هذه البالاد الشعرية الشعائرية الموسيقية العربية

باتساع ظاهرة حركات التحرر الوطني والقومي ذات الطابع الآسيوي الإسلامي، بريادة الثورة الفلسطينية العربية والأفغانستانية، وما سيتبعها في تركيا والباكستان وبنغلاديش، باتساع رقعة الثورة العربية المتلاحمة مع الإسلامية، يصبح مفيدًا إعادة الالتفات لتراثنا العربي والإسلامي، ومن منطلقات متكافئة مع الحتميات العلمية التقنية، والعقائدية الثورية الاشتراكية، وفي اتجاه عقلنة هذا التراث المتراكم، خاصَّةً حصيلة عالمنا العربي والإسلامي، من السير والملاحم والبالاد،١ ومنه «سارة وهاجر» التي ننشر نصها الشعري الفولكلوري٢ ضمن هذا الكتاب، من منطلقٍ قَوامُه الحفاظ على قيم وجماليات هذا التراث الفولكلوري، الذي يشاركنا فيه شعوب الكيانات الإسلامية، التي أصبحت تولي اهتمامها الأقصى لإعادة تناول وتجدد هذه البقايا أو الموروثات الإثنوجرافية الثقافية، بما يستلزم تحقيق المزيد من الاتجاه والتصويب، نحو بلورة ماهية عربية، قوامها اللاانفصال عن الأسرة الإسلامية، مع الأخذ في الاعتبار عدم الافتقاد فيها، مع تجاوز انسلاباتها المستفحلة مع مطلع عام ٨٠ بشكل لا يطاق.

فليكن مدخلنا للماهية العربية الثورية، هو أنْ تجيء علاقة عقلانية متسقة بالجماعة وانتفاضاتها، وحاجتها الملحة إلى وعي جديد عقلاني حذر، يجيء وينبع ويزدهر، عبر حقول التراث وحتمية التوارث والتواتر لهذا الإرث الثقافي الحضاري بالمعنى الإثنوجرافي، المتضمن بالضرورة للمنتجات الروحية والشعائرية، فلعل في إعادة الالتفات لحقول التراث الفولكلوري والأسطوري العربي الإسلامي ما يُفضي إلى مزيد من تفهم ظواهره، ولنقل وجوده الجديد، أو حده الثالث الذي يجيء اليوم ماثلًا عبر اكتمال ومخاض الثورتين الكبريين، الفلسطينية والمصرية الماثلة.

ففي إعادة الالتفات إلى هذا التراث من منطلقات عقلية، ودون عزلة عن المضمون الطبقي للثورة العربية المستقبلية الاشتراكية، أهمية في التبصير بالعمل الثوري ذاته عن طريق هذه السير والملاحم شديدة الانتشار بين شعوبنا.

وأذكر مقولة للناقد الأدبي «مارتن إيزلز» يذكر فيها أنَّ المسلسلات الدرامية التليفزيونية حين تخرج إلى أقصى درجات انتشارها الجماهيري، فإنها في هذه الحالة تصبح كبديل معاصر للملاحم والسير الشعبية، والبالاد الشعرية الموسيقية، التي كان ينشدها رواة ومداحو ومغنُّو العالم القديم.

وعلى هذا النحو كان الانتشار اللامتناهي للسير والملاحم الشعبية، عبر ساحات الأسواق والموالد، ومشارب الشاي وأسواق عكاظ القديمة، حيث كان يجري إنشادها وحكيها، والإبداع في إيصال مواقفها التراجيدية — بل يمكن القول الميلودرامية — الغارقة في بحار الدم والدموع والتجبر الطبقي البربري الوحشي.

