أقوال هنري جيكل الكاملة في القضية

ولدتُ في عام – ١٨م، وورثت ثروةً طائلة، وكنت أتمتَّع بمواهبَ فطريةٍ ممتازة، وميلٍ بطبيعتي إلى الجدِّ والاجتهاد، مولَعًا باحترام الحكماء والأخيار من بني البشر، وهكذا توافرتْ لي — كما هو مُفترَض — جميع ضمانات المستقبل المشرِّف المتميِّز. والواقع أن أسوأ عيوبي كان طبعَ المَرَح اللَّحوح، وهو الذي كان يجِدُ الكثيرون فيه السعادة، لكنني وجدتُ أنه يتناقض مع رغبتي العارمة في أن أسير مرفوعَ الرأس وأن أَظهَر أمام الناس بوجهٍ يتميز بقدرٍ أكبرَ من الوقار المعتاد. وأدَّى ذلك إلى أنْ أصبحتُ أُخفِي مسرَّاتي وملذَّاتي، وعندما بلغتُ سنَّ التأمُّل والتفكير وبدأتُ أنظُر حولي وأستقصي مدى تقدُّمي ومكانتي في هذه الدنيا، وجدتُ أنني كنتُ قد الْتزمتُ فعلًا بازدواجيةٍ عميقة في حياتي. وكَمْ من إنسانٍ تباهى بأمثال ما كنتُ أرتكبه من المنكَر، لكنني كنتُ ألتزم بالمُثُل العليا التي وضعتُها لنفسي، فكنتُ أنظُرُ فيما أرتكبه وأُخفيه بإحساسٍ بالعار يكاد يبلغ حدَّ المرض. وهكذا فقَدْ أصبحتُ ما أنا عليه بسبب طموح تطلُّعاتي لا بسبب أيِّ حِطَّة في نقائصي، وأدَّى ذلك إلى حَفْر أخدودٍ في حياتي أعمقَ من أَخَاديد الغالبية، بحيث فَصَل عندي منطقة الخير عن منطقة الشر، وهما المنطقتان اللتان تنقسم إليهما وتتكوَّن منهما حياة الإنسان الثُّنائية، وفي هذه الحالة وجدتُ نفسي مَسُوقًا إلى التفكُّر والتأمُّل العميق لقانون الحياة القاسي؛ ذلك القانون الذي تَنبُت منه جذور الدين ويُعتبر من أثرى وأوفى منابع الغمِّ والهم. وعلى الرغم من أنني أُمارِس هذه الازدواجية العميقة، فلَمْ أكُن في يومٍ من الأيام مُتصنِّعًا بل كان كلُّ جانبٍ من الجانبين في نفسي صادقًا جادًّا كلَّ الجد. لم أكُن ألتزم بحقيقةِ ذاتي عند التخلِّي عن ضبط النفس والانغماس في العار أكثرَ من الْتزامي بها في اجتهادي طُولَ النهار لزيادة المعرفة البشرية، أو تخفيف الأحزان والمعاناة. وتصادَفَ أن اكتشفتُ أن دراساتي التي كانت تتَّجه جميعًا نحو فَهْم التعالي على المادة وأسرار حياة الرُّوح؛ قد تفاعلتْ وألقتْ بالضوء الغامر على إدراكي المذكور للحرب الدائمة الدائرة بين أعضائي،١ وكنت أقترب في كل يوم، ومن زاوية الجانبَين اللذَين يشكِّلان ذهني — أي الجانب الأخلاقي والجانب الفكري — من هذه الحقيقة باطِّراد، وكان اكتشافي جانبًا منها هو الذي قضى بأن تتحطَّم سفينة ذاتي تحطُّمًا مُروِّعًا، ألَا وهي أن الإنسان في الحقيقة ليس كائنًا واحدًا بل كائنان في الواقع. وأقول: «كائنان اثنان.» لأنَّ معرفتي الخاصة لم تُتِح لي أن أتجاوز هذا الحد. سوف يَتبَعني آخرون، وسوف يتفوَّق عليَّ آخرون في هذه الدروب نفسها، ولعلِّي أُخاطر بالتعبير عمَّا أَحدِسه وهو أنَّ الإنسان سوف يُثبت آخرَ الأمر أنه مجردُ بلدٍ يَسكُنه قاطنون متعدِّدو المَشارِب، متناقِضون، مستقِلُّون. أمَّا أنا فقَدْ تقدَّمتُ — استنادًا إلى طبيعة حياتي — دون ارتكاب أيِّ أخطاءٍ في اتجاهٍ واحد فقط. ولقد تعلَّمت الإقرار بالثُّنائية البُدائية الأصيلة للإنسان في الجانب الأخلاقي وفي شخصي أنا، ورأيتُ أنه إذا أمكَنَ القولُ حقًّا بأنني أنتمي إلى إحدى «الطبيعتَين» اللَّتَين تتنازعان السيطرة في مجال وعيي؛ فليس ذلك إلا لأنني أتكوَّن في جوهري منهما معًا. كما تعلَّمتُ في وقتٍ مبكِّر، حتى من قبل أن تبدأ مكتشفاتي العلمية في الإلماح إلى إمكانيةِ حدوثِ هذه المعجزة بصورةٍ عِلمية، أن أتلذَّذ طويلًا بالتفكير في الفصل بين هذَين العنصرَين؛ باعتبار ذلك من أحلام اليقظة المحبَّبة. قلتُ لنفسي: لو كان من الممكن أن يَشغل كل عنصر منهما هُويةً مستقِلَّة، لتخلَّصت الحياة من جميع أعبائها الرازحة، إذ يتمكَّن المُسِيء أنْ يمضي في طريقه دون تنغيصِ الطموحات وآياتِ الندم الصادرة من تَوءَمه المستقيم، ويتمكَّن المحسِن أنْ يسير بثباتٍ واطمئنان في طريقه القويم، فيفعل الخير الذي يجِدُ فيه سروره، دون أن يتعرَّض للعار وللتوبة بسبب ما ترتكبُه أيدي ذلك الشرير الدخيل! كنتُ أرى أنَّ لعنة الإنسان تتمثَّل في ربطِ هذَين العنصرَين المتناقِضين في حُزمةٍ واحدة،٢ وأن يتصارع هذان التوءمان المتنافران باستمرارٍ في رَحِم الوعي الذي يؤلمه الصراع! فكيف افترقا إذن؟

كنتُ قد بلَغتُ هذه المرحلة في تأملاتي، كما ذكرت، عندما بدأ ضوءٌ جانبيٌّ يسطع على الموضوع من منضدة المختبر؛ إذ إنني بدأتُ أدرك بعمقٍ يزيد عمَّا سَبَق أنَّ هذا الجسد الذي «نرتديه» ونمشي فيه إنما يبدو صُلبًا وحَسْب، لكنه غير مادي وبالِغ الرهافة، يُشبه الضباب في عدم ثباته، واكتشفتُ أن عوامل معيَّنة تتَّسم بالقدرة على هزِّ هذا الرداء الجسدي وإزاحته كما تهزُّ الريح ستارةً على باب خيمةٍ وتُزيحها. وعندي سببان وجيهان لعدم الغوص في هذا الجانب العلمي من اعترافي؛ السبب الأول أنني عُلِّمتُ أنه قد كُتِب على الإنسان أن يتحمَّل المصير المحتوم لحياتنا وعِبْئها، وكلما حاولْنَا طرْحَهما عادا إلينا بوطأةٍ أغربَ وأشدَّ هَولًا. والسبب الثاني أنَّ اكتشافاتي لم يُكتَب لها للأسف أن تكتمل، على نحو ما سوف يتَّضح هنا من قصتي بجلاءٍ شديد. يكفي إذن أن أقول: إنني لم أكتشف وحَسْب أنَّ جسدي «الطبيعي» ليس إلا الشذا والضياء المنبعثَين من بعض القُوى التي تتكوَّن منها روحي، بل إنني تمكَّنت أيضًا من تركيب عقَّار قادرٍ على خلْعِ هذه القُوى من عَرش سيادتها، وإحلال جسَدٍ ثانٍ ووجهٍ ثانٍ محلَّ هذا الجسد وهذا الوجه، بحيث يمثِّلان طبيعتي أيضًا ما داما يعبِّران عن بعض العناصر السفلى في نفسي ويحملان طابعها.

