محمد فريد وجدي

figure

هو فريد عصره غير مدافع!

وتلك كلمة مألوفة، طالت ألفتها حتى رثَّت وبليت وأصبحت حروفًا بغير معنى.

ولطالما قيلت عن عشرات من حملة الأقلام في عصر واحد، كلهم فريد عصره، وكلهم واحد من جماعة تعد بالعشرات، فلا معنى لها في باب العدد ولا في باب الصفات، ولا سيما صفات الرجحان والامتياز.

إلا أننا نقولها اليوم عن «محمد فريد وجدي» لنعيد إليها معناها الذي يصدق على الصفة حرفًا حرفًا، ولا ينحرف عنها كثيرًا ولا قليلًا حتى في لغة المجاز.

فقد عرفنا في عصره طائفة غير قليلة من حملة الأقلام ورجال الحياة العامة، فلم نعرف أحدًا منهم يماثله في طابعه الذي تفرد به في حياته الخاصة أو العامة، وفي خلقه أو تفكيره، وفي معيشته اليومية أو معيشته الروحية، وأوجز ما يقال عنه في هذه الحالات جميعًا أنه لم يخلق في عصره من يتقارب المثل الأعلى والواقع المشهود في سيرته كما يتقاربان في سيرة هذا الرجل «الفريد».

نعم، الفريد حتى في لغة الجناس؛ لأن اسمه فريد، والفريد حتى في عزلته؛ لأنه كان في عزلة النسَّاك والرهبان، عليمًا غاية العلم بالتحليل والتحريم.

بدأ حياته الفكرية على مبدأ لم يخالفه قط في أيام رخاء ولا في أيام عسرة، فقصر طعامه على النبات، وانفرد بهذا الطعام بين أهل بيته، واجتنب الولائم التي يدعى فيها إلى طعام غير طعامه.

وأخذ نفسه بسمت الأولين من عباد «الله» الصالحين، فتورع عن كل بدعة من بدع الضلالة أو الجهالة ينكرها الدين، وجهر باستنكاره لهذه البدع حين صمت الصيَّاحون من الناطقين.

ذكرنا في حديث الخديوي و«البكري» — في غير هذا الفصل — قصة الطرق الصوفية يوم توديع المحمل بميدان المنشية، وخلاصتها أن السيد «محمد توفيق البكري» كان محنقًا على الخديو في بعض السنين، فمنع أصحاب الطرق من الخروج لموكب المحمل تحية للأمير في ميدان الاحتفال، فخلا الميدان إلا من الموظفين المدعوين، وغضب الأمير لأنه فهم من ذلك أنه زراية بالموكب الذي تعود أن يشهده العام بعد العام، فانتهر السيد «توفيق» وقال له بصوت مسموع على ملأ من رجال الدولة: «أنت قليل الأدب!» وغضب السيد «توفيق»، فانصرف من الاحتفال وهو يقول للأمير بصوت مسموع كذلك بين الحاضرين: «لست أنا قليل الأدب. إنني وزير مثلك، وآبائي وأجدادي لهم الفضل على آبائك وأجدادك.»

ولم تأخذ صحيفة واحدة بناصر السيد «البكري» في هذا الموقف؛ لأن الصحف الإسلامية لا تُغضب الأمير من أجل شيخ الصوفية، ولأن الصحف غير الإسلامية لم تشأ أن تتعرض لمسألة من مسائل الدين.

إلا صحيفة «الدستور» التي كان يصدرها «فريد»، فإنها أخذت بناصر «البكري»، وهو من غير المقبولين عند صاحبها؛ لاختلافهما في المسلك والسيرة، ولكن صاحب الدستور نظر إلى شيء واحد في هذا الخلاف، وهو أن مظاهر الطرق الصوفية بدعة لا يستحسنها، وأن الأمير لم يكن على حق في غضبه على شيخ الطرق لمنع حضورها.

وتتم هذه الخصلة الفريدة في صاحب الدستور صباح اليوم التالي ليوم خروج المحمل، فقد اطلع «البكري» على الصحيفة فأرسل إلى صاحبها بمبلغ من المال كانت في أشد الحاجة إليه، فلم يقبل منه «فريد وجدي» غير قيمة الاشتراك لعام واحد، ثم رد إليه البقية قبل أن ينتصف النهار.