وتكثر أمثال هذه السير والملاحم والبالاد، ذات السمات العربية القومية بأكثر من المحلية والإقليمية، مثل قصتنا الشعرية هذه «سارة وهاجر» في المجتمعات الأكثر أمية، كما أنَّ من خصائصها التواجد في المجتمعات المغرقة أو الموغلة في عبادة السلف، فعلى أرض هذه المجتمعات السلفية، تجد هذه السير والملاحم ازدهارها وتواترها، تلك التي تخالط فيها الأساطير والخرافات، كلا الزمان والمكان، أو التاريخ والكيانات، وكلا الشرطين سواء؛ الإغراق في الأمية إلى حد تقديس أعلامها، والتبتل بالسلف — الصالح — الأمي، أو آفة السلفية وتحجرها في طبع الماضي المندثر الغابر على الحاضر الأدنى الماثل، باستخدام كل وسائل وآلات التعسف السلطوي للتراث الخالد، إلى حد نطح جدران كل تعصب.

وقصتنا التي نقدمها — سارة وهاجر — من نوع البالاد، وهي تسمية أطلقت على هذا النوع من الأغاني الفولكلورية الملحمية، التي كانت في منشئها أغاني تؤدى بمصاحبة الموسيقى والرقص، مثل البالاتا الإيطالية.

فهي أغنية ملحمية بأكثر منها ملحمة، أقرب إلى الابتهالات البكائية والجنائزية، مثلها مثل أغاني الشهنامات الفارسية الإيرانية، وقصائد السيد Le cid الفرنسية، وبالادنبلونجز الألمانية Nibelungs الإسكندنافية، والبليانات السوفيتية، والأغاني القصصية التي سبقت اكتمال ملحمة «كاليفالا» الفنلندية، وكذا أغاني رولان، وبيوولف.
ثم بالاد سفند دايرنج Svend Dyring الدينماركية، التي تقارب قصتنا الملحمية «سارة وهاجر»، في أنَّ كلتيهما يشيع فيها الحس النسائي، الذي هو الملمح الأكثر أصالة للجسد الفولكلوري العالمي بأكمله، من حيث الاحتفاء بمأثورات مثلث العائلة الخالد، الزوج والزوجة والابن، وصراع الضرتين، وطقوس الزواج والميلاد، واضطهادات زوجة الأب التي تدفع بالأم في البالاد الدينماركية إلى الخروج من قبرها؛ لتنقذ طفلها القدري المضطهد من براثن زوجة أبيه.

ويرجع ظهور هذا الشكل الأدبي الفولكلوري في التراث العالمي بعامة، فيما بعد القرن الخامس عشر.

ولعبت حركات الإصلاح الديني في الغرب دورًا دافعًا في تنشيده، والاستفادة من رواته ومنشديه المحترفين، مثل النسوة الندابات منشدات البلينا السوفييتية، برغم أنَّ بعض الكنائس في العصور الوسطى حاولت تحريم إنشاده واضطهاد رواته ومنشديه.

ولقد أضفت المدرسة الأسطورية بريادة أندرولانج Andrewlang إرجاع هذه القصص الشعائرية الغنائية إلى عصور موغلة في القدم.
ولا شك في أنَّ بعض نماذج هذه القصص الشعرية الملحمية — البالاد — عمره من عمر الشعائر والممارسات الوثنية الطوطمية الموغلة في القدم، طالما أنه مرتبط بتقويمات ومناسبات دينية يراد لها الحفظ والانتشار، ولو من جانب المؤسسات الدينية التي عادة ما تتحرك في خدمة المسار السلطوي، ولو للعائلات٣ المنسية، أو التي تضفي صفات وهالات القدسية والتقديس على أنسابها، بما يحفظ لها استمرارها وتواصلها السلطوي الطبقي.

ومن هنا تجيء قصتنا هذه التي تؤرخ للأصول الأولى للعائلة السامية برمتها، للأب السلف إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل أبو العرب.

