البحث عن مستر هايد

عاد مستر أترسون ذلك المساء إلى منزله الذي يقيم فيه وحده، فهو أعزب، وقد غلبه الاكتئاب فجلس إلى مائدة العشاء دون شهية. كان من عادته يوم الأحد أن يجلس بعد انتهاء عشائه بجوار المدفأة، وقد فتح مجلدًا من المجلدات الدينية الجافة على مكتبه الصغير ليقرأه، حتى تدق ساعة الكنيسة المجاورة الثانية عشرة فيأوي إلى الفراش في هدوءٍ ورضًا. وأمَّا في تلك الليلة؛ فما إنْ أزال الخادمُ مفرش المائدة حتى أَخَذ شمعة ودخل غرفة عمله، ففتح خزانة فيها، وأخرج من أشدِّ أقسامها سِرِّيةً وثيقةً كُتب على غِلافها «وصية الدكتور جيكل»، وجلس مقطب الجبين ليدرس مضمونها. كانت الوصية مكتوبةً بخطِّ صاحبها؛ لأن مستر أترسون، على الرغم من تعهُّده بها بعد كتابتها، كان قد رَفَض تقديم أيِّ مساعدة في إعدادها. وكانت تنصُّ على أنه في حالة وفاة هنري جيكل، الحاصل على الدكتوراه في الطب، وفي القانون المدني، ودكتوراه في القانون العام، وزميل الجمعية الملكية، وما إلى ذلك؛١ فإن جميع ممتلكاته تئُول إلى «صديقه، وولي نعمته» إدوارد هايد، ولكنها كانت تنصُّ أيضًا على أنَّه في حالة «اختفاء الدكتور جيكل أو غيابه بلا تفسير، أي فترة تزيد على ثلاثة أشهر وفق التقويم الجاري»؛ فإن إدوارد هايد المذكور يحلُّ محلَّ الدكتور جيكل دونما إبطاء، من دون تحمُّل أيِّ تبِعات أو التزامات، باستثناء دَفْع عددٍ محدودٍ من المبالغ الضئيلة للعاملين في منزل الدكتور المذكور. لطالما كانت هذه الوثيقة بمثابة قذًى في عين المحامي؛ كان يشعر باستيائه منها باعتباره محاميًا، وبصفته رجلًا يحبُّ جوانب الحياة المعتادة و«العاقلة»، وكانت شطحات الخيال تمثِّل له ضربًا من «قلة الحياء»؛ ومن ثَمَّ فقد كان جهله بالمستر هايد هو الذي ضخَّم من استيائه. وأمَّا الآن، فقد أصبح السبب هو النقيض فجأةً؛ أي علمه بمَن يكون. كان الأمر يسوءه بما فيه الكفاية عندما لم يكن الاسم سوى اسمٍ وحَسْب، ولا يستطيع أن يعرف المزيد عنه؛ ولكن السوء تفاقَمَ بعد أن أصبح يكتسي صفاتٍ بغيضةً. وهكذا وجَدَ أن سحائب الضباب غيرَ الملموسة والمتحركة التي حارت فيها عيناه زمنًا طويلًا؛ تُسفر فجأةً وبوضوح عن صورةِ شيطانٍ لا شكَّ فيه.

وقال أترسون: «كنتُ أظن ذلك من قبيل الجنون.» وهو يُعيد الورقة المَقيتة إلى الخزانة، ثم قال: «لكنني أخشى أن تكون قد أصبحت الآن من قبيل العار.»

قال ذلك وأطفأ الشمعة، وارتدى مِعطفًا سميكًا، وانطلق إلى ميدان كافنديش،٢ معقل الطب، حيث يقيم صديقه الدكتور لانيون، وحيث يستقبل في عيادته فيه مرضاه الذين يتزاحمون على ارتيادها. كان يقول في نفسه: «إن كان أحدٌ يعرف السرَّ فهو لانيون.»