ولقد كانت أزمة الصحيفة أثرًا من آثار «المبدأ» الذي لا ينحرف عنه الرجل قيد شعرة، وهو الجهر بالرأي، ولو خالف القوة والكثرة وخالف أحب الناس إليه، وقد كان من رأيه عند تأليف الحزب الوطني أن يكون تبليغ تأليفه والاحتجاج على الاحتلال عامًّا غير مقصور على الدولة البريطانية، فلم يقبل «مصطفى كامل» مقترحه، ولم يسكت «فريد وجدي» عن تأييد رأيه، فانصرف قراء اللواء عن قراءة الدستور، ولم يكن للدستور قراء من الشيع السياسية الأخرى، فكسدت الصحيفة وعجزت عن النهوض بتكاليفها، ولم يقبل صاحبها أن يعوض الخسارة بالمعونة المعروضة عليه من الجهات السياسة التي لا يوافقها.

ومن المعونات التي عرضت عليه في أحرج أيام الأزمة معونة كبيرة من جماعة «تركيا الفتاة»، يبذلونها للدستور مشاهرة ليكون لسانًا عربيًّا لحركتهم الدستورية، ولكن على شريطة واحدة: وهي أن يُرفع من صدر الصحيفة كلمة «لسان حال الجامعة الإسلامية»، فرفض الرجل هذه المعونة، ورفض أن يجعل صحيفته لسانًا للحزب إلا بشروطه التي يرتضيها، ولو وافق الحزب على بقائها لسانًا للجامعة الإسلامية.

وفي الوقت الذي كانت هذه المعونات تعرض عليه من شتى الجوانب — ومنها جانب الحاشية الخديوية — كان الرجل يتحامل على نفسه وعلى القليل من موارد مؤلفاته، لينفق عليها بعد تصغير صفحاتها واختصار أعدادها، فلما استنفد كل ما قدر على إنفاقه في هذا السبيل أعلن تعطيلها وهو مدين لتاجر الورق وموظفي التحرير والإدارة بمقدار غير يسير، فأبت عليه نزاهة النفس أن يؤخر مليمًا واحدًا لصاحب دين، واتفق مع تاجر الورق على استخلاص دينه من مؤلفاته بثمن يقل أحيانًا عن عشر ثمنها في المكتبات، ومنها على ما نذكر معجمه المسمى بكنز العلوم واللغة، وثمنه مائة وعشرون قرشًا، فاتفق على حسبانه بثلاثة عشر قرشًا، واشترط على التاجر أن يشتري النسخ التي تصرف للموظفين بما بقي لهم من متأخر الأجور والمرتبات، وحضر بنفسه تسليم النسخ واستلام الأثمان.

هذا هو الرجل الفريد في نزاهة نفسه واستقامة خلقه وحفاظه على مبدئه ورأيه.

وهو كذلك، أو أكثر من ذلك انفرادًا بين كتاب عصره بجهوده في مؤلفاته، فلا نعرف أحدًا منهم توفر وحده على تأليف «دائرة معارف» كاملة، ولا على التأليف في تفسير القرآن وفي معجمات اللغة والعلم، ولا على الجمع بين الدراسات الدينية والقصص الخيالية، ولا على الاستقلال وحده بإصدار صحيفة يومية، ولم يكن معه من المحررين غير كاتب هذه السطور، ولو استطاع وحده أن يؤدي أعمال التحرير خارج المكتب، ومنها الأحاديث وأخبار الدواوين، لاستقل وحده بالإدارة والتحرير.

وأشرف ما يكون صاحب المبدأ إذا كان استقلاله برأيه لا يأبى عليه أن يعرف لغيره حقهم في الاستقلال بما يرون.

