الفصل الخامس

المَخبأ

(أولكيلوتو، فنلندا)

نمرُّ في طريقنا بأشجار البتولا، ثم البتولا، ثم الصنوبر، ثم البتولا، ثم بأرض مقطوعة الأشجار، ثم بِبَيتٍ ريفي أزرق، ووادي نهر منخفض، وجسر خشبي، كلُّ شيء متجمِّد: الأنهارُ، والأشجار، والبساتين، والحقول، كما يُوجَد جرفٌ وردي من الجرانيت، وشلال جليدي أصفر مُتجمِّد ينصبُّ منه، وجلاميد كبيرة كالمنازل بين أشجار البتولا، وبين أشجار الصنوبر، وفي الأعلى غرابٌ أسود ينتزِع اللحم الأحمر من بين الضلوع البيضاء لثعلبٍ ميت. أيها الغراب الزرعي …

«هذا ليس مَكانَك.»

تُشغِّل محطةُ القراصنة الإذاعية أغنية «أتوميك» لفريق بلوندي.

ترسم الرياحُ ما يبدو وكأنه سباقُ ثعابين على الأسفلت. بينما تندفع الثلوجُ داخل مصابيح رءوسنا، فتجعلنا نرى الهواء باللون الرمادي القاتم. ويركب صبيٌّ درَّاجة بِمِقوَدٍ مُرتفع نسبيًّا، تُركَب بوضعية جلوس مُستقيمة، وظهره مستقيم، ويمرُّ سريعًا على صندوق بريد أزرق عصا بيضاء. ثُم ينكشفُ النيس، بلونه الرمادي الفضي، ثم الميكا والجليد.

«هذا ليس مكانًا للإجلال والتكريم.»

نرى فوق الجسر بالقُرب من ناحية الجزيرة. هناك مُستنقعُ الملح يمتدُّ على جانبي الجسر. والبحر مُغطًّى بألواحٍ جليدية مُهشَّمة. تحتدِم الرياحُ بين القصب القاسي، وتتحرَّك طيورُ الزرزور ببُقع سوداء بين القصب. ويبدو البحرُ مُتجمِّدًا لمسافة نصف ميلٍ بعيدًا عن الشاطئ. على مسافةٍ بعيدة في الخليج، وبعيدًا عن الأنظار، ترتفع أمواج بمقدار ثلاثين قدمًا وتتحرَّك غربًا عبر الضوءِ الخافت.

«لا يُقدَّر هنا أيُّ عملٍ رفيع المستوى.»

تتساقط الثلوجُ بوتيرةٍ ثابتة عندما تخمُد الرياح، بينما تتساقط بسرعةٍ خاطفة عند هبوبها. هناك سياجٌ مُكوَّن من سلاسل مُتشابكة مزدوجة الطبقات. تظهر ثلاثة هياكل ضخمة خلال العاصفة الثلجية، عبر الخليج، باتِّجاه طرف الجزيرة. كما تظهر خطوطٌ مُحدَّدة رمادية لهيكل ثم تتلاشى: قبة، وبرج، وجدران مُبلطة. وقد ذابَ البحرُ تمامًا من حولها، على الرغم من أنه من المفترض ألا يحدث ذلك. تمرُّ شاحنتان على إطاراتهما الجليدية.

«لا شيءَ ذو قيمة هنا. ما هنا خطيرٌ ومُنفِّر بالنسبة إلينا.»

تُشغِّل محطة القراصنة الإذاعية أغنية «ديسكو إنفيرنو» لفريق ذا ترامبس.

تتساقط الثلوج بشدة في المصابيح الأمامية للسيارات. جئتُ لرؤية موقع دفنٍ لِدَفنِ شيءٍ يخصُّني. سيكون الظلام قد حلَّ عندما أصلُ إلى نهاية العالَم، وسيكون الوقت ليلًا عندما أعودُ إلى السطح.

انتبه. إننا جادُّون. كان إرسال هذه الرسالة مُهِمًّا لنا. وكانت ثقافتنا تُعتبَر ثقافةً مهمة.

سنُخبرك بما يكمُن تحت الأرض، ولماذا يتعيَّن عليك ألا تُزعج هذا المكان، وبما قد يحدث إنْ فعلت ذلك.