واستقبله القهرمان الوقور الذي كان يعرفه ورحَّب به، ولم يواجه تأخيرًا من أيِّ لون بل أُدخل مباشرة من الباب إلى غرفة المائدة، حيث كان الدكتور لانيون يجلس وحده وأمامه قدح من النبيذ. وكان هذا الرجل دمِث الخُلق، موفور الصحة، أنيق الملبس، أحمر الوجه، وقد وخط الشيب شعره الكثَّ قبل الأوان، وكان صاخبًا في مسلكه حازمًا فيما يفعل، فما إنْ شاهَدَ مستر أترسون حتى هبَّ واقفًا من مقعده ورحَّب به بكلتا يديه. كانت المبالغة في دفء الترحيب، وفق ما اعتاده الرجل، تَشِي بحركاتٍ مسرحيةٍ، ولكنها كانت تستند إلى صدق المشاعر؛ فلقد كان هذان من الأصدقاء القدامى، إذ ترافقا في المدرسة وفي الجامعة، وكان كلاهما يُكِنُّ الاحترام الشديد لنفسه ولصاحبه، ويتميزان بشيءٍ لا يتبع ذلك في جميع الأحوال؛ إذ كانا يستمتعان بصحبة بعضهما بعضًا إلى أقصى حدٍّ.

وبعد أن تجاذبا أطراف الحديث، انتهى المحامي إلى الموضوع الذي يشغل باله إلى حدِّ التنغيص عليه.

قال المحامي: «أتصوَّر يا لانيون أننا — أنا وأنت — أقدم صديقين لهنري جيكل؟»

وقهقه الدكتور لانيون قائلًا: «ليت الأصدقاء كانوا أصغر سنًّا! ولكنني أتصور أننا تقدَّمنا في السنِّ! وما قيمة ذلك؟ لا أراه هذه الأيام إلا لمامًا.»

وقال أترسون: «حقًّا؟ كنت أتصوَّر أنكما ترتبطان بمصالح مشتركة.»

فأجاب لانيون قائلًا: «كنا كذلك فعلًا، لكنني بدأتُ أنفر من غرابة أطوار هنري جيكل من مدة طويلة زادت على عشر سنوات، أي منذ أن بدأ ينحرف عن الصواب، أقصد الانحراف الفكري، وعلى الرغم من أنني ما زلت أهتمُّ بأمره حفاظًا على حقِّ «العِشرة» القديمة، كما يقولون، فلم أعُدْ أراه، ولا أراه الآن، إلا لمامًا.» واحتقن وجه الدكتور فجأةً فأصبح أرجواني اللون وهو يُضيف قائلًا: «من شأن تلك التُّرَّهات العلمية أن تبذر الجفاء بين أقرب خليلين.»٣

ورأى مستر أترسون راحةً في هذا الانفلات المحدود لأعصاب لانيون؛ إذ قال في نفسه: «إذن لقد اختلف الرجلان حول قضيةٍ علميةٍ وحَسْب.» ولمَّا لم يكن ذا ميولٍ علميةٍ (إلا فيما يتعلق بعقود نقل الملكية)؛ أضاف إلى ذلك الخاطر: «ليس في الأمر ما يزيد سوءًا إذن!» وأتاح لصديقه ثواني معدودة حتى يستعيد رَباطة جأْشه قبل أن يطرح السؤال الذي أتى لطرحه: «هل صادفتَ يومًا رجلًا يرعاه الدكتور، ويُدعَى هايد؟»

وقال لانيون: «هايد؟ كلَّا! لم أسمع به قَط! أعني منذ صداقتي القديمة معه.»

وكان ذلك مبلغ ما حمله المحامي معه من معلومات حين عاد إلى فِراشه الضخم، حيث جعل يتقلَّب فيه أرِقًا في الظلام حتى انقضى الهزيع الثاني من الليل. لم تأتِه الليلةُ براحةٍ تُذكَر لذهنه المكدود؛ إذ ظلَّ يكُدُّ في الظلمة وحصار الأسئلة حوله.

