مقدمة الطبعة الإنجليزية

بقلم روبرت ميجهال١

تُعتبر «القضية الغربية للدكتور جيكل ومستر هايد» التي كتبها روبرت لويس ستيفنسون (١٨٨٦م) من أشهر قصص الرعب على مَر الزمن، وهي تشترك مع رواية «فرانكنشتاين» التي كتبتها ماري شيلي (١٨١٨م)، و«دراكولا» التي كتبها برام ستوكر (١٨٩٧م) في أنها — أو على الأقل في أن إحدى صور فكرتها الرئيسية — تكمن في الوعي الجمعي للإنسان. وقد جُعلت موضوعًا لأفلامٍ كثيرة، وظهرت في ما لا يُحصى من الرسوم، والصور الكاريكاتورية، والقصص التي تحاكيها محاكاةً ساخرة، كما دخل تعبير «شخصية من جيكل وهايد» إلى لغتنا، بحيث يصف الفرد الذي يعيش حياة مزدوَجة، ظاهرها الخير وباطنها الشر. فإذا اكتشفت الصحف الشعبية أن مَن عُرفَ أمرُه أخيرًا من السفَّاحين ذوي الضحايا المتوالية، أو من القتلة ذوي العقل المختل، أو حتى من صغار المحتالين؛ لا يقضي ساعات نهاره كلها في ممارسة هذه الفِعال، بل تمرُّ به أوقاتٌ لا يختلف فيها سلوكه عن سلوك جيرانه، فالأرجح أن تقول تلك الصحف: إن فلانًا يبدي ميول «جيكل وهايد»؛ باعتبار ذلك وصفًا موجزًا يفيدها في صوغ الأخبار المثيرة، بل ربما كان يمثِّل دعوةً لنا لتفحُّص جيراننا بدقَّةٍ أكبر. ومما يشهد لستيفنسون بقوة طاقته الابتكارية في الكتابة؛ أن إبداعه لا يزال يتمتع بهذا الوجود المستقل بعد نشر حكايته للمرة الأولى بما يزيد على مائة عام. ومع ذلك، وعلى رغم من إلمام الناس في شتَّى أرجاء العالم كله تقريبًا بالفكرة التي تقوم عليها هذه القصة؛ فالواقع يقول أيضًا: إنَّ مَن يعرف بها من الناس أكثر ممن يعرفها في ذاتها، وإن الكثير ممن يعتقدون أنهم يعرفون موضوعها لم يقرءوا فعلًا الصفحات المائة التي تضمُّ الحكاية. ولسوف يجدُون فيها ما يختلف عمَّا كانوا يتخيلون، أي سيجدون قصةً أشدَّ تعقيدًا، وأكثر إمتاعًا وإقلاقًا من الصورة المتناقَلة والموروثة بشكلها الثقافي الشائع. ومن الأفضل لقُرَّاء قصة «القضية الغريبة» أن يعودوا لهذه المقدمة بعد قراءتها؛ إذ لا بدَّ من الكشف عن بعض تفاصيل الحبكة هنا بغرض مناقشتها. وسوف يجدُ القرَّاء الجُدُد أن القراءة ستكون أشدَّ ثراءً إذا استطاعوا أن ينسوا جميع تصوراتهم السابقة، وأن يضعوا أنفسهم في موقع أوائل قرَّاء ستيفنسون الذين لم يكونوا يعرفون أيَّ شيء عن جيكل وهايد.

روايات الرعب في عيد الميلاد المجيد

كتب روبرت لويس ستيفنسون هذه القصة — وهي أشهر قصصه — في أكتوبر ١٨٨٥م، عندما كان في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان يقيم في مدينة بورنموث مع زوجته فاني، ولويد أوزبورن ابنها من زيجةٍ سابقة. وتكشف خطابات ستيفنسون، إلى جانب بعض ملاحظاته في «فصل عن الأحلام» — الذي نقدِّمه مختصَرًا في هذا الكتاب — عن الضائقة المالية التي كان يمرُّ بها في ذلك الوقت، فعلى الرغم من احترافه الكتابة من سِنِّ الحادية والعشرين؛ فإنه كان لا يزال يعتمد على والده، وهو ما كان يُشعره ببعض الحرج. وقد كُتبت الحكاية للسوق التجارية؛ حتى يستطيع أن يسدد ما يدين به لأمثال «بايلز الجزار»،٢ وكانت الحكاية فعلًا أول عملٍ ناجح يكتبه، وهو ما أتاح له الاستقلال المالي للمرة الأولى.

وضمانًا للنجاح استغلَّ ستيفنسون خياله الخصب في إبداع «حكاية مخيفة جميلة»، قادرة على الرَّواج في السوق الكبيرة لمثل هذه الكتابات، وكان محرِّر أعمال ستيفنسون في دار لونجمان للنشر؛ قد طلب إليه أن يكتب قصة «مرعبة تُبَاع بشلن واحد»؛ لنشرها في عيد الميلاد عام ١٨٨٥م، وهو الموسم المرتبط بصورة تقليدية بقصص الخرافات والرعب. وكانت حكاية «أغنية الكريسماس» التي كتبها تشارلز ديكنز، وصوَّر فيها أشباح الموتى واكتسبت شهرةً فائقة؛ إحدى قِصصه الكثيرة التي كتبها في إطار التقاليد المذكورة، وكَتب ستيفنسون نفسه قصة «اختطاف الأجساد» و«أولالَّا» للنشر في الكريسماس عام ١٨٨٤م، و١٨٨٥م. وحينما اتضح للناشر أن سوق الكتب في الكريسماس عام ١٨٨٥م كانت حافلة بالمطبوعات الجديدة، قرر تأجيل نَشْر «القضية الغريبة» إلى شهر يناير التالي، وكانت هذه الحكاية قد حُدِّد لها من البداية أن تكون «حكاية الرعب» — أي حكاية مثيرة تعالج حادثةً خرافية، وتهدف إلى إحداث قشعريرةٍ ممتعة في قرَّائها — ومن المفيد لنا أن ننظر في تقاليد هذا الفن الأدبي، إذ سيساعدنا ذلك في أن نفهم كيف تتفق هذه الحكاية وتختلف أيضًا، بل وتُدخل بعض التجديد على ذلك الشكل الأدبي الذي كُتب لها أن تؤثِّر فيه تأثيرًا هائلًا.

بدأت قصص الرعب في الواقع بالرواية القوطية التي كتبها هوارس والبول بعنوان «قلعة أوترانتو» ونشَرَها عشيَّة الكريسماس عام ١٧٦٤م. وكان قد كتب هذه الحكاية التي تعجُّ بالأشباح، والنُّذُر، واللعنات القائمة على بعض الأُسَر، والأحداث الخرافية الغريبة، باعتبارها — إلى حد ما — فكاهة؛ إذ كان قد قدَّمها باعتبارها مخطوطًا من العصور الوسطى «اكتشفه» أحد علماء الآثار في القرن الثامن عشر، وأراد أن يُتحِف به — باعتباره يتضمن الغرائب والعجائب — القرَّاء «المتنورين» في العصر الحديث. وقد صدَّق الكثيرون خدعة والبول، واستمتع الكثيرون بهذه التجربة الجديدة ألا وهي قراءة مادةٍ متصلةٍ بالأساطير الفولكلورية وقصص الحب والمغامرات والفروسية على صفحات إحدى الروايات. وكانت الرواية شكلًا مَعنيًّا حتى ذلك الوقت بشئون الحياة المعاصرة واليومية، وبكل ما هو محتمَل الوقوع أو واقعي. وتَلَتْ هذه الرواية رواياتٌ أخرى، وببزوغ القرن التاسع عشر كان النقاد يشْكُون من أن الساحة الروائية قد أغرقها طوفان قصصِ الثأر الشيطانية واللعنات المصبوبة على بعض الأُسَر، ومن أن أحداثها تجري في حصونٍ قديمة أو في أدْيِرَة عريقة، في أعماق غابات مدلهِمَّة، وأن أبطالها من النبلاء الإيطاليين أو الإسبان المستكبرين أو من رجال الكنيسة الفاسدين. وكانت معظم القصص القوطية الأولى — حتى أفضل ما خطَّته أقلام آن رادكليف، أو ماثيو لويس، أو تشارلز ماتورين — تدور أحداثها في العصور السحيقة، أو في بُلدان بعيدة (تدين عادةً بالكاثوليكية) أو فيهما معًا. وكان المفهوم الذي يشترك فيه الكاتب والقارئ أن مثل هذه الفظائع بعيدةٌ كل البعد عمَّن كانوا يستمتعون بمثل هذه القصص (أي أفراد الطبقة المتوسطة من البروتستانت في لندن أو في إدنبرة أو في باث)، وأنها من المُحال أن تقع إلا في عصور أو أماكن (أقل تحضُّرًا).

وستيفنسون نفسه يلتزم بهذه التقاليد٣ في قصته القصيرة «أولالَّا»، التي نشَرَها قبل «جيكل، وهايد» بعدَّة أسابيع. فهذه القصة تُعتبر نموذجًا صادقًا للحكاية القوطية؛٤ بسبب معالجتها لموضوع التَّأَسُّل؛ أي ما يرثه الفرد من خصائص لأحد الأجداد الذين بَعُدَ العهد بهم، ولشكل من أشكال مصِّ الدماء،٥ ووقوع أحداثها في قَصر أرستوقراطي عريق في بقعةٍ نائيةٍ في إسبانيا .. ويجمُل بنا قبل أن ننظر في أسباب الأصالة العميقة لقصة «جيكل وهايد» أن نذكر قصة رعبٍ أخرى، وهي قصة «اختطاف الأجساد» (١٨٨٤م)؛ لأنها تختلف اختلافًا بَيِّنًا عن «جيكل وهايد»، وإن كانت تتفق في بعض جوانبها مع هذه القصة الأشهر التي نُشرت بعد عامين … ففيها نسقٌ واضح لكبْت الإحساس بالذنب، وللحياة المزدوجة التي تجمع بين التمتع بالاحترام في أثناء النهار وارتكاب الآثام في ساعات الليل، كما تتضمن عودة أشباح الجرائم القديمة «للاستيلاء» على مرتكبيها، وكل ذلك في إطار الحكاية الخرافية التقليدية إلى حدٍّ بعيد، وهو ما تطوَّر تطورًا بالِغ الرهافة في القصة التالية التي كتبها ستيفنسون لسُوق قصص الرعب في فترة عيد الميلاد المجيد. والواقع أن «القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد» التي كُتبت بعد ذلك بعامٍ واحد، على وجه الدقة، تتخلص تمامًا من مظاهر القصِّ القوطي التقليدي، خصوصًا وقوع الأحداث «بعيدًا» في جنوب إسبانيا أو منذ عهدٍ بعيد أو قريب، أي في الماضي. فالقضية الغريبة تقع أحداثها في لندن، وفي الوقت الحالي، كما تجعل مصدر الرعب دخيلةَ فردٍ يحظى بالاحترام، كما أن رؤيتها للشرِّ تنعكس على قطاعٍ عريض من المجتمع، بل ربما كان أعرض ممَّا دأَبَت القصص «الجماهيرية» على تناوله حتى تلك الآونة. أضف إلى ذلك أن العنصر الخرافي يُصوَّر هنا بصورةٍ تتَّسم بدرجةٍ ما من الواقعية، أي من احتمال وقوعه، كما يقترب من أسلوب «الخيال العلمي» ما دام يوحي بأن تجربة جيكل يمكن أن تتكرر لو كان قد ترك لنا سرَّ تركيب ذلك الدواء. ونجدُ أخيرًا أن أسلوب السرد فيها الذي يعتمد على ما يشهد به المعاصرون للأحداث في القصة، أي على شهاداتهم المجموعة؛ يمنحها طابع «الحضورية» المثير، أي وقوع الأحداث أمامنا، كما يحدث على المسرح، إلى جانب درجة من الثقة تزيد عمَّا نولِيه للذكريات التي تُروى بجانب المدفأة، وهو ما نجدُه في الشكل التقليدي لقِصص الأشباح. وسوف نبيِّن في الصفحات التالية السبب الذي جعل هذه القصة من أهم قصص الرعب وأشدها تأثيرًا منذ قصة «قلعة أوترانتو» مبتدئين بفنِّ السرد فيها.