•••

في أعماق صخر الأساس لجزيرة أولكيليوتو في جنوب غرب فنلندا، هناك مقبرة قيد الإنشاء. والهدف من المقبرة ليس فقط الحفاظ على الأشخاص الذين صمَّموها، ولكن أيضًا على النوع الذي صمَّمها. إنها تهدف إلى الحفاظ على سلامته دون الحاجة إلى صيانة مستقبلية لمدة ١٠٠٠٠٠ سنة؛ أي إنها قادرة على تحمُّل العصر الجليدي في المستقبل. فمنذ مائة ألف سنة، تدفقت ثلاثة أنظمة نهرية رئيسية عبر الصحراء الكبرى. ومنذ مائة ألف سنة، بدأ الإنسان، الحديث تشريحيًّا، رحلته خارج القارة الأفريقية. كما يعود تاريخُ أقدم هرمٍ إلى حوالي ٤٦٠٠ سنة، ويعود تاريخ أقدمِ مبنًى لكنيسةٍ ما زالت قائمة إلى أقل من ٢٠٠٠ سنة.

تحتوي هذه المقبرة الفنلندية على بعضٍ من أكثر مراسم الاحتواء أمانًا التي ابتُكرت في أي وقتٍ من الأوقات؛ فهي أكثر أمانًا من سراديب الفراعنة، وأكثر أمانًا من أي سجن يخضع لمُراقبة مُشددة. ومن المأمول أنَّ ما يُوضَع داخل هذه المقبرة لن يغادرها أبدًا بأي وسيلة بخلاف العوامل الجيولوجية.

المقبرة عبارة عن تجربة في مجال الهندسة المعمارية لما بعد البشَر، واسمُها هو أونكالو، والذي يعني بالفنلندية «الكهف» أو «المَخبأ». وما ينبغي إخفاؤه في أونكالو هو المخلَّفات النووية العالية الخطورة، التي ربما تكون أخبث مادةٍ صنعناها على الإطلاق.

لوقتٍ طويل عندما كنَّا ننتج النفايات النووية، كنا نفشل في اتخاذ قرار بشأن التخلص منها. تكوَّن اليورانيوم في انفجاراتٍ مُستعرة عُظمى منذ حوالي ٦٫٦ مليارات سنة، وهو جزءٌ من الغبار الفضائي الذي تشكَّل منه الكوكب. ويُوجد بوفرة في قشرة الأرض كالقصدير أو التنجستن، وهو يتشتت داخل الصخور التي نعيش عليها. تعلَّمنا كيفية تحويل اليورانيوم إلى طاقة وإلى قوة باطشة، ولكن لم يتأتَّ ذلك إلا ببطءٍ وبأعجوبة، بعد تكبُّد مبالغ باهظة والتعرُّض للإصابات. أصبحنا نعرف الآن كيف نولِّد الكهرباء من اليورانيوم، وكيف أيضًا نولِّد منه الموت، لكننا ما زلنا لا نعرف أفضلَ السُّبل للتخلص منه عندما ينتهي عمله لصالحنا. يُعتقَد أنه يُوجَد حاليًّا أكثرُ من رُبع مليون طن من النفايات النووية العالية الخطورة بانتظار التخزين النهائي على مستوى العالم، مع زيادة حوالي ١٢٠٠٠ طن لهذا الرقم سنويًّا.

يُستخرَج اليورانيوم كمادةٍ خام في كندا، وروسيا، وأستراليا، وكازاخستان، وربما قريبًا في جنوب جرينلاند. يُسحَق الخام ويُطحن، ثم يُرشَّح اليورانيوم باستخدام أحد الأحماض، ويُحوَّل إلى غاز، ويُخصَّب، ويُدمَج، ويُعالَج في شكل كريات. تُطلِق عادةً الكرية الواحدة من اليورانيوم المُخصَّب، التي يبلغ قُطرها سنتيمترًا واحدًا، وطولها سنتيمتر واحد، كميةً الطاقة نفسها التي يُطلقها طنٌّ من الفحم. وتكون هذه الكريات مُحكمَة الإغلاق داخل قضبان وقود لامعة، تُصنَع عادةً من سبائك الزركونيوم، التي تُجمَّع معًا بالآلاف ثم تُوضَع في قلب المفاعل، حيث يبدأ الانشطار. يُولِّد الانشطار حرارةً تُستخدَم في رفع البخار، الذي يُضَخ في توربيناتٍ، فيُحرِّك ريشاتها ويُنتِج الكهرباء.

