جميل صدقي الزهاوي

figure

١

من اللمحة الأولى تمثل لي كل ما في طوية هذه «الشخصية» القلقة من نقائض التفكير: حماسة تختلج لها كل أعصاب جسده ويتهدج معها صوته وتتلاحق فيها كلماته ونبراته، وفيم هذه الحماسة؟

في النداء بالعقل وحده، دون أن تخامره سَوْرة من حماسة العاطفة والخيال.

ذلك هو الزهاوي في حديثه، وذلك هو «الزهاوي» في صفحات كتبه ودواوينه.

دعوة إلى برهان الواقع والمنطق، وصرخة من صرخات الشعور، كأنها فقدت كل برهان وكل وسيلة من وسائل الإقناع.

وكان لقائي الأول له في مجلس الآنسة «مي» بمسكنها الأول عند ضريح الشيخ «المغربي»، وهو من مزارات القاهرة في حي من أحيائها التي تسمى بالأفرنجية.

وقد ساقنا الحديث عن الضريح المعترض في غير مكانه إلى الحديث عن الخرافات التي تروى عن كرامات الأولياء، واستطرد به هذا الحديث إلى ذكرياته عن مجلس الأعيان بالعاصمة التركية يوم كان عضوًا من أعضائه العرب في عهد السلطان «عبد الحميد».

قال: «إن قطعة من قطع الأسطول العثماني احترقت، فقام أحد زملائه في المجلس يقترح على الوزارة أن تشتري من كتاب البخاري نسخًا بعدد قطع الأسطول، تودعها فيها، أمانًا من الحريق وضمانًا للسلامة.»

فوثب «الزهاوي» ليرد على الزميل، وليقول له: «إن السفن الحربية لا تسير في هذا الزمن بالبخاري، وإنما تسير بالبخار!»

وقد وثب «الزهاوي» وهو يعيد هذه القصة ما استطاع الوثوب.

وداعبته قائلًا: «وهل سلمت من عاقبة هذا التجديف؟»

قال في غير تمهل: «إن لم أسلم فإنني لم أندم!»

وأعجبت الآنسة «مي» بحديثه، فأولعت به تستثيره لمناقشتي في مسألتين لم يكن بيننا قط وفاق على واحدة منهما: مسألة الألم، ومسألة المرأة.

فقد كانت تدين بأن الألم طبيعة الحياة، وكنت أعود بقضية الألم إلى قضية المرأة كلما سمعتها تردد هذه العقيدة، فما هي إلا طبيعة الشكوى التي تحلو لبنات حواء، وطبيعة الحنان الذي يسرها أن تعطيه كما يسرها أن تتلقاه.

أما الخلاف على قضية المرأة، فقد كنت فيها مع السيدة والدة الآنسة طرفًا واحدًا تنفرد أمامه الآنسة وحدها كلما اختلفنا على كفاية المرأة للنيابة وللانتخاب، في إبان معركة الدستور.

وأذكر أنني استحلفتها يومًا إذا تنافس أمامها مرشح يمشي على قدميه إلى صندوق الانتخاب ومرشح آخر يصل إليه في سيارته «الرولز رويس»، فمن منهما يظفر بصوتها؟

فأسرعت والدتها تجيب عنها: «أنا أقول لك ولا حاجة بك إلى كلامها: صاحب السيارة ولا خلاف!»

فلما حمل الراية في هذا الخلاف رجل «من جنسي» كانت شماتتها أكبر من شماتة الغلبة في الرأي، وطفقت تستعيده إلى قضية المرأة تارة وإلى قضية الألم تارة أخرى كلما أوشكنا أن نفرغ منهما، فلما أردت أن أحسم هذا «النزاع» المدبر أخيرًا وقلت للأستاذ: «إنني قد أرى معك أن الآلام أكثر من الأفراح في الحياة.» صفقت بيديها، وضحك «الزهاوي»، ولم أمهله حتى حسبت عليه هذا الضحك حجة تفند دعواه، فسألته: «ألعلك لا تنتصر كثيرًا مثل هذا الانتصار؟»

ولسنا بصدد الإفاضة في هذه المسألة لبيان ما أعتقد في نصيب الحياة من اللذة والألم، ولكنني أوجز ما عنيت بكثرة الألم مع إنكار طبيعة الألم في الحياة؛ عنيت أن الحوائل دون الفرح قد تتكاثر وتتكرر، ولكنها لا تمنع أن طبيعة الحياة بغير حائل هي الفرح والرجاء.

•••

ورأيت بقية النقائض في هذه «الشخصية» — التي لا تعرف التوافق بينها وبين نفسها — يوم زرته بمسكنه في حجرته المفروشة إلى جوار صحيفة الأهرام، فقد كان نصير السفور الأكبر يخاطب زوجته من وراء ستار كثيف يحجبها عن النظر، ويكاد يحجب صوتها الخفيض لو لم نجتهد في الإصغاء إليه!

ولم أكد أفرغ من التحدث إليه في جملة عقائده حتى تحققت أنها وثبات كوثبات اللاعب الرياضي في ساعة واحدة: صعود وهبوط ثم هبوط وصعود، ثم عود إلى الصعود وعود إلى الهبوط، كأنما كان كل وقت من أوقاته نموذجًا مختصرًا لأدوار التطور في العمر كله، لولا أنها أدوار لا تتسلسل على اطراد.

وعلمت بسفره في اللحظة الأخيرة، فأسرعت إلى محطة العاصمة أودعه، وتمنيت أن أراه مرة أخرى في القاهرة فقال: «ذلك ما أرجوه، وأحب إلي أن أراك في بغداد.»

ثم تمت النقائض جميعًا بعد سفره ببضعة أشهر، إذ سألني أحد قرائه في «تونس» عن رأيي في أدبه، فأبديت ذلك الرأي كما اعتقدته، وقلت إنه في بحوثه الفكرية أرجح منه في معانيه الشعرية.

وكان من الحق أن يغتبط نصير العقل على العاطفة بهذا الثناء الذي لا غنى فيه، من وجهة نظره، لو استقام على السواء في إيمانه بالعقل دون الشعور والخيال، ولكنه غضب مما كان خليقًا أن يرضيه، وجاءني البريد من بغداد بخطاب عليه توقيع مستعار، يقول كاتبه: إن مجلة «لغة العرب» للأب «الكرملي» تنوي أن تتناول ديوانك بالنقد اللاذع في لفظه ومعناه، وإن «الزهاوي» صديق للكرملي في وسعه أن يثنيه عما ينتويه!