الشهادة

تتَّسم تقاليد السرد في قصص الرعب بالتعقيد، ونادرًا ما كانت حكاية الرعب تقدَّم بصورة مباشرة «بسيطة»، من قصة «ميلموث الجوال» التي كتبها تشارلز روبرت (١٨٢٠م) وقصة «مذكرات خاطئ تائب واعترافاته» التي كتبها جيميز هوج (١٨٢٤م) إلى «دراكولا» (١٨٩٧م). وكثيرًا ما تزعم هذه الحكايات أنها قد جُمعت من عدد من المخطوطات المنفصلة والرسائل والشهادات المتفرِّقة التي تقدِّم في مجموعها وصفًا متماسكًا (إلى حد ما) للأحداث. وأصبحت هذه التقنية العلامة المميِّزة لمدرسة القصص التي تُسمَّى مدرسة «الإثارة» — وهي ضرب من القصِّ القوطي في الضواحي — والتي ظهرت في الستينيات من القرن التاسع عشر عندما قام بعض الكُتَّاب، مثل ويلكي كولينز، ببناء قصصٍ مثيرةٍ من الخطابات واليوميات وشهادات الأفراد واعترافاتهم. وتتَّفق حكاية ستيفنسون، إلى حد ما، مع هذا النسق؛ حيث نجدُ أنَّ فصلَين من أشد فصول القصة كشفًا عن الحقيقة (التاسع، والعاشر)؛ يمثِّلان وثيقتين منفصلتين كتَبَهما أبطال القصة، وأنَّ فصلًا ثالثًا (هو الفصل الرابع) يمثِّل في جانبٍ منه وصفًا صحفيًّا لجريمةٍ شنيعة. ومثل هذه التقنية تساعد على الإيحاء بتقديم الحقيقة ما دام يُفترض أن الوثائق المتباينة «أصدق» من الملاحظات المصطنَعة بصورةٍ سافرة، والتي يقدِّمها القاصُّ (الراوي) العليم بكل شيء، وإن لم يكن له وجود في دنيا القصة. وتساعد هذه التقنية على إثارة التشويق، ما دام المشاركون فيها من الأفراد لا يعرفون النتيجة الكاملة للأحداث؛ وبذلك يتأخر ورود التفسير الكامل حتى الصفحات الأخيرة، كما أنَّ مِنْ شأن هذه التقنية أيضًا رفع مستوى التأثير الشعوري للسرد، إذ إن الوصف الذي يقدِّمه الدكتور لانيون بنفسه للمشهد الذي صدمه، أي تحوُّل هايد إلى جيكل، وحديث جيكل عن خوفه الشديد من اغتصاب هايد لشخصيته؛ أشدُّ «حضورًا» وإثارةً ممَّا كان يمكن أن يكون لو رَوَى هذين الحدثين راوٍ غيرهما.

وممَّا يزيد من دعم الصدق المفترض للشهادات أنَّها تصدر عن شهودٍ موثوقٍ بهم أو تتعلق بما يهمُّهم؛ فهُمْ طبيبان ومحامٍ، وهُمْ يستخدمون خبرتهم المهنية في التحقيق في اللغز الذي يواجههم، وهذا يزيد من شدَّة الصدمة عندما تفشل تحقيقاتهم، لكنه أيضًا يحدِّد طبيعة مشاغلهم وتوقعاتهم. وستيفنسون يقدِّم حكايته باعتبارها «قضية» أو «حالة»، وهو ما يعني تطبيق الإجراءات الخاصة بالمعرفة والشهادة القانونية والطبية، لكنها قضيةٌ أو حالةٌ غريبة، وترجع غرابتها إلى هدْمِ التوقعات المرتبِطة بهذه الإجراءات وأشكال الكتابة عنها.

وقصة «القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد» مبنيةٌ بناءَ اللغز، كما تشبه القصة البوليسية من عدَّة وجوه؛ إذ إنَّ ثمانية فصول من فصولها العشرة مكرَّسة لاستيضاح المحامي للظروف الغامضة المحيطة بوصية جيكل، وتعامُله مع شخصٍ يُستبعد وجوده في الواقع وهو مستر هايد. وينبغي أن نذكُر أنَّ القصة تدور حول فردين فقط هما جيكل وهايد، حتى الفصل التاسع الذي يشهد فيه الدكتور لانيون تحوُّل هايد إلى صديقه جيكل. وكانت الشخصيات «داخل» القصة، وكذلك أوائل قرائها يعتقدون أن هذا هو الواقع، ومن شأن هذا أن يؤثِّر في قراءتنا، خصوصًا بسبب تفهُّمنا لشكوك الذين يحقِّقون في اللغز وتوقعاتهم. فلننظر إلى المظاهر، فلم يكن لدى القراء الأوائل ما يستندون إليه سوى المظاهر؛ إذ ما أبعدَ احتمالَ مصاحبة الدكتور جيكل الأعزب المحترم لإدوارد هايد الشابِّ «اللعين». وعندما يضغط المحامي أترسون على الدكتور جيكل طالبًا منه المصارحة الكاملة؛ يعترف جيكل بأنه يهتمُّ اهتمامًا كبيرًا بل كبيرًا جدًّا بشابٍّ ليس ابنه، بل هو غريب تمامًا بالنسبة إلى أقدم أصدقائه، ويُسمح لهايد باستعمال منزل جيكل بحريةٍ كاملة، بل ويُخَصَّصُ له بابٌ خلفيٌّ خاصٌّ، وله دفتر شيكات يسدِّدها الرجل الأكبر سنًّا. ويقول أترسون: «إنني أشعر بقشعريرةٍ باردةٍ حين أتصوَّر هذا المخلوق وهو يتسلَّل إلى جوارِ فراش هنري.» ونعلم فيما بعد أن هايد يتجوَّل على شاطئ النهر ليلًا، وأن جيكل قد أعدَّ له منزلًا خاصًّا به في «سوهو»، وهو منزل يحتوي من الأثاث والفرش ما يتَّفق مع أذواق جيكل الرفيعة، فيما يبدو، لا مع أذواق هايد. ومن المفترَض باستمرار أنَّ هايد يبتزُّ جيكل، وجيكل يُطَمْئِنُ صديقه المحامي قائلًا: «ليس الأمر كما تتخيل؛ ليس بهذا السوء.» ولكن تُرى ماذا كان المسكوت عنه الذي ظنَّ جيكل أن المحامي تخيَّله، وهو ما فهمَه كلٌّ منهما وإن لم يفصحا عنه؟! يبدو أن المؤلف رسَمَ هذه الظروف بحرصٍ شديدٍ بحيث تشير — دون تحديدٍ فعليٍّ — إلى الاشتباه في أن علاقة جيكل بهايد تقوم على ارتباطٍ غراميٍّ من نوعٍ ما. فالابتزاز مقترنٌ من زمنٍ بعيدٍ بالشذوذ الجنسي. ويقول ريكتور نورتون: «قبل صدور قانون الجرائم الجنسية عام ١٩٦٧م، كان القانون الذي يحظر علاقة الشذوذ الجنسي يُشار إليه بتعبير «ميثاق الابتزاز»؛ لأن عددًا كبيرًا، بل ربما كانت معظم محاولات الابتزاز تتعلق بالتهديد بفضحِ شذوذ أحد الرجال، سواء كان في الواقع ذا ميولٍ جنسيةٍ مثليَّةٍ أم لا.»٦ وأمَّا «ميثاق الابتزاز» المشار إليه فكان القانون الذي صدر عام ١٨٨٥م (العام الذي كتب ستيفنسون فيه هذه الحكاية)، وكان يحظر شتَّى ألوان العلاقات الغرامية فيما بين الذكور في السرِّ أو في العلن، وكان السبب في حبس أوسكار وايلد عام ١٨٩٥م.٧ ولكن، حتى قبل صدور هذا التعريف القانوني للعلاقة الجنسية المحظورة؛ كانت القوانين تنصُّ على جريمةٍ أقدَمَ كثيرًا هي اللِّواط، وهي التي جعلت الابتزاز حرفةً مربِحة إلى حدٍّ بعيد. ويقول نورتون أيضًا: «إن عصابات الابتزاز المحترفة .. كانت شائعة، خصوصًا في العَقدَين الثاني والثالث من القرن التاسع عشر، وكان بعض ذوي الميول الجنسية المثليَّة يبتزُّون شركاءهم. وكان التهديد بفضحِ اللِّواطيِّ يمثِّل أكثرَ من نصف الدعاوى القضائية المرفوعة في القرن الثامن عشر …» وقد تعرَّض أوسكار وايلد نفسُه لعدد من محاولات الابتزاز، وكان معظمها من جانب غِلمانٍ أُجَرَاء تعامَلَ معهم بنفسه أو تعامَلَ معهم عشيقه ألفريد دجلاس. وإزاء هذا الارتباط، فمن المحتمل أنَّ الاشتباه في وجود صورةٍ ما من الارتباط الغرامي بين الدكتور جيكل ومستر هايد؛ قد خطَرَ لأوائل قُرَّاء ستيفنسون، ولا بُدَّ أنهم دُهشوا من اهتمام جيكل الكبير بالشابِّ هايد. ولا شكَّ أن الإيحاء بالشذوذ الجنسي يمثِّل افتراضًا معقولًا حتى تنجلي الحقيقة ويتَّضح أنَّ الرجلين شخصٌ واحد.٨ ولم يكن ستيفنسون يستطيع، طبعًا، أن يصِفَ أو أن يشير مباشرةً إلى ما كان يُسمَّى «شذوذًا»، ويُعتبر ممَّا يُحظر الحديث عنه على صفحات قصةٍ منثورةٍ موجَّهةٍ إلى جماهير القُرَّاء العاديين؛ ولكنه كان يستطيع استغلال توقعات قُرَّائه وافتراضاتهم، بل ربما استغلَّها فعلًا. ولم يكن لقُرَّائه أن يشتكوا إن كانت مخيلتهم قد جاءت بما رفَضَ ستيفنسون أن يقوله فعليًّا.٩ والواقع أنَّ أيَّ «رذيلةٍ محظورٍ ذِكرُها» تهيِّئ للكاتب نصًّا دفينًا أو باطنًا قويَّ التأثير في إطار الحبكة المثيرة التي تتناول الأسرار، وحيث يتَّضح أنَّ ما كان يبدو من علاقةٍ «شاذَّةٍ» هو آخرَ الأمر علاقةٌ «خرافيةٌ» أو «خارقة». ويُعتبر هذا من ثمار الإطار الخاص للتوقعات التي بُنيت عليها القصة، ألا وهو استخدام الإجراءات وأشكال المعارف القانونية والطبية (وباستثناء الأدب المكشوف كانت هذه تكاد تمثِّل الفرصة الوحيدة لمناقشة الشذوذ الجنسي بين دفَّتَي كتاب) ويُضاف إلى ذلك ارتباط هذه الإجراءات والأشكال المعرفية بالمبادئ العقلانية وهي المبادئ التي ينجح التفسير الخرافي نجاحًا باهرًا في قلبها رأسًا على عقب.