وقد كنت يوم اشتغلت بتحرير الدستور كاتبًا ناشئًا، خامل الذكر، ليس لي بحق الشهرة أن يكون لي رأي مستقل مسموع، ولكني كنت أخالفه في بعض آرائه، بل في بعض مبادئه السياسية وبعض معتقداته عما وراء المادة وتحضير الأرواح، وأشهر ما كان من ذلك حول موقف الحزب الوطني من «سعد زغلول»، فلم يمنعني ذلك أن أنشر في الدستور ما يخالف هذا الموقف، وأن أحادث «سعد زغلول» حديثًا ينفي كل ما يعزوه إليه كُتاب اللواء. وقد صارحته غاية الصراحة فيما كان يعتقده من تحضير الأرواح، وصارحني غاية الصراحة في أمر المتشابهات من العقائد والأحكام، فلا أذكر أنني لمحت منه عند أشد المخالفة نظرة غير نظرته حيث تقترب الأفكار والآراء.

ومما انفرد به في صناعة الكتابة أنه كان يكتب منفردًا كما يكتب بين جمع من الزوار والعمال، وأن سرعة قلمه بالكتابة لم تكن دون سرعة لسانه بالكلام، وأنه كان سريع النظم للشعر كما كان سريع النسج للنثر البليغ، وإن لم يكن يشتغل بنظم الشعر في غير موضعه من قصص الخيال.

ومن شعره في هذه القصص الخيالية قوله:

رمت المخاوف والمخاطر
فرويت ما لم يرو شاعر
وجمعت ما بين البدا
وة والحضارة والمظاهر
وشهدت ما لو قلته
عدُّوه من عبث الخواطر
وخرجت من ذا كله
بحقيقةٍ تغني المكابر
هي أن هذا الناس قد
سحرتهم فتن سواحر
ظنوا السعادة في التأ
نق والتظرف والتفاخر
وإقامة الدور الشوا
هق والعلالي والمقاصر
والجري أعقاب اللذا
ئذ والتورط في الكبائر
بين افتتان بالقشو
ر ووقفةٍ حول الظواهر
أما السعادة فهي في
أن تفتق الحُجُبَ السواتر
وتحصل السر الذي
شقت لمطلبه المرائر
وتنال من معناك ما
حرمته همات قواصر
أن ترتقي بالروح حيـ
ـث الحق عالي القدر سافر
هذي السعادة كلها
فاظفر بها إن كنت ظافر

وله شعر في هذه القصص يقول فيه عن المدنية:

ضل أهل الألمعية
في علاج المدنية
هي من أقدم عهدٍ
عضلة العلم القوية
هي للجثمان غنمٌ
وهي للروح بلية
والذي قر عليه الـ
ـرأي من أهل الروية
أنها شر ضرور
ي لخير البشرية

ولو كانت طواعية النظم للناظم آية الملكة الشعرية لكان «فريد وجدي» في طليعة الشعراء المطبوعين، ولكن سهولة نظمه كسهولة نثره، كلتاهما دليل على بساطة في الطبع، سلمت من العقد المركبة وتقابلت فيها الأعماق والظواهر بغير حجاب من خفايا النيات وعوج الأهواء، فلا تشق عليه سلاسة التعبير ولا سلاسة التفكير.

ومن صراحة خلقه وإيمانه باستقلال الرأي عنده وعند غيره، أنه كان يستمع إلى رأيي في شعره فلا يغضبه ولا يهمه أن يكون له حظ من الشعر أكبر من حظه، وقد قلت له مرة: حسبك من الشعر ما يقنع قلب المتصوف ولسانه. فقال: والله إنه لخير كثير، ومن لنا ببعض هذا النصيب؟

•••

روى العالم اللغوي الشيخ «عبد القادر المغربي»، وهو من تلاميذ السيد «جمال الدين الأفغاني»، أن السيد عرض عليه الزواج فقال: إن «جمال الدين»، وهو متزوج رب أسرة وصاحب بيت، يأوي إليه بين أهله وبنيه صورة من صور الخيال، أغرب من صورة الشيخ «عليش» وهو يسعى إلى «الأزبكية»، ليجلس إلى حانة من حاناتها ويصفق بيديه يستدعي «الجرسون»، ليأمره بسؤال من حوله عما يطلبونه من مشارب الحانات.

أقول إنني قد رأيت بعيني في الواقع ما هو أغرب من هاتين الصورتين، وهو منظر «محمد فريد وجدي» يتمشى في قلب «الأزبكية» بين المتاجر والحانات، وهي لا تدري من هذا الذي يغيب في أطوائها بين هذا الزحام، ولعله هو أيضًا لا يدري أن هذه هي «الأزبكية»، إلا كما يدري الطيف في الصور المتحركة أين يضعه المخرجون بين مشاهد الأفلام.