بمجرد أن تتباطأ عملية الانشطار عن أفقٍ مُعيَّن من الكفاءة، يتعيَّن استبدال القضبان. لكنها لا تزال شديدة الحرارة ومُشِعة بدرجة قاتلة. ذلك حيث يستمر أكسيدُ اليورانيوم غير المستقر في إصدار جسيمات ألفا وبيتا وموجات جاما. وإذا وقفتَ بجانب حزمة غير مَحمية من قضبان الوقود الخارجة لتوِّها من قلب المفاعل، فإنَّ النشاط الإشعاعي من شأنه أن يستحوذ على جسدك، مُحطمًا خلاياه ومُشوِّهًا حمضَه النووي. ومن المُرجَّح أن تموت في غضون ساعاتٍ جرَّاء القيء والنزيف.

ومن ثمَّ، تُسحَب القضبان المُستهلكة من المفاعل آليًّا، ويُحتفَظ بها دائمًا تحت الماء أو تحت سائل واقٍ آخر أثناء نقلها، ثم تُخزَّن على نحوٍ نموذجي في بِرَك وقود مُستنفَد عميقة لعدة سنوات، قبل إرسالها لإعادة المُعالَجة أو التخزين في براميل خشبية جافة. وفي أعماق بِركة الوقود، يمتصُّ الماءُ ببطءٍ الجسيمات من القضبان. ونظرًا لأن هذه العملية تعمل على تسخين المياه، فلا بدَّ من تدوير المياه وتبريدها باستمرار للحيلولة دون بلوغها درجة الغليان، مع ترك القضبان دون حماية، في وضعٍ يُنذِر بوقوع كارثة.

ومع ذلك، فبعد عقودٍ من استخدام هذه البِرك، لا تزال القضبان ساخنة وسامَّة ومُشعة. والطريقة الوحيدة كي تُصبح غير ضارة بالبيئة الحيوية المُحيطة هي الاضمحلال الطبيعي الطويل الأجل. وفي حالة النفايات العالية الخطورة، قد يستغرق هذا الأمر عشراتِ الآلاف من السنوات، والتي يجِب الحفاظ خلالها على الوقود المُستهلك آمنًا: بمعزلٍ عن الهواء، وعن الشمس، والماء، والحياة.

إنَّ أفضل حَلٍّ ابتكرناه لتأمين مثل هذه النفايات هو الدفن. وتُعرَف مواقع الدفن التي شيَّدناها لاستقبال هذه البقايا بالمُستودعات الجيولوجية، وهي كلوواكا ماكسيما — المجاري العظيمة — لنوعنا البشري. تُنقَل الموادُّ المشعة الخفيفة، التي هي المنتجات الثانوية للطاقة النووية والأسلحة، إلى مستودعاتٍ منخفضة ومتوسطة الخطورة: العناصر التي ستظل ضارة لعشرات السنوات فقط، من ملابس، وأدوات، وبطانات تصفية، وسحَّابات، وأزرار. تُوضع كلها في براميل ويتم إنزالها في حُفَر صومعات غاطسة أسفل الأرض في مواقع تخزين تنتشر حول العالم. وتُعبَّأ كلُّ طبقة جديدة في خرسانة، جاهزة للإحلال. من المقرر أن تستقبل محطة عزل النفايات التجريبية — المستودع المتوسط الخطورة المَحفور في أعماق الملح في نيو مكسيكو — ٨٠٠٠٠٠ برميل من الصلب اللين سعة خمسة وخمسين جالونًا من نفايات ما وراء اليورانيوم من أصل عسكري، والتي تحمِل ضمن موادَّ أخرى نشارةً مُشِعة من تصنيع رءوس القذائف النووية في الولايات المتحدة. وبمرور الوقت، سوف تُشكِّل غرف براميل محطة عزل النفايات التجريبية طبقاتٍ مُحكَمة، تكون بمثابةِ إضافاتٍ عالية التنظيم إلى السجل الصخري، ما يُمثِّل أنواعًا أخرى من أحافير الأنثروبوسين المستقبلية.