ترددتُ طويلًا قبل أن أختبر هذه النظرية عمليًّا. كنتُ أعلَمُ عِلمَ اليقين أنني أُخاطر بتعريض نفسي للهلاك؛ إذ إنَّ أيَّ عقَّار يتميز بهذه الطاقة الجبَّارة على هزِّ قلعة الهوية ذاتها والسيطرة عليها، يمكنه — إذا زادت الجرعة مثقالَ خَرْدلةٍ أو إذا كان التناوُل في وقتٍ يتأخَّر أو يتقدَّم لحظةً واحدة عمَّا هو مناسب — أن يَهدِم تمامًا ذلك المعبد غير المادي الذي كنتُ أطمح إلى تغييره. ولكن إغراء إتمامِ مثل هذا الاكتشاف الفريد والعميق تغلَّب آخر الأمر على دواعي الخوف. ولمَّا كنت قد أعددتُ الدواء ذا الصِّبغة الخاصة بي فقَد اشتريتُ من فَورِي من إحدى شركات الصيدلة التي تبيع بالجملة مقدارًا ضخمًا من مِلحٍ معيَّن كنتُ أعرف، من تجاربي، أنه آخرُ المكوِّنات المطلوبة. وفي وقتٍ متأخر من ليلةٍ ملعونة، خلطتُ العناصر معًا وراقبتُ الخليط وهو يغلي ويخرج منه الدخان في القارورة، وعندما هدأ الغليان استجمعتُ أطراف شجاعتي وشربتُ الجرعة.

وتلتْ ذلك آلامٌ شديدةٌ مُبَرِّحة، إذ أحسستُ بطحْنٍ في العظام، وغثيانٍ فتَّاك، ورعبٍ في الرُّوح لا يُداني ساعة المَولِد أو الموت. ثم بدأتْ هذه الآلام تتلاشى بسرعة، وعُدْت إلى نفسي كأنما شُفيت من مرضٍ عظيم. كان في أحاسيسي شيءٌ غريب؛ شيء جديد بصورةٍ لا تُوصف، وكانت لجِدَّته نفسها عذوبةٌ لا تُصدَّق، إذ شعرتُ بأنني أصغرُ سنًّا، وأخفُّ وأسعد جسدًا، وكنت في أعماقي أشعُر بتهوُّرٍ شديد، وبحشدٍ دافِق من الصور الحسِّيَّة تجري في سباق بلا غاية في خيالي، وبانحلال روابط التزاماتي، وبحُرِّيةٍ في النفس مجهولة وإنْ لم تكُن بريئة. ومنذ أول أنفاس هذه الحياة الجديدة أدركتُ أنني ازددتُ شرًّا، بل إن مَيلي إلى الشرِّ تضاعَفَ عَشْر مرَّات، وأنني أصبحتُ عبدًا بِيعَ إلى شرِّيَ الأصيل، ودعمتْني هذه الفكرة وأبهجتني مثل جرعةٍ من النبيذ. ومددتُ يديَّ أتمطَّى في جذلٍ فرِحًا بهذه الأحاسيس الجديدة، وفي هذه الأثناء أدركت فجأةً أنَّ قامتي قَصُرت.

لم تكن في غرفتي في ذلك الوقت مرايا، وأمَّا المرآة التي تقف بجانبي وأنا أكتب فقد أحضرتُها فيما بعد إلى هنا، ولغرضِ رَصْد هذه التغييرات نفسها. ولكن تلك الليلة كانتْ قد وصلتْ إلى الهزيع الأخير، وكان الصباح على سواده يُؤذن تقريبًا بمولد النهار. وكان المقيمون في منزلي أسرى لأعمق ساعات النوم، وقررتُ في زَهوي إذ ذاك بالأمل والنصر أنْ أنطلق بمظهري الجديد حتى أصِلَ إلى غرفة نومي. وعبرتُ الفِناء المفتوح للسماء وأبصرتُ كوكبات النجوم من فوقي وقلتُ في نفسي: لعلَّها تتأملني في دهشة، إذ كنتُ أول مخلوقٍ من هذا النوع تشهده في سهرها الدائم، وتسللتُ عبْرَ الممرَّات، كأنني غريب داخل منزلي، وعندما وصلتُ إلى غرفة النوم رأيتُ للمرة الأولى مَظهرَ إدوارد هايد.

لا بدَّ أن يقتصر حديثي الآن على الجانب النظري من القضية، فلَنْ أذكُر شيئًا مؤكَّدًا، بل ما أفترض ترجيحه وحَسْب. كان الجانب الشرير في طبيعتي الذي نَقلتُ إليه مؤقتًا طاقتي الفعَّالة أضعفَ وأقلَّ نُضجًا من جانب الخير الذي خلعتُه لتوِّي عن العرش. والواقع أن تسعة أعشار حياتي كانت مكرَّسة للجدِّ والاجتهاد والفضيلة وضبط النفس؛ ولذلك فقَدْ كان الجانب الشرير أقلَّ عملًا وأقلَّ استهلاكًا. وأظنُّ أن ذلك يفسِّر كَونَ إدوارد هايد أصغرَ جِرمًا، وأخفَّ كِيانًا، وأحدثَ سنًّا من هنري جيكل. ومثلما كان الخير يسطع على مُحيَّا الأول؛ كان الشرُّ مكتوبًا بوضوحٍ وبحروفٍ كبيرة على وجه الثاني. وإلى جانب ذلك فإنَّ الشرَّ (الذي ما زلتُ أعتقد أنه الجانب المُهلِك في الإنسان) قد خَلَف طابعَ التشوُّه والتدهور في جسد الثاني. ومع ذلك فإنني لم أشعُر حين نظرتُ إلى ذلك الصنم القبيح في المرآة بأيِّ نفور، بل بدفقةِ ترحيب. كان هذا أيضًا يمثِّل ذاتي. وبدا لي طبيعيًّا ومن بني الإنسانِ فعلًا، بل كان يمثِّل لعيني صورةً للروح أشدَّ حيوية وأكثر صراحةً وتفرُّدًا من ذلك الوجه الناقص والمُنقسِم على نفسه الذي اعتدتُ اعتباره وجهي حتى هذه اللحظة. وفي هذه الحدود كنتُ مُصيبًا دون شك. وقد لاحظتُ أنني كنتُ عندما أكتسي مظهرَ إدوارد هايد لا يقترب منِّي أحدٌ للمرة الأولى إلا دَهمَتْه مخاوفُ يَشهَد بها جسدُه. والسبب كما أتصوره أنَّ كلَّ إنسانٍ نصادفه خليطٌ من الخير والشر، ولكن إدوارد هايد كان من دون الناس جميعًا شرًّا خالصًا.

لم أقِفْ غير لحظة أمام المرآة، إذ كان لا بدَّ من إجراء التجربة الثانية والحاسمة، أي أنه كان يَلزمني أن أتبيَّن إن كنتُ فقدتُ هُويتي دونما رجعة، ومن ثَم يتعيَّن عليَّ الفرار قبل سطوع ضوء النهار من منزلٍ لم يعُدْ منزلي، وهكذا أهرعتُ عائدًا إلى غرفة مكتبي وأعددتُ العقَّار مرةً أخرى وشربتُه، وعاودتني من جديدٍ آلام انحلال جسدي، وعُدتُ إلى ذاتي مرةً أخرى بشخصية هنري جيكل وقامته ووَجْهِه.

كنتُ في تلك الليلة قد وصلتُ إلى مُفترَق الطُّرُق الذي يحدِّد مصيري. لو أنني تعاملتُ مع اكتشافي بروحٍ أشدَّ نُبلًا، ولو كنتُ خاطرتُ بإجراء التجربة في إطار طموحاتٍ كريمة أو ذات وَرَع؛ لاختلفَ كلُّ شيء، ولكُنتُ خرجتُ من سَكَرات الموت وآلام المَخاض ملاكًا لا شيطانًا. لم تكُن للدواء قدرةٌ على التمييز في تأثيره، فلَمْ يكن شيطانيًّا ولا ربَّانيًّا، بل كان يقتصر على زعزعة أبواب السجن الذي حبَستُ فيه نوازعي، وما إن انفتحت الأبواب حتى انطلق السُّجناء مثل أسرى فيليبي.٣ وفي ذلك الوقت كانت فضيلتي تغفو والشرُّ يقِظٌ منتبِهٌ بفِعْل الطموح، وما أسرعَ ما انتَهزَ الفرصة السانحة، فتمثَّل عمليًّا في شخص إدوارد هايد. وهكذا، فعلى الرغم من أنني كنتُ آنذاك ذا شخصيتَين وذا مظهرَين: أحدهما شرٌّ كامل هو إدوارد هايد، والآخر كما هو هنري جيكل القديم؛ فإنني كنتُ قد دَرَجت بالفعل على اليأس من إصلاح هذا الأخير الذي يتركَّب من عُنصرين متناقضين أو تحسين حاله، وهكذا فقَدْ كان التغيير يسير برُمَّته نحو ما هو أسوأ.