ودقَّت نواقيس الكنيسة مُعلِنة السادسة صباحًا، وكان يجِدُ راحةً في قُرب مسكنه إلى هذا الحدِّ من تلك الكنيسة، لكنه كان لا يزال يحاول حلَّ المشكلة. لم تكن المشكلة من قبل قد أثارته إلا فكريًّا، لكنها الآن بدأتْ تشغل خياله، أو بالأحرى تستعبد خياله. وبينما كان راقدًا يتقلَّب في الظلام الدامِس في أثناء الليل، وفي الغرفة التي حَجَبتْ فيها الستائر أنوار الصبح؛ استعرض ذهنه الحكايةَ التي رواها مستر إنفيلد في شريطٍ من الصور المضيئة. كان يرى في خياله حقلَ المصابيح الشاسع للمدينة في أثناء الليل، ثم صورةَ رجلٍ يسير مُسرِعًا، وطفلةً تهرع خارجةً من عيادة الطبيب. ثم يراهما وقد اصطدما، والرجل الذي يشبه المعبود الهندي الهائل وهو يدوس عليها ويمضي متجاهِلًا صرخاتها. أو كان يُبصر غرفةً في منزل أسرةٍ ثريةٍ ينام فيها صديقه، ويحلم مبتسمًا في أحلامه، ثم يرى باب الغرفة يُفتح، وستائر الفراش تنفرج، ويسمع مَن يستدعي صديقه، ويا لَلْعَجَب! إنَّ إلى جوار صديقه رجلًا مُنِح سلطانًا عليه، ولا بدَّ لصديقه — حتى في تلك الساعة التي نام فيها الجميع — أن ينهض وينفِّذ ما يأمره الزائر به! كانت صورة الرجل في هاتين المرحلتين تشغل ذهن المحامي طول الليل. وحتى عندما كان النُّعاس يغلبه؛ كان يرى صورته تسترِقُ الخُطَى بين المنازل النائمة، أو تمضي بسرعةٍ متزايدة — بل تزداد باطِّرادٍ إلى حدٍّ يُصيب بالدوار — وسط متاهاتِ٤ المدينة المُضاءة بالمصابيح، وكان ذلك الرجل يصطدم في رُكن كل شارع بطفلةٍ ويدوسها تاركًا إيَّاها تصرخ. ولم يكن لصورة الرجل وجه يستطيع التعرف عليه به، بل حتى في أحلامه كان الوجه غائبًا أو كان مثيرًا للحيرة؛ إذ يذوب أمام عينيه، وهكذا نشأتْ وتنامتْ بسرعة في ذهن المحامي رغبةٌ شديدةٌ، بل تكاد تكون جائحة، لمشاهدة ملامح وجهِ مستر هايد الحقيقي. وقال في نفسه: إنه لو استطاع أن يراه رأيَ العين مرةً واحدةً؛ فربما خفَّتْ وطْأة اللغز، وربما انقشع ضبابه تمامًا،٥ على نحو ما يحدث عند الفحص الدقيق للأمور الغامضة؛ إذ ربما وجَدَ سببًا يبرِّر الإيثار الغريب الذي يُبديه صديقه له، أو حتى وقوعه في أَسْرِ ذلك الرجل (ولك أن تصِفَ تلك الرابطة بأيِّ صفة تريدها) بل حتى الشروط المفزِعة التي تضمنتها الوصية. قُل إنَّه، على الأقل، وجهٌ جديرٌ بالمشاهدة؛ فهو وجهُ رجلٍ لا رحمة في أحشائه، وجهٌ لم يَكَدْ يراه صديقه إنفيلد — وهو ذو العقل الذي لا يخضع للأهواء — حتى ثارت في نفسه كراهيةٌ مقيمةٌ له.

وبدأ مستر أترسون منذ ذلك الحين يحافظ على ارتياد موقع ذلك الباب في الشارع الجانبي الحافل بالمحالِّ التجارية؛ كان يوافيه صباحًا قبل مواعيد العمل، وظُهرًا عند اشتداد النشاط التجاري والحرص على كل دقيقة، وليلًا عندما يطلُّ وجهُ القمر من خلال الضباب على المدينة؛ أي أن المحامي كان يُرَى في موقعه المختار مهما يكن الضوء في الشارع، وفي جميع ساعات العزلة والاجتماع.

وقال في نفسه: «إن كانت لعبة «استغمَّاية» فَلْيختبئ مستر هايد، وسوف آتي به!»

وأخيرًا نال جزاء مثابرته. كان الجوُّ صحوًا تلك الليلة، والبرد في الهواء يُنذر بالصقيع، والشوارع نظيفة مثل أرضية قاعة مَرقَص، وكانت المصابيح التي لا تهزُّها الريح تنسج على الأرض أشكالًا منتظمةً من الأضواء والظلال. وبحلول الساعة العاشرة مساءً، بعد إغلاق الحوانيت، بدا الشارع الجانبي خاليًا يشيع فيه صمتٌ عميقٌ على الرغم من الهدير الخفيض لمدينة لندن من حوله. كانت أخفتُ الأصوات تُسمع من مسافاتٍ طويلةٍ، كما كانت تُسمع بوضوحٍ الأصوات الخارجة من المنازل على جانبي الطريق، وكانت أصداء خُطَى أيِّ سائرٍ تسبقه بوقتٍ طويلٍ. ولم يكن مستر أترسون قد قضى في موقعه غير دقائقَ معدودةٍ حين سَمِع أصوات خُطًى خفيفةٍ غريبةٍ تقترب منه. كان قد اعتاد منذ مدةٍ طويلةٍ، في أثناء «دورياته» الليلة، تمييزَ التأثير الخاص الناجم فجأةً عن وَقْع خطَى شخصٍ مفردٍ، وهو لا يزال بعيدًا، من بين الصخب والجَلَبَة الشاسعة للمدينة. ولكن انتباهه لم يسبق أن تركَّز بهذه الحدَّة وهذا «القَطع» من قبل، فإذا به ينزوي في رُكن من أركان الفِناء وقد أحسَّ إحساسًا قويًّا وحَدْسيًّا بأن النجاح وَشِيكٌ.