فالبالاد: قصة شعرية فولكلورية، تروي أحداثًا ملحمية يراد لها الحفظ والاتصال، عادة ما تكون على درجة عالية من الأهمية والخطورة، وعلى مستويات سياسية وشعائرية واجتماعية وتقويمية، تنتهي بكاملها عند هدف أخير، هو حفظ البنية الطبقية، دون أي اعتبار لما طرأ على مجتمع أو مجتمعات، هذه السير والبالاد الملحمية من تغيرات في علاقات إنتاجية، وكذا الشروط أو المتطلبات التي يعيش فيها الناس، وعن طريقها وعبرها يتحدد وعيهم.

حيث إنه عند مرحلة معينة من التطور تدخل قوى الإنتاج المادية في صراع مع علاقات الإنتاج القائمة.

فلم يحدث أن اختفى شكل المجتمع قبل أنْ تتطور كل قوى إنتاجه، ومن هذا فَثِقَلُ مثل هذه النصوص، خاصَّةً تلك التي يكون موضوعها الشعائر والمنتجات الروحية، كنصنا هذا — سارة وهاجر — لا يدخل في اعتباره مطلقًا أن تطور الأفكار والمعتقدات يجيء مسايرًا لتطور التاريخ، وما يتبعه من وسائل وعلاقات الإنتاج.

وعلى كلا المستويين الفكري العقائدي والواقعي الدنيوي المادي، ذلك أن مثل هذه الخرافات الغيبية، ما هي — في أحسن الافتراضات — سوى انسلاب للعالم الدنيوي أو الأرضي، المفتقر بالضرورة إلى الوعي بنفسه، وإلى أن «العالم٤ يجب تغييره لا مجرد تفسيره من جديد»، فالفكر الغيبي هو إسقاط وهمي للعالم الأرضي، اتساقًا مع ثقل هذه الموروثات الروحية المدعمة بسلطة العادة والتوارث، وكذا التفسيرات المغلوطة لكلا التراث والتاريخ.
وعلى هذا فهي في أحسن حالاتها، قصة «أنساب» أو عائلة، أو قبيلة مجللة أو محماة، بما أسماه آرثر تيلور بالانيزم، من روحانيات يضفيها الإنسان على كل شيء،٥ وبخاصَّة — طبعًا — الطبيعة الموحشة الغامضة من حوله، وحشة وادي فاران أو ما قبل مكة وواديها «غير ذي الزرع»، الذي نفت فيه الإلهة الأنثى القبلية الأم سارة، ضرتها هاجر وابنها إسماعيل.

مع الأخذ في الاعتبار أنَّ العصب أو الجسد الفولكلوري العربي بعامَّةٍ قبائليٌّ، وهو ما يتبدَّى جَلِيًّا في مثل هذه القصص الملحمية القبائلية الأسرية أو القَرابية، بدءًا من حكايات وفابيولات «أنا وابن عمي على الغريب» و«انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، ومرورًا ﺑ «من فات وترك قديمه تاه وانقطع»، وكيف أنَّ الغربة عن الحِمى — حِمى القبيلة — الذي اتفق على حدوده بسماع ونباح كلاب القبيلة — تقل الأصول وتزول، مع ملاحظة أنَّ الحِمى هو بذاته ما أصبح الوطن بمفهومه الحلقي المحلي والقومي، المتواتر إلى أيامنا.

بل إنَّ هذا الملمح القبلي لفولكلورنا وحكاياتنا ومأثوراتنا بعامة، بالإضافة إلى — أعماله الكبرى — الملاحم والسير بخاصة، فرض وجود بطن أو فخذ من داخل كل قبيلة، ورهط وكيان يحفظ لها أنسابها، التي غالبًا ما تنتهي عند شيت٦ ابن آدم، الذي عنده تنتهي أنساب جميع البشر.