ويتبدَّى أكبر تأثيرٍ لانقلاب التوقعات فيما يرويه الدكتور لانيون، حيث يكشف لنا للمرة الأولى أنَّ الرجلين في الحقيقة رجلٌ واحد. فإذا كانت تحقيقات المحامي أترسون تقوم على توقعات وإجراءات التحرِّي القانوني؛ فإن قصة لانيون مبنية — بدرجةٍ أكبر من الوعي — على أساليب مهنة ذلك الطبيب. لقد استجاب لانيون لالتماس جيكل بمساعدته في أمرٍ عاجل، أي أن يأتي بمواده الكيميائية ويسمح لأحد الغرباء (هايد) بدخول منزله ليلًا. وعندما يصل هايد يستقبله لانيون في العيادة كأنما هو أحد مرضاه، بل يحاول أن يحوِّل هايد إلى «حالة مَرَضية»:

فالواقع أنه لمَّا كان جوهر هذا المخلوق نفسه يتَّسم بشذوذٍ وسوءِ تكوينٍ فطريٍّ يواجهني — ولنقُل إنه كان خصيصةً تُدهشك، وتأسرك، وتثير تقزُّزك … — فقد أُضيف إلى اهتمامي بطبيعة الرجل وشخصيته فضولٌ لمعرفة أصله وحياته وثروته ومكانته في دنيانا. [ومِنْ ثَمَّ فقد] جلستُ في مقعدي المعتاد محاوِلًا قدْرَ الطاقة محاكاة أسلوبي المعهود مع المرضى؛ أقصد بقدْرِ ما استطعتُ أنْ أقوم به في هذه الساعة المتأخرة، ونظرًا إلى طبيعة مشاغلي آنذاك، والرعب الذي يُلقيه زائري في قلبي.

وأمَّا مشاغل لانيون وإجراءاته فكانت ممَّا يميِّز الكتابة الطبية في ذلك الوقت. فمعرفة أصلِ «غير السَّويِّ»، وحياته، وثروته، ومكانته في الدنيا؛ من العوامل التي توفِّر معلوماتٍ مهمَّةً للدراسة الإكلينيكية للحالات المَرَضية.١٠ ويعتقد لانيون أنه يواجه مريضًا مجنونًا، «يقاوم هجوم انفلاتٍ عصبي»، لكنه قبل أن يجِدَ الوقت الكافي لكتابة تحليله؛ إذا بهذا المخلوق الشائه قد تحوَّل إلى صديقه هنري جيكل، أحد زملاء مهنته، الذي يتمتع — إذا اقتصرنا على المظاهر وحَسْب — «بأصلٍ وحياةٍ ومكانةٍ» لا تشوبها شائبة. ومع ذلك فقد يحتوي في داخله على ذلك السفَّاح المقزِّز، غيرِ السَّوي، شاذِّ الفطرة، أي هايد. وهكذا فإنَّ تحوُّل «المريض» إلى طبيب، والمنفلت عصبيًّا إلى رجلٍ محترَمٍ من الطبقات الوسطى، واندماج شخصين في شخصٍ واحد، كل هذه يمثِّل انقلابًا في القصة وانقلابًا معرفيًّا أيضًا. إذ ما إن تسقط أشكال الفهم الطبي، والقانوني، والعقلاني؛ حتى تتحوَّل قضية جيكل وهايد إلى القضية الغريبة لحكاية من أشدِّ حكايات الرعب أصالةً على مرِّ الزمن.

الرعب من ذاتي الأخرى

وقد انتبه النقَّاد فور نَشْر «القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد» إلى أنها لم تكن مجرد روايةِ رعبٍ تُباع بشلنٍ واحدٍ، أو حكاية مفزِعة تُقرأ للتسلية في عطلة عيد الميلاد المجيد عام ١٨٨٥م؛ فقال بعضهم: «إنَّ قصةً تتميز بما هو أكبر وأعمق من مهارة السرد وحَسْب؛ فإنها تمثِّل استكشافًا رائعًا للمناطق الخبيئة للطبيعة البشرية.» وقالوا: إنها «حكايةٌ ذاتُ مغزًى»، و«قصةٌ رمزيةٌ عميقةٌ». وقالت صحفيةٌ مسيحية: «إنها قصةٌ رمزيةٌ تستند إلى الطبيعة المزدوَجة للإنسان، وهي حقيقةٌ علَّمنا إيَّاها القديس بولس في سِفر «الرسالة إلى مؤمني روما»، الإصحاح السابع.»١١ بل إن حكايته كانت موضوعًا لموعظةٍ ألقاها الكاهن من فوق منبر كاتدرائية القديس بولس. فإذا جرَدْنا القصة لنرى عناصرها الجوهرية؛ وجدْنا أنها تدور حول الصراع بين الخير والشرِّ، وبين الواجب والغواية في داخل «نَفْس» الإنسان، أي أنها قصةٌ قديمةٌ قدمَ سِفر التكوين في الكتاب المقدس. وجيكل يبحث معضلته في ضوء ذلك مشيرًا إلى «الحرب المستعِرة دائمًا بين أعضائي»، وإلى أنَّ «عناصر هذه المناظرة قديمةٌ وشائعةٌ منذ أن وُجِد الإنسان على ظهر الأرض». وكانت نشأة ستيفنسون نفسه قد غرست في نفسه إحساسًا قويًّا بالخطيئة، وهو الذي يظهر في الأساس الأخلاقي للحكاية. وقد كتب إلى إدوارد بيرسيل في فبراير ١٨٨٦م يقول: «إن في نفسي انشغالًا بهذه المشكلات [الأخلاقية] بسبب انتمائي إلى الكنيسة المشيخية الاسكتلندية القديمة … وقد ظهر هذا الجانب الاسكتلندي بوضوحٍ في جيكل.» ١٢ ولكن هذا الاستنباط «الأخلاقي» من الحكاية كان من أوائل نماذج التبسيط المخلِّ الذي تعرضت له، ولا بدَّ من وضعه في سياقه الصحيح.

عندما غطَّى آدم وحواء جسديهما بعد إحساسهما بالعار، لم يرتديا من فورهما حلَّة المراسم والإزار المنفوش، وبتعبير آخر نقول: إن حكاية ستيفنسون، على الرغم من إطارها «الأخلاقي» اللازمني، كانت بنت عصرها إلى حدٍّ كبير. وإذا كانت قصةً رمزيةً فإنها مبنيَّةٌ من الظروف التاريخية، والعلاقات الطَّبَقية. وإدوارد هايد تجسيدٌ لما يشير إليه جيكل بتعبير «العناصر السفلية» في كيانه؛ لكنه يوضِّح أيضًا أنَّ هذه العلاقة «التراتبية» قد تشكَّلت بسبب تطرُّف جيكل في الالتزام بقواعد الاحترام والرأي العام. وهو يشرح ذلك قائلًا: «إن أسوأ عيوبي كان طبْعَ المَرَح اللحوح، وهو الذي كان يجِدُ الكثيرُ فيه السعادة، لكنني وجدتُ أنه يتناقض مع رغبتي العارمة في أن أسير مرفوعَ الرأس، وأن أَظهر أمام الناس بوجهٍ يتميز بقدرٍ أكبر من الوقار المعتاد.» وينهار عند هذه النقطة التعارُض البسيط بين الخير والشر؛ إذ يواصل جيكل حديثه قائلًا: «وكم من إنسانٍ تباهى بأمثالِ ما كنتُ أرتكبه من المنكر؛ لكنني كنتُ ألتزم بالمثل العليا التي وضعتُها لنفسي، فكنتُ أَنظر فيما أرتكبه وأخفيه بإحساسٍ بالعار، يكاد يبلغ حدَّ المرض.» وهذا الإحساس المتضخِّم بالخطيئة هو الذي بنى شخصية هايد. إذ كلما كان «جيكل» يسعى لفعل الخير والظهور بمظهر رجل الخير؛ كان هايد يزيد شرًّا. أي أن هايد كان من خلق خياله موجودًا بالقوة لا بالفعل، حتى اكتشف جيكل عقَّارًا يستطيع تجسيد هذه الانقسامات. وهذه هي النقطة التي تبدأ فيها القصة الرمزية في ارتداء رداء الطبقة الاجتماعية والتاريخ:

قلت لنفسي: لو كان من الممكن أن يشغل كل عنصر منهما هويةً مستقِلة لتخلصَت الحياة من جميع أعبائها الرازِحة؛ إذ يتمكن المسيء أن يمضي في طريقه دون تنغيص الطموحات وآيات الندم الصادرة من تَوْءَمه المستقيم، ويتمكن المحسن أن يسير بثباتٍ واطمئنانٍ في طريقه القويم؛ فيفعل الخير الذي يجِدُ فيه سروره، دون أن يتعرض للعار وللتوبة بسبب ما ترتكبه أيدي ذلك الشرير الدخيل!