وازداد اقتراب الخطوات بسرعة، ثم عَلَتْ أصواتها فجأةً عندما تجاوَز صاحبها رُكن الشارع. وجعل المحامي ينظر من موقعه لدى المدخل، وسرعان ما شاهَد نوع الرجل الذي قرَّر أن يواجهه. كان الرجل ضئيل الجِرم، يرتدي ثيابًا غير أنيقة، وكان منظره حتى على هذا البعد؛ لا يبعث الارتياح على الإطلاق فيمَن يشاهده. ولكن الرجل اتَّجه مباشرةً إلى الباب، عابرًا الطريق اختصارًا للوقت، وأخرج من جيبه عندما اقترب مفتاحًا كشأن كلِّ مَن يقترب من بيته.

وخطا مستر أترسون خطوةً خارجًا من رُكنه، ومسَّ بيده كتف الرجل في أثناء مروره، وقال: «مستر هايد، على ما أظن؟»

وأجفل مستر هايد بشهقةٍ كحَسِيس الخائف، وإن زال خوفه من فَوره، وردَّ بثباتٍ واطمئنانٍ، حتى دون أن يتطلَّع إلى وجه المحامي، قائلًا: «هذا اسمي، ماذا تريد؟»

وقال المحامي: «أرى أنك تنتوي الدخول؛ أنا من أصدقاء الدكتور جيكل القدامى، واسمي أترسون، وأُقيمُ في شارع جونت،٦ ولا بدَّ أنك سمعتَ اسمي، ولمَّا أسعدني الحظُّ بلُقياك مصادفةً؛ كنت أرجو أن تسمح لي بالدخول.»

وأجاب مستر «هايد»: «لن تجِدَ الدكتور جيكل؛ فليس في بيته.» ودسَّ المفتاح في القفل، ثم قال فجأةً — ولكن دون أن يرفع بصره: «كيف عَرَفتَني؟»

فقال مستر أترسون: «هل تتكرم أنت بإسداء معروفٍ لي؟»

وأجاب الآخر: «بكلِّ سرور، وما ذاك؟»

فقال المحامي: «هل تَدَعني أُبصر وجهك؟»

وبدا أنَّ مستر هايد متردد، وإذا به — كأنما فاجأتْه فكرةٌ مفاجئةٌ — يواجه المحامي مواجهةَ مَن يتحدَّاه، وظلَّ الاثنان يحدِّقان في بعضهما بعضًا عدَّة ثوانٍ، قبل أن يقول أترسون: «أستطيع الآن أن أتعرَّف عليك من جديد؛ فقد يكون ذلك مفيدًا.»

وردَّ مستر هايد قائلًا: «فِعْلًا؛ مقابلتنا مفيدة. وأقول بالمناسبة: إنَّ عليك أن تعرف عنواني.» وأشار إلى رقم منزلٍ معيَّنٍ في شارعٍ في حيِّ سوهو.

وقال مستر أترسون في نفسه: «يا الله! تُرى هل خطَرَ له أيضًا أَمْر الوصية؟» ولكنْ لم يُفصح عن مشاعره، وغَمْغَم غمغمةَ امتنانٍ لحصوله على العنوان.

وقال الآخر: «قل لي إذن؛ كيف عَرَفتَني؟»

وجاءته الإجابة: «بالوصف.»

– «وصفُ مَن؟»

وقال مستر أترسون: «لدينا أصدقاء مشترَكون.»

وردَّد العبارة مستر هايد بصوتٍ شبهِ مبحوحٍ: «أصدقاء مُشترَكون؟ مَن هم؟!»

قال المحامي: «الدكتور جيكل مَثَلًا.»