لم أكُنْ حتى في ذلك الوقت قد قهرتُ نفوري من جفاف حياة الدراسة، إذ كنتُ لا أزال أميل إلى المَرَح في بعض الأوقات، ولمَّا كانت منابع مسرَّاتي (إذا تلطَّفتُ في التعبير) غيرَ مُحترَمة، وكنتُ لا أقتصر على التمتُّع بالشهرة والتبجيل الشديد، بل أتقدَّم نحو الشيخوخة أيضًا، فقد كنتُ أزداد نفورًا في كل يوم من هذا التفكُّك في حياتي. ومن هذه الثغرة نَفَذ إليَّ إغراء قوَّتي الجديدة حتى أصبحتُ عبدًا لها. كل ما كان مطلوبًا هو أن أتجرَّع الدواء وأخلع عن نفسي جَسَد الأستاذ الذائع وأكتسي جسد إدوارد هايد مثلَّ العباءة الثقيلة. كنتُ أبتسم لهذه الفكرة؛ إذ كانت تبدو لي أحيانًا فُكاهية، وكنت أُجري استعداداتي بحرصٍ شديد. فاستأجرتُ وأثَّثتُ المنزل الموجود في حيِّ سوهو، وهو الذي اهتدتْ إليه الشُّرطة في بحثها عن هايد، واستخدمتُ مدبِّرة للمنزل أثِقُ في قُدرتها على الكتمان وعدم التقيُّد بمبادئ الأخلاق. ومن ناحيةٍ أخرى أعلنتُ للخَدَم في منزلي أنَّ شخصًا يُدعى مستر هايد (وصفتُه لهم) يجب أن يُمنح مطلق الحرية والسُّلطة في منزلي في الميدان، ولِتحاشِي وقوعِ عارضٍ سيئ جعلتُ أتردَّد على منزلي حتى يألَفَني الجميع في شخصيتي الثانية. وبعد ذلك أعددتُ الوصيَّة التي كثيرًا ما اعترضتَ عليها أنت، بحيث أستطيع أن «أُدخل» شخصيةَ إدوارد هايد من دون خسارةٍ مالية إن حَدَث لي حادث وأنا في شخصية هنري جيكل. وبعد أن تدرَّعتُ في ظنِّي، من جميع الوجوه، بدأتُ أستفيد بضروبِ الحصانة الغريبة التي يُتيحها لي وضعي.

كان الناس في الماضي يستأجرون البلطجيَّة لارتكاب جرائمهم، في حين تظلُّ شخوصهم وسمعتهم في مَأمَن، لكنني كنتُ أول مَن يرتكب الجريمة لمُتعته الخاصة! كنتُ أول مَن يستطيع أن يتمهَّل في سيره أمام أعيُنِ الناس بأثقاله من الاحترام البَشوش، ثم يتخلَّص في اللحظة التالية من هذه السمات المستعارة، مثل تلاميذ المدارس، ثم يقفز للغوص برأسه في بَحرِ الحرية. وأمَّا أنا فقد كان كِسائي دِرعًا حصينًا يضمن لي السلامة الكاملة. ولْتتأمل ما أقول! لم أكُن موجودًا أصلًا! فلْأهرب وحَسْب داخلًا من باب المختبر، وامنحني ثانيةً أو ثانيتَين لخَلْط الشَّراب وتجرُّعه، وهو الذي كنتُ أحرِص على وجوده جاهزًا، ومهما يكُنْ ما فَعَله إدوارد هايد فسوف يختفي كالبُقعة التي تتركها الأنفاس على سطح المِرآة، وسوف تجِدُ في مكانه رجلًا يجلس في هدوء في منزله، ويسهر الليل مُنكبًّا على دراساته، ويَملِك أن يسخر من أيِّ رِيبةٍ فيه، أي هنري جيكل!

كانت الملاذُّ التي أسرعتُ بنِشْدانها بعد تنكُّري «غير مُحترَمة» كما قلت، ولا أحبُّ أن أستعمل تعبيرًا أقسى من هذا، وأمَّا على يدَي إدوارد هايد فسرعان ما تحوَّلت إلى وقائع بشِعَة. وعند عودتي من هذه الشطحات، كثيرًا ما كان يغمُرني العَجَب من انحلالي الذي يقوم به قريني نيابةً عني! هذا العِفريت القرين الذي استخرجتُه من داخل ذاتي، ثم أطلقتُه في هذه الدنيا ليفعل ما يحلو له، كان في جوهره كائنًا خبيثًا وشريرًا، فكان كل ما يفعله وكل ما يفكِّر فيه يدور حول ذاته، وكان يتجرَّع المتعة بظَمأٍ وحشي متنقِّلًا بين شتَّى درجات التعذيب الذي يمارسه، لا يلين أبدًا كأنما هو رجلٌ من الحجر. وكان هنري جيكل أحيانًا ما يُذهله ما يفعله إدوارد هايد، ولكن موقفه لم تكُنْ له عَلاقة بالقوانين العادية، وكان يُرخي قبضة ضميره بصورةٍ خبيثة. كان الوِزر يَقَع، على أيِّ حال، على عاتق هايد، وعلى عاتقه وحده، وأما «جيكل» فلَمْ يُصبْه سوء، وكان يعود من جديدٍ لصفاته الحميدة من دون أن يَمْسَسه أيُّ أذًى فيما يبدو، بل كان يُسرع أحيانًا لإصلاح ما أفسده هايد، حيثما يتمكَّن من ذلك. وهكذا غفا ضميره.

لا أعتزم الدخول في تفاصيل السلوك الشائن الذي تغاضيتُ عنه أو كنتُ فيه مُتواطِئًا على هذا النحو (إذ إنني لا أستطيع التسليم حتى اليوم بأنني ارتكبتُه) وأعتزم وحَسْب أن أُشير إلى المحاذير والخطوات المتعاقِبة التي اقتربتْ بها عقوبتي. وقَعَ لي حادثٌ سوف أكتفي بالإشارة إليه ما دام لم يؤدِّ إلى عواقب تُذكر. كانت تلك حادثةَ قسوةٍ على طفلةٍ أثارتْ غضَبَ أحدِ المارَّة، وهو الذي عرفتُ منذ يومَين أنه أحدُ أقربائك. وانضمَّ إليه الطبيب وأفراد أسرة الفتاة، ومرَّت عليَّ لحظاتٌ خِفتُ فيها على حياتي. وحاوَلَ إدوارد هايد أن يُزيل غضَبَهم الذي كان لهم الحقُّ كل الحقِّ فيه؛ فاصطَحَبهم إلى الباب ودَفَع لهم مبلغًا بشِيك مسحوبٍ على حسابي في البنك وباسْمِي، هنري جيكل. لكنني أزلتُ هذا الخَطَر بعد ذلك بأنْ فتحتُ حسابًا في بنكٍ آخر باسم إدوارد هايد نفسه. وعندما جعلتُ خطَّ يدي يميل إلى الخلف؛ وفَّرتُ لقريني توقيعًا مختلفًا وظننتُ أنني أصبحتُ بمنجًى من بَطْش القَدَر.

