تأريخ الخط العربي

(١) تمهيدات

(١-١) موقع الخط ما قبل التاريخ

للموجودات التي تقع تحت الحس صور كثيرة ترجع في مجموعها إلى أربع: الصورة الأولى عيانية، والثانية ذهنية، والثالثة لسانية، والرابعة خطية. مثال ذلك أنك ترى القلم عيانًا، ثم تتخيل صورته في ذهنك، ثم تضع لفظًا يدل على الصورة الذهنية وهو كلمة «قلم»، ثم تضع إشارات خطية مخصوصة تدل بها على ذلك اللفظ، فإذا رأيت حروف «قلم» دلتك على اللفظ، وهذا اللفظ يدلك على الصورة الذهنية لهذه الأداة، وتلك الصورة الذهنية مثال لهذه الأداة المرئية.

والصورتان العيانية والذهنية لا يختلف فيهما بنو الإنسان مهما تعددت شعوبهم وقبائلهم، فالعربي مثلًا يرى الشيء كما يراه الأعجمي ويتخيله كما يتخيله من غير ما فرق. أما الصورة الثالثة وهي اللسانية فتختلف باختلاف الشعوب، فيضع العربي مثلًا لفظًا للشيء ويضع الأعجمي له لفظًا آخر، وهذا هو سر اختلاف اللغات، فالعربي يسمي هذا الشيء الذي يدفع به العطش «ماءً» والفارسي يسميه «آب» والتركي يسميه «صو». وهذا غير مطرد فقد تشترك عدة شعوب بوضع لفظ واحد، فالعربي يسمي أداة الكتابة «قلمًا» وكذلك يفعل التركي والفارسي.

وكذلك تختلف الصورة الرابعة وهي الخطية باختلاف اللغات، فالعربي يصور اللفظ بصورة تختلف عن الصورة التي يصورها بها الفرنجي، فإذا أراد العربي أن يدل على لفظ «كوب» صوَّره كما ترى، أما الفرنجي فيصوره هكذا CUB. وهذا غير مطرد أيضًا فقد تتفق شعوب كثيرة على استعمال حروف واحدة في تصوير لغاتها كما يفعل العرب والفرس اليوم، وكما يفعل الإنكليز من يصاقبهم من شعوب أوروبا. وقد يُكْتَب اللفظ العربي بالحرف اللاتيني كما يُكْتَب اللفظ الفرنجي بالحرف العربي، ومنه يُفْهم أنه لا يلزم من اختلاف الخطوط اختلاف اللغات، كما لا يلزم من اختلاف اللغات اختلاف الخطوط. ولا يخفى أننا نريد بالخط هذه النقوش والعلامات المسماة بالحروف الدالة على الألفاظ.

(١-٢) ما قبل التاريخ

أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن يعرف شيئًا يصور به الألفاظ التي كان يتفاهم بها، وقد كان يتوقف التفاهم بين الإنسان والإنسان على المواجهة والمشافهة أو توسيط من يقوم بذلك، فإذا أراد إنسان أن يتفاهم مع آخر في بلدة أخرى فإما أن يقصده بنفسه ليواجهه ويشافهه، وإما أن يرسل من يقوم بهذه المهمة نيابةً عنه … وقد اصطلح المؤرخون على تسمية ذلك الطور بطور ما قبل التأريخ.

(١-٣) الخط الصوري

ثم اهتدى الإنسان إلى طريقة يستغني بها عن المواجهة والمشافهة أحيانًا، وتتلخص بتصوير الشيء أو الحادثة تصويرًا ساذجًا، فإذا أراد مثلًا أن يخبر صديقه بأن قافلة وصلت المدينة يصور له المدينة تصويرًا بسيطًا وكذلك بعض الحيوانات والبشر الذين تتألف منهم القافلة، فإذا أراد أن يبين أن القافلة وصلت نهارًا يصور الشمس مطلة على القافلة، أو ليلًا يصور القمر مثلًا أو بعض الكواكب. وقد أطلق بعض المؤرخين على هذه الطريقة اسم الخط الصوري.

(١-٤) أمهات الخطوط

غبر الإنسان على هذه الطريقة حينًا من الدهر، ثم أخذت تتطور من حال إلى حال حتى كثرت المصطلحات وتشعبت المسالك، وأخذ كل جماعة من البشر يتواطئون فيما بينهم على علامات ونقوش يرمزون بها إلى مرادهم، ويمكن رد تلك المسالك إلى أربعة أصول:
  • (١)

    المسماري.

  • (٢)

    الحيثي.

  • (٣)

    الصيني.

  • (٤)

    المصري.

أما الأصل المسماري فقد جرى عليه البابليون والآشوريون ومن لف لفهم، وقد انقضى عهده منذ أمد بعيد بانقضاء عهد تلك الأمم.

وأما الأصل الحيثي فقد جرى عليه سكان الشام القدماء، وقد رأى بعض علماء المشرقيات أن الخط الحبشي والحميري وليد هذا الأصل، والجمهور على خلاف ذلك على ما سترى.