وهو بالطبع ملمح لا يقتصر على فولكلورنا، بقدر ما هو منسحب على العالم القديم برمته، فأهل نيوزلندة القدماء لديهم — كما يذكر كراب — من تخصصوا في حفظ الأنساب القبائلية، ونفس الشيء بالنسبة للقبائل العبرية، وقبيلة الماجي المجوسية لدى القبائل الفارسية الإيرانية، ثم النسابة العرب، وأشهرهم ابن الكلبي، أو هشام الكلبي، وهو من فحول الميثولوجيين الكلاسيكيين العرب، صاحب كتاب «الأصنام» عن بانثيون مكة العربي الجاهلي قبل الإسلام، وعدد آلهته أو أصنامه من إناث وذكور، الذين وصلوا — كما يذكر — إلى ٣٦٠ صنمًا أو إلهًا.

وطبيعي أن يرتبط بالقبائلية والعشائرية تقديس مطلق للأرض والدم والثأر، ونظم التوريث وحفظ النسل وكذا البنية الطبقية، والزواج وتعدده — الطوطمي — من داخلي لخارجي وأبوي بطرقي لأموي، وما يتبع هذا من الأخذ بنظم تقويمية أو قمرية، كما يشير بهذا الفولكلوريون الإنتروبولجيون، وهو ما لا يزال ساريًا بالنسبة للتقومات٧ العربية الإسلامية القمرية أو الهجرية، وكذا العبرية.
كما يرتبط بهذه القبائلية وسماتها المحددة، الإغراق في تقديس الأسلاف، أو رفات أجساد ورمم الموتى الغابرين. السلفية أو الماضوية،٨ مجالها الأول الإتيان بكل معتقدات الأصول المتعالية، من الأسلاف الموتى من الآباء والجدود، إلى حد العبادة أو ما يُعرف بعبادة الأسلاف وتمثُّل وصاياهم ورموزهم. من ذلك: رأس آدم، تابوت العهد، ضريح إبراهيم، حِجر بِكره إسماعيل، وعصا شعيب وموسى، قميص يوسف وعثمان، والصليب، وشارة الهلال … وهكذا.

ولعلها آفة السلفية المصاحبة لحضاراتنا هذه القبلية العربية، والتي تطل برأسها مفرطة في هذه البالاد الشعائرية الشعرية، وتدفع بنا لاشعوريًّا اليوم — وأمس المندثر — إلى طبع الماضي على الحاضر، على طول الكيانات العربية، فهي بذاتها المياه الجوفية، والتي بمثابة الحارسة لمجمل أبنية المجتمع، والحافظة المهيمنة على بنية الإستراتيجية الطبقية.

وبالتالي فهي تستخدم أسلحتها هذه أشد الاستخدام من جانب الطبقات السلطوية، على طول الكيانات العربية وغير العربية التاريخية إلى أيامنا وواقعنا الماثل.

وتجدر ملاحظة مدى الحفاظ على هذا التراث الذي ينغلف جانبه الروحي الإنيزمي، متسترًا بهالات التقديس، وإنه هو بذاته ما تسرب إلى الثقافة الرسمية، وسخرت له أجهزة الإعلام٩ الإليكترونية التي من مهامها الأولى التخلص من براثنه، والإفلات من أسره وسحره الدفين، وجمالياته الخادعة المغيبة لكل حس تطوري بروليتاري؛ لاستهداف واقع أبعد من التموضع الواقعي، وما يستلزمه ويفرضه من منتجات روحية وهمية، تقف كمتاريس السجون والمنافي من حول الفرد وطاقاته وعمله.
لذا فالإنسان العربي سيظل سجين هذه القوى، المُسيَّجة١٠ بالتابو ومؤسساته داخل مجتمعه، ما لم تصبح قوى طلائعه العاملة بقادرة على إيقاف مهازل استغلالاتها السياسية، بإخراجها قسرًا وتشتتًا من جماعاتها وكياناتها بحجج المنع والتحريم، وأنَّ تواجدها يعني تهدم بناءاتها — المقدسة — هذه المتوارثة من السلف الصالح والطالح.