وهَتَف مستر هايد صائحًا بنبرات الغضب: «لم يخبرْك قَط! لم أكن أتصوَّر أنك كذَّاب!»

وقال أترسون: «اهدأ أرجوك! ليست هذه ألفاظًا مناسبة!»

وندَّت عن الآخر قهقهةٌ وحشيةٌ عاليةٌ، وإذا به يُدير المفتاح في القفل بسرعةٍ خارقةٍ، ويختفي داخل المنزل.

وظلَّ مستر أترسون واقفًا بُرهةً بعد ذهاب مستر هايد، صورة ناطقة للقلق. ثم بدأ يذرَع الشارع متمهِّلًا، وكان يتوقَّف كلَّ خطوة أو خطوتين واضعًا كفَّه على جبينه كأنما تَعصُره الحيرة. كانت المشكلة التي ينظر الآن فيها في أثناء السير؛ من نوعٍ نادرًا ما يجِدُ الحلَّ. فالمستر هايد كان شاحب اللون، قميء الجسم، يوحي للناظر أنَّه مشوَّه من دون أن تكون لديه عاهةٌ معروفة،٧ وكانت بَسْمَته كريهة، وقد قدَّم نفسه للمحامي بمزيجٍ فتَّاكٍ من الخوف والجرأة، وكان يتحدث بصوتٍ مبحوحٍ هامسٍ متقطِّعِ النبرات. وإذا كانت هذه جميعًا من المثالب؛ فلم تكن تستطيع في مجموعها إيضاح ما شَعَر به مستر أترسون آنذاك من تقزُّزٍ لم يعهده في حياته، إلى جانب المقت والخوف. وقال في نفسه وقد غلبَتْه الحيرة: «لا بدَّ أنَّ في الأمر شيئًا آخر. بل إنَّ في الأمر قَطعًا شيئًا آخر، لو استطعتُ أن أعْثُر على اسمٍ له، فليرحمْني الله! الرجل لا يكاد ينتمي إلى بني البَشَر! هل نقول إنه أشبه بساكني الكهوف في عصور ما قبل التاريخ،٨ أم تُراه النموذج الحي للكراهية دونما سبب محدَّد،٩ أم تُراه مجرد إشعاع نفسٍ دنِسةٍ ينضح به صلصال الجسم الذي تبدَّلتْ صورته من الدنَس؟ أظنُّ أنَّ الاحتمال الأخير صائبٌ. واهًا لك يا صديقي القديم الدكتور جيكل! لو قُدِّر لي أن أقرأ توقيع إبليس على وجه بَشَرٍ؛ كان ذلك في وجه صديقك الجديد!»

إذا انعطفت بعد المرور برُكن الشارع الجانبي، مررت بميدانٍ تحيط به منازلُ جميلةٌ قديمةٌ، أخنى عليها الدهر بعد العزِّ في معظمها، وأصبح يُقيم فيه المستأجرون شُققًا وغُرفًا، وهم من شتَّى الألوان والأصناف من الناس؛ من رسَّامي الخرائط إلى المهندسين المعمارين، إلى المحامين المثيرين للرِّيبة، إلى سماسرة الصفقات المغمورة. ولكن أحد هذه المنازل، الثاني بعد طرف الشارع، لا يزال يسكنه أصحابه بأكمله، وتوقَّف مستر أترسون عند بابه الذي كان يَشِي بالثراء العظيم والعيش الرخيِّ، وإن كان غارقًا في الظلام باستثناء ضياء القسم الزجاجي العلوي في الباب، وحين طَرَق المحامي الباب؛ فَتَحه له خادمٌ مسنٌّ أنيقُ الملبس.

وسأله المحامي: «هل الدكتور جيكل بالمنزل يا بوول؟»

وقال الخادم وهو يُدخل الزائر: «سأَرَى يا مستر أترسون.» ودخل المحامي قاعةً فسيحةً مريحةً منخفضةَ السقف، وأرضيتها من البلاط، وتُستخدم في تدفئتها (مثل قصور الريف) مدفأةٌ موقدةٌ يسطع فيها الجمر، وصواناتها الفاخرة من خشب البَلُّوط. وسأله الخادم: «تودُّ الانتظار هنا يا سيدي بجوار المدفأة، أم أصحبك بمصباحٍ إلى غرفة الطعام؟»