ويبدو أن جيكل كان يراقب سلوك فردين متميزين تصادَفَ أن تعايشا في وعيه. وكان العقَّار قادرًا على تحويل هذه الفكرة إلى واقعٍ ملموس. وعندما أطلق جيكل ذلك الشخص الآخر — هايد — من داخل ذاته؛ بدأ يحدِّد صفاته، ويكسوه ملابس معيَّنة، ويصنفه بين الأحياء، ويتحدث عن الشِّرعة الخلقية التي أوحى بها شاعرًا بالضيق من سلوكه، وإن كان يجِدُ فيه ما يجعله مزهوًّا جذلًا. إنَّ هايد هو التعبير الجسدي عن علاقته بالمبادئ العليا لجيكل؛ فهو أقصر قامةً وأقبح منظرًا من «توءمه الأشدِّ استقامةً»، أي جيكل، وهو الذي قيل لنا إنه متين البنيان، ذو وجهٍ وسيمٍ. وما إنْ خرجتْ من ذاته هذه التقسيمات وتجسَّدتْ؛ حتى استطاع جيكل أن يُطلق عِنان استقامته:

كانت الملاذ التي أسرعتُ بنِشْدانها بَعد تنكُّري «غير محترمة» كما قلت، ولا أحبُّ أن أستعمل تعبيرًا أقسى من هذا. وأمَّا على يدَي إدوارد هايد؛ فسرعان ما تحوَّلتْ إلى وقائع بَشِعة. وعندما كنتُ أعود من هذه الشطحات؛ كثيرًا ما كان يغمرني العجب من انحلالي الذي يقوم به قريني نيابةً عني! .. وكان هنري جيكل أحيانًا ما يُذهله ما يفعله إدوارد هايد، ولكن موقفه لم تكن له علاقة بالقوانين العاديَّة، وكان يُرخي قبضة ضميره بصورةٍ خبيثة.

قرود وملائكة

يتصور جيكل أن هايد يمثِّل «العنصر السفلي» في ذاته. وإذا كان التوصيف — بالدرجة الأولى — توصيفًا أخلاقيًّا أو حتى ميتافيزيقيًّا؛ فالتعبير يوحى إيحاءً قويًّا أيضًا بأنَّ هايد أدنى موقِعًا على سُلَّم التطور (كما كان يعتقد آنذاك) من توءمه الأشدِّ استقامةً وعلوَ هامَةٍ، أي هنري جيكل. وإشارة جيكل إلى ارتقائه في «الدرب الصاعد»؛ إشارةٌ أيضًا إلى موقعه المتصوَّر على ما كان يُعتبر «سُلَّم» التطور الثقافي والبيولوجي. والفرد الذي يتَّسم بانخفاض الهامَة أو عدم «استقامة» عُودِه؛ يوحي بطبيعة القرد، وهو ما يوحي هايد به دون شكٍّ. وكان أترسون يراه أقرب إلى الأقزام وسكان الكهوف، وتحدَّث شخصٌ آخر عن هجومه على «كيرو» بضراوة «قرد متوحش»، وجيكل نفسه يشير إلى حقد هايد الذي «يشبه حقد القرود»، وإلى طبيعته الحيوانية، ويذكُر كم يكسو الشعر جسد نقيضه. ويصل هذا الإيحاء إلى ذروته آخر الأمر، فيأتي برؤيةٍ مفزِعة لانحطاط الأخلاق البدائي الأزلي. و«كان أفظع ما في الأمر أنَّ طين الحفرة؛ كان يبدو قادرًا على الصياح وإصدار الأصوات. والتراب الذي لا شكل له؛ يستطيع الإشارة بيديه وارتكاب الخطايا. وما كان ميتًا لا صورة له؛ استطاع القيام بوظائف الحياة غصبًا!» ويتَّفق هذا التأكيد على أن الإجرام أو ارتكاب الخطايا حالةٌ بُدائيةٌ أو نازعٌ بدائيٌّ مع ما نجِدُه في عدد من الكتابات في تلك الفترة، وهي التي كانت تطبِّق نماذج التطوُّر؛ لتفهم الإجرام والخلل النفسي. وأما فكرة «الانتكاس» نفسها التي ساعدت على تفسير السلوك غير الأخلاقي بأساليب علمية؛ فقد أتاحت أيضًا بعض الإمكانات للتصوير القوطي الذي أصبح قادرًا على تصوير التَّرِكات البشعة التي خلَّفها الأسلاف على نطاقٍ بالغ الاتساع والعمق، بحيث تمتدُّ جذورها إلى أصول الحياة البشرية نفسها. وسوف يتسنَّى لنا إدراك ذلك إذا قارنَّا ما كتبه الطبيب النفسي هنري مودسلي عام ١٨٨٨م بعنوان «ملاحظات على الجريمة والمجرمين» بتصوير ستيفنسون لجيكل وهايد:

إن العلاقات الأخلاقية، أو ما يسمَّى بالمشاعر الأخلاقية … تمثِّل أحدث وأرفع ثمرات التطور النفسي. ولمَّا كانت أقلَّ الأحاسيس ثباتًا؛ فإنها أول ما يختفي في حالة التدهور النفسي، وما هو — بالتعبير الحرفي — إلا تفكيكٌ للنفس أو هدمها. وحين تُنتزع هذه الأحاسيس؛ تنكشف المشاعر البُدائية الشديدة الثبات مجردةً لا تشعر بالعار مثلما كانت في العصور السابقة على الأخلاق عند الحيوان والإنسان على وجه الأرض.١٣
والمنطق الذي يتوسل به مودسلي يقترب كثيرًا من منطق جيكل الذي يتصور أن هايد أدنى منه منزلةً، وأنه يمثِّل «الحيوان داخله»، وهكذا فعندما يسمح له بالتخلِّي عن الأحاسيس الأخلاقية «المستعارة» إذا به يسقط برأسه في بحر الحرية. والعقَّار الذي يعدُّه جيكل يتيح إجراء «التفكيك» الذي يشير إليه الطبيب النفسي؛ فالتفكيك يعني: التحلُّل من روابط السلوك المتحضر المكتسَب. وهكذا تكون العودة إلى إطلاق عِنان النفس «البُدائية» السابقة لعهود الأخلاق. وعندما يتجسَّد هايد يتَّخذ الشكل «المنحطَّ» الشبيه بالقرود والبعيدَ عن الشرِّ، وهو شكل النموذج الإجرامي حسبما وصفه خبراء الطب والقانون. ونقول باختصار: إنَّ هايد هو التعبير المادي عن الانحطاط الخلقي طبقًا للفكر الذي ساد بعد داروين.١٤

عالَم من العاديين الذين يرتكبون الخطايا سرًّا

ابتكر ستيفنسون في شخصية هايد كائنًا شائهًا خياليًّا جديدًا، مثل المخلوق الذي صَنَعه فرانكنشتاين، وإن كان قد تشكَّل من المعتقدات السائدة في أنثروبولوجيا التطور والدرس العلمي للجريمة، وهو يُطلقه ليجوب بقاعَ لندن المعاصرة. وعندما يُعرب عن دهشته للانحطاط «الشائه» لهايد، وكذلك عندما تقول الشاهدة على مقتل كيرو: إن سلوك المجرم كان يتَّسم «بضراوة قردٍ متوحش»؛ فإنهما يذكِّرانِنا بالأوصاف الكلاسيكية للنموذج المُتَأَسِّلِ للإجرام (أي الموروث عن الأسلاف)، ويقول لومبروسو إنَّ مثلَ هذا المجرم «لا يرغب وحَسْب في إطفاء جَذْوة الروح في الضحية، بل يجب كذلك أن يمثِّل بالجثة، ويمزِّق اللحم، ويشرب الدم.»١٥ ولكن حكاية ستيفنسون في الواقع أشدُّ تعقيدًا وإقلاقًا من ذلك؛ إذ إنه استخدم هذه الصورة للإجرام الوحشي حتى ينظر فيما أدَّى إلى نشأتها في الواقع، ألا وهو عالم الأطباء والمشرِّعين. إذ إن هايد موجود داخل جيكل، وربما داخل آخرين أيضًا، وحكاية ستيفنسون لا تستخدم أيًّا من حيل إبعاد الأحداث عن عالم القارئ، وهي الحيل المألوفة في القصص القوطي التقليدي، بل تجعل موقعَ رعبِ عودةِ العناصر المتأسِّلة في وسط لندن، وفي الزمن الحاضر، وفي جسدِ مَن يمثِّل الطبقات المهنية ونفسِه. وهذا هو العالَم الذي تتأمله هذه الحكاية وتستكشفه؛ بسبب اهتمامها الرئيسي بالاحترام، وضروب الاستياء منه؛ إذ إنَّ جيكل يحاول أن يفصِل فصلًا قاطعًا مطلقًا بين ما هو محترمٌ وما هو حسِّي/جنسي؛ لكنه يفشل. ويرجع الفشل ظاهريًّا إلى خطأ في خلط مواده الكيماوية أو أنواعها، ولكن التجربة تفشل أيضًا لأن التقسيمات التي يتخيَّلها جيكل ويحاول تثبيتها؛ من المُحال الحفاظ عليها. فلم يكن «عدم النقاء» يقتصر على المواد الكيماوية وحَسْب، بل إنَّ الاختلافات التي يعتبرها مطلقةً؛ مشوشةٌ في الواقع، ومختلطةٌ قطعًا.

ويزعم جيكل أنه «مُرَكَّب» مثل «جميع الناس الذين نقابلهم .. مُركَّبٌ من خير وشر»، لكنَّما «إدوارد هايد وحده، بين بني البشر، كان شرًّا خالصًا». ومع ذلك، فإنَّ هايد، على ما يبدو، يضمُّ بعض عناصر من جيكل في ذاته. كانت خطة جيكل الأولى أن يستخدم هايد ذريعة مُنجية، أي أنه كان عليه أن يقوم، مثل القاتل المحترف أو البلطجي، بالأفعال التي يخجل جيكل من القيام بها. فإذا حدثتْ محاولاتٌ للثأر أو القِصاص؛ فلن يمسَّ جيكل أدنى ضرٍّ:

فَلْأَهرب وحَسْب داخلًا من باب المختبر، وامنحني ثانيةً أو ثانيتين لخلطِ الشراب وتجرُّعه … ومهما يكن ما فعله إدوارد هايد فسوف يختفي كالبقعة التي تتركها الأنفاس على سطح المرآة، وسوف تجِدُ في مكانه رجلًا يجلس في هدوء في منزله، ويسهر الليل منكبًّا على دراساته، ويملك أن يسخر من أي ريبة فيه، أي هنري جيكل!

إذا كان جيكل قد «استأجر» هايد طلبًا لراحة باله وأمنه؛ فإنه قد أساء التقدير، لأنه إذا كان هايد شرًّا خالصًا، وكان جيكل يعتقد أنه يستطيع أن يسخر من الريبة؛ فإن هايد نفسه لم يكن يشاركه هذا الرأي. بل إنَّ أولى الكلمات التي نسمعها من فمه، حسبما رواها إنفيلد في قصته عن وَطْء هايد بأقدامه على الطفلة، تدلُّ على أنَّ هايد يتصرف بأسلوبٍ شديدِ الشبه بأسلوب جيكل. ويقول إنفليد:

وفي وسط تلك الحلقة، كان ذلك الرجل الذي يتَّسم ببرودٍ أسودَ ساخر، وإن كنتُ أدرك أنه كان خائفًا هو الآخر، ولكنه كان يخفي خوفه، ويبدو في الواقع — يا سيدي — مثل إبليس. وعندها قال: «إذا اخترتم استغلال ما حدث؛ فلن أستطيع بطبيعة الحال منعكم. وإن كان كل سيِّدٍ محترمٍ يفضِّل أن يتجنب الفضيحة.» ثم قال: «حدِّدوا قيمة الغرامة.»