إن في هذه المناورة «البريئة» دلالة على طيبة في غضب الرجل أظرف وأطرف من طيبته في رضاه، وإنها — ولا ريب — لن تصدر من قلب يضمر الكيد، أو يكون له من الكيد حظ أوفر من حظ الطفل البريء!

٢

اطلعت في مجلة المكتبة البغدادية على مقال للسيد «أكرم زعيتر» عن ذكرياته لشاعر العراق الزهاوي، قال فيه من حديث جرى بينه وبين الشاعر في آخر لقاء له قبل سفره من «بغداد»: قال — أي الزهاوي: «هل اطلعت على «الأوشال»؟ قد كنت أظن، وقد رق عظمي، أن زمني لن يمتد بي كثيرًا، فسميت مجموعة قصائدي الأخيرة «الأوشال»، ثم نظمت بعد ذلك قصائد أخرى، أعتقد أنها آخر ما أنظم في حياتي التي أراني مغادرها قريبًا، وقد جمعتها في ديوان سميته الثمالة ليكون آخر ما يطبع لي.»

قلت: «وهل للأستاذ شعر لم يطبع غير الثمالة؟» قال: «أجل، إنه ديوان لا ينشر في القرن العشرين.»

وكنت قد علمت من «الزهاوي» نفسه أن له شعرًا كثيرًا لا ينشره، وأنه سيوصي بنشره بعد وفاته، وفارق «القاهرة» وهو يكرر لي حديثه عن الشعر المطوي الذي يعتقد أنه إذا نشر في يوم من الأيام فلن يتسع لنشره بلد غير القاهرة بين البلدان الشرقية.

وقد سمعت أخيرًا أن كتابًا ظهر في القاهرة باسم «الزهاوي وديوانه المفقود» فاعتقدت لأول وهلة أنه هو مجموعة الشعر الذي تحدث عنها «الزهاوي» إلى الأستاذ «أكرم زعيتر» ببغداد وأومأ بنبئها إلي في «القاهرة»، واطلعت على الكتاب لمؤلفه الأديب «هلال ناجي» فصدق ظني في موضوعه، وإن كان المؤلف الأديب قد توسع في أبوابه فتناول فيه مباحث شتى عن «الزهاوي» وما كتبه وما كتب عنه، غير ديوان «النزغات» وهو اسم الديوان المفقود.

وحرص المؤلف على تحقيق نسبة «النزغات» إلى «الزهاوي»، فاستقصى الشواهد والقرائن التي تدل على صحة هذه النسبة، وكلها مقنعة، بل قاطعة في إثبات نظم الشاعر لجملة القصائد والمقطوعات التي احتواها ديوان «النزغات»، كما تركه «الزهاوي» عند تسليمه إلى الأستاذ «سلامة موسى»، وعند انتقاله منه إلى الدكتور «زكي أبو شادي» بغير زيادة فيه، وهو مرقوم على الآلة الكاتبة غير مصحوب بالأصل المخطوط.

على أننا نستطيع أن نصحح نسبة النظم في هذا الديوان إلى «الزهاوي» من الدليل «الداخلي» في أسلوب الشاعر «النظمي» كما يقول النقاد، وأظهر ما في هذا الدليل «الداخلي» أن أبيات القصائد والمقطوعات تشتمل على كثير من ذلك الشد والفتل، الذي يطوع به الشاعر كلماته لأوزان العروض.

فالشاعر الذي يقول:

عاش في الغاب القرد دهرًا طويلًا
قبل أن يلقى للرقي سبيلا

هو الشاعر الذي يقول في ديوان النزغات:

هذه الدنيا دار كل جزاء

وهو الذي يقول فيه:

عسى الذي عاف أرضه أن
يضمه عالم جديد

وغير ذلك كثير من «الأسلوب النظمي» في سائر منظومات الديوان.

أما الأسلوب «الفكري» فهو كذلك مطابق لأسلوب الزهاوي في كل ما نظم من الشعر منذ عالج نظمه في أوائل حياته، ومما لا شك فيه أن أفكار الديوان المفقود ليست غورًا جديدًا في تكوين آراء الشاعر مع الزمن، كما قد يتوهم القارئ من قول الزهاوي إنه آخر ما نظم، وأنه يحتوي أفكارًا لم ينشرها قبل ذلك في حياته؛ إذ المحقق من معارضة دلائل الشك والتردد ودلائل الإيمان واليقين، أن هذه الدلائل جميعًا قد وجدت في مؤلفاته الباكرة، كما وجدت في مؤلفاته الأخيرة، على درجة واحدة من القوة والوضوح.

وأغلب الظن أن العالم الديني المفكر «محمد فريد وجدي» قد أصاب الحقيقة حين قال في مجلة الأزهر مما نقله الأديب «هلال ناجي» في الصفحة اﻟ «٣٠٠» من كتابه، فإنه لاحظ أن «الزهاوي»: «يكتب الشيء ثم ينقضه بقول آخر كما فعل في كتابه الكائنات؛ فقد جرى فيه على أسلوب الماديين، ثم ختمه بكلمة تحت عنوان «ابتهال» حقَّر فيها كل الآراء التي قررها في الكتاب، وذكر أنه إنما جرى فيها على أسلوب الماديين لبيان مذهبهم، أما هو فيبرأ إلى الله منهم ومن آرائهم، ويرجو من يقرأ الكتاب ألا يعتد بما قرره فيه.»

ثم عقب الأستاذ وجدي على هذا الأسلوب قائلًا: «إنه أسلوب في الكتابة، كل ما يمكن أن يعتذر عنه أنه يلجأ إليه هربًا مما قرره.»

وكل ما نزيده على تعقيب الأستاذ «وجدي» أن «الزهاوي» قد يبادر في مفتتح كتابه إلى تحقير آراء المتهجمين على الحقائق الكبرى، كحقائق عالم الغيب وما يسميه الباحثون بحقائق ما وراء المادة، فإنه افتتح كتابه «الكائنات» الذي ألفه في مقتبل صباه بهذين البيتين:

وما الأرض بين الكائنات التي ترى
بعينيك إلا ذرة صغرت حجما
وأنت على الأرض الحقيرة ذرة
تحاول جهلًا أن تحيط بها علما

وهذا غاية ما يقوله المفكر المتواضع أمام عظمة الكون؛ لكبح الغلاة من الباحثين في حقائقه عن الشطط الأهوج والغرور الكاذب، بقدرة العقل البشري على إدراك هذه الأسرار المطبقة حول حقائق الوجود.