فقد كان السير على الأقدام من رياضات الرجل قبيل الأصيل كل نهار، وكان يمضي في رياضته حيث ساقته قدماه؛ تارة إلى مفازة الخلاء، وتارة أخرى إلى حي «السكة الجديدة»، وحينًا إلى قصر النيل، وحينًا آخر إلى شارع «جلال» أو «عماد الدين»، ولا يحس من يراه في مكان من هذه الأمكنة، وهو ينظر إلى ملامح وجهه، أنه يفرق بين مكان منها ومكان سواه، كأنه «لانطوائه على نفسه» يتمشى في عالم السريرة ولا يتمشى في عالم العيان.

وكنت أراه أحيانًا في طريقي ولا أعرف من هو بين غمار الناس، على علمي ببعض آثاره وسماعي ببعض أخباره، ومنها في قفشات الأدباء «أولاد البلد» أنه يعيش فيما وراء المادة، في عطفة من عطفات عالم الروح.

فلما رأيته لأول مرة بعد إعلانه عن إنشاء صحيفة الدستور أسفت لما فاتني من الشعور بتلك الأعجوبة التي كنت أشهدها كما يشهدها غيري من عابري الطريق، ولا يشعرون بها!

«ما وراء المادة» كله ينتقل إلى حي «الأزبكية» في ضوء النهار؟!

إنني لأشعر اليوم أنه منظر عجب غاية العجب: منظر أعجب من «جمال الدين» رب الأسرة والدار، أو منظر الشيخ «عليش» جليس القهوة والبار.

وقد صحبته في رياضة من هذه الرياضات أول يوم لقيته فيه، فعلمت حقًّا أنه كان يغشى تلك الأماكن وكأنه لا يغشاها؛ لأنه يستطيع أن يمضي في عزلة عما حوله، كما يستطيع أن يجلس إلى مكتبه ليكتب ويفكر ويناجي سريرته، ولا يدري من يخاطبهم ويخاطبونه أنه بعيد عنهم وأنهم بعيدون عنه، في عالم آخر من وراء المادة، إذا شاء «أولاد البلد» الظرفاء.

وكنت قد عرفته من كتاباته زمنًا قبل أن أعرفه رأى العين، ولكنني بعد أن صاحبته في مكتب الدستور من يوم إنشائه إلى يوم تعطيله — إلا فترات من الزمن لا تحسب — أراني أستطيع أن أقول إنني كنت أعرفه من كتاباته كذلك وأنا معه في دار واحدة؛ لأنه كان يعمل في مسكنه بالدار ولا ينتقل إلى مكتبه إلا للقاء طارئ من الزوار، أو للاجتماع بلجنة من لجان الصحيفة لمراجعة أحوال الإدارة والتحرير والتوزيع، وكان يعفيني من إطلاعه على ما أكتب قبل إرساله إلى المطبعة، فربما مضى الأسبوع ولم ألقه، إلا إذا طرأ من شئون الصحيفة ما يدعو إلى مشورته أو تبليغه عنه ليتصرف فيه بما يراه.

قرأت إعلانه عن طلب محرر للصحيفة، فكتبت إليه أخبره بأنني أرشح نفسي للعمل في الصحافة لأول مرة، فجاءني الرد منه بعد يوم أو يومين يسألني أن ألقاه بدار مطبعة الواعظ لصاحبها الكاتب المعروف — يومئذ — «محمود سلامة»، وكنت أقرأ مقالاته النقدية، ويعجبني منه ما يعجبني من مدرسته كلها: وهي مدرسة «عبد الله نديم» و«أحمد سمير»، وكنت أعرف مكان مطبعة الواعظ؛ لأنني فكرت زمنًا في إصدار صحيفة على مثالها وفي مثل حجمها، قبل أن أستقيل من وظيفتي الحكومية.