ولا تكاد سخرية هايد «الشيطانية» تخفي اهتمامه الشديد بسمعته. تُرى هل كان إبليس يحاول حقًّا إقناع الشهود بأنَّ الحادثة التي داس فيها على الطفلة كانت «عارضة»؟ ولماذا يكترث بما يظنُّونه عنه إذا كان فعلًا شرًّا خالصًا؟ لا يبدو أنَّ هايد يؤدِّي وظيفةً مفيدةً هنا، ما دام قد كلَّف جيكل مائة جنيه، (وكان مبلغًا بالِغ الضخامة في ذلك الوقت) إلى جانب ضرورة صَرْف الشيك من البنك، وهو ما يورِّط اسم جيكل في هذه المسألة، وذلك عينه ما كان يرجو تحاشيه. وقال إنفليد لهايد: «إن كنتَ تتمتَّع بأي أصدقاء أو مصداقية .. فسوف تخسر هذا وذاك إن لم تدفع.» ولكن الواجب كان يقضي بالحفاظ على سمعة جيكل بعدم إنفاق أمواله. والواقع أن البلطجي الذي يستخدمه جيكل لم يساعد الطبيب على السخرية من الاشتباه فيه، بل جرَّه إلى التعرُّض للتحرِّيات التي أدَّت آخر الأمر إلى هلاكه، إذ إنَّ أترسون الذي استمع إلى هذه القصة، وكان منزعجًا من قبل بسبب الوصية، يقرِّر أن يكشف أسباب سيطرة هايد على جيكل.

والحقيقة أن الوصية التي أيقظت شكوك أترسون أولًا؛ تساهم في إحباط خُطط جيكل، إذ إنَّ جيكل يكتب وصية «بحيث أستطيع أن أدخل في شخصية إدوارد هايد من دون خسارةٍ ماليةٍ إن حدَثَ لي حادث وأنا في شخصية هنري جيكل.» ومن الطريف أن جيكل يستخدم ضمير المتكلم عندما يشير إلى هايد ومواصلة حياته دون خسارة مالية؛ أي أنَّ جيكل يريد أن يتمتع بجميع مزايا موقعه والعيش الرخيِّ الذي ظفرَ به في الدنيا باعتباره ذاته نفسها، حتى لو اضطُر إلى التمتُّع بذلك كله في شخص هايد، الذي يُفترض أنه شرٌّ خالصٌ وغيرُ مرتبِط باهتمامات جيكل وغيرُ مكترثٌ بها. ومعنى إعداد جيكل للوصية أنه يستمسك بنُظُم الدعم المالي ويراعي الإجراءات التي صادقتْ عليها الطبقة التي يحاول أن يهرب بتجربته من قواعدها وقِيَمها الأخلاقية. وهكذا فإن هذه الرغبة في الجمع بين الشيء وضدِّه، أي نبْذ القيم البورجوازية والحفاظ عليها في الوقت نفسه، يمثِّل في الواقع استمرارًا يتَّسم بالنفاق للازدواجية التي كان جيكل يسعى أصلًا إلى تفاديها، ويوقعه في أشراك الشبكة نفسها، أي شبكة الخطايا المرتكَبة سرًّا والعقوبات التي تجرُّها عليه، وهو ما كان يحاول الفرار منه. أي أن جيكل لا يظفر بالحرية أبدًا في شخصية هايد في الحقيقة؛ لأن هايد لا يتحرر أبدًا في الحقيقة من جيكل وما يمثله.١٦ ونقول باختصار: ربما كان أغرب ما في قضية جيكل وهايد (أو أشدُّ ما يُقلق فيها)؛ هو اتِّضاح أنها ليست غريبةً إلى الحدِّ المفترض على الإطلاق. ومن شأن المظاهر أن تدلَّنا على أننا لو قرأنا اعترافات الآخرين في دائرته؛ فسوف ندرك أن هذه القضية عاديَّة بدرجة كبيرة.

أسرار في كل مكان

بعد مقتل كيرو، يقرِّر جيكل أن ينبذ هايد، ويحاول العودة مطمئنًا إلى حياة الاحترام من جديد. وبعد فترة تعود المُغرِيات ويصبح «خاطئًا عاديًّا يرتكب خطاياه سرًّا» مرةً أخرى من دون مساعدة هايد. ونجِدُ في هذه العبارة حقيقةً يتكرر الإلماح إليها في القصة، ألا وهي أن الوضع «الحالي» لمجتمعه وضعٌ يرتكب فيه الأفراد خطاياهم سرًّا، وإن كانوا أيضًا يحافظون على الأسرار أو يخفونها أو يحاولون اكتشافها وفضحها. فالقصة تزخر بأسرارٍ كثيرة لا يُكشف عنها أبدًا. خذْ إنفيلد مثلًا (وهو نجمٌ شهيرٌ من نجوم المدينة): إنه يعود إلى منزله «من مكان ما في آخر الدنيا في نحو الساعة الثالثة من صباح يومِ شتاءٍ حالِكٍ»، لكنه لا يذكُر، على وجه الدقة، أين كان وماذا كان يفعل. وهو يتَّبع مع أترسون سياسة مفادها أنه «كلما بدَتْ في الأمر ورطةٌ ماليةٌ؛ أقللتَ من طرح الأسئلة.» ويتنبأ إنفليد بما يحدث إذا خرق تلك القاعدة: «إنَّ إلقاء سؤالٍ يشبه دحرجةَ حجرٍ من الأحجار برِجلك وأنت جالس في هدوء على قمةِ تلٍّ، فإذا به قد جرف أحجارًا أخرى، وسرعان ما يسقط أحدها على رأس رجلٍ عجوزٍ لطيفٍ (وهو آخر ما جال بخاطرك) وهو يجلس مطمئِنًا في حديقة منزله الخلفية؛ الأمر الذي يرغم الأسرة على تغيير اسمها.» وقد يكون السير دانفرس كيرو، عضو البرلمان المسنَّ، هذا «الرجل العجوز اللطيف» الذي لاقى حتفه في الهزيع الثاني من الليل على شاطئ النهر بصورة تثير الشبهات. قالت الخادمة إنها:

بينما هي جالسة شاهدت رجلًا هرمًا وسيمًا أبيض الشعر يسير في حارةٍ مقترِبًا من المنزل، ورأت رجلًا آخر بالغ القِصَر يتقدم لملاقاته، وإن لم تلتفت إليه كثيرًا أول الأمر. وعندما تقاربا إلى الحدِّ الذي يسمح بالتحادث .. انحنى الرجل الهرم وخاطب الرجل الآخر بأسلوبٍ ينمُّ عن التأدُّب الشديد، ولم يبدُ لها أن موضوع الحديث كان بالغ الأهمية، بل كان يبدو لها أحيانًا من إشارات يديه؛ كأنما كان يستفسر عن الطريق وحَسْب، ولكن ضوء البدر كان يسطع على وجهه في أثناء حديثه .. إذ كان فيما يبدو يوحي بطيبة القلب الغامرة والبراءة، في العالم القديم، وإن كان يوحي أيضًا بالسمو النابع من الرضا عن النفس القائم على أساسٍ متين. [التأكيد من عندي].

إذا نظرنا إلى ما قالته الخادمة؛ وجدناه مقيَّدًا بما بدا لها، ويعتمد اعتمادًا كبيرًا على الظنِّ. فلماذا تقول: إنه بدا بريئًا؟ وما الذي يجعله «يقترب» من الشاب بهذا «التأدُّب» على شاطئ النهر في الهزيع الثاني من الليل؟ المعروف أن السؤال عن الطريق يعني أن المخاطَب الذي يعرف الطرق هو الذي يُشير بيديه، لا السائل. وعندما تعرف الشُّرطة أن القتيل في هذه الجريمة كان السير دانفرس؛ يصيح رجل الشُّرطة: «أواه يا رباه! هل هذا ممكن؟» وهو ردُّ فعلٍ مبالَغٌ فيه بعضَ الشيء. ما سبب اندهاشه الشديد؟ وما الظروف التي تُقلقه بصدد هوية مثل هذا القتيل في مثل هذه الجريمة؟ تُراه ذلك «الرجل العجوز اللطيف» (آخر من كان يخطر ببالك) بتعبير إنفيلد؟ وما الذي كان مكتوبًا في الخطاب الذي كان يحمله؛ الخطاب الموجَّه إلى أترسون، طالِبًا مساعدته المهنية؟ لن نعرف أبدًا. لكن ترانا على حق إذا ارتبنا في الأمر؟١٧ النصُّ يقول: إننا على حق. أي أنَّ النصَّ يشجِّعنا فعلًا على تخيُّل وجود أسرار حيث لا توجد أسرار، وربما خالجتنا الريبة دون سبب. أي أنَّ قصة ستيفنسون تبيِّن بوضوحٍ أنك لا تستطيع الوثوق في المظاهر أبدًا.