•••

على أنَّ هذا لا يعني التقليل من دور وقيم وأهمية إعادة الالتفات بشكل أكبر لتراثنا الملحمي الإنشادي الموسيقي هذا، المبدد على رقعة بلداننا العربية، وما يزال إلى أيامنا هذه يعاني كل اندثار نتيجة للإهمال والتجهيل الذي ما يزال يسود مزالقنا الثقافية.

فالاندثار المحقق لهذا التراث من موسيقي وملحمي وأسطوري وشعري عالي القيمة والأصالة، مرجعه بالطبع الاتساع المتوالي لأجهزة الراديو والترانزستور، وبقية أجهزة الإعلام الإليكتروني.

ويلاحظ أنَّ حَمَلَة هذا التراث المتوارث من مدَّاحين ومنشدين ومغنِّين أو صَيِّيتَة، كانوا في موقع أكثر نجوم مجتمعات ما قبل المعرفة بالراديو؛ أي منذ أقل من نصف القرن الأخير.

ولعلنا ما زلنا نذكر طلائع مداحينا ومُغَنِّينا المرموقين، بعيدًا عن استوديوهات وميكروفونات الإذاعة أو البث، يحوزون كل إعجاب وهم يُنشدون ويتغنون بسير وبالاد وملاحم الملك سيف بن ذي يزن وعنترة، اللتين تجري أحداثهما في جنوب اليمن، ويوسف وزليخة ما بين مصر وفلسطين، ملحمة «خيزران»، التي تجري أحداثها ما بين مدينتي دمشق وحلب؛ حيث إن بطلها تاجر حراير أو أرجوان حلبي، معتاد على التنقل ما بين المدينتين.

وهي واحدة من أشهر الملاحم الغنائية السورية التي عثرت عليها في ريف مصر، ولا أعرف بالدقة مدى انتشارها ومتنوعاتها، وما طرأ عليها في ريف سوريا.

كذلك تجري أحداث ملحمة «الملك فاضل»، أو «سعد اليتيم» في بادية الشام والأردن.

وقد عثرت عليها بإقليم الفيوم عام ١٩٦٥م، وهي واحدة من أهم وأعرق ملاحمنا، حيث إنَّ عمرها أكثر من ألف سنة، فهي تؤرخ للعصر الفاطمي، وتتبدى شخصية بطلها سعد اليتيم، مشابهة ومتطابقة مع شخصية هاملت في تراجيديا شكسبير الشهيرة، حيث إنَّ كلاهما — هاملت وسعد — يصارع عمه قاتل الأب ومغتصب عرشه.

فسعد أو البطل الشعبي لهذه الملحمة المتكاملة وشخصيتها المحورية، يصاحب مولده الخوارق التي تصنفه مع بقية الأطفال الموعودين أو القدريين مثل: إبراهيم، ويوسف، وكرونس، وإيل، وموسى، بل إنَّ أمه تضعه في صندوق وتلقي به في البحر بنفس ما حدث مع النبي موسى وأوزيريس، وتموز، والزير سالم. ويحيى «سعد»، ويكبر على اضطهاد عمه الملك الشرير بدران، مغتصب عرشه بعد أنْ سبق له أنْ اغتصب أباه الملك فاضل بالاغتيال، إلى أنْ يتحول في الجزء الأخير من الملحمة إلى منتقم إيجابي لأبيه من عمه الشرير بدران.

واللافت أنَّ الملحمة تحفظ لهذين الملكين الأخين، أنهما كانا بدورهما مدَّاحين وحَكَوَاتيَّة، تأكيدًا لتقليد الملك الكاهن المدَّاح في التراث العربي السامي، مثل «اللاويين العبريين»، والملك الكاهن المدَّاح عمرو بن لحي الجرهمي، والشاعر أمية بن أبي الصلت عند الجاهليين.