وقبل شهرَين من مقتل السير دانفرس، كنتُ قد خرجتُ للقيام بإحدى مغامراتي، ورجعتُ إلى المنزل في ساعةٍ متأخِّرة، وصحوتُ في اليوم التالي وقدْ انتابتْنِي في فراشي أحاسيسُ غريبةٌ إلى حدٍّ ما. جعلتُ أنظُر فيما حولي عبثًا، وعبثًا تطلَّعتُ إلى الأثاث الفاخر واتِّساع غرفتي وارتفاع سَقْفها، وهي التي تطلُّ على الميدان، وعبثًا حاولتُ التعرُّف على أنساق ستائر الفراش وتصميم إطاره المصنوع من خشب الماهوجني! إذ إنَّ شيئًا في داخلي ظلَّ يُصرُّ على أنني لم أكُنْ حيث كنت، وأنني لم أسيقظ حيث من المفترض أن أستيقظ، ولكن في الغرفة الصغيرة في سوهو حيث اعتدت النوم بجسد إدوارد هايد. وابتسمتُ لنفسي وبدأتُ بأسلوبِ علم النفس عندي أَبحَث متكاسِلًا في عناصر هذا الوَهْم، وكنتُ في أثناء ذلك أغفُو أحيانًا؛ إذ تأخذني سِنةٌ من النوم الهنِيءِ في الصباح. وكنتُ مُنهمِكًا في ذلك ذات مرةٍ حين وقعتْ عيني في لحظةٍ من لحظات صحوي على يدي. أمَّا يد هنري جيكل (التي كثيرًا ما علَّقتَ عليها أنت) فكانت تُناسب المهنة في الشكل والحجم، أيْ أنَّها كانت كبيرة وصلبة وبيضاء وجميلة. وأمَّا اليد الذي شاهدتُها الآن بوضوحٍ كافٍ في الضوء الأصفر للصُّبح في منتصف لندن، وهي نصف قابضةٍ على غِطاء الفراش، فكانت نحيلةً معروقةً بارزةَ البَراجم ذاتَ لونٍ غَسَقيٍّ شاحِب، يكسوها ظلُّ شَعرٍ كثيفٍ جذَّاب؛ كانت يد إدوارد هايد.

لا بدَّ أنني جعلتُ أحدِّق فيها مُدة تقرُب من نصف دقيقة، غارقًا فيما جرَّته الدهشة من بلادة الذهن، قبل أن يصحو الرعب في صدري مفاجئًا مفزِعًا كدَقَّة عاليةٍ على الصَّنْج! وَثَبتُ من فراشي وأهرعتُ إلى المرآة، وما أن شاهدتْ عيناي ما فيها حتى استحال دمي إلى سائلٍ بالِغ البرودة والخفَّة. نعم، لقد أَويتُ إلى الرُّقاد وأنا هنري جيكل، وصحوتُ وأنا إدوارد هايد. سألتُ نفسي: كيف يمكن تفسير هذا؟ ثم تساءلتُ مرةً أخرى بعد أن وَثَب الرعب مرةً أخرى في صدري: كيف يمكن علاج الأمر؟ كان الصباح في إبَّانه واستيقظ الخَدَم جميعًا، وكلُّ عقاقيري في غرفة المكتب. كان الوصول إليها من حيث كنتُ أقِفُ والرعب يغشاني يتطلَّب قَطْع مسافةٍ طويلة، ونزول الدَّرَج مرتَين، وعبور الممرِّ الخلفي والفِناء غير المسقوف والمرور في غرفة التشريح. قد يكون من الممكن في الواقع تغطية وجهي، ولكن ما جدوى ذلك ما دُمتُ عاجزًا عن إخفاء التغيير الذي أصاب قامتي؟ وعندها تذكَّرتُ براحةٍ نفسيةٍ ذاتِ عذوبةٍ طاغية أنَّ الخَدَم معتادون فعلًا على دخول وخروج ذاتي الثانية. وسرعان ما ارتديتُ الملابس التي تُناسب مقاسي قَدْر الطاقة وانطلقتُ أسير في المنزل حيث توقَّفَ الخادم برادشو ثم تراجع مُحملِقًا في دهشةٍ من مشاهدة مستر هايد في مثل تلك الساعة وفي تلك الملابس الغريبة. وبعد عشر دقائق كان الدكتور جيكل قد عاد إلى صورته الأولى، وجلَسَ بجبينٍ مقطَّب متظاهِرًا بتناول الإفطار.

كانت شهيَّتي للطعام محدودةً فعلًا، فإنَّ ذلك الحادث الذي لا تفسير له — وهو الذي يمثِّل عكْسَ تجربتي السابقة — بدا لي مثل الإصبع التي أشارتْ إلى النذير بالنهاية المكتوبة على الجدار في بَابِل القديمة،٤ أي إنه كان مثل الحروف الواضحة التي كُتب بها الحُكْم عليَّ. وهكذا شَرَعتُ أتأمَّل قضايا وجودي المُزدوَج واحتمالاته بجدٍّ يفوق ما أبديتُه في أيِّ وقتٍ مضى، فوجدتُ أنَّ جانبي الذي استطعتُ تجسيده عمليًّا قد ازداد تدريبًا وغذاءً في الآونة الأخيرة، وبدا لي أيضًا في الآونة الأخيرة أنَّ جَسَد إدوارد هايد قد نَمَا وارتفعتْ قامتُه، فكأنما كنت أُدرك (وأنا أكتسي تلك الصورة) أنَّ الدماء تتدفَّق فيه بسخاءٍ أكبر، وبدأتُ أتوجَّس خطرًا جديدًا، وهو أنه إذا طالتْ مدَّة ممارستي لهذا الازدواج، فربما اختلَّ ميزان طبيعتي وانقلَبَ إلى الأبد، بحيث أَفقِد الطاقة على التغيير الطَّوعي وتنحصر ذاتي في شخصية إدوارد هايد، بلا أملٍ في التخلُّص منه. ولم يكُن الدواء يفعل مفعولَه نفسَه في كلِّ مرة، وذاتَ يومٍ — في البدايات الأولى لتجاربي — خذَلَني تمامًا، ومنذ تلك التجربة كنتُ أُضطر، في أكثر من مناسبة، إلى مضاعفة الكمية، بل إلى استخدام ثلاثة أضعافها، على ما في ذلك من المخاطرة المؤكَّدة بالهلاك. وكانت هذه الشكوك التي انتابَتْني في أحيانٍ مُتباعِدة قد ألقَتْ بظِلِّها على إحساسي بالرضا. وعلى أيِّ حال ففي ضوء حادثة ذلك الصباح أدركتُ أنه إذا كانت الصعوبة في البداية تتمثَّل في التخلُّص من جَسَد جيكل؛ فقَد انتقلتْ مؤخَّرًا تدريجيًّا، ولكن دون شك، إلى التخلُّص من جَسَد إدوارد هايد. وهكذا بدا أنَّ كلَّ شيءٍ يُشير إلى هذا؛ ألا وهو أنني كنتُ أفقِدُ سيطرتي ببُطء على ذاتي الأصلية والفُضلى، وأندمج ببطء في ذاتي الثانية الأسوأ.

ورأيتُ آنئذٍ أنْ عليَّ اختيار واحدةٍ من هاتَين. وكانت هاتان الطبيعتان عندي تشتركان في الذاكرة، لكنهما كانَتَا تتفاوتان تفاوُتًا بالغًا في المشاركة في جميع المَلَكات الأخرى. كان جيكل (الذي يتركَّب من هاتَين معًا) يرسم مسار مسرَّات هايد ومغامراته ويشارك فيها، أحيانًا بمخاوفَ شديدةِ الحساسية، وأحيانًا باستمتاعٍ ونَهمٍ شديدَين. ولكن هايد لم يكُنْ يَأبَه لجيكل، أو قُل إنه لم يكُن يذكُره إلا كما يذكُر قاطعُ الطُّرق الجبليُّ كَهفَه الذي يتوارى فيه عن مُلاحِقِيه. كان جيكل يتمتع باهتمامٍ يزيد عن اهتمام الوالد، وهايد يُبدي ما يزيد عن لامبالاةِ الابن. كان رَسْم مستقبلي في صورة جيكل يعني موتَ الشهوات التي طالما رنوتُ إليها سرًّا ثم بدأتُ في الآونة الأخيرة في إشباعها وإرضائها، ورَسْم مستقبلي في صورة هايد يعني موتَ ألفِ اهتمامٍ وطُموح، ويعني أن أُصبح في «خبطةٍ واحدة» وإلى الأبد محتقَرًا وبلا أصدقاء. قد تبدو هذه الموازنة ظالمة، ولكن يجب إضافة اعتبارٍ آخر إلى هذا الميزان، ألا وهو أنه إذا كان جيكل سوف يكتوي ويتألَّم في نار الحرمان فلنْ يُكابد هايد مجرد الوعي بكلِّ ما فقَدَه. وعلى الرغم من غرابة ظروفي المذكورة، فإن مادة هذه المناظرة قديمةٌ وشائعة منذ أن وُجد الإنسان. فأيُّ خاطئ يستسلم للغَواية ويرتعد منها يواجه هذه المُغرِيات والمخاوِف نفسها تقريبًا، وقد حدَثَ في حالتي مثلما يحدُث للغالبية العظمى من بَني البَشَر، أنني اخترت الجانب الأفضل ثم اتضح أنني أفتقر إلى القوة اللازمة للحفاظ عليه.