والذي نلاحظه في مواقف «الزهاوي» العقلية بين الشك واليقين سهولة شكوكه وسهولة ردوده عليها في وقت واحد.

فكل شكوك «الزهاوي» بلا استثناء مما يقبل الرد والاستخفاف من النظرة الأولى؛ لأنها مبنية على تصور العامة الجهلاء للخرافات والأساطير التي يلصقونها بالدين وهو بريء منها بعيد عنها، وليس من هذه الشكوك شك واحد يقوم على فهم الدين كما ينبغي أن يفهمه المؤمنون به على صحته، وقد كان خطأ «الزهاوي» الأكبر أنه يتلقى حجة العقائد من الأوهام الشائعة بين المقلدين دون الثقات المجتهدين، وإنما تقوم قضية الدين على الضمير الإنساني الذي يناط به التمييز بين كل دعوة تشيع في العالم، ولم تقم حجة الدين قط على ما يفهمه المقلدون أو يفهمه المغرورون من الأدعياء، وإنما تقوم حجته على البصيرة الصادقة والوحي الأمين.

لا جرم كان تقريره لقواعد الإيمان بعد ذلك سهلًا غنيًّا عن جهد التردد والبحث في أمثال تلك الشكوك، ومن حق من يبتلى بأمثال تلك الشكوك أن يثوب يقينه إلى يقين «الزهاوي» الذي عبر عنه بهذه الأبيات في موقف الحساب:

قال ما دينك الذي كنت في الدنـ
ـيا عليه وأنت شيخ كبير؟
قلت كان الإسلام ديني فيها
وهو دينٌ بالاحترام جدير
قال من ذا الذي عبدت فقلت
الله ربي وهو السميع البصير

وقبل ذلك يقول في كلمة منثورة: «لم آتِ في حياتي أمرًا إدًّا ولا ارتكبت منكرًا، أنظم الشعر وأودعه عصارة شعوري وتفكيري، وأجعله منبرًا أدافع منه عما يتراءى لي أنه الحق، غير حاسب لمخالفة الناس إياي حسابًا، وهذا ما كان يثيرهم علي ويجعلهم يعملون على معاكستي، حتى هموا مرة أن يقتلوني، مع أني معتقد بالوحي مؤمن بالأنبياء وبالمرسلين وملائكة الله وكتبه، وقمت بشعائر الدين كلها؛ فصمت وصليت وزكيت وجاهدت وحججت إلى بيت الله وزرت قبر رسوله الكريم

وهو الذي ردد هذه الشهادة في مواطن كثيرة من شعره، كما قال في هذا المعنى غير مرة:

أنا ما كفرت بكل عمـ
ـري بالكتاب المنزل
أنا لم أزل أشدو بنعـ
ـتٍ للنبي المرسل

وإنه بمثل هذا اليقين لخليق أن يكذب كل هاتيك الشكوك التي تثيرها أوهام الجهلاء وخرافات أصحاب الخرافات من المقلدين.

وجملة القول في الديوان المفقود وفي الدواوين المنشورة أنها طور واحد من الفكر لم يتغير في مدى خمسين سنة، ويوشك أن ينقل كل بيت في ديوان من هذه الدواوين المتتابعة إلى ديوان آخر صدر قبله أو بعده، بغير اختلاف في المعنى أو في النسق أو في الأسلوب، إلا ما تقتضيه المرانة الطويلة من تيسير النظم في نهاية الشوط بعد تعسرٍ فيه عند الابتداء.

والسرعة في التفكير، مع السرعة إلى العدول عن الفكرة في وقت واحد، هما آفة العجلة في مواجهة «الزهاوي» لمسائل العلم والأدب أو مسائل الاجتماع والأخلاق، فليس أسرع منه إلى اختطاف الرأي الشائع أو اختطاف الرد عليه، ونحسب أن بنية الرجل «مسئولة» كما يقولون عن هذا الولع بالسرعة والقلق من الاستقرار؛ فإن مصابه بالداء الذي أقعده عن الحركة قد بدأ معه اضطرابًا مقلقًا، قبل أن يثقل على أعصابه ويثقله عن حركته، وما أكثر ما نظم في «الصراط» وصعوبة العبور عليه من شعره الأول ومن شعره الأخير.

ولا ريب عندنا، ولا عند قراء «الزهاوي» شعرًا ونثرًا، في قدرته الفكرية ولا في ملكته الرياضية، ولكنك تراجعه من بواكيره إلى خواتيمه، فيبدو عليه أنه يثب إلى الآراء وثبة بعد وثبة، ولا يتطور معها على أمد مديد يتصل فيه الانتقال من مكان إلى مكان، فهو في وثباته المتلاحقة على مكان واحد يصعد منه وينزل إليه، ويثبت عليه صاعدًا ونازلًا ومترددًا ومستقرًّا، وهكذا كان في آخر ديوان كما كان في أول ديوان، وللقارئ بعده أن يبقيه حيث شاء، بما هو أهل للبقاء.

٣

جاءني الخطاب الآتي من أحد القراء ﺑ «تونس»، قال كاتبه الأديب بعد ديباجة التعارف:

أما الآن فبقيامكم ضد الثرثارين، وتقويضكم لبناء ما كانوا يحسبونه آثارًا أدبية، وإماطتكم عن كل من كنا نعدهم من الشعراء الفحول والكتاب المبرزين، قد أسفرت النتيجة عن تجدد حقيقي في اللغة والأدب؛ إذ أدركوا ما ترمون إليه في انتقاداتكم، فهبوا يتبارون فيه جاهدين قرائحهم وصارفين مهجهم نحو «الحياة»، نحو «الجمال»، نحو «المثل العليا»؛ تلكم الكلمات الحية التي ما وجهت طرفي نحو أي سطر من فصولكم ومطالعاتكم ومراجعاتكم، ونحو أية صفحة مما تكتبون؛ إلا عثرت عليها، ولصرف مهجتكم إلى هذه المطالب ونقدكم الصحيح الخالص من الأغراض، وسعيكم وراء الحقيقة — رضي القوم أم غضبوا — أتيت أعرض عليكم كلمة في رفيق صباي ومربي روحي، راجيًا منكم التفضل بإبداء رأيكم فيه، ولكم الشكر الجزيل سلفًا؛ لأن كل هاتيكم الخلال جعلتني كما جعلت غيري يعتبرون قولكم الفصل فيمن تكتبون له أو عليه.