ولا بأس بالطبع من التوقف قليلًا عند ملحمة «سعد اليتيم»، هذه التي تدور حول محوري الملحمة، وهما: البطل الشعبي، وقصة الحب؛ وذلك من أجل التوقف عند الخصائص الغنائية، ذات الطابع الأوبرالي، أو الأداء الموسيقي والغنائي، بالإضافة للرقص الذي كانت تؤدى به هذه الملاحم والبالاد العربية قبل تدهورها واندثارها.

وتبدأ هذه الملحمة على النحو التالي:

كان الملك فاضل وبدران أخوه
يحكوا١١ كلام كل العرب يسمعوه
بكره نموت ومالنا ينهبوه
راجل بلا خلفه قليل ذكرته.

وذروة هذه الملحمة في تصوير لحظة اغتيال الملك الشرير بدران لأخيه الملك فاضل، بحربته ذات الأربعة وعشرين مسمارًا من الخلف، على النحو التالي:

الجوقة :
ضربوا بها واتمكنت في حشاه
نفذ الخشب قراطين من سرته
قاموا عرب فاضل ومن كان حداه
مسكوا أمير بدران وطلبوا أذاه
ولما صحى الملك وفاق من دماه.
الملك فاضل :
قال اتركوه إياك تطول مدته.
الجوقة :
لما صحى الملك وشافو أخوه
ووقتها العرب كانوا كتفوه.
الملك فاضل :
قال دا أخويا يا رجال سيبوه
دا وعد من الرحمن وآدي حكمته
دا وعد من الرحمن عليه انكتب
دي كل موتة لابن آدم سبب
كلام أقول لكم عليه يا عرب
تعا سندوني بس أنا أحدثه
تعا سندوني بس أنا أكلمه
أقوللو كلام إياك يسمعوا …
يا خويا حبل الود ما تقطعو
سعد ابن اخوك بعدي تطول يُتْمِتُو
سعد ابن اخوك بعدي يقاسي الهموم
يبات بطول الليل يعد النجوم
غَرورة يا دنيا تاريكي لم تدوم
أمِّنْتها خانت وادي حكمته
من آمن الدهر المشوم لم ربح
يصبح يجد النوح من بعد الفرح
إنْ جت على الغلبان ليلة وانشرح
يصبح يجد النوح في صبحيته
كدب الذي يضحك في هذا الزمان
يا ذلنا بعد الهنا زقنا الهوان.
وتستطرد الملحمة في وصف طقوس غسلة الملك فاضل، وتكفينه بالسندس الأخضر ودفنه في جامع متحف «قليل وَصْفته».١٢

وهنا تبدأ سلسلة اضطهادات العم المغتصِب بدران لسعد اليتيم نتيجة لمخاوفه، فيأمر الملك عبيده بانتزاع سعد من أمه الأميرة «فوز» وقتله في شعاب الجبال، لكن العبيد يرقُّون للأم الثاكلة، فينزعون الطفل منها ويلقون به في البحر أو اليم أو النيل، بحسب متنوعات الملحمة في البلدان والبيئات العربية.

وكالعادة يعثر عليه صياد ويربيه، وفي الكتمان تتعرفه ابنة عمه «بدران» الأميرة الجميلة «صبيحة» خطيبته منذ الصغر، وتُفتن به وبمحاسنه وخُلقه، وأصبحت لا تجلس إلَّا وركبتها على ركبته، وعادت صبيحة لتنتقل أحاسيسها الجياشة نحو ابن عمها سعد إلى أمها، وكيف أنه «يشبه لعمي الملك فاضل وآدي جلسته.»

ثم ما تلبث الابنة المحبة صبيحة أنْ تنقل أحاسيسها إلى أبيها الملك بدران، الذي تستبد به المخاوف من أنْ يكون هو بذاته سعد، وأنه لم يمت، وفعلًا تتحقق هواجس الملك، وتبدأ سلسلة جديدة من الاضطهادات لسعد، تنتهي بهربه وفراره من وجه عمه الشرير الحاقد بدران، من بادية الشام إلى أرض مصر، ثم كيف التقى بالمعز لدين الله الفاطمي، فساعده المعز في الانتقام من عمه بدران، وقتله واسترداد عرشه، والزواج من ابنة عمه صبيحة.