نعم، لقد فضَّلتُ الطبيب الكهل المتذمِّر الذي يحيط به الأصدقاء ويمنِّي النفس بالأماني الكريمة، ومن ثَم ودَّعتُ الحرية بعزمٍ وتصميمٍ راسخ، وودَّعت معها الشباب النسبي، والخُطى الوثَّابة، والنبض الزاخر، والملاذَّ السرِّية التي كنتُ أستمتع بها متنكِّرًا في شكل هايد. وربما أقدمتُ على هذا الاختيار ببعض التحفُّظ الذي لم أكُن واعيًا به؛ إذ إنني لم أتخلَّ عن المنزل في حيِّ سوهو، ولا دمَّرت ملابس إدوارد هايد التي كانت لا تزال جاهزة في غرفة مكتبي. ومع ذلك فقَدْ وفَّيتُ بما عقدتُ العزم عليه لمدَّة شهرين، وكنتُ على مدى هذَين الشهرَين أحيا حياةً تتَّسم بدرجةٍ من القسوة لم أستطع تحقيقها من قبل، ووجدتُ في رضا ضميري متعةً عوَّضتني عن هذا التشدُّد. ولكن الزمن بدَأَ في نهاية المطاف في طَمْس نضرة انزعاجي، كما فَقَدتْ «مدائح» ضميري تأثيرَها بعد أن اعتدتُها، وبدَأَت الأشواق والسكرات تعذِّبني، كأنما كان هايد يكافح للظَّفر بالحرية. وأخيرًا، وفي لحظة ضعفٍ أخلاقي مزجتُ الدواء الذي يُحدث التحويل وشربتُه.

لا أفترض أنَّ السِّكِّير الذي يناقش نفسه منطقيًّا بشأن هذه الرذيلة، يتأثر ولو مرةً واحدة من بين خَمْسُمائة مرة بالأخطار التي تَزخَر بها بَلادَته الحسيَّة الحيوانية، وكذلك كان حالي، فَعَلى طول الفترة التي قضيتُها في تأمُّل موقفي؛ لم أحسُب مرةً واحدة حساب البَلادة الحسِّية والأخلاقية الكاملة، وحساب استعدادي لارتكاب الشرِّ دون إحساس، وكانت هاتان هما الخصيصتَين الرئيسيتين لإدوارد هايد. ومع ذلك فقَدْ جاءني العقاب منهما تحديدًا. كان شيطاني قد طال حبْسُه فانطلق خارجًا يزأر. وأحسستُ حتى في أثناء تجرُّعي الدواء بنزعةٍ للشرِّ يزيد انحلالُها وتزيد ضَراوتُها عمَّا سَبَق. ولا بدَّ أن هذه النزعة كانت — في تصوُّري — العامل الذي أثار عاصفة الضِّيق التي انتابتْني وأنا أستمع إلى الكلمات المهذَّبة من فم التعِس الذي اعتديتُ عليه. وها أنا ذا أقرِّر، على الأقل أمام الله، أنه ما من إنسان يتمتَّع باتزانٍ خُلقي كان يمكن أن يرتكب تلك الجريمة بدافعٍ تافه إلى هذا الحد، كما أقرِّر أنني كنتُ أوجِّه ضرباتي إليه وقدْ غاب عقلي مثلما يغيب عقلُ طفلٍ مريض يحطِّم لعبته. لكنني كنتُ قد اخترتُ أن أجرِّد ذاتي من جميع تلك العوامل التي تحقِّق الاتزان، وهي التي تُمكِّن أسوأ فردٍ أن يحتفظ باستقامته إلى حدٍّ ما وسط المُغوِيات. وعلى أيِّ حالٍ فإنَّ الغَواية، مهما تكُن طفيفة، تعني السقوط.

واستيقظَتْ في نفسي فورًا رُوح الجحيم واضطرم أُوارها، إذ أَسْكرني السرور فجعلتُ أهشِّم الجسد الذي لا يُبدي مقاومة وأتذوق المتعة في كل ضربة، ولم أتوقَّف إلا عندما بدأتُ أشعُر بالإرهاق؛ إذ أحسستُ فجأةً وأنا في النوبة القصوى من الهَذَيان بأنَّ سهمًا باردًا من الرعب يخترق قلبي. وأحسستُ بأنَّ ضبابًا قد انقشع فكَشَف لي ضياع حياتي، ففررتُ من مسرح هذه الفظائع، وأنا أزهو وأرتجف في الوقت نفسه، بعد أن ارتوتْ شهوتي للشرِّ واشتدَّت معًا، وتعلَّق عشقي للحياة بأعلى مكان. أهرعت إلى المنزل في حيِّ سوهو، «وحتى أضاعف اليقين في الواقع» أحرقتُ أوراقي، ثم انطلقتُ في الشوارع التي تُضيئها المصابيح. وبالنشوة النفسية نفسها المُنقسِمة على ذاتها، جعلتُ أتلذَّذ بتذكُّر جرائمي وأخطط لجرائم أخرى في المستقبل برأسٍ خفَّ على كتفيَّ! لكنني كنت مع ذلك أُواصل فراري المسرِع وأُرهف السمع حتى أتبيَّن إن كان ورائي مَن يجدُّ في طلبِ الثأر! وردَّد هايد أغنيةً معينة في أثناء تركيب الدواء، وعندما انتهى منه شرِبَه رافعًا الكأس في نَخْب الرجل الميت. ولم تكُن آلام التحوُّل قد انتهتْ من «تمزيق» جسده حين ركَعَ هنري جيكل على ركبتَيه ودموع الامتنان والندم تنساب على وجهه، ورَفَع يدَيه المتشابكتَين ضارعًا إلى الله. وتمزَّق نقاب الانغماس في اللذائذ من ناصية رأسه إلى أخْمَص قَدَمه، وكَشَف لي عن الصورة الكلية لحياتي، فجعلتُ أرصُدُها بَدءًا من أيام الطفولة، عندما كنت أسير ممسِكًا بيَدِ والدي، ومرورًا بمشقَّة إنكار الذَّات في حياتي المهنية، حتى أَصِل المرة تِلوَ المرة إلى بَشَاعَات ذلك المساء الرهيبة، وقد خامرني الشعور نفسه بأنَّ ذلك كله غيرُ حقيقي! كنتُ أحيانًا ما أشعُر بحاجتي إلى الصُّراخ بصوتٍ عالٍ! وحاولتُ بالبكاء والصلوات أن أَطْمس الصور الفظيعة والأصوات الرهيبة التي تتزاحم في ذاكرتي لتُناصِبني العَداء! ولكن الوجه القبيح كان يصرُّ على التحديق داخل رُوحي فيما بين تضرعاتي. وعندما بدأتْ حدَّة هذا الندم تخفُّ وتتلاشى، تلاها إحساسٌ بالسرور. إذ رأيتُ أن مشكلة سلوكي قد حُلَّت، ما دمتُ قررتُ أن أستبعد هايد تمامًا، وأقتصر في حياتي — شئتُ أم أبيتُ — على الجانب الأفضل في كِياني، وما أشدَّ ما كانت فرحتي حين خطَرَ لي هذا الخاطر! وما أشدَّ التواضعَ الذي قَبِلتُه وأنا أعتنق من جديدٍ كل القيود التي تفرضها الحياة الطبيعية! وما أشدَّ ما كان صِدْق إحساسي بنَبذِ هايد وأنا أُغلق الباب الذي كثيرًا ما جئتُ وذهبتُ منه، وأحطِّم مفتاحه بعَقِب حذائي!