قال المحامي: «هنا، شكرًا.» واقترب من المدفأة، واستند إلى الرفِّ العالي فوقها. كانت هذه القاعة التي تُرك فيها وحده، قد وضع صديقه الدكتور تصميمها الذي يمثِّل نزوةً خاصةً، وقد اعتاد أترسون نفسه أن يشير إليها باعتبارها أجمل غرفة في لندن. ولكنه كان يشعر الليلة برِعْدةٍ في دمه، وكان وجه هايد يَرينُ ثقيلًا على ذاكرته، كما انتابه إحساسٌ (نادرٌ في حالته) بالغثيان والنفور من الدنيا. وكان الاكتئاب الذي يُغشي نفسه؛ يجعله يجِدُ خطرًا في أشعة المدفأة المتراقصة فوق الصوانات المصقولة، وفي ارتجاف ظلِّه القَلِق فوق السقف. وأخجله أن يشعر بالارتياح حين عاد الخادم بعد بُرهة ليعلن أن الدكتور جيكل قد خرج.

وقال: «شاهدتُ مستر هايد يدخل من باب غرفة المَشرَحة القديم؛ فهل يصحُّ هذا في أثناء غياب الدكتور جيكل؟»

فقال الخادم: «نَعَم يا سيدي؛ فمستر هايد لديه مفتاح.»

وعاد المحامي يقول بنبرة استغراق في التفكير: «يبدو أنَّ سيدك يثق ثقةً كبيرةً في ذلك الشاب يا بوول.»

وقال بوول: «نَعَم يا سيدي؛ بكل تأكيد. ولدينا جميعًا أوامر بطاعته.»

فسأله أترسون: «لا أظن أنني قابلتُ مستر هايد هنا من قبل؟»

فأجابه القهرمان قائلًا: «بالطبع لا يا سيدي؛ إذ لا يتناول الطعام هنا أبدًا. والواقع أننا لا نراه إلا لمامًا في هذا الجانب من المنزل، إذ غالبًا ما يدخل ويخرج من المختبر.»

– «طابت ليلتك إذن يا بوول.»

– «تُصبح على خير يا مستر أترسون.»