البحث والإخفاء

وينتقص انعدام الثقة المذكور من تصديقنا لما يشهد به الآخرون، ويزعزع إيماننا بصدق ما نقرأ. فنحن نجِدُ منذ الصفحة الأولى أننا نواجه عالَمًا يحكمه الرأي العام، كما يحكمه الخوف من الفضح والابتزاز. بل يمكن لنا أن نقول: في الواقع، إنَّ المخلوق الشائه في جيكل وهايد هو الرأي العام؛ إذ يُلقي بظلاله المنذِرة بالكوارث على القصة برُمَّتِها، ويعتبر مسئولًا عن ابتسار حياة البعض ووفاة اثنين أو حتى ثلاثة. فالخوف من الفضيحة ذو قوةٍ جبارةٍ إلى الحدِّ الذي يلقي الرعب في قلب هايد نفسه، وهو الذي يدفع مائة جنيه للحفاظ على سمعةٍ طيِّبةٍ لم يكن يتمتع بها. ويشترك إنفيلد مع الطبيب في ابتزاز هايد «ولمَّا كان القتل مستبعَدًا؛ فقد فعلنا ما يلي: القتل رعبًا؛ إذ قُلْنا للرجل: إننا نستطيع أن نثير فضيحةً كبرى، بل سوف نثيرها فعلًا حتى تسوء سمعته في لندن من أقصاها لأقصاها.»١٨ وعندما يقدِّم هايد الشيك باسم شخصٍ آخر، يفترض إنفيلد أنَّ هايد يبتزُّ جيكل، وعندما يسمع أترسون بهذا يقرِّر أن يتحرى الأمر بنفسه ويرى ما يخفيه هايد من أسرار. وهكذا فإنهم جميعًا مدفوعون بالحاجة إلى الحفاظ على المظاهر وحماية النظام الذي يعتمد على «المصداقية»، مهما يظهر من إفلاسه. وهذا هو الذي يشجِّع أترسون على أن يعمل محقِّقًا هاويًا للكشف عن لغز جيكل وهايد. ولكنه إذا كان معظم المحقِّقين يبحثون عن الأسرار ابتغاء «حل» الجرائم والكشف عن التفاصيل؛ فإن أترسون ينطلق في عمله بدوافع مضادَّة.١٩ إنه محقِّق لا يريد في الحقيقة أن يعرف، بل إنَّ مطلبه الرئيسي هو حماية صديقه من الفضيحة، وإنقاذ «مصداقيته». كان يقول في نفسه إنه لو استطاع أن يعرف أسرار هايد؛ فسوف يستطيع مقايضتها بنسيان أسرار جيكل. أو قُل إن ذلك ما خطر بباله وحَسْب، فعندما يرتكب هايد جريمة، يصطحب أترسون رجل الشُّرطة الذي يقضي واجبُه بإجراء تحقيقٍ دقيقٍ، وإعلان جميع الحقائق إذا تطلَّب الأمر. وأترسون يساعد في التحقيق، ولكن إلى حدٍّ محدودٍ وحَسْب. بل إنه من الناحية التقنية يعرقل مسار العدالة؛ إذ يُحجم عن ذِكرِ شخصٍ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقاتل، بل يفترض أنه تلقَّى رسالةً منه في أعقاب الجريمة. والواقع أنَّ سلاح الجريمة ينتمي فعلًا إلى جيكل؛ إذ كان أترسون قد أهداه إيَّاه منذ سنواتٍ بعيدة. ويعترف جيكل لأترسون بأن «ما يشغله هو شخصيته، وهي التي أصابها ذلك الأمر الكريه بفضيحة من لونٍ ما». ويشاركه صديقه قلقَه؛ إذ كان يخشى أن «ينجرف اسم الطبيب ذي السمعة الطيِّبة في دوامةِ فضيحةٍ ما». ويظلُّ هذا الهدف قائمًا حتى النهاية. فإذا انتهى كل شيء، ومات هايد، وقُتل جيكل أو اختفى؛ فإن أترسون لا يزال يأمل «أن يصون سمعته على الأقل». بل إنَّ لانيون نفسه، الذي قتلتْه صدمة «الانحلال الخلقي» لجيكل؛ يفرض قيودًا على ما يصرَّح به، مشترطًا أنه لو مات أترسون قبله يجب «إحراق الوثيقة» (التي نقرءها آخر الأمر) من دون أن تُقرأ.

ما أقرب ما كِدنا نحرَم من معرفة الحقائق الكاملة، من لانيون أو من جيكل، وكما يقول الأخير في الفقرة الختامية: «إذا كانت قصتي قد نجَتْ حتى الآن من التَّلف؛ فمَرَدُّ ذلك إلى مزيج من الحصافة الفائقة وحسن الطالع الكبير.» ولكن تُرى هل لدينا الحقائق الكاملة؟ ويقول لانيون: «وأمَّا ما ذكره لي [جيكل] في الساعة التالية فلا أستطيع إرغام نفسي على كتابته.» ولا نستطيع أن نعرف إن كان ذلك يتَّفق فعلًا مع اعتراف جيكل الأخير. بل إنَّ هذا نفسُه يشجِّع على الريبة. فما دام أترسون يحاول طول الوقت إخفاء المعلومات أو كتمانها — «هل نجازف ونعلن أن هذه حالة انتحار؟ كلا! لا بُدَّ من الحرص؛ إذ أخشى أننا قد نورِّط سيِّدك ونوقعه في كارثةٍ باقِعة!» — فلماذا ينشُر هاتين الوثيقتين؟ وهل نضمن أنهما مقدَّمتان إلينا دون تغيير أو تنقيح؟ يبدو أن ثمة تضاربًا في المصالح ما بين الشكل والمضمون؛ فالقصة تحاول الكشف الكامل، والمسئولان عن نشرهما يحاولان الإخفاء. ونجِدُ في صُلب النص حالات تكتم، ومراوغة، وكبت. وأما سبب فاعلية حكاية ستيفنسون باعتبارها من قصص الرعب؛ فهو أنها تطرح من الأسئلة أكثر ممَّا تورِده من الإجابات؛ ونتيجة لذلك نراها تحيا وتنمو في مُخيِّلات الذين يقرءونها ويعيدون قراءتها بعد مرور ما يزيد على مائة عامٍ على المرة الأولى التي ابتدع فيها جيكل مزْج عقَّاره الخاص.

مدينة موهومة

أدَّت حكاية ستيفنسون إلى وضع المدينة الحديثة، وخصوصًا لندن، وتثبيتها على خريطة الرعب القوطي. وقد كان لها في هذا الصدد تأثير مباشر في بعض الكُتَّاب مثل أوسكار وايلد، وآرثر كونان دويل، وأرثر ماكين، وربما كانت مسئولة إلى حدٍّ كبيرٍ عن خلقِ صورةِ لندن في أواخر العصر الفكتوري التي رسمتْها مُخيِّلة السينمائيين في عصرنا؛ باعتبارها متاهةً ضبابيةً تضيئها المصابيح الغازية، حيث يتحول مستر هايد بسهولة إلى السفَّاح «جاك ذا ريبر» وحيث يستوقف شرلوك هومز عربةً لمطاردة هذا وذاك. كان القرن قد شهد في بواكيره نماذج «للرعب القوطي في المدن» في عدَّة قِصص، عندما صوَّر البعض مثل تشارلز ديكنز، والروائي الشعبي ج. و. م. رينولدز مشاهد الجريمة والرعب في المناطق المجهورة المنبوذة من لندن في قصص مطوَّلة حافلة بالمتاهات مثل الأحياء التي تدور فيها.٢٠ ومع ذلك فإن الصفحات المائة التي كتبها ستيفنسون، وهي التي تستمدُّ بعض ما فيها من صُور هؤلاء الكتاب الذين سبقوه؛ تقدِّم إلينا بشكلٍ أعمق وأوجز مظهر مدينةٍ تحوَّل طابعها بسبب ما يمكن أن نسمِّيه بؤرة التركيز السيكولوجي للقصة. وربما كان ستيفنسون أول كاتبٍ «جغرافي سيكولوجي»؛ إذ أرسى أُسس الطبوغرافيا (رسم الأماكن) الخيالية التي سوف يستكشفها الكُتَّاب من بعده، من أرثر ماكين إلى إيان سنكلير. انظر إلى تصوير ستيفنسون لحيٍّ محدَّد من أحياء لندن، وهو حي سوهو:

كانت الساعة آنذاك قد قاربت التاسعة صباحًا، فانتشر أول ضباب يهبط في هذا الفصل من العام. وانسدل ستارٌ عظيمٌ بنيُّ اللون على صفحة السماء، ولكن الريح كانت تواصل هبوبها فتَشتَّت تلك الأبخرة المحاصِرة، وهكذا كان مستر أترسون يشهد في أثناء زحْف العربة من شارعٍ إلى شارعٍ عددًا مدهِشًا من درجات الشَّفَق وألوانه .. وتطلَّعتْ عينا المحامي إلى حيِّ سوهو الكئيب من كل فُرْجة لاحت له في هذا الجوِّ، فبدا له بطُرُقاته الموحِلة، وقذارة سابِلتِه، ومصابيحه التي لم تُطفأ قَط، أو أعيدت إضاءتها لصدِّ تلك الغزوة الجديدة للظلام، وما تُشِيعه من الأشجان، كأنما كان من أحياء مدينةٍ يراها الحالم في كابوس، كما كانت الأفكار في ذهنه بالغة القتامة …

وعندما توقفت العربة أمام العنوان المطلوب؛ انقشع الضباب قليلًا، وكَشَف له عن شارعٍ قذِرٍ، وخمَّارةٍ، ومطعمٍ فرنسيٍّ حقيرٍ، وحانوتٍ يبيع المجلات والأطعمة الرخيصة، وكثيرٍ من الأطفال في أسمالٍ باليةٍ مكدَّسين في مداخل المساكن، وعددٍ كبيرٍ من النساء من جنسياتٍ مختلفة خارجاتٍ يحملْنَ مفاتيحهن لشُرب قدحٍ في الصباح، ولم يلبث أن عاد الضباب ليُغشي المنطقة بلونٍ بنيٍّ مثل أديم الأرض، فعَزَله عن ذلك المكان المنحطِّ. كان ذلك مسكن الرجل المقرَّب من قلب هنري جيكل؛ رجل كُتب له أن يرث ربع مليون جنيه إسترليني.

وتغرينا هذه الفقرة (وصورة مرور العربة) بمقارنتها بالافتتاحية الشهيرة للرواية التي كتَبَها تشارلز ديكنز، وتمثِّل قمة البراعة في معالجة الرعب القوطي في المدينة، ألا وهي المنزل الكئيب (١٨٥٣م)؛ حيث نرى لندن وقد غشيها الضباب تمامًا، وانتشر فيها الطين والوحل. لكنه إذا كان ديكنز يستخدم الضباب للتعليق على التضليل في الإجراءات السياسية والقانونية (باعتبار انعكاسًا لاضطراب الأحوال في بريطانيا آنذاك)؛ فإن ستيفنسون يستخدم جوًّا مماثلًا، ولنا أن نعتبره سيكولوجيًّا بصورةٍ تكاد تكون مباشِرة. وإذا كان ديكنز ينجح في أوصافه في رسْم صورةٍ للندن يمكننا أن نتعرَّف عليها ونحدِّد هُويتها وهي تسبح في هذا البحر من الضباب الذي خلَقَه؛ فإن منظر المدينة عند ستيفنسون يتَّضح فيه طابعها الوهمي. فهو حقًّا حيٌّ مستمَدٌّ من «كابوس»، لا يزيد انتماؤه إلى الواقع على الحلم الذي رآه أترسون من قبل، ورأى فيه متاهةً تضيئها المصابيح ويغشاها سفَّاحون مثل هايد. واستخدام لفظ «ستار» في وصف الضباب ينجح في الإيحاء بمعناه المسرحي، أي إغلاق الستارة على خشبة المسرح، وفي الإيحاء (بسبب معنى الكلمة الآخر؛ أي غطاء النعش) بدلالةٍ ميتافيزيقية، أي أنَّ السماء ورحماتها تنطمس عندما تهبط في مكانٍ جهنميٍّ. والهبوط في الهُوَّة يعني للمحامي أترسون؛ مواجهة مع قلب الظلام الذي نعرف فيما بعد أنه يكمن داخل جيكل نفسِه. والمكان يدعم في نظره الانفصال بين هايد الخبيث المنحطِّ وبين جيكل الناجح المحترم، ولكنه في الحقيقة يقدِّم لنا انعكاسًا رمزيًّا لعلاقة جيكل بهايد. كان حيُّ سوهو منطقةً معزولةً تتَّسم بالفقر والإجرام (وهو ما كان قد ارتبط في تلك الآونة ببقاع شرقي لندن) وسط البقاع الغريبة في لندن حيث الصحة والرخاء. وهكذا فهو يمثِّل موقعًا مناسبًا لمسكن هايد، لكنه أيضًا تعبيرٌ جغرافيٌّ عن وجود هايد داخل جيكل نفسه.