ذلكم الرفيق يا سيدي هو فخر العراق، كما تقولون، جميل صدقي الزهاوي، فقد عرفته منذ دخلت المدرسة وولعت بديوانه، حتى إنني كدت أن أحفظه نثرًا ونظمًا، فمن نزعته في الشعر إلى قوله في القبر:

ولستُ بمسئول إذا ما سكنته
أكنت عبدتُ الله قبلًا أم اللاتا

إلى قوله في مهاجميه:

يا قوم مهلًا مسلمٌ أنا مثلكم
اللهَ ثم اللهَ في تكفيري

وعندما أسأم استمرار قراءاتي فيه، أعمد بعد تحضير واجباتي المدرسية إلى مطالعة أحد الدواوين، فأرى نفسي كأنني انتقلت من روضة حافلة بأزهار من كل صنف، زاهية بالماء الزلال الجاري، والهزار على أشجارها يشدو بنغماته العذبة الشجية إلى أرض قاحلة، لا ماء فيها ولا شجر ولا هزار، فلا ألبث أن أعود إلى ديواني الأول، وشغفي به يزداد كلما رأيته سابقًا وغيره لاحقًا، وهكذا.

وما أقوله لكم في ديوانه، أقوله لكم في مباحثه التي تنشر في الهلال، حتى إنني إذا لم أجد فيه فصلًا من فصول الزهاوي انقبضت نفسي لذلكم كثيرًا، وإذا رأيت فيه مبحثًا له قدمته على سائر الموضوعات، فقرأته وأعدته المرار العديدة حتى تعلق بذهني جمل منه، ومن الجمل أفكار، ومن الأفكار مناقشة، تنتهي بي إلى قضاء جزء كبير من أوقاتي معه. وحمادى القول أن السيد «جميل» لهو أحق بالنقد من سواه، وبمن يظهر آثاره الأدبية والفلسفية. وهذا لا يتصدى للبحث فيه إلا أمثالكم الذين يقدرون الأدب حق قدره؛ إذ من العار أن نبقى كما قال فيلسوف العراق لا نعرف قيمة للأديب في قطرنا إلا بعد مماته:

من بعد ما في قبره
أوصاله تتبعثر
ماذا من التكريم ير
جو ميت لا يشعر؟

هذا وإنني أعتذر إلى سيدي الأستاذ من تجرئي على مكاتبته؛ إذ لست ممن يراسلون أمثاله، ولولا إعجابي بجميل صدقي الزهاوي وحبي لناقد خبير ينشر للقراء آراءه، ويبين لهم فجها من ناضجها، ما تسرعت في المراسلة أترجى ما يقال في فخر العراق وعنه.

جاءني هذا الخطاب من شهر مضى، وفيه غير ما نشرت هنا كلام مسهب في مثل هذا المعنى ولواحقه، فتوسمت من لهجته وخلوص إعجابه أدبًا جمًّا ونفسًا مستشرفة إلى الحقيقة، وهممت أن أجيبه إلى رغبته، ولكنني ترددت لأنني أعلم أنني أستطيع أن أتبسط في شرح كل رأي أراه في الأدب والشعر، دون أن أعرض للأستاذ «الزهاوي» نقدًا أو تحبيذًا أو خلافًا أو وفاقًا، ولأنني أوقر هذا الباحث الفاضل وأعرف استقلال فكره واستقامة منطقه وجرأته في جهاده وغبنه بين قومه، فلا أحب أن أقول فيه — لغير ضرورة من ضرورات البحث — مقالًا لا يوائم ذلك التوقير ولا يناسب ما له عندي من القدر والرعاية. ثم عنَّ لي أن في الكلام عليه مجالًا لكلمة أخرى تقال عن التفريق بين الملكة العلمية والملكة الشعرية، وبين بديهة الفيلسوف وبديهة العالم، لا ضير منها على أحد عامة، ولا على الأستاذ «الزهاوي» ومن يعجبون به خاصة؛ إذ هو ممن يقال فيهم قول حق لا يغضب الطبيعة القوية والنفس المروضة والضمير الواثق من قصده وعمله، فكتبت هذا الفصل الموجز آملًا أن أجيء فيه بحقيقة تسوِّغ المساس برجل لا أحب أن أمسه بغير ما يرضيه.

أول كتاب قرأت ﻟﻠ «زهاوي» كان كتاب «الكائنات» أو «رسالة الكائنات»؛ لأنه عجالة مختصره من القطع الصغير، وكان ذلك قبل عدة سنوات، وأنا يومئذ كثير الاشتغال بما وراء الطبيعة وحقائق الموت والحياة ومباحث الدين والفلسفة، فراقني من الرسالة سداد النظر وقرب المأخذ ووضوح التفكير والجرأة على العقائد الموروثة، مع ما في ختام الرسالة من اعتذار لا يخفى ما وراءه، ولا يغير رأي القارئ فيما تقدمه، وكنت كلما عاودتها تبينت فيها منطقًا صحيحًا يذكر القارئ بإشارات «ابن سينا» ونجاته، ويزيد عليهما بالجلاء والترتيب، ثم قرأت ﻟﻠ «زهاوي» شعرًا ونثرًا وآراء في العلم والاجتماع تدل على اطلاع واستقلال ونزعة إلى الثقة والابتكار، وكان آخر ما قرأت له رسالة «المجمل مما أرى»، ثم شعر ينشره في الصحف المصرية من حين إلى حين.

هل «الزهاوي» شاعر، أو عالم، أو فيلسوف؟ إن آثاره في الشعر والنثر تدعوك إلى هذا السؤال، فمباحثه مما يتناوله الفيلسوف والعالم، ونظمه يسلكه بين طلاب المقاصد الشعرية، وقد يختلف جواب الناس على السؤال الذي سألناه، فيعده بعضهم من الفلاسفة وبعضهم من الشعراء، ويميل به بعضهم إلى فريق العلماء، أما أنا فرأيي فيه أنه صاحب ملكة علمية تطرق الفلسفة، وتنظم الشعر بأداة العلم ووسائل العلماء.