وانطلق المحامي عائدًا إلى بيته بقلبٍ يَرينُ عليه هَمٌّ شديد، وقال في نفسه: «مسكينٌ أنت يا هاري جيكل! يراودني الخوف بأنه في ورطةٍ كبرى! فقد كان طائشًا في شبابه، قَطعًا منذ زمنٍ بعيد، ولكن الذنوب عند الله لا تسقط بالتقادم. نَعَم؛ لا بدَّ أنَّ هذه هي الحقيقة، إذ عاد شبح خطيئةٍ قديمة، أو سرطان عارٍ كان يخيفه، وعاد العقاب بخطًى بطيئة١٠ بعد اقتراف الذنب الذي سَقَط من الذاكرة وبرَّره حُب الذات.» وأحسَّ المحامي بالخوف من هذه الفكرة؛ فجَعَل يتأمل ماضيه الشخصي، ويتفقد جميع زوايا ذاكرته؛ خشيةَ أنْ يجِدَ فيها سيئةً ما أغفلها، وقد تثِب من مكمنها مثل «عفريت العلبة»، وتنكشف لعينيه. ولكن ماضيه كان يخلو من الآثام إلى حدٍّ بعيدٍ، وما أقلَّ مَن كان يستطيع مثله أن يستعرض سجلَّ حياته دون مخاوف، لكنه تذكَّر السيئات الكثيرة التي اقترفها فأحسَّ بالتواضع لذِكر ضعفه البشري، ثم عاد يشعر بالامتنان المتعقِّل على ما به من مخاوف إزاء المرات الكثيرة التي كاد يرتكب فيها سيئاتٍ ثم تجنَّب الوقوع فيها. ثم عاد إلى موضوعه السابق فلاحتْ له بارقةُ أملٍ. قال في نفسه: «إننا لو فحصنا أحوال مستر هايد هذا، فلا بدَّ أن نكتشف أسرارًا شنيعةً حالِكةَ الظُّلمة، إن قُورن بها أسوأ ما فَعَله جيكل المسكين. بدا الأخير مشرِقًا كضوء الشمس! لا يمكن أن تستمرَّ هذه الحال على ما هي عليه! إنَّ البرد ليَسري في عروقي عندما أتصوَّر ذلك المخلوق وهو يتسلَّل كاللصِّ إلى غرفة نوم هاري. مسكينٌ يا هاري! ما أفظعَ إيقاظَك ولفْتَ نظرك إلى ما يجري! ويا للخطر الكامن فيه! فإذا اشتبه هايد هذا في وجود الوصية؛ فقد لا يصبر بل يعمل على التعجيل بالحصول على الميراث. نَعَم؛ لا بدَّ أن أعقد العزم وأبذل الهمَّة.» وأضاف في خاطره: «لو سمح لي جيكل بذلك وحَسْب! لو يسمح لي جيكل بذلك وحَسْب.» إذ لاحتْ لعَينِ ذهنه، بوضوحِ اللوح الشفَّاف، الشروط الغريبة في الوصية.
١  المؤهلات العلمية العالية التي يحملها الدكتور جيكل ترمي إلى تبيان أنَّه عالمٌ بارزٌ في مهنته، ويتمتع بالاحترام.
٢  ميدان كافنديش هذا من الأماكن القليلة التي يحدِّدها المؤلف بدقَّة في قصته؛ بحيث نستطيع التعرف عليها. وقد أُقيم هذا الميدان أول الأمر عام ١٧١٧م في موقعٍ ملاصقٍ لميدان أكسفورد من الجانب الشمالي، أي في الجنوب الشرقي من شارع «مارلبون». وقد أصبح فعلًا «قلعةً للطب» منذ منتصف القرن التاسع عشر، ما دام مشاهير الأطباء يقيمون فيه. وقد ارتبط اسمه بعيادات الأطباء الخصوصية التي يرتادها الأغنياء وبجراحات التجميل، إلى جانب شارع ويجمور، وشارع ويمبول، وشارع هارلي.
٣  «أقرب خليلين»: في الأصل «دامون وبيثياس» (Damon and Pythias)، والأخير — الذي يكتب اسمه أحيانًا (Pythias) — كان الطاغيةُ ديونيسيوس قد حكم عليه بالإعدام في القرن الرابع قبل الميلاد، ولكنه سَمَح لصديقه دامون أن يحلَّ محلَّه مؤقتًا ريثما ينتهي الأول من بعض الأشغال المهمَّة، وكان الاتفاق يقضي بأنه إن لم يعُدْ فسوف يُقتل صديقه بدلًا منه. ولكن بيثياس عاد في موعده، فتعجَّب الطاغية وبَهَره الإخلاص المتفاني إلى الحدِّ الذي جَعَله يعدِل عن رأيه، ويُلغي حكم الإعدام.
٤  متاهات: كانت هذه الاستعارة التقليدية المستخدَمة في الإشارة إلى المدينة، خصوصًا مناطقها القديمة والفقيرة في ذلك الوقت. وهذه الصورة «الحُلمية» تستبِق الزيارة التي يقوم بها أترسون لاحقًا إلى «حي سوهو الفظيع» بحثًا عن هايد، وهو الذي يُشبِّهه «بأحد أحياء مدينةٍ ما في كابوس».