وهذا المدخل «الرمزي» لجغرافية لندن؛ هو الذي يميِّز هذا النَّص الذي لا يحدِّد إلا عددًا بالِغ القلة من الأماكن التي نستطيع التعرف عليها، ويدعم ذلك وصفُ منزل جيكل نفسه:

إذا انعطفتَ بعد المرور برُكن الشارع الجانبي؛ مررتَ بميدانٍ تحيط به منازلُ جميلةٌ قديمةٌ، أخْنَى عليها الدهر بعد العزِّ في معظمها. وأصبح يقيم فيه المستأجِرون شُقَقًا وغُرَفًا، وهم من شتَّى الألوان والأصناف من الناس: من رسَّامي الخرائط إلى المهندسين المعماريين، إلى المحامين المثيرين للرِّيبة، إلى سماسرة الصفقات المغمورة. ولكن أحد هذه المنازل، الثاني بعد طرف الشارع، لا يزال يسكنه أصحابه بأكمله … [وكان] يَشِي بالثراء العظيم، والعيش الرخيِّ.

وبعبارةٍ أخرى: هذا هو المعادِل المعماري لشخصية جيكل، وعلاقته بغيره من البَشَر. فالمنازل الأخرى «ممزَّقة» مشتَّتة، تعلن بصراحةٍ أنها تتكوَّن من أجزاءٍ كثيرة، ولها أحوالٌ متباينة. وأمَّا منزل جيكل فلا بدَّ أن «يكتسي» (مع التأكيد على فكرة «الظاهر» والتنكُّر) مظهرًا رائعًا من الكمال والاحترام معًا. ولكن منزل جيكل، كما نعرف، له بابه الخلفي الذي يخفيه صاحبه ويتكتَّم وجوده، كما يبدو أن هذا الباب غير متصل بمحل إقامته «الفاخر» الرسمي. والباب الخاص لهايد هو المعادِل المعماري لحالة جيكل؛ أي أنه لا يستطيع الحفاظ على «اكتمال» منزله في الميدان إلا لأنَّ لديه هايد — رجل الباب الخلفي عنده — القادر على أداء أعماله القذرة له. وهكذا يتحول المكان بحيث يخدم أغراضًا رمزية وسيكولوجية أكثر ممَّا يحقق من أغراضٍ جغرافيةٍ محضةٍ، وبحيث يخلق الديكور المسرحي القوطي داخل المدينة، اللازم لتصوير الرعب في أواخر العصر الفكتوري.

عودة مستر هايد

كانت «القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد» تمثِّل نجاحًا ساحقًا لستيفنسون؛ إذ بيعت منها ٤٠٠٠٠ نسخة في ستة أشهر في بريطانيا وحدها. ويبدو أن الجميع قرءوها بما في ذلك رئيس الوزراء والملكة فكتوريا نفسها؛ فقد مسَّت عصبًا عاريًا لدى جمهور أواخر العصور الفكتوري، وسرعان ما دخلت المُخيِّلة الجماعية فقدَّمت مجلة «بنش» محاكاةً ساخرةً لها، وكان الوعَّاظ في الكنائس يُبدون آراءهم القاطعة فيها، كما كَتَب أوسكار وايلد قصةً بعنوان «تدهور الكذب» (١٨٨٩م) يحكي فيها حكاية عن شخصٍ سيئ الحظِّ تصادف أن كان اسمه هايد، وهكذا وَجَد نفسه يقوم بجميع الفِعال المذكورة في الفصل الأول من حكاية ستيفنسون. ويصاب هايد المذكور بالهلع ممَّا يحدث؛ فيفرَّ هاربًا، وأخيرًا يجِدُ ملاذًا له في عيادة الطبيب الذي يعالج أسرة الفتاة، ويقول وايلد: «إن الاسم المكتوب على اللافتة النحاسية على باب العيادة خَطَف بصره: كان «جيكل»، أو كان ينبغي أن يكون كذلك على الأقل.»٢١

كما كانت حكاية ستيفنسون ذات تأثيرٍ بالغٍ في كُتَّاب القَصص الخيالي والخرافي. والرواية التي كتَبَها وايلد نفسه بعنوان: صورة دوريان جراي (١٨٩٠–١٨٩١م) شبيهةٌ بحكاية ستيفنسون من عدَّة وجوه؛ فأحداثها تقع أيضًا في لندن التي يكسوها الضباب، وتتضمن رحلات في الأحياء الفقيرة، وتعالج أيضًا أشكال المظاهر والسمعة، وتتناول فردًا يحيا حياةً مزدوَجة تجمع بين النقاء الظاهر والفساد الباطن. ومثلما يستخدم جيكل هايد القبيحَ المشوَّه قرينًا لجسده؛ يملك دوريان جراي صورةً سحريةً تحمل جميع عواقب حياة الخطيئة. ومثلما رفض ستيفنسون تحديد الجرائم الفظيعة التي ارتكبها جيكل أو هايد؛ حافظ وايلد على غموض خطايا دوريان أيضًا، وإن سَمَح له بأن يحاط بشائعاتٍ «شنيعة» لا يكشف عنها الكشف الكامل أبدًا. ويَصِف وايلد عالمًا مشابهًا من الأسرار، والشائعات والتخمينات:

انتشرت عنه أقاصيص غريبة .. إذ أُشيع أنه كان يتشاجر مع بعض البحَّارة الأجانب في وكرٍ منحطٍّ في البقاع النائية من هوايتشابل .. وذاعت الأنباء المؤسفة عن حالات غيابه، فإذا عاد إلى الظهور جَعَل الناس يتهامسون ما بينهم في الأركان، أو يمرُّون ساخرين منه، أو ينظرون إليه بعيونٍ فاحصةٍ باردةٍ، كأنما اعتزموا الكشف عن سرِّه.٢٢

وكما ذَكَر أحد الأشخاص لدوريان: «كل سيد محترم يهتم بسمعته.» (ص١٤٣)، وهي حال تطلَّبت التوسُّل بالأحابيل الخرافية التي تستخدمها شخصياتُ كلٍّ من: وايلد، وستيفنسون.