•••

وبالنسبة للجانب الإنشادي الموسيقي لهذه الملاحم والمدائح العربية، وأخصه «سارة وهاجر» يلاحظ أنه كان يؤدى قديمًا بأسلوب أقرب إلى الأداء الغنائي الأوبرالي، وهو القاسم المشترك لهذه النصوص الشعرية والشعائرية العربية مجهولة المؤلف، ذلك أنَّ من خصائص النص الشعري بعد تدوينه أنه أشبه بالليبرنو المتعارف عليه في الأوبرا الكلاسيك، وبدايات أوبرا القرن ١٧ وما يلي، فهناك مساحات شعرية وموسيقية للجوقة أو الكورس، ومساحات لكل شخصية مفردة على حدة من شخصيات الملحمة، ومعنى هذا أنَّ هذه الملاحم والقصص الدينية كانت تقدم وتروى على مستمعيها بطريقة أقرب إلى الأداء الأوبرالي، فللجوقة كمعلقةٍ على الأحداث وراوية لها، دورها ومكانها، كما أنَّ لشخصيات الملحمة أو أبطالها — سواء أكانت فردية أو دويتو أو جماعية — أدوارها المحددة شعرًا وإيقاعًا.

وهذه أول خَصِيصَة أو ملمح لهذه النصوص، ومنها نصنا «سارة وهاجر»، كما أنها — على ما يبدو — كانت تقدم قديمًا وقبل اندثارها — بعد انتشار الراديو والتليفزيون — بالأسلوب الصحيح المتوارث، وهو أنْ يكون لكل مغنٍّ ومنشد دوره الثابت والمحدد في النص المروي، لكن ونظرًا للتدهور الذي أصاب فنوننا وآدابنا الفولكلورية، وأخصها فنون مغني الملاحم والسير والمدائح، وهم المدَّاحون، تدهور بالتالي أداؤهم لهذه الملاحم أو الأوبرات الغنائية الموسيقية، فتبددت فرقهم، وأصبحت الفرقة أو الجوقة اليوم — على أحسن الفروض — تتكون من ثلاثة أو أربعة مُغَنِّين وعازفين، وبالتالي لم يعد المجال يسمح لاحتفاظ أبطال الملحمة وشخوصها بأدوارهم المفردة، بالإضافة إلى الجوقة، بل إنَّ التدهور أصاب أيضًا الأداء الموسيقي، فأصبح رتيبًا لا يستقيم في معظم أحواله مع متطلبات النص الشعري وخصائصه الدرامية والتراجيدية.

ولعلها تكون بدايات لأوبرات قومية عربية، لو أننا تمكنا من إعادة جمع هذا التراث الملحمي الموسيقي وتسجيله بحسب الوسائل التقنية، إلى أنْ يحين وتجيء مراحل تطويره واستلهامه، وإعادة صياغته وتوزيعه موسيقيًّا، وهو الحلم الدائم لعديد من موسيقيينا ومُغَنِّينا الأوبراليين.

فلعل الملمح الجوهري للتراث السامي بعامَّة والعربي بخاصَّة، هو التميز بازدهار السير والملاحم والشعر المدائحي والمعلقات، منذ أقدم ملاحم العالم القديم، وهي ملحمة جلجاميش التي تعارف عليها العرب الجاهليون باسم «قلقاميش»، والتي تسبق نظائرها الهلينية — الإلياذة والأوديسة — بحوالي ألفي سنة، كذلك سبقت هذه الملحمة العربية الملحمة الآرية الهندية «الماهابهاراتا»، التي يقال بأنه اشترك في كتابتها مائة شاعر، وتعتبر أطول ملحمة في التاريخ، فيصل طولها إلى ١٠٨ آلاف بيت شعر من أبيات الشعر الثُّمانية المقاطع.