على الرغم من ذلك، فإن أخطر النفايات — السامَّة، والمشعة، وقضبان الوقود المشع المُستهلك من المفاعلات — يتطلَّب دفنًا أكثر أمانًا: مراسم دفن خاصة ومقبرة خاصة. وحتى الآن، حاولنا فقط بناء عدد قليل من مستودعات النفايات العالية الخطورة. حفرت بلجيكا موقع اختبار للبحث عن احتمالات المستودعات العميقة المستقبلية، وأطلقت على المنشأة اسم هيديز. وبدأت أمريكا تجربتها في بناء مُستودع عالي الخطورة عند بركانٍ هائل خامد يُسمَّى جبل يوكا في صحراء نيفادا، إلا أنها علَّقت أعمال البناء بعد عقودٍ من الخلاف والاحتجاج، وتُوجَد الكهوف التي حُفرت في الأجنمبرايت حاليًّا كقاعات فارغة. وكان من بين أسباب تعليق المشروع قربُ جبل يوكا من منطقة زلازل بعَرض ٩٠٠ قدم، صَدع صندانس، الذي يتخلَّله هو نفسه صدعٌ أعمق يُسمَّى رقصة الشبح. إذا كان جبل يوكا سيُملأ قدْر سَعته، فمن المُقرر أنه سيحمل — كما كتب جون داجاتا — «المكافئ الإشعاعي لمِليوني انفجارٍ نووي منفرد؛ أي حوالي سبعة تريليونات جرعةٍ من الإشعاع المميت.» الأمر الذي يكفي لقتل كل البشر على كوكب الأرض ٣٥٠ مرة.

إنَّ أونكالو؛ أي المخبأ، هو مرفق التخزين الأكثر تقدُّمًا في هذه الفئة، ويقع على بُعد ١٥٠٠ قدم أسفل ١٫٩ مليار سنة من الصخر القديم على ساحل بوثينيان في فنلندا. عند امتلاء غرف دفن أونكالو بالنفايات من المحطات النووية الثلاث في أولكيليوتو، ستحتوي على ٦٥٠٠ طن من اليورانيوم المستهلَك.

•••

هذه هي الطريقة التي ينتهي بها العالَم، ليس على إثر انفجارٍ مُدمِّرٍ ولكن بمركز للزائرين.

يقول باسي توهيما: «مرحبًا بكم في جزيرة أولكيليوتو. لقد نجحتم في الوصول إلى هنا!»

لقد جئتُ إلى أونكالو في الشتاء بعد صيف الذوبان العظيم في جرينلاند، وبعد خريف الطاحونة الجليدية.

تبدو منطقة الاستقبال نظيفةً ومجهَّزة جيدًا. هناك خزاناتُ ملابس مستقلة، مطبوعٌ عليها من الخارج صورٌ فوتوغرافية عالية الجودة لمناظر من الغابات. لا تُوجَد موسيقى في الحمام ولكن تُوجَد خلفية من أصوات العصافير. ذلك حيث يقضي الناسُ حاجتَهم هنا على صيحات طيور كاسر الجوز، أو ربما طيور مُتسلِّق الشجر.

يصطحبُني باسي إلى الخارج. هناك مَمشًى شاطئي مُتدرج يؤدي إلى أسفل من الجزء الخلفي من منطقة الاستقبال إلى المُستنقعات البحرية. يبدو القصب هشًّا في مهبِّ الرياح. والبحر مُتجمِّد، وألواحُ الجليد الصفراء مُكدَّسة بين عشب الديس المائي. هناك عبر الخليج، تظهر الخطوط العريضة لثلاث محطات للطاقة النووية، وتتحرَّك داخل مجال رؤيتنا وخارجه كما لو كانت عاصفة ثلجية. تبدو المحطة الثالثة منها والأبعد على شكل مَسجد: قبة من الطين النضيج يرتفع منها برجُ مئذنة.

يقول باسي: «لا تزال المحطة الثالثة قيد الإنشاء.» ويستطرد قائلًا: «ولكن لن يطول الأمر.»

تهبُّ الرياح الشديدة البرودة. ونتراجع للنظر في المشهد من وراء الزجاج، تُوجَد على واجهات العرض العريضة مُلصقاتٌ رمادية بصور الطيور الجارحة لمنع ضربات الطيور من جنس الصقور والباز عمومًا. بينما تَعرِض الإطاراتُ الخشبية المضغوطة للواجهات مشهدَ الخليج على نحوٍ جميل. عندما تحجب العاصفةُ الثلجية محطات الطاقة، قد نرى لوحةً من أوائل القرن العشرين لجالن كاليلا.

يُرشِدني باسي في أرجاء المعرض الدائم، حيث يشرح كيف تعمل سلسلة إمداد الطاقة النووية من المنجم إلى المستهلك، ويُبرهن على أن الإشعاع لا يشكِّل خطرًا إلا في حال التعامُل معه على نحوٍ غيرِ صحيح.