وذاع في اليوم التالي نبأٌ يقول إنَّ شخصًا شاهَدَ وقوع الجريمة، وإنَّ الدنيا كلها علِمتْ بجَريرةِ هايد، وإنَّ القتيل كان يَشغَل مكانةً رفيعة في المجتمع. لم تكُنْ تلك مجرد جريمة، بل كانت حماقةً فاجعة. وأظنُّ أنني سُرِرتُ حين عَرَفتُ ذلك، وكان مبعث سروري أنَّ ضُروب الرعب التي تُثيرها المِشنقة كانت كفيلةً بتدعيم دوافعي الفُضلى وحمايتها، وكان جيكل الآن يمثِّل مدينةً آمنة ألوذ بها؛ إذ ما إن يُطلُّ هايد برأسه لحظةً حتى ترتفع أيدي الناس جميعًا للقبض عليه وقَتْله.

وعقدتُ العزم على التكفير عن آثام الماضي في مستقبل سلوكي، وأستطيع أن أقول صادقًا إنَّ ذلك جاء ببعض الخير. وأنت نفْسُك تعلم كَم اجتهدتُ في الشهور الأخيرة للعام الماضي كي أُخفِّف الآلام، وتعلم أنني فعلتُ الكثير من أجل الآخرين، وأنَّ الأيام كانت تمرُّ في هدوء بل وأكاد أقول في سعادة. بل لا أستطيع أن أقول إنني شعرتُ بالإرهاق والملل من هذه الحياة العامرة بالخير والبراءة، بل أعتقد أنَّ استمتاعي بها كان يزداد اكتمالًا في كل يوم، ومع ذلك فلم تكُن لعنةً ازدواجيةَ الغرض عندي قد فارقتْني، فما إنْ غاض البريق الأول لجمال تَوبَتي حتى بدأ جانبي الأسفل يُزَمجِر في طلَبِ الانعتاق بعد أنْ ذاق حلاوة الانطلاق مدةً طويلة وإنْ ظلَّ مكبَّلًا في الأغلال في الآونة الأخيرة. ولكن ذلك لا يعني أبدًا أنني كنتُ أَحلُم ببعث هايد في هذه الدنيا من جديد؛ إذ كان مجرد التفكير في ذلك يزعجني ويكاد يُثير خَبَلي. لا! فالواقع أنني أُغريتُ بالعبث بضميري، مقتصِرًا على ذاتي وحَسْب، أي أنني سقطتُ آخرَ الأمر أمام هجمات الغَواية باعتباري رجلًا عاديًّا يرتكب الخطيئة سرًّا.

لكلِّ شيء نهاية، ومهما تكُن سعةُ الإناء فهو يمتلئ آخر الأمر، وكان في هذا الاستسلام لِجَانب الشرِّ في ذاتي، على قِصَر أمده، إخلالٌ باتِّزان رُوحي في نهاية المطاف. لكنني لم أُفزع، فلقَدْ بدا السقوط طبيعيًّا، كأنه كان عودةً إلى ما سَلَف من أيامي قبل الاهتداء إلى اكتشافي. كان ذلك في صباح يومٍ من أيام يناير اعتدل فيه الجوُّ وصفا الهواء وإن كانت الأرض مبتلَّة نتيجةَ انصهار الصقيع، ولكن السماء من فوقي كانتْ خِلوًا من السحاب، وكان مُتنزَّه ريجنت٥ حافلًا بشَقْشَقات طيور الشتاء ويشيع في أرجائه شذا الربيع العاطر، وكنتُ أجلس في الشمس فوق أريكةٍ خشبية، والحيوان في داخلي يَلعق عظام الذكريات. كان جانبي الروحي قد أصابته سِنةٌ من النوم، وهو يمنِّي النفس بتوبةٍ لاحقة، لكنه لم يتَّخذ أيَّ خُطوة للشروع فيها. وقلتُ في نفسي إنني على أيِّ حالٍ مثل جيراني، ثم ابتسمتُ وجعلتُ أقارن نفسي بغيري من الناس، مُوازِنًا بين ما أفعله مِصدَاقًا للنوايا الحسنة، وما يتقاعسون عن فعله كسَلًا يعتبر قسوة في الواقع. وفي تلك اللحظة نفسها — حين أصابتني هذه الفكرة بالخُيلاء — أحسستُ بدُوار مفاجئ، وانتابني غثيانٌ فظيع، وحلَّتْ بي قُشَعريرة فتَّاكة. وعندما ذهبت هذه العوارض ألفيتُني مَغشيًّا عليَّ، وعندما ذهبت الغَشْية بدَورِها بدأتُ أشعُر باختلافٍ في طابع أفكاري؛ إذ شعرت بمزيدٍ من الجُرأة، واستهانةٍ بالأخطار، وبانحلالٍ في روابط التزاماتي. وعندما نظرتُ إلى جسدي وجدتُ أنَّ ملابسي تتهدَّل فضفاضة بلا نظام على أطرافي التي انكمشت، وإذا باليَدِ التي وضعتُها على ركبتي يدٌ معروقةٌ غزيرةُ الشَّعر. لقد أصبحتُ إدوارد هايد مرةً أخرى. كنتُ قبل لحظةٍ واحدةٍ آمِنًا، أتمتَّع باحترام الجميع، ذا ثراء، محبوبًا، والخادم يبسط لي المفرش على المائدة في غرفة الطعام؛ وأصبحتُ الآن الطريدة التي يطلبها الناس جميعًا، ما دمتُ مُلَاحَقًا، مشردًا وقاتلًا معروفًا، وأسيرًا للمشنقة.

كان عقلي مُبلبَلًا لكنه لم يخذلْني خذلانًا تامًّا، ولقد لاحظتُ أكثر من مرة أن ملَكاتي الذهنية تبدو في شخصيتي الثانية حادَّة إلى أقصى درجة وأنَّ رُوحي المعنوية تغدو أشدَّ مرونةً على ما بي من توتُّر. وهكذا كانت الحال هنا، فإذا كان من المحتمَل أن يستسلم جيكل؛ فإن هايد هبَّ ناهضًا لمواجهة هذه اللحظة المهمَّة. كانت عقاقيري في صوانٍ معيَّن في غرفة مكتبي، فكيف يمكنني الحصول عليها؟ كانت هذه هي المشكلة التي تصدَّيتُ للتفكير في حلِّها (ضاغطًا بيديَّ على فَودَيَّ). أمَّا باب المختبر فقَدْ أغلقتُه، وإذا حاولتُ الدخول من باب منزلي فسوف يُرسلني خَدَمي أنفسهم إلى المشنقة. وانتهيتُ إلى ضرورة الاستعانة بشخصٍ آخر، وخَطَر لي أن يكون لانيون. ولكن كيف أتَّصِل به؟ وكيف أُقنعه؟ ولْنفترض أنني نجوتُ من القبض عليَّ في الشوارع، فكيف أصِلُ إليه وأقابله؟ وكيف أستطيع أنا، باعتباري زائرًا مجهولًا وكريهًا أنْ أُقنع الطبيب الشهير بأن يسرق شيئًا من غرفة مكتب زميله الدكتور جيكل؟ ثم تذكَّرتُ أنني ما زلتُ أحتفظ بجانبٍ من جوانب شخصيتي الأصلية، ألَا وهو القدرة على الكتابة بخطِّ يدي نفسه. وما إن لمحتُ هذه الشرارة المتألقة حتى أنارت لي الطريق الذي ينبغي أن أسلكه من بدايته إلى نهايته.

وإذ ذاك هندمتُ ملابسي كيما تناسبني قَدْر الطاقة واستوقفتُ عربةً للإيجار وذهبتُ إلى فندقٍ في شارع بورتلاند،٦ تصادف أن كنتُ أذكُر اسمه، ولم يستطع سائق العربة أن يُخفي ابتسامته الساخرة من مظهري (الذي كان مُضحِكًا فعلًا، على الرغم من المصير المأساوي الذي تغطِّيه تلك الملابس) فصَرَرتُ على أسناني في وجهه مُبديًا غضْبةً شيطانية. وسرعان ما ذَوت الابتسامة في وجهه، وهو ما أفاده بل أفادني أكثر ممَّا أفاده إذ لو استمرت البسمة لحظةً أخرى لكنت قد جررتُه قَطعًا من مقعده! وحين وصلتُ إلى الفندق نظرتُ حولي بوجهٍ شديد الاكفِهْرَار إلى الحدِّ الذي أرعَبَ الخَدَم، فلمْ يَجرءُوا على تبادُل أيِّ نظرات في حضوري، لكنهم استمعوا إلى أوامري طائعين واصطحبوني إلى غرفةٍ خاصة، وأحضروا لي مُعدَّات الكتابة. كان هايد الذي يواجه الخطر على حياته مخلوقًا جديدًا في نظري، إذ كان مضطربًا في غضبه الشديد، مشدود الأعصاب إلى حدِّ ارتكاب القتل، توَّاقًا إلى إحداث الألم. ولكن ذلك المخلوق كان فطِنًا حصيفًا، إذ سيطَرَ على غضبه بجهدٍ إراديٍّ عظيم، وكَتَب خطابَيه المهمَّين؛ الأول إلى لانيون، والثاني إلى بوول. وأراد أن يكون في يده دليلٌ ملموس على إرسالهما بالبريد فأمَرَ بإرسالهما بالبريد المسجَّل.