الشاعر صاحب خيال وعاطفة، والفيلسوف صاحب بديهة وبصيرة وحساب مع المجهول، والعالم صاحب منطق وتحليل وحساب مع هذه الأشياء التي يحسبها ويدركها، أو يمكن أن تحس وتدرك بالعيان وما يشبه العيان، فإذا قرأت مباحث «الزهاوي» برزت لك ملكته المنطقية لا حجاب عليها، ولمست في آرائه مواطن التحليل والتعليل، ولكنك تضل فيها الخيال كثيرًا والعاطفة أحيانًا، وتلتفت إلى البديهة فإذا هي محدودة في أعماقها وأعاليها بسدود من الحس والمنطق لا تخلى لها مطالع الأفق ولا مسارب الأغوار، فهو يريد أن يعيش أبدًا في دنيا تضيئها الشمس وتغشيها سحب النهار، ولا تنطبق فيها الأجفان ولا تتناجى فيها الأحلام، وليست دنيا الحقيقة كلها نهارًا أو شمسًا، ولكنها كذلك ليل وغياهب لا تجدي فيها الكهرباء! وقد خلق الخيال والبداهة للإنسان قبل أن يخلق العقل، ثم جاء العقل ليتممهما ويأخذ منهما لا ليلغيهما ويصم دونهما أذنيه. فأما «الزهاوي» فهو يحاول أن يلغي الخيال والبداهة، ويظن أن الإنسان لا يتصل بالكون إلا بعقله، ولا يهتدي إلى الطريق المفطور إلا بعقله، وليس هذا بصحيح في حكم العقل نفسه، إذا أنصف العقل ووفى لمنشئه الأول وقصارى مطمحه الأخير.

إن كل منطق لا يكون صحيحًا إلا إذا دخل في حسابه أمران محيطان بنا متغلغلان فينا لا مهرب منهما ولا روغان؛ نعني بهذين الأمرين «المجهول» أولًا و«العاطفة» ثانيًا، فهما راصدان لكل قضية منطقية يهدمانها هدمًا، ما لم يكن لهما في زواياها مكان مقدور، فالعالم لا شأن له بالمجهول، وليس له شأن كبير بالعاطفة كما يحسها الشعراء، وهو، إذا أراد، حصر نفسه في معمله وخرج منه بنتيجة عملية لا غبار عليها من ناحية النقد والاستقراء. ولكن الفيلسوف إذا خرج إلى دنيا لا مجهول فيها ولا عاطفة توحي إليها، إنما يخرج إلى دنيا غير دنيانا هذه، وإنما يأتي لنا بفلسفة خليقة بعالم آخر غير عالمنا الذي يحيط به مجهوله وتعمل فيه عواطفه، وقد يصيب بمنطقه هذا في حقائق الأرقام والإحصاءات، ولكنه لا يصيب به في معاني الشعور وأسرار الحياة؛ إذ كيف يحسب حسابًا لهذه المعاني والأسرار وهو لا يحسها ولا ينقاد لدوافعها؟ وكيف يصيب في المباحث النفسية وهو لا يحسب حسابًا لتلك المعاني والأسرار؟

من منا يكون محبًّا معقولًا مطابقًا للمنطق إذا هو نظر إلى حبيبه بالعين التي يراه بها جميع الناس؟ إن نظرك إليه قد يكون معقولًا مطابقًا للمنطق إذا نظرت إليه بتلك العين التي يراه بها من لا يحبونه ولا يؤثرونه على سواه، ولكنك أنت نفسك — أنت الناظر — لا تكون «محبًّا منطقيًّا» موافقًا للمعقول والمعلوم من شئون المحبين حين تتساوى أنت وسائر الناس في الإعجاب بحبيبتك؛ لأن المحب المعقول هو الذي يرى حبيبته بعين لا يراها بها الآخرون، وكذلك الحياة قد تكون أنت منطقيًّا إذا عرفتها بالعقل وحده كما يعرفها غير الأحياء لو كان غير الأحياء يعرفون الحياة، ولكنك لا تكون «حيًّا منطقيًّا» إذا أنت لم تعرفها كما يعرفها كل حي مخدوع بها غارق في غمرة عواطفها وأشجانها، فكن لنا «حيًّا منطقيًّا» أو أنت إذن إنسان لا يعنينا رأيه في الحياة؛ لأنه ليس منها بمكان قريب أو على اتصال وثيق.

و«الزهاوي» تخونه الحقيقة حيث يسعى إليها على جناح من العقل، لا يعضده جناح من الشعور، فلم أغتبط بتعرض الشعور لتفكيره مثلما اغتبطت به وهو يحاول — بالمنطق — أن يثبت الرجعة إلى هذه الأرض بعد الممات، أو إلى عالم آخر ينتقل إليه الإنسان، فهو يقول في «المجمل مما أرى» إن «مظاهر الحياة من مظاهر المادة التي ليست في أصلها إلا قوة. وإن هذا الفضاء الذي صرحت بأنه لا يتناهى، يحتوي على عدد غير متناه من العوامل النجمية، وإن في كثير من هذه العوالم نظامًا مثل نظامنا الشمسي، وإن في ذلك النظام أرضًا مثل أرضنا، وفي بعضها أرض تشبه أرضنا إلى زمن محدود ثم تختلف عنها، وإن في كل أرض مشابهة لأرضنا إنسانًا مثلي وآخر مثلك وآخرين مثل غيرنا من الناس، قد ولدوا من آبائهم كما في أرضنا، وقد جرى لآبائهم فيها ما جرى لهم في هذه تمامًا».

«وبعض هذه الأرضين اليوم مثل أرضنا في حالتها الحاضرة، وبعضها أخذت تهدم، وبعضها من بداءة تألفها، فإذا مات الإنسان في أرضنا، فهو يولد في غيرها من نفس آبائه الذين ولد في أرضه هذه منهم، وإذ إن هذين الأرضين لا تتناهى فكل فرد من الناس غير متناهي العدد، غير أنه في كل أرض واحد يجهل أن له أمثالًا في هذا الكون اللامتناهي، وإن الذي يشقى في هذه قد يسعد في التي تشبهها إلى زمن محدود ثم نخالفها، فإن عدد هذه المخالفات أيضًا غير متناه، والذي يسعد في هذه قد يشقى في تلك، فالطبيعة عادلة قد قسمت السعادة والشقاء على السواء، فإن زيدًا إذا كان هنا شقيًّا فهو في أخرى سعيد، وإذا كان سعيدًا فهو في تلك شقي، وأرضنا هذه بعد أن تصير إلى الأثير تتولد ثانية بعد ربوات الملايين من السنين، فيجري عليها تطوراتها طبق ما جرت في دورها هذا، ويتولد آباؤنا كما تولدوا، ونتولد منهم كما تولدنا، ونموت كما في هذه المرة وقد تكررنا من الأزل وسوف نتكرر إلى الأبد.»