فلما ذهبت إلى الموعد — بالدقيقة — أَخْرَجَ الساعة من جيبه ونظر فيها، وسكت هنيهة ثم سألني عما اطلعت عليه من مؤلفاته التي أشرت إليها في الخطاب، ثم اختار صحيفة من الصحف التي كانت على مكتب صاحب الواعظ وقال لي: هل قرأت هذا؟ فنظرت في الصحيفة فعلمت أنه يشير إلى مقال عن رحلة لكاتب المقال في العاصمة الفرنسية، كنت قد اطلعت عليه قبل ذلك، فرددت الصحيفة إليه وأنا أقول: إنني لم أذهب إلى باريس، ولكن موضع العجب عندي أن الكاتب لم يطرق منها غير الحي اللاتيني، ولم يعرف في الحي اللاتيني غير معارض الخلاعة والمجون، فهل هذه هي باريس؟ فضحك صاحبنا ضحكة تنم على كل ما في طوية نفسه من براءة طيبة كبراءة الطفولة، وقال: هذه هي باريس كلها، إذا كانت القاهرة كلها هي ما تراه الساعة. هل لك في رحلة قصيرة نقضي بها رياضة اليوم؟

وسرت معه حيث سار، فلاح لي أنه كان كأنما يسير معي ولا يوجهني إلى مكان مقصود بعينه، أو كأنني كنت أوجهه كما كان يوجهني على السواء.

وقال لي في صراحة لا تكلف فيها، إنه عرض علي مقال الصحيفة عن رحلة باريس امتحانًا لرأيي بعد أن أغناه أسلوب خطابي عن امتحاني في الكتابة، وبعد أن أغناه حضوري إلى الموعد — بالدقيقة — عن امتحان نظامي في العمل، فلي أن أعتبر نفسي محررًا بصحيفة الدستور منذ تلك اللحظة، ولي أن أسأله عما أشاء عن نظام العمل المطلوب.

ولم أسأله عن شيء من ذلك، ولكنه هو قد مضى يسهب في بيان مقصده من إنشاء الصحيفة وبيان خطتها في السياسة والوطنية، ثم مضت الأيام بعد الأيام في هذا العمل المشترك بيني وبينه، لا يعاوننا فيه أحد غير أخيه «أحمد» الطالب بكلية الحقوق، وغير آحاد من زملائه الطلبة ومن وكلاء الصحيفة في الأقاليم، ولم ينقطع عملي في الدستور غير بضعة أسابيع، تركت الصحيفة فيها لخلاف وقع بيني وبين أخيه، لاعتراضه على بعض آرائي في السياسة الحزبية، والحق أنه اعتراض لم يكن فيه ما يسوء، لولا أنني استكثرته من الأخ، وهو يعلم أن أخاه الأكبر لا يبدي على ما أكتب مثل هذا الاعتراض فيما يخالفه أو يناقضه من الآراء السياسية.

ولم ألقَ «محمد فريد وجدي» بعد تعطيل الدستور غير مرات معدودات، وكنت قد برحت «القاهرة» إلى «أسوان» ثم عدت إلى «القاهرة» للعلاج من وعكة قطعتني عن العمل بضعة أشهر.

وفي حديث من أحاديث الرياضة على الأقدام كان لقائي الأول له بعد عودتي إلى «القاهرة»، فإنني عرفت مسكنه بعد انتقاله إليه من مسكنه بدار الصحيفة، فقصدت إليه على أثر رياضة في الخلاء وبيدي كتاب من كتب الفلسفة الاجتماعية، فقال لي وقد نظر في الكتاب ولمح على وجهي أعراض السقم: وفي مثل هذا الكتاب تقرأ وأنت ترتاض للاستشفاء؟

وأذكر أنني فاتحته باعتقادي قصر العمر وقلة الجدوى من الاستشفاء، فابتسم ابتسامته الأبوية، وفتح الصفحة الأولى من الكتاب وهو يقول لي: اكتب هنا. ثم أملى علي كلامًا فحواه أنني سأعود إلى هذه الأسطر وأنا شيخ معمر، لكي أعرف أنني كنت على خطأ كبير حين قدرت لنفسي نهاية العمر القصير.

رحم «الله» ذلك القلب الطهور، وذلك الروح الكريم، وذلك الحق الفريد.

إن يكن اليوم لا يذكر حق ذكراه، فما هو بالخمول ولا هو بالقصور عن الخلود، ولكنه يعيش في عزلة من دنيا التاريخ كما عاش أيامه في عزلة من دنيا الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