ومنذ تلك اللحظة لم يبرح مكانه بجوار المدفأة طول النهار، وهو يقضم أظفاره في توتُّر، وهناك تناول عشاءه، وحده بصحبة مخاوفه، والنادل يرتعد أمام ناظرَيه، وعندما هبَطَ الليلُ بحُلْكته انطلق وقبَعَ في رُكن عربةٍ مغلَقة استأجرها وجعلتْ تَطُوف به شوارع المدينة رائحةً غادية. وأنا أشير إليه بضمير الغائب ولا أستطيع الإشارة بضمير المتكلم، إذ لم يكن في ابن الجحيم المذكور ما يربطه بسائر البشر، ما دام لا يحيا في داخله سوى الخوف والكراهية. وعندما تصوَّر آخر الأمر أن السائق قد يستريب به؛ صرَفَ العربة وانطلق سيرًا على الأقدام في الشارع، بملابسه المتهدِّلة حول جسمه؛ فأصبح منظره يُغري بالتأمُّل، مختلطًا بغيره من المارَّة في تلك الساعة من الليل، وعندها ارتفع ضجيج الخوف والكراهية في نفسه مثل عاصفةٍ مُزمجِرة. وأسرع في خَطوه تطارده مخاوفه، مُتَمتِمًا ببعض الألفاظ لنفسه، وكان يتوارى في الحارات شِبْه الخالية من المارَّة، ويعدُّ الدقائق التي ما زالت تفصل بينه وبين منتصف الليل. وعندما استوقفتْه امرأةٌ تبيع فيما أعتقد عُلَب الثِّقاب لطَمَها على وجهها ففرَّت هاربة.

وعندما عُدتُ إلى ذاتي في منزل لانيون أحسستُ بأنَّ هلع صديقي القديم ربما يكون قد حزَّ في نفسي بعض الشيء؛ لستُ واثقًا، فلَمْ يكن ذاك غير قطرةٍ في محيط الكراهية التي أسترجع بها تلك الساعات. وحدَثَ لي تغييرٌ آخر، إذ لم أعُدْ أرتعد خوفًا من المشنقة؛ بل خوفًا من أن أغدو هايد. وكنتُ أُصغي إلى لانيون وهو يُدينني كأنما كنتُ أحلُم، وفي شِبْه حلمٍ أيضًا عُدتُ إلى منزلي وأَوَيتُ إلى الفراش. ونمتُ بعد ما شَهِدتُه ذلك اليوم من إنهاكٍ عصبيٍّ نومًا عميقًا مُطبقًا لم تُفلح الكوابيس التي كانت تعصرني نفسها في قطعه. وصحوتُ في الصباح مضطربًا واهنًا لكن منتعِشًا. كنتُ لا أزال أُبغِض وأخاف فكرة الوحش الذي ينام في داخلي، ولم أكنْ قد نسيتُ بطبيعة الحال الأخطار الرهيبة التي واجهتُها في اليوم السابق، لكنني قد عُدتُ إلى منزلي، وهو منزلي الحقيقي، وأصبحت قريبًا من عقاقيري، وكان امتناني لنجاحي في الفرار يسطع بشدَّة داخل نفسي حتى كاد يُنافِس بريق الأمل.

كنتُ أَسيرُ على مَهلٍ عبْرَ الفِناء بعد الإفطار، مستمتعًا بتجرُّع بَرَد الصباح عندما استولتْ عليَّ مرةً أخرى تلك الأحاسيس التي يصعُب وصْفُها والتي تُنذر بالتحوُّل، وما كِدتُ ألجأ إلى ملاذي في غرفة المكتب حتى دهمتْني مشاعر هايد الجامحة التي جمَّدتني في مكاني. واضطُررتُ هذه المرة إلى تناول جرعة مضاعَفة حتى أستعيد ذاتي. ولكنني بعد ستِّ ساعاتٍ وحَسْب، في أثناء جلوسي بجوار المدفأة أنظُر إلى النار في حُزن، فوجئتُ بعودة الآلام، واضطُررت من جديد إلى تناول الدواء. وأقول بإيجاز إنَّ قدرتي على اكتساب صورة جيكل كانت تتطلَّب جهدًا شاقًّا مثل تمارين الجمباز، وبالتأثير المباشر للعقار وحَسْب. منذ ذلك اليوم، كنت أُفاجأ مهما يكُن الوقت ليلًا أو نهارًا بالرعشة المُنذِرة، والأخطر من ذلك أنني إذا نِمت، أو حتى إذا غفوتُ وأنا جالسٌ في مقعدي لحظةً واحدة، كنتُ دائمًا أستيقظ في صورة هايد. وإزاء إحساسي بذلك المصير الذي يتهدَّدني بين الفَيْنة والفَيْنة، والأرق الذي أصبحت أفرضه على نفسي، بل إلى الحدِّ الذي لم أكن أتصوَّر أن الإنسان يقْدِر عليه؛ غدوتُ — وإن لم يتغيَّر شخصي — مخلوقًا تَنهَشه الحُمَّى وتُفرغه ممَّا في نفسه، وأصابني الوهن في الجسم والعقل، ولم يعُد يَشغَلني غير فكرةٍ واحدة، ألَا وهي الرعب المتمثِّل في ذاتي الأخرى. لكنني عندما أنام، أو عندما يتلاشى تأثير الدواء. كنتُ أشعُر أنَّ خيالي يزخَر بصُوَر الرعب، وأنَّ روحي تغلي بضروبِ كراهيةٍ لا سببَ لها، وأنَّ جسدي لا يبدو متينًا إلى الحدِّ الذي يُمكِّنه من احتواء طاقات الحياة المتأجِّجة، ويكاد يتكرَّر ذلك من دون فترةٍ انتقالية (إذ إنَّ الإحساس بآلام التحوُّل كان يقلُّ يومًا بعد يوم). ويبدو أنَّ قُوَى هايد قد زادت مع اعتلال جيكل. ولا شكَّ أنَّ الكراهية التي أصبحتْ تَفْصِلهما كانتْ متساويةً في الجانبين. كانت هذه الكراهية عند جيكل من وحي إحساسه الغريزي الحيوي، بعد أن اتَّضح له التشوُّه الكامل لذلك المخلوق الذي كان يشاركه بعضًا من ظواهر الوعي، ويشاركه أيضًا ميراث الموت. وأما إذا تجاوزنا هذه الروابط التي تجمع بينهما، والتي تمثِّل في ذاتها أمَرَّ جانبٍ من جوانبِ كَرْبه؛ فسوف نجِدُ أنَّ جيكل لم يكن يَعتبِر هايد كائنًا جُهنميًّا فقط، بل أيضًا — وعلى الرغم من طاقة الحياة الكبرى فيه — كائنًا غير عضوي، وكان ذلك أفظعَ ما في الأمر؛ أي أنَّ طين الحفرة كان يبدو قادرًا على الصياح وإصدار الأصوات، والتراب الذي لا شكل له كان يستطيع الإشارة بيديه وارتكاب الخطايا، وما كان ميتًا لا صورة له استطاع القيام بوظائف الحياة غَصبًا! أضف إلى هذا أنَّ ذلك الكائن البشِع المتمرِّد يرتبط به ارتباطًا وثيقًا يزيد على ارتباطه بزوجته، وارتباط عينه به، وأنه كان محبوسًا في لحم جسده، وأنَّ جيكل كان يَسمعه وهو يُدَمدِم ويكافِح حتى يولد، وأنَّ هذا الكائن كان ينجح في كلِّ ساعة من ساعات الضعف، وفي الثقة التي يأتي بها النوم، في التغلُّب عليه وخَلْعه من عرش الحياة. وأما كراهية هايد لجيكل فكانت من نوعٍ آخر؛ كان رعبه من المشنقة يدفعه من حين لآخر إلى قَتْل نفسه مؤقتًا، والعودة إلى موقعه الثانوي حيث يمثِّل جانبًا وحَسْب من إنسانٍ بدلًا من أن يكون شخصًا كاملًا، لكنه كان يكره اضطراره لذلك ويَمقتُ بئر الاكتئاب التي سقط جيكل فيها الآن، كما كان يتذمَّر من النفور الذي يتَّسم به موقف الآخرين منه. وهذا هو ما يفسر ألاعيبه التي تُشبِه ألاعيب القِرَدة، ومُعابَثَته إيَّاي بأن يكتب بخطِّ يدي عباراتِ تجديفٍ في الدين في صفحات كتابي، وأنْ يحرق الخطابات ويحطِّم صورة والدي، والواقع أنه لولا خوفه من الموت لقَتَل نفسه من زمنٍ بعيدٍ حتى يقتلني معه! ولكنَّ حبَّه للحياة رائع، وأقول المزيد: فأنا الذي أتقزَّز ويجمُد الدم في عروقي لمجرد التفكير فيه، أجِدُني — حين أسترجع الْتصاقه الشديد بالدنيا وحبَّه المشبوب لها، وحين أُدرك كَم يخشى قدرتي على قتله إذا انتحرتُ — أجِدُني قادرًا على الإشفاق عليه!