«ورب قائل: ما الفائدة من هذا التكرار وهو لا يتذكر ما مر به في أدواره الأولى؟ فأجيب: إن فائدة التذكر هي العلم، فإذا حصل إلينا العلم بطريقة أخرى فهو مثل العلم بالذكر، وكفى به نفعًا أنه يطامن الإنسان أن موته مؤقت ليس أبديًّا. وهذه النظرية مبنية على أسس ثلاثة: الأول أن العالم بما فيه من الأجرام غير متناه. والثاني أن لا شيء يذهب إلى العدم، بل ينحل تركيبه وينحل إلى الأثير بعد تطورات متعددة، وهذا الأثير يتركب من جديد فيكوِّن مادة بعد تطورات متعددة، ثم ينحل ثم يتركب إلى ما لا يتناهى. والثالث أن جواهر كل جرم من الأجرام متناهية العدد مهما كثر هذا العدد، وأقدارها كذلك متناهية، ولا يمكن أن يوجد جرم واحد غير متناهي السعة. والأرض هذه تتألف في أزمنة غير متناهية على أشكال لأن جواهرها متناهية، وشكلها الحاضر أحد تلك الأشكال غير المتناهية التي تتألف عليها وتدور من أحدها إلى الآخر، فهو كغيره من الأشكال يتكرر إلى ما لا نهاية له والإنسان جزء متمم لشكلها الحاضر، فهو أيضًا يعود بشكله وعقله وإلا لم يكن الدور تامًّا، والعالم أجمع تابع لهذا الناموس الدوري الأعظم.»

هذه هي نظرية الدور كما أجملها الأستاذ «الزهاوي» في رسالته «المجمل مما أرى»، فالمنطق هنا يتكلم، ولكن حب الحياة هو الذي يحركه إلى الكلام! على أنه بَعْدُ منطق لم يمتزج بالحياة في الصميم؛ لأنه يتعزى بالعلم، والحياة لا يعزيها أن تعلم بأنها خالدة، وإنما يعزيها أن تشعر بالخلود، وهو بعد هذا وذاك منطق خاطئ؛ لأنه يستلزم الدور، ولا شيء يدعو إلى استلزامه، فما دامت الجواهر لا تتناهى، والحركات لا تتناهى، والفضاء لا يتناهى، فالنتيجة أن تكوين الأجرام بأشكالها لا يتناهى، ولا حاجة إلى تكرارها وعودتها هي بعينها مرة بعد مرة إلى غير نهاية، ويجب الآن أن نضرب صفحًا عن لانهاية الزمان التي تخدعنا باحتمال هذا التكرار، فيما يلي أو فيما سبق قبل الآن. يجب أن نضرب صفحًا عن لانهاية الزمان؛ لأن لانهاية الفضاء موجودة في هذه اللحظة، فأي شيء فيها يستلزم أن الأرض مكررة في مكان غير مكانها الذي هي فيه؟ لا شيء! وإذا لم يكن إنسان مكررًا على هذه الأرض بعينها، فلماذا نفرض أن كل إنسان مكرر في أرض تشبهها تمام الشبه في هذا الفضاء السحيق؟

•••

ثم إلى أين ننتهي من كل ذاك؟ ننتهي إلى أن الأستاذ «الزهاوي» صاحب ملكة علمية رياضية من طراز رفيع، وأنه يصيب في تفكيره ما طرق من المسائل التي يجتزأ فيها بالاستقراء والتحليل، ولا تفتقر إلى البديهة والشعور، فمن ينشده فلينشد عالمًا ينظم أو يجنح إلى الفلسفة، فهو قمين بإصغاء إليه وإقبال عليه في هذا المجال، وإن خير مكان له هو بين رجال العلوم ورادة القضايا المنطقية، فهو لا يبلغ بين الفلاسفة والشعراء مثل ذلك المكان.

٤

قرأت في زميلتنا «السياسة الأسبوعية» ردًّا للأستاذ «الزهاوي» على مقال كتبته عنه مجيبًا به الأديب التونسي الذي سألني إبداء رأيي فيه، وكان فحوى ذلك المقال أن نصيب الأستاذ «الزهاوي» من الملكة العلمية أكبر وأصلح من نصيبه من الملكة الفلسفية والملكة الشعرية، ولم يرض الأستاذ عن هذا الرأي فكتب رده في السياسة الأسبوعية يناقشه ويناقض الأسباب التي بنيته عليها، فهو يحب أن يقول إنه فيلسوف وإنه شاعر لا يقل حظه من الفلسفة ومن الشعر عن حظه من الملكة العلمية. وليس يضيرني أنا أن يزيد عدد الفلاسفة والشعراء في الأرض واحدًا أو أكثر؛ فإنني لم أتكفل بهم ولا تحسب علي أخطاؤهم أو يختلس مني صوابهم. ولست ممن يحبون الجدل في غير حقيقة تجلى أو رأي يستوضح؛ فإن الجدل الذي يطول فيه الأخذ والرد لغير شيء من هذا هو لغو كلام وفضول بطالة، فإذا رجعت اليوم إلى الموضوع، فليست رجعتي إليه لحرص على تقليل حظ «الزهاوي» من الفلسفة والشعر، ولا المطاولة في الجدل، وإنما هي لاستخراج الحقيقة التي أردتها من رد الأستاذ نفسه، وبيان المعنى الذي ذهبت إليه من طريقة الأستاذ في ملاحظة الأشياء وفهم أعمال الناس.

ليس للمجهول ولا للعاطفة حساب كبير في إدراك الأستاذ «الزهاوي» لأعمال الإنسان؛ ولهذا فإنه يخطئ في تصورها والحكم عليها ومتابعتها إلى أسبابها وغاياتها، وفي رده أدلة كثيرة على حاجة الفيلسوف — فضلًا عن الشاعر — إلى حسبان ذلك الحساب، وفهم الإنسان ومكانه في هذا الكون كما هو إنسان في حقيقته، لا كما يتصوره الذين يستهدون بالعقل وحده غير معتمدين على البديهة وعلى الشعور. وإليك بعض هذه الأدلة مأخوذة من ذلك المقال:
  • (١)

    يقول الأستاذ «الزهاوي»: «من طار بجناح العقل أخيرًا لندبرغ، وصل إلى باريس من نيويورك في ٣٤ ساعة، فليخبرني الأستاذ إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة؟»

    وأنا مخبره إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة: أخبره أنهم وصلوا من نيويورك إلى باريس في ٣٤ ساعة، ولعلهم يصلون غدًا في أقل من هذه الساعات؛ لأن لندبرغ لم يطر على المحيط الشاسع المخيف بجناح العقل، بل بجناح العاطفة وحدها طار، وعلى جناح العاطفة وحدها تلقته الجماهير التي هتفت له هتاف الحمد والإعجاب.