٥  «إنه لو استطاع أن يراه رأيَ العين مرةً واحدةً؛ فربما خفَّتْ وطْأة اللغز، وربما انقشع ضبابه تمامًا.» هذه الرغبة في مشاهدة هايد ذات مغزًى خاصٌّ، فقدناه اليوم نتيجةَ مراجعة ستيفنسون للقصة وتعديله لتصوُّره الأوَّليِّ حتى اتخذت الشكل النهائي. ففي أحد المخطوطات السابقة للحكاية نجِدُه أشدَّ صراحةً بشأن الصورة التي اتخذتْها شكوك أترسون؛ إذ كان قد طَرَح في البداية افتراضين؛ الأول: هو أن هايد يبتزُّ جيكل، والآخر: أن هايد ابنٌ غير شرعي لجيكل. ويصلح الافتراضان لتفسير مخاوفه من وجود «عارٍ» خفيٍّ في حياة جيكل. ونحن نجِدُ فيما يسمَّى «نسخة المطبعة» أن أترسون يقول بعد أن شاهَدَ وجه هايد: «من المُحال أن يكون هذا وجه ابنه، بل من المحال قَطعًا.» (هيرش وفيدر، ١٩٨٦م، ص٢٣). وهكذا فإن أترسون كان يريد البتَّ فيما إذا كانت في ملامح وجه هايد، «ذلك اليافع» الذي يقول عميله في وصيته إنه وريثه الوحيد؛ ما يربطه بوجوه أفراد الأسرة.
٦  «شارع جونت» (Gaunt): لم يكن في لندن في ذلك الوقت شارع بهذا الاسم، وهو مجرد تعبيرٍ رمزيٍّ عن طبيعة شخصية أترسون الذي يأخذ نفسه بالشدَّة؛ فالكلمة تعني — وفق ما يقوله معجم أكسفورد الكبير — «المتجهِّم، والمُوحش»، إلى جانب دلالتها الأخرى: «نحيفٌ بصورةٍ غير معتادة، كأنما من الجوع»، وغير ذلك. وهذا المدخل «الرمزي» لجغرافية لندن من سماتِ تقنية ستيفنسون في روايةٍ يَنْدُر التعرُّف على أيِّ موقعٍ حقيقي فيها. ويقول سيفنسون في «نسخة المطبعة» للنصِّ إنَّ أترسون «انطلق باتجاه الشرق» من منزله إلى منزل جيكل (هيرش وفيدر، ١٩٨٦م، ص٢٠). ولكن فائدة هذا معدومةٌ إلا إذا عَرَفنا المكان الذي يعيش فيه جيكل. والواقع أنَّ منطقة جيكل موصوفةٌ بعنايةٍ أكبر كثيرًا، ولكن من الصعب أيضًا تحديد موقعها الجغرافي على وجه الدقَّة، فمن الواضح أنها ليست في حيِّ سوهو، وهو الحي الذي يقع فيه منزل هايد، بغرض ممارسة انحلاله الخُلقي فيه، ومن ثَمَّ فإن هذا يستبعد ميدان سوهو وميدان جولدن؛ إذ كان كل منهما قد أخنى عليه الدهر بحلول الثمانينيات من القرن التاسع عشر، فأصبح سُكَّانه من التجَّار والحرفيين والمهنيين المذكورين. والمنازل توصف بأنها عتيقة، ولكن هذه الصفة كان الناس يطلقونها في (أواخر) العصر الفكتوري على كل ما بُنِيَ قبل أوائل القرن الثامن عشر، وكانوا يعتبرون أنَّ «الحداثة» قد بدأت في نحو عام ١٧٥٠م. وأقول من جديد إنَّ أيَّ محاولةٍ لتحديد الموقع الجغرافي الدقيق؛ لا نَفْع منها، ومنزل جيكل مثال آخر من أمثلة المدخل الرمزي عند ستيفنسون (انظر مناقشة هذه الفقرة في المقدمة).
٧  «يوحي للناظر أنَّه مشوَّه من دون أن تكون لديه عاهةٌ معروفة»: الاستناد إلى ما «لا يوصف»؛ من الخصائص الأصيلة في القَصص القوطي والخيالي. وكان الكثير من هؤلاء القصَّاصين — من السيدة رادكليف إلى آرثر ماكين — قد استخدموا هذا الأسلوب الإيحائي بصورةٍ بارزةٍ. وستيفنسون يستخدم هذه الاستراتيجية البلاغية لزيادة الصفات الغامضة المخيفة و«اللاإنسانية» عند هايد.
٨  «أشبه بساكني الكهوف»: الأصل هو (troglodytic) الصفة التي تصف سكان الكهوف في عصور ما قبل التاريخ. ولكن الاسم منها، وهو (Troglodyte)، يطلق أيضًا على ما يسمَّى «القرَدة البشرية» (anthropoid apes)؛ مثل الغوريلا والشيمبانزي.
٩  «الكراهية دونما سبب محدَّد»: في الأصل إشارة ثقافية (the old story of Dr Fell)، وهي إشارة إلى ترجمةٍ لأحد إبِجرامات مارتيال تتضمن التعريض التالي بكاهنٍ يرأس كنيسة «كرايست تشيرش» في أكسفورد إبَّان القرن السابع عشر، وتقول الكلمات ما يلي: «يا دكتورْ فِلْ! إنَّي لستُ أحبُّك!/ أمَّا السبب فلا أَقدِر أن أعرِفَه/لكنِّي أعلم حقَّ العِلم وحَسْب/أنَّي لستُ أحبُّك! يا دكتورْ فِل!» والمعنى هو ما أورده النص العربي المترجَم.
١٠  «بخطًى بطيئة»: في الأصل مصطلح إيطالي هو (Pede claudo)، ومعناه الحرفي: «بقَدَمٍ فيها عَرَجٌ»، أو «ببطءٍ بسبب عَرَجه»؛ فأتى النصُّ العربي بالمعنى الذي يدركه قارئ الإنجليزية ما دام المقصود هو البطء وحَسْب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