من العبث الاسترسال في هذا الوصف، كما لا يسمح لي الوقت على الإطلاق، ويكفي أن أقول إنه لم يَشهَد غيري ما شهِدتُه من صنوف العذاب، ولكن اعتيادي هذا العذاب نفسه لم يُؤدِّ إلى تخفيفه بل إلى بلادةٍ معينة في النَّفْس، لك أنْ تُسمِّيها الاستسلام للقنوط، كما كان من الممكن أنْ يستمرَّ عقابي سنواتٍ طويلةً لولا الكارثة التي وقعتْ أخيرًا، والتي فصلتْ بيني آخرَ الأمر وبين وجهي وطبيعتي، إذ بدأ مخزوني من الملح الذي لم أجدِّده قَط منذ التجربة الأولى يتضاءل. فأرسلتُ أَطْلُب كميةً جديدة، وكنتُ أختبر ما يأتيني فأَمزِجه بالمحلول فيَغلي، ويعقبه تغير اللون الأول لا الثاني؛ وأشربه من دون أن تكون له فاعلية. وسوف تعرف من بوول كيف أنني لم أترك صيدلية في لندن إلا أرسلتُه إليها، دون أن يأتي ذلك بِطَائِل. وقد اقتنعتُ الآن أنَّ الملح القديم لم يكُن نقيًّا، وأنَّ الشوائب المجهولة كانت مصدرَ فاعلية العقار.

مرَّ على ذلك نحو أسبوع، وأنا أُنهي هذا الخطاب الآن تحت تأثير المساحيق القديمة. وهكذا فإنَّ هذه هي المرة الأخيرة التي يستطيع فيها هنري جيكل أن يُزاول تفكيره الخاص وأفكاره الخاصة أو يرى وجهه الحقيقي في المرآة (بعد تغيُّره المُؤْسي!) إلا إذا وقَعتْ معجزة. كما ينبغي ألَّا أُؤخِّر اختتام ما أكتُبه تأخيرًا أكثر ممَّا ينبغي، فإذا كانت قصتي قد نجَتْ حتى الآن من التلف؛ فمردُّ ذلك إلى مزيجٍ من الحصافة الفائقة، وحُسن الطالع الكبير. وإذا أدركتْني سكرات التحوُّل في أثناء الكتابة، فسوف يمزِّق هايد هذه القصة شرَّ ممزَّق، لكنه إن مرَّ بعض الوقت على تَنْحيتي إيَّاها فإن أنانيته الرائعة وانحصاره في اللحظة الحاضرة قد يُنقذانِها مرةً أخرى من حِقْده الذي يُشبه حقْدَ القِرَدة. والواقع أنَّ المصير المحتوم الذي أخَذَ يُطبق علينا معًا قد غيَّره بالفعل وسحَقَه. وبعد نصف ساعة، عندما أُعيد اكتساب تلك الشخصية البغيضة فلا أبرحها إلى الأبد، أعرف كيف سأجلس في مقعدي وأنا أرتعد وأبكي، أو أستمر — شاحذًا أقصى طاقة لديَّ على الإصغاء في فورة الخوف البالغة — في السير رائحًا غاديًا داخل غرفتي (فهي ملجئي الأخير على وجه الأرض) شارِعًا أذني لكلِّ صوتٍ يحمل تهديدًا لي. هل سيموت هايد شنقًا، أم هل تواتيه الشجاعة لتخليص نفسه في اللحظة الأخيرة؟ الله أعلم! لم أعُدْ أهتمُّ؛ فهذه هي ساعة موتي الحقيقية، وما يعقبها من شئون سواي. وإذن فإنني أقوم هنا، وأنا أرفع القلم عن الصحيفة وأختم الظرف الذي سوف أضع فيه اعترافي، بوضع نهايةٍ لحياة هنري جيكل التَّعِس.

١  «الحرب الدائرة بين أعضائي»: هذا صدًى لرسالة يعقوب بالكتاب المقدَّس (٤: ١): «من أين النزاع والخصام بينكم؟ أليس من لَذَّاتكم تلك المُتصارِعة في أعضائكم؟»
٢  «حُزمة واحدة»: الأصل (faggots) يعني الحُزمة من الأخشاب المربوطة معًا، وعادةً ما تُستخدم حطبًا.
٣  «أسرى فيليبي»: الإشارة هنا إلى سِفر أعمال الرسل بالكتاب المقدَّس (١٦: ٢٦).
٤  «الإصبع … على الجدار في بابل القديمة»؛ يقول الكتاب المقدَّس (دانيال، ٥: ٥–٣١): إنَّه بينما كان الملك بيلشاصر حاضرًا في وليمةٍ أولَمَها لنبلاء دولته، ظهرتْ يدٌ وأشارتْ إلى كلماتٍ تتنبَّأ بسقوطه مكتوبة على الجدار. وتعبير «الكتابة ظهرتْ على الجدار» يعني أن نهاية أحد الناس وشِيكة.
٥  «منتزه ريجنت»: كان أولًا غابةً ثم أصبح أرضًا زراعية، وأخيرًا أصبح متنزَّهًا تُحيطه منازلُ باذخةٌ صمَّمها جون ناش في عهد الوصاية على العرش في بريطانيا [١٨١١–١٨٢٠م] وهو لذلك يُنسب إلى الوصيِّ على العرش (Regent). وهو يقع شمال شارع مارلبون، وإلى الغرب من يوستون، أي أنه ليس بعيدًا عن منزل لانيون. وقد أُقيمت حدائق الحيوان الخاصة بمدينة لندن داخل هذا المتنزَّه منذ عام ١٨٢٨م.
٦  «فندق في شارع بورتلاند»: كان هذا في الوقت شارعًا في الناحية الجنوبية من شارع أكسفورد، وعلى مشارف حيِّ سوهو. وكان يمكن الوصول إليه بعربةٍ مُستأجَرة بسهولةٍ من متنزَّه ريجنت، ولم يكن يبتعد عن منزل لانيون في ميدان كافنديش إلا بعِدَّة شوارع قصيرة. ولكن لماذا يخاطر هايد بالمرور بالقرب من سوهو إلى هذا الحد، أيْ مرتع شطحاته القديم؟ كان شارع «جريت بورتلاند» — وهو أقرب إلى متنزَّه ريجنت — يسمَّى ذات يوم شارع بورتلاند (وإن كان ذلك قبل عام ١٨٨٥م) كما يوجد شارع يسمَّى «بورتلاند بليس» يكاد يلاصق الشمال الشرقي لميدان كافنديش، والواضح أنَّ هذا يمثِّل اختيارًا أسلمَ وأشدَّ احتمالًا من فندق في سوهو للطريد هايد. ومن المرجَّح أن ستيفنسون قد خلط بين هذه الشوارع في أثناء كتابته القصة في فِراشه بمدينة بورنموث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