    ولم يسبق لندبرغ طائر في الفضاء، ولن يلحق به طائر مثله، إلا كانت العاطفة هي محركه، وهي جناحه وهي جزاؤه إذا نجح، وعزاؤه إذا خاب، وليس الطيران كله إلا حلمًا من أحلام العواطف أجج الرغبة وألهب الخيال، فجاء العقل كالخادم الأجير يحقق ما تعلقت به الأخيلة واتجهت إليه الرغبات.

    وأي عقل يزين للندبرغ أن يخاطر بحياته بعد كارثة المفقودين في هذا المضمار القاتل؟ وأي عقل يزين له أن يرفض المال الذي انثال عليه من شركات الصور وطلاب المحاضرات والمساجلات؟ ليس العقل هو الذي أعطانا الطيارين وآلات الطيران، وإنما هي دوافع الإحساس وبواعث الخيال، وهي «العواطف» التي تحمل الإنسان على كل جناح إذا قعد به التفكير وحده في قرارة العجز والجمود.

    ونتجاوز نحن هذا الحد إلى ما بعده، فنقول إن الغربيين في هذا الزمان يسبقوننا في ميدان الكشف والاختراع؛ لأنهم يطلبون من الحياة فوق ما نطلب، لا لأنهم يحسنون ما لا نحسنه من الفهم والتفكير؛ فكل مصنوع يصنعه الغربيون نستطيع — نحن الشرقيين — أن نفهمه ونصنع على مثاله، ولكننا لا نستطيع البداية؛ لأنها وليدة البواعث، وهي قاعدة عندنا ناهضة عندهم، فالتفاوت بيننا وبينهم تفاوت في البواعث، أي في الخلق والإحساس وليس تفاوتًا في العقل والتفكير، وطريقتنا نحن في الإحساس بالأمور هي التي ينبغي أن يتناولها الإصلاح وليست طريقتنا في فهم ما يحتاج إلى الفهم والتحصيل.

  • (٢)

    ويقول الأستاذ «الزهاوي»: «أنا مادي لا أرى لغير الحواس أبوابًا للمعرفة مستثنيًا من ذلك معرفة ذاتي، ولا آذن للخيال أو العاطفة أن يلجأ باب الشعر إلا إذا اطمأننت إلى أنهما لا يفسدان وجه الحقيقة التي ما زلت أتغنى بها في شعري.»

    أما الذي أقوله أنا فهو أن الحياة هي التي خلقت الحواس، وهي صقلتها وهذبتها وألهمتها أن تعي ما يتصل بها، وأن الحياة لم تعلن إفلاسها بعد خلق الحواس ولا قبله، فهي شيء أكبر من الحواس، وهي على اتصال وثيق لا انفصام له بهذا الوجود قبل أن تفتح بينها وبينه نوافذ الآناف والأذواق والأسماع والأبصار، وإن الحواس تتفاضل بقدر ما فيها من الشعور والاستمداد من باطن النفس لا من ظواهر الأشياء، فالدنيا لا تتغير. ولكن نظر الشاب إليها غير نظر الشيخ، وإحساسه بها على الجملة غير إحساسه، لماذا؟ لأن الحواس تستمد شعورها من القوة الحية التي خلقتها ونوعتها، وهي قادرة على تغيير الحلق والتنويع. وليس بالمنطق الصحيح ذلك المنطق الذي يجهل أن الوظيفة تسبق العضو، وأن القوة الحية تنشئ الحاسة وتزيدها وتهذبها، فهذه القوة الحية تدرك ما هي فيه وإن اختلف أسلوب إدراكها عن أسلوب الحواس في الإدراك، بل لولا هذه القوة الحية الخالقة لما عملت حاسة في الجسم شيئًا، فلتكن للحواس إذن معرفتها المحدودة التي نعهدها في العلوم والصناعات، ولكن لا يعزب عنا أبدًا أن وراء هذه الحواس ينبوعًا لا ينفد من وسائل الإدراك، وإن كان إدراكًا لا حد له من الصيغ والتعريفات.

  • (٣)

    ويقول الأستاذ «الزهاوي»: «لو جعلنا الخيال والبداهة في المنزلة التي يضعها فيها الأستاذ الفيلسوف، لوجب أن يكون الإنسان الابتدائي، بل الحيوان، أكبر فلاسفة الأرض، لولا ما ينقصهما من البصيرة والحساب. أما الذي أعرفه أنا في الفيلسوف، فهو تحريه للحقائق المستورة عن الأكثرين بنظره النافذ ليكشف أسرار الطبيعة ويستفيد من نواميسها ويفيد غيره، وما الفيلسوف ذاك الذي يرضي عواطفه، وإلا كانت الحيوانات كلها فلاسفة كما سبق. وكم جرح دارون الشهير عواطف الناس بنظريته في نشوء الإنسان من الحيوان! وكم خالفه أهلها! وكم مقتوه وعادوه وسبوه لأنه خالف عواطفهم! ولكن في النهاية كان هو الفيلسوف، ومعارضوه بقوا ذوي عواطف لا غير.»

    هذا الذي يقوله «الزهاوي»! ويدهشني منه أنه يتكلم عن العاطفة كما يتكلم عنها المغنون و«أولاد البلد» حين يتشاكون جرح العواطف ويتناشدون رعاية الإحساس! فهم إذا قالوا: «فلان صاحب عواطف» قصدوا بهذه الصفة أنه لا يجرح عواطف الآخرين، وأنه «حسيس» بالمعنى الذي يفهمونه! وليس هذا ما نريد؛ لأن العواطف قد تجرح العواطف كما تبقي عليها؛ فالحب عاطفة، ولكنه يجرح نفوسًا كثيرة، والغضب والإعجاب والحماسة والغيرة عواطف كلها، ولكنها قد تجرح من النفوس أكثر مما تواسيه، وليس تقسيمنا الناس إلى أصحاب عقول وأصحاب عواطف تقسيمًا لهم إلى من يجرحون نفوس الآخرين ومن لا يجرحونها؛ فإن أصحاب العقول ربما عرفوا كيف يسوسون الناس فلا يغضبونهم، فكانوا بذلك أقمن ألا «يجرحوا العواطف» بلغة المغنين و«أولاد البلد» المتظرفين.

