاء الجهد والكلفة، وإن النور الأبيض بسيط في النظر، ولكنه أوفر الألوان تركيبًا؛ لأنه توليفة من جميع الألوان.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