وكما هو معروف فإن للملاحم وظائفها منذ عصور ما قبل المعروفة بالكتابة على المستوى الجماعي أو العشبي؛ لذا فهي وعاء حافظ — سواء للأبنية الأسطورية والطقوسية أو الشعائرية — كما هو الحال مع معظم الملاحم، ومنها الإلياذة والأوديسة، كما قد تؤرخ لحروب وهجرات جماعية، كما يتبدى في الماهابهاراتا وملحمتنا أو سيرتنا الملك سيف بن ذي يزن، والزير سالم، والهلالية، وعنترة، وغيرها.

كذلك قد يكون من أغراض الملحمة الاحتفاء بالأعياد الدينية والتقويمات — كما هو الحادث مع «سارة وهاجر» — التي تؤرخ لبناء الكعبة واستبدال الضحية البشرية بالضحية الحيوانية، أو خروف العيد الكبير، أو عيد اللحم، أو الضحية.

ولقد حاولت جاهدًا الحفاظ على أدق خصائص هذا النص الشعري — سارة وهاجر — بتسجيله صوتيًّا بأداء وغناء مدَّاحيه المحترفين، بإحدى قرى محافظة الفيوم،١٣ جنوب القاهرة.

وأنشره هنا — دون تدخل يُذكر — بما يحفظ له فونيماته وخصائصه الفولكلورية.

١  القصص الشعري الإنشادي.
٢  النص الشفهي الإنشادي، الذي جمعته وحققته من أفواه المدَّاحين حوالي عام ١٩٥٢م.
٣  ولنقل ذوي الحسب والنسب.
٤  كما يذكر فيورباخ.
٥  بدءًا بعلاقاته القرابية، وانتسابه العائلي العشائري القبائلي، ومرورًا بأساطير خلقه ووطنه، ميعاده، وانتهاءً بالكون المحيط.
٦  أو النبي إدريس، الذي ينسب له — كتحوت في مصر — أنه اخترع الكتابة، وهو يصنف مع الإله «عتل» الحزين المضطهد «عتل المهم»، أحد أبناء أبل أوكرونس في الميثولوجي الكنعاني الفينيقي، وينسب له أنه أول من اخترع الملاحة، كما أنَّ إدريس يصنف مع هرمس وأخنوخ «أساطير وفولكلور العالم العربي»، ص٦١، شوقي عبد الحكيم، كتاب روز اليوسف، ١٩٧٤م.
٧  من تقويمات قمرية، السنة العربية، والارتباط الموسمي والشعائري بالأطوار القمرية، وأخصها بالطبع الهلال، الذي أصبح شعارًا عامًّا موحدًا للعالم الإسلامي، إلى أيامنا يرصد بالعين المجردة، على طول العواصم العربية والإسلامية.
٨  كما أسماها د. الطيب تيزيني «من التراث إلى الثورة»، ابن خلدون، بيروت.
٩  من راديو وتليفزيون ومطبوعات.
١٠  كل ما يتصل بانقسام العالم إلى مباح وممنوع، أو محلل ومحرم، وعلى طول الحياة اليومية، بل والوجود بكامله.
١١  أي إنَّ هذين الملكين، كانا يحكيان وينشدان كلامًا، شأن المدَّاحين والحكواتية.
١٢  أي: دفن جثمان الملك فاضل في جامع متحف لا يوصف، افترض أنه بالجولان العربية بسوريا، حيث كانت تقيم قبائل «الفضل والنعم» المتعاصرة مع الحضارة الأدومية — ما قبل الألف الثاني ق.م — وأتطلع إلى نشر هذا النص «سعد اليتيم» قريبًا. شوقي عبد الحكيم.
١٣  حيث الحقل الميداني الذي عملت به في جمع التراث الفولكلوري بعامة، منذ ما يربو على ربع القرن الأخير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