وأما الأصل الصيني فقد تفرع عنه الياباني والمغولي وما إليهما، ولا تزال آثاره ماثلة في الصين واليابان وما إليهما.

وأما الأصل المصري فأشهر فروعه الخط الفنيقي، ومن هذا تفرع معظم الخطوط المستعملة الآن في الشرق والغرب وفي جملتها الخط العربي، ولهذا رأينا أن نتوسع بعض الشيء في الكلام على هذا الأصل.

الخط المصري

كان للقدماء من وادي النيل خط ابتدعوه يستعملونه في شئونهم الخاصة والعامة، وكان يومئذ أقرب الخطوط العالمية إلى السهولة لقلة عدد صوره واختصار رموزه، وقد تشعب مع الزمن إلى ثلاثة أنواع:
  • (١)

    الهيروغليف.

  • (٢)

    هيراطيق.

  • (٣)

    ديموطيق.

وكان النوع الأول خاصًّا برجال الدين وخَدَمة المعابد ومحرمًا على غيرهم، فكانوا يكتبون به تعاليم ديانتهم ومأثور أدعيتهم وما إلى ذلك مما يتعلق بعباداتهم ومعابدهم وكبراء عُبَّادهم ورؤساء نحلتهم.

والثاني خاص برجال الدولة وعمالها.

والثالث خط الجمهور من أبناء الشعب، يتكاتبون به في شئونهم الخاصة والعامة في متاجرهم ومصانعهم ومزارعهم.

ومن الخط المصري تفرَّع الخط الفنيقي مع إصلاح كبير أدخله الفنيقيون عليه. وفي الحق أن للفنيقيين الفضل الأعظم في تسهيل هذه الصناعة على بني الإنسان، فإنهم مع احتذائهم المصريين في تقليل عدد الحروف والانتفاع ببعض أشكالها، ابتدعوا طريقة واضحة سهلة كان لها الأثر الحسن في تسهيل هذه الصناعة على معظم الشعوب المتمدنة في ذلك العهد، ولم يزل أثرها ماثلًا في الشرق والغرب.

(١-٥) الطريقة الفنيقية

قال بعض المؤرخين: «كان الفنيقيون أكثر الناس اشتغالًا بالتجارة ومخالطةً للمصريين فتعلموا حروف كتابتهم، ثم وضعوا لأنفسهم حروفًا خالية من التعقيد لاستعمالها في المراسلات التجارية، وقد أخذوا من حروف المصريين خمسة عشر حرفًا مع تعديل قليل … وأضافوا إليها باقي الحروف، فكوَّنوا كتابة سهلة اشتُهِرت بواسطتهم في آسية وأوروبا، ووضعوا للحروف أسماء تشبه مسمياتهم الأصلية لأشكال الحروف.» ا.ﻫ.

ومعنى هذا أنهم لحظوا مخرج كل حرف على حدته، ثم عمدوا إلى لفظة مبدوءة بذلك الحرف فصوروا معناها أو جزءًا من ذلك المعنى، واعتبروا هذه الصورة رمزًا لذلك الحرف، مثال ذلك أنهم بعد أن لحظوا مخرج العين من الحلق عمدوا إلى لفظة تبدأ بذلك المخرج وهي لفظة عين فصوروا معناها هكذا «٥»، واعتبروا هذه الصورة دالة على ذلك الحرف أينما حل، وكذلك فعلوا في سائر المخارج كما تراه واضحًا في الجدول الآتي (ص٥٦ من كتاب حفني ناصف.)

واختراعهم هذا يُعتبَر من أجدى الاختراعات التي يعود لها الفضل الأول في خدمة العقل الإنساني وإنهاض المعارف والعلوم، وهذا من غير شك مفخرة من مفاخر العرب الأولين وقبس من نورهم الذي أضاء السبل لبني البشر حينًا من الدهر ولا يزال يضيء.

فروع الخط الفنيقي

تفرع من هذا الخط معظم الخطوط العالمية المعروفة لهذا العهد، وأشهر تلك الفروع:
  • (١)

    اليوناني.

  • (٢)

    العبري.

  • (٣)

    الآرامي.

  • (٤)

    المسند.

ومن اليوناني ونريد به اليوناني القديم تفرعت جميع الخطوط الأوروبية المعروفة لهذا العهد، وكذلك تفرع منه الخط القبطي.

ومن العبري القديم تفرع الخط السامري.١
ومن الآرامي تفرعت الخطوط الهندية والخط الفهلوي٢ والعبري المربع والتدمري والسرياني والنبطي.
أما المسند فقد تفرع عنه الخط الحبشي والخطوط العربية المعروفة لهذا العهد على ما ذهب إليه مؤرخو العرب، قالوا: إن ثلاثة من قبيلة٣ طيئ كانوا يسكنون الأنبار ابتدعوا خطًّا أسموه بذلك، لأنهم اقتطعوه من المسند، والجزم هو القطع.
١  نسبة إلى سامرة نابلس.
٢  الفارسية القديمة، نسبةً إلى «فهلا» وهي البقعة التي فيها همذان وأصفهان وأذربيجان والري وماء لاوند.
٣  هم: مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