    وأدعى من هذا إلى الدهشة أن يقول الأستاذ إن نصيب الحيوان والإنسان الأول من الخيال والبديهة أكبر من نصيب الإنسان الأخير، فالحقيقة أن الحيوان لا خيال له ولا بديهة، وأن الإنسان الأول أقل نصيبًا من الإنسان الأخير في هاتين الملكتين، وليس نصيبنا نحن من الفهم ما نعلم أننا نفهمه، بل نحن نفهم أشياء شتى بالبديهة وبالخيال ولا نعلم بها وهي تعمل عملها في الإحساس والتفكير.

    ولقد ذكر الأستاذ اسم «دارون» صاحب «النشوء والارتقاء»، فهل له أن يذكر أيضًا أن الخيال كان أصدق من العقل ألوفًا من السنين، حين كان العقل يجزم بقيام كل نوع على انفراده، وكان الخيال يقص علينا قصصه ويجزم لنا بتقارب الأنواع وتلامع الإنسان والحيوان؟ نعم إن الخيال لم يفصل لنا «النظرية» العلمية؛ لأن له شأنًا غير هذا الشأن، ولكن ألم يعمَ العقل عن تلك النظرية كل العمى يوم أن كان الخيال يرسمها محرفة بعض التحريف من وراء الظلال والرموز؟ وهل للأستاذ أن يذكر أيضًا أن «دارون» ما كان لينفذ بفطنته إلى تقارب الأنواع لولا روح العطف الذي كان يحس به خوالج الحيوان وتعبيراتها على الوجوه والأعضاء؟ أيمكن أن يؤلف كتاب التعبيرات الحيوانية ودلالاتها رجل لا يخالطه العطف العميق، ولا يسري بينه وبين الأحياء سيال من الإحساس الدقيق؟ وما هو نصيب العقل بعد كل هذا في مذهب «النشوء والارتقاء»؟ ما كان له من نصيب إلا أن يصحح أخطاءه هو لا أخطاء الخيال ولا أخطاء الإحساس، فالحقائق التي استند إليها النشوئيون قائمة منذ الأبد، والعقل هو الذي كان يداريها أو يضلل فيها الخيال والإحساس.

    ويسألني الأستاذ: «لا أدري أي مناسبة للعاطفة بالمنطق!» وهذا الذي أقوله أنا، وأقول معه إن مناسبة العاطفة أنها هي شيء موجود لا يصح المنطق إلا إذا حسب له حسابه، فأي منطق يحق له أن يكون هكذا، أو لا ينبغي أن يكون كذلك إن لم يكن يحس العاطفة الإنسانية ويستكنه مضامينها ويقيم لها وزنها؟ إن الأستاذ ينبئنا أن العقل أسعد الإنسان بالعلم، فما هي السعادة؟ إن لم تكن عاطفة فهي لا شيء، وإن لم يكن العلمُ علمَ إنسان «عاطف» فلا حاجة به لإنسان.

    نود أن يتأكد هذا في العقول؛ لأننا على مرحلة يجهل فيها الشرقيون ما ينقصهم، فيجب أن يعلموا أن الذي ينقصهم هو «الإحساس القويم»، وأن سبيل خلاصهم هو سبيل العاطفة الحية والشعور الصادق الجميل. أما نظرية الدور والتسلسل، فهي لا تعنينا في هذا الصدد، ولكني أرجو الأستاذ «الزهاوي» أن يسأل نفسه هذه الأسئلة وهي:
    • (أ)

      ألا يمكن أن نقول إن عدد «الأشكال» لا نهاية له بنفس المعنى الذي نريده حين نقول إن عدد الأجرام والجواهر لا نهاية له في هذا الفضاء الذي لا يتناهى؟

    • (ب)

      لماذا نشترط البعد في الزمان والمكان لظهور الشخصين المتماثلين كل التماثل؟! لماذا يتحتم أن يكون أحدهما في هذا الزمن والآخر على مسافة ملايين السنين أو ملايين الأميال؟ إن المقتضي للتماثل هو أن الأشكال تتناهى والجواهر لا تتناهى في قول أصحاب الدور والتسلسل. حسن، فلا داعي إذن لاشتراط التباعد بين الشخصين المتماثلين في الزمان والمكان، بل يجب أن نرى أناسًا كثيرين يتماثلون على سطح هذه الأرض في المدينة الواحدة وفي الوقت الواحد، وإلا كان رأي أصحاب الدور والتسلسل باطلًا يستند إلى دليل مشكوك فيه، أم تراهم يشترطون التباعد ليقولوا لنا إذا أنكرنا عليهم دعواهم: اذهبوا فطوفوا الفضاء الذي لا حد له، وجوسوا في جوانب الزمان الذي لا بداية له ولا نهاية، فإن لم تجدوا أناسًا يتماثلون وأجرامًا تتماثل، فنحن إذن المخطئون وأنتم المصيبون، وإن وجدتم فعودوا إلينا بالنبأ اليقين؟!

      إن اللحظة الحاضرة من الزمان تشمل أشياء مختلفة مضت عليها أزمنة مختلفة وأوضاع مختلفة، فهي بهذه المثابة ككل لحظة من الماضي أو المستقبل، وإن هذا الموضع من المكان هو ككل موضع غيره في اقتضاء التماثل، إن كان له اقتضاء. فإذا وجب أن نرى شخصين أو أكثر من شخصين يتماثلون كل التماثل على كوكبين بعيدين في زمنين بعيدين، فيجب — لهذا السبب عينه — ألا يمتنع ظهور مثل هذين الشخصين في هذا المكان في الزمن الحاضر، وإلا فما هو المانع إن كان أصحاب الدور والتسلسل يمنعونه فيما يزعمون؟

      نرجو الأستاذ أن يسأل نفسه هذه الأسئلة، ونحن نرجح أنه لا يجيب عنها أجوبة يسهل التوفيق بينها وبين القول بالدور والتسلسل، وليعلم — حفظه الله — أنني لا أجد عزاء لنفسي في تكرار «العقاد» إلى غير نهاية بين أجواز الفضاء وأبديات الزمان، فإذا ثبت له ثبوت اليقين أن في هذه اللحظة عقادين لا عداد لهم، يكتبون مقالاتهم في بلاغاتهم الأسبوعية التي تصدر في قواهرهم وأفريقاتهم، للرد على الزهاويين الذين لا أول لهم يعرف ولا آخر لهم يوصف؛ فرجائي إليه أن يكتم عني هذه الحقيقة؛ فما في علمها إلا الشقاء بتضاعف الأشغال وتراكم الأحمال، وما في ذلك ترفيه ولا عزاء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