ولكن ربما كان المَعْلَمُ الرئيسي الذي تشترك فيه القصتان، وحيث نشعر بتأثير ستيفنسون في قصص الرعب إلى أقصى حدٍّ، هو التركيز على جسد الفرد ومخِّه باعتبارهما مصدر الرعب. وعندما يُمسخ «جيكل» ويتحوَّل إلى هايد الشائه الفظيع (الذي يحمل جسدُه «طابعَ» نوازعِه الشريرة)؛ فإنما يصبح نظيرًا فيما بعد للوصف الذي نقرؤه من صورة دوريان: «من خلال البعث الغريب للحياة الباطنة، كانت ضروب جذام الخطيئة تلتهم الرجل، وتنهشه ببطء! لم يكن تعفُّن جسدٍ في قبرٍ مائيٍّ أشدَّ هولًا ورعبًا.» (ص١٥٠). فإذا كان الجيل الأول من كُتَّاب الروايات القوطية قد اختاروا موقع الرعب الخيالي في غابات وقلاع إيطاليا وإسبانيا؛ فإن التقاليد التي تطورت ونشأت بعد ستيفنسون كانت تَشِي باهتمامٍ فسيولوجيٍّ متميزٍ، وهو ما كان يبيِّن أن جسد الفرد وذهنه يمكنهما بث رعبٍ خاصٍّ بهما، وأن يصبحا وارثين لتركاتٍ كريهةٍ وعودة خصالٍ مَقيتة. والكونت دراكولا الذي يبلغ عمره خمسمائة عام في الرواية التي كتَبَها برام ستوكر يشبه هايد في أنه «نمطٌ إجراميٌّ» وَرِث خصائصه من الماضي البعيد، من جانب معيَّن، كما أنه ذو مظهرٍ متميزٍ بسبب ملامحه المفزِعة، كما أننا نلمح صورته أيضًا من خلال الشهادات المجموعة للمحامين والأطباء الذين يقتفون أثره ويعثرون عليه. والدكتور مورو الذي صوَّره ﻫ. ج. ولز؛ يُجري تجاربه في الإسراع بعجلة التطور محاولًا استخراج الإنسان من الحيوانات، مثلما أطلق جيكل الحيوان الكامن في رجل من بني البَشَر في جزيرة الدكتور مورو (١٨٩٦م). والقصتان اللتان كتَبَهما آرثر ماكين بعنوان «الرب العظيم بان» (١٨٩٤م)، و«الدجالون الثلاثة» (١٨٩٥م)؛ تتضمنان تجارب غريبة، وشهاداتٍ مشتتةً تسترجع تحولاتٍ جسديةً فظيعةً، وخطايا يتعذر ذكرها، وأفرادًا يصعب وَصْفهم. ولقد كان جيكل — رائد «الطب المتعالي» — قد تنبَّأ بأنَّ «آخرين سوف يتبعوني، وآخرين سوف يتجاوزونني سائرين في الدروب نفسها»، وهو ما تثبُت صحته؛ فالدكتور ريموند، في قصة «الرب العظيم بان» التي كتَبَها ماكين، يُوصف أيضًا بأنه ممارسٌ «الطب المتعالي»، ويستخدم الجراحة في استكشاف مجموعة معيَّنة من الخلايا العصبية في المخِّ للتعرُّف على «تلك الهُوَّة التي من المحال إدراكها، وهي الهُوَّة العميقة التي تفصل بين عالَمين: عالم المادة وعالم الروح»،٢٣ ويطلِق من هذه التجارب ضروبًا من الفزع البدائي تفوق بمراحل ألوانَ الرعب عند ستيفنسون في صُوَرٍ فظاعتُها بُولِغ في رسمها. وتكرَّر بعد ستيفنسون استكشاف قصص الرعب لهذين العالَمين، وابتداع نظريات خيالية — وإن كانت مقبولة لاكتسائها المظاهرَ العلمية — حول البشاعات التي تختفي في باطن أفراد يبدو لنا أنهم عاديون، سواءٌ كانت كامنة في الجسد أو المخِّ أو الذاكرة. وقد ثَبَت أنَّ هذا الحقل ذو خصبٍ بالغٍ، فمن قصص ﻫ. ب. لفكرافت إلى قصتي سايكو: «الكابوس في شارع إيلم» و«صمت الحُمْلان»؛ ظلَّت صورٌ متفاوتةٌ لمستر هايد تتواثب في صفحات وشاشات العاملين في مجال قصص الرعب.
١  عمل المؤلف محرِّرًا لسلسلة «كلاسيكيات بنجوين» في عام ١٩٩٧م، ويعمل الآن مستشارًا للسلسلة. وهو متخصص في الأدب القوطي والعلوم الطبية والقانونية في العصر الفيكتوري. وقد كتب هذه المقدمة لطبعة بنجوين عام ٢٠٠٢م.
٢  ستيفنسون، خطاب إلى: ف. و. ﻫ مايرز، ١ مارس ١٨٨٦م، في الخطابات الكاملة، المجلد ٥، من تحرير: برادفورد أ. بوث، وإرنست ميهيو (١٩٩٥م)، ص٢١٦. والاسم «بايلز» يرمز لكل دائن، ولم يكن فعلًا اسم الجزار الخاص بستيفنسون.
٣  انظر: كتاب فكتور سيج بعنوان قصص الرعب في التقاليد البروتستانتية (١٩٨٨م)، ص٨.
٤  انظر: بولدويك (مقدمة) لكتاب أوكسفورد للحكايات القوطية (١٩٩٣م)، ص٢٠.
٥  تُعتبر «أولالَّا» من ميراث الأجداد؛ لأن شخصيتها وحالتها مستمَدتان، فيما يبدو، من أسلافها الموغلين في القِدم، وهكذا فإنها مثل مصاصي الدماء — شأنها في ذلك شأن أجدادها — قد عاشت وماتت مرَّاتٍ كثيرة.
٦  انظر: ريكتور نورثون، استطراد (مطوَّل بعض الشيء) حول الابتزاز قبل العصر الفكتوري، نُشر في موقع فيكتوريا على الإنترنت (http://www.listserv.Indiana.edu) بتاريخ مارس ١٩٩٨م.
٧  كانت هذه اللائحة تمثِّل تعديلًا في قانون: «من أجل توفير المزيد من الحماية للنساء والفتيات، ولمحاربة بيوت الدعارة، ولأغراضٍ أخرى»، وكان الهدف الأساسي لذلك القانون هو حماية صغار الفتيات من استغلال مديري بيوت الدعارة الذين كانوا يتاجرون بالعذارى، وذلك برفع سِنِّ الرضا من ثلاثة عشر إلى ستة عشر عامًا. وأمَّا الباب الثاني فكان يتناول العلاقات الحميمة بين الذكور، وكان يتضمَّن تحريمًا أدقَّ وأشمل من أي تحريمٍ سبَقَ تنفيذه حتى تلك الآونة للممارسات الجنسية المثليَّة؛ إذ إن القانون قضى بتجريم أيِّ شكلٍ من أشكال «الأفعال الخارجة كثيرًا عن حدود الأدب مع شخصٍ آخر من الذكور» سواءٌ كان ذلك علنًا أو سرًّا، كما كان ينصُّ على عقوبةٍ غايتها الحبس سنتين مع الأشغال الشاقَّة، وهي العقوبة التي صدرت على أوسكار وايلد.
٨  انظر: المناقشة المفصلة للإيحاء بالشذوذ الجنسي في حكاية ستيفنسون في الدراسة التي كتَبَها «وليم فيدر» بعنوان: «أطفال الليل: ستيفنسون والسلطة الأبويَّة» في كتابٍ من تحرير هيرش وفيدر (١٩٨٨م)، ص١٠٧–١٦٠.
٩  يبدو من تعليق الشاعر جيرارد مانلي هوبكينز أنَّ «الشفرة» التي يستخدمها ستيفنسون في بناء الحبكة، أي اعتماده على الإلماح غير الصريح؛ قد حقَّقتْ بعض النجاح، فهو يقول لروبرت بريدجز: «ربما يكون مشهد دَوْس الطفلة بالقدمين من الأعراف القصصية؛ إنه يتحدث عن أشياء لا تناسب القصص الخيالية.» وأُعيد طبعه في كتاب «روبرت لويس ستيفنسون: التراث النقدي» من تحرير بول ميكسنر (١٩٨١م)، ص٢٢٩.
١٠  تُعتبر افتتاحية إحدى حالات (السادية) التي رصدها كرافت-إبينج نموذجًا مميَّزًا في هذا الصدد؛ إذ تقول: «الحالة ٢٤، السيد فلان، أبوه مُصاب بالزهري، وتُوفِّي بمرضِ الخبل الناجم عن الشلل النصفي، وأمه مصابة بالهيستريا والوهن العصبي. وهو شخصٌ ضعيفٌ، وتكوين جسده يعاني من العُصاب، ويمثِّل عدَّة ملامح تشريحية تدل على التدهور.» انظر الأمراض النفسية الجنسية (١٨٨٦م، ١٨٩٢م)، ص٧١. ومن الأرجح أن تشبه حالة هايد، إذا كُتبت بالتفصيل، الحالة المذكورة؛ إذ تشهد على «العلاقة بين الشهوة وبين القسوة».
١١  ميكسنر (١٩٨١م)، ص٢٠٤، ٢٢٣، ٢٢٤.
١٢  بوث وميهو (١٩٩٥م)، ص٢١٢–٢١٣. وفيما يتعلق بالنشأة الدينية لستيفنسون؛ انظر: سيرته التي كتَبَها ج. سي. فيرناس بعنوان «رحلة إلى مهب الريح: حياة روبرت لويس ستيفنسون» (١٩٥٢م)، ص٢٨–٣٣. وفيما يتعلق بتأثيرها في جيكل وهايد، والحكاية الخاصة بالموعظة؛ انظر: كتاب كريستوفر فرايلنج بعنوان «كابوس: مولد الرعب» (١٩٩٦م)، ص١٢٥–١٢٩.
١٣  هنري مودسلي «ملاحظات حول الجريمة والمجرمين»، مجلة العلوم النفسية (١٨٨٨م)، ص٣٤، ١٦٢.
١٤  ممَّا يوحي بأنَّ ستيفنسون كان يناصر مبادئ نظرية التطور، وبأن هذه المبادئ ساهمت في تصويره علاقة جيكل بهايد، مقال نشره عام ١٨٨٧م بعنوان «منزل الكاهن البروتستانتي» (في اسكتلندا) ويتساءل فيه قائلًا: «هل من الأغرب أن أحمل في ذاتي بعضًا من أنسجة جدي الكاهن، أم أن يحمل هو في ذاته — وهو السيد المهذَّب الهادئ الوقور المحترم القانع بما قُسم له في أثناء جلوسه في غرفة مكتبه الباردة — دفقةً من الدماء الأصيلة التي لم تكن تنتمي إليه، وأقصد بها بعض الذكريات عن قِمم الأشجار مثل نيجاتيف الصور الفوتوغرافية التي لم تُطبع، بحيث تظلُّ خامدةً في نفسه؟ وأضف إليها بعض غرائز قِمم الأشجار التي استيقظتْ ثم وطئتْها الأقدام؛ ومن المحتمَل لهذه الغرائز أن تكون شجرية مَحْضة [وكان داروين يستخدم صفة «الشجريِّ» في الإشارة إلى القرود التي يفترض أن الإنسان انحدر منها]، (بحيث يصعُب التمييز بين هذه النزعات ونزعات القرود)؛ إذ تظلُّ تتواثب، وتُصدر أصواتها في مخِّ الكاهن الهرِم.» (ذكريات وصُوَر، في المجلد التاسع من أعمال الكاتب، من تحرير أندرو لانج (١٩١٢م)، ص٦٧). إنَّ جيكل سيدٌ مهذَّبٌ، «وقورٌ» أيضًا؛ لكنه يطلق سراح القرد في داخله.
١٥  من كتاب «جينا لومبروسو-فيريرو» بعنوان: خصائص الإنسان المجرم طبقًا للتصنيف الذي وضعه شيزار لومبروسو (١٩١١م)، ص٢٥.
١٦  نجِدُ تأكيدًا مماثلًا في قراءةٍ من أشدِّ قراءات جيكل وهايد أصالةً منذ سنوات عديدة ألا وهو الفصل الذي كتبه ستيفن أراتا عن ستيفنسون في كتابه: قصص الضياع في عَقد نهاية القرن للعصر الفكتوري (١٩٩٦م). وتشير قراءته الدقيقة الممتازة للنص إلى أنَّ هايد يتلقَّى العلم بقواعد الحياة البورجوازية على امتداد القصة، وينضج حتى تلائمه ملابس جيكل عندما ينجح في التغلب على شخصيته.
١٧  وقد وجَدَ قارئ من أوائل قُرَّاء ستيفنسون أيضًا هذه الظروف مريبة أو محيرة، واسمه فريدريك و. ﻫ. مايرز، إذ أرسل إليه قائمة طويلة من الأسئلة والوسائل التي يستطيع ستيفنسون الاستعانة بها في تحسين الحكاية (وإن لم يأخذ الكاتب بأيٍّ منها) مشيرًا إلى «غموض موقع المنزل الذي كانت الخادمة فيه. هل كان في وحي وستمنستر؟ كيف احتاج البارون إلى الاستفسار عن عنوان مكان مكتب بريد، وهو قريب إلى هذه الدرجة من مبنى البرلمان أو من منزله؟ لو كان منزل الخادمة في حي متواضِع، فكيف أتى البارون إليه؟» في ميكسنر (١٩٨١م)، ص٢١٥.
١٨  نعلم بعد مقتل كارو أنَّ سمعته تسوء فعلًا؛ «إذ عُرفت حكايات عن قسوة الرجل، وهي التي تشهد ببلادة إحساسه ونزوعه للعنف، وحكايات عن حياته الآثمة وغرابة خلطائه، وعن الكراهية التي يبدو أنها أحاطت بحياته كلها.»
١٩  فيما يتعلق بأشكال قصص الابتزاز ودوافعه؛ انظر: الفصول التمهيدية الممتازة التي كتبها ألكسندر ويلش لكتابه: جورج إليوت والابتزاز (١٩٨٥م).
٢٠  الحكايات القائمة على «الرعب القوطي في المدن» عند ديكنز؛ مبثوثة في رواياته وخصوصًا أوليفر تويست، والمنزل الكئيب، وفي بعض أجزاء دوريت الصغيرة، وصديقنا المشترك. وأمَّا ج. و. م. رينولدز فقد كتَبَ رواية ألغاز لندن، وواصل قصَّ أحداثها في رواية ألغاز قصر لندن (١٨٤٤–١٨٥٦م) ولاقتا إقبالًا جماهيريًّا شديدًا؛ إذ إنهما تصوِّران مدينة تتَّسم بقَدْر من الغموض والرعب يضارع ما نجِدُه في أي غابة أو جبل في القصص القوطية السابقة.
٢١  أوسكار وايلد، «تدهور الكذب»، في كتابه: نفس الإنسان في ظلِّ الاشتراكية وكتابات نقدية أخرى، من تحرير لندا داولينج (بنجوين، هارموندزورث، ٢٠٠١م)، ص٨٢.
٢٢  أوسكار وايلد، صورة دوريان جراي، من تحرير روبرت ميجهول (بنجوين، هارموندزورث، ٢٠٠٠م)، ص١٣٦.
٢٣  آرثر ماكين، الرب العظيم بان (١٨٩٥م، ١٩٩٣م)، ص٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