يقول باسي: «يعتقد الناسُ أن النفايات النووية ضارة للأبد. لكنها ليست كذلك! فبعد ٥٠٠ عام، يمكنك أن تأخذ اليورانيوم المستهلك إلى منزلك.»

يفتح ذراعيه نحوي. «ربما يمكنك احتضانه!»

يتوقف لبرهة مُتأمِّلًا.

«لن ترغب في الاحتفاظ به تحت سريرك، ولكن لن تكون هناك مشكلة في وضعه في غرفة معيشتك.»

يتوقَّف مرة أخرى.

ثم يقول: «لن ترغب في تقبيله، لكن لا بأسَ من مُعانقته.»

يبدو وكأنه أبٌ يضع القواعد لمن يُريد خطبة ابنته.

ويقول مُشيرًا إلى أسطوانة نحاسية طولها ثمانية أقدام، وقُطرها قدمٌ ونصف القدم: «هكذا نُغلِّف قضبان الوقود لفترة تخزينٍ طويلة.» ثم يطرق عليها بمفاصل أصابعه. فتدوي.

«إنه ليس مُزيفًا، هذا غلافٌ حقيقي. هل تعرف مقدار النحاس في كل كيلوجرام؟ إنَّه أفضل حاوية: خاملة للغاية.»

تُوجَد داخل العلبة النحاسية علبة من حديد الزَّهر قُسِّمت عمدًا بحيث تُشبه لوح لعبة إكس أوه، مع فجواتٍ للمربعات. في هذه الفجوات، سوف تنزلق قضبانُ وقود من سبائك الزركونيوم تحتوي على كريات اليورانيوم المستهلَك. وسوف تزن كل علبةٍ حوالي خمسةٍ وعشرين طنًّا عندما تكتمل، وسوف تتداخل كلُّ علبة في قاع من طين البنتونيت المُمتَصِّ للماء، داخل أنبوب محفور من النيس، على عُمق ١٥٠٠ قدم في النيس وصخر الأساس الجرانيتي.

تمتَمْتُ لنفسي بترتيب التداخُل، من الداخل إلى الخارج: اليورانيوم، الزركونيوم، الحديد، النحاس، البنتونيت، النيس، الجرانيت … أتذكَّر بداية رحلاتي في الأرض السفلية، وإلى بداية الزمن، بالأسفل في مُختبر المادة المظلمة في منجم بولبي. في بولبي، غلَّفوا الزينون بالرصاص ثم بالنحاس ثم بالحديد ثم بالهاليت في مئات الياردات من الصخر من أجل الوصول إلى نشأة الكون. بينما في أونكالو غلَّفوا اليورانيوم بالزركونيوم، ثم بالحديد، ثم بالنحاس، ثم بالبنتونيت، في مئات الياردات من الصخر من أجل الحفاظ على المستقبل في مأمنٍ من الحاضر.

أحدُ المعروضات في منطقة العرض به مُجسَّمٌ بالحجم الطبيعي لألبرت أينشتاين جالسًا خلف مكتب، مُمسكًا بقلمٍ في يده، وواضعًا ورقةً على مكتبه.

يقول باسي، وهو يقودني إلى أينشتاين: «انظر مَنْ هنا!»

لا يبدو أينشتاين في حالةٍ جيدة. فوجهه المطاطي، الذي بالكاد يُشبهه في أفضل الأحوال، قد انفصل عن عنقه. وهناك فجوةٌ في حَلْقِه، يُمكنني من خلالها رؤية الدعامات والمفصَّلات المعدنية.

يستحثني باسي، مُشيرًا إلى الزِّر الأحمر بجانبنا من المكتب المصمَّم لتسهيل تفاعُل الجمهور مع المعروضات: «اضغط على الزر.»

أضغطُ عليه.

يترنَّح الجزءُ العلوي من جسم أينشتاين نحونا ويتوقف بفزع يزيح النصف الأيمن لشاربه الرمادي، الذي يتدلَّى إلى الأمام ببطءٍ فوق شفته العُليا. ويبدأ صوت مُسجَّل لا أعتقد أنه صوتُ أينشتاين في التحدُّث إلينا باللغة الفنلندية.

يُقطِّبُ باسي جبينَه، ثم يميل عبر المكتب ويضغط بإبهامه بلُطفٍ على شارب أينشتاين ليعود إلى مكانه.

•••

في اليوم السابق، ذهبتُ إلى جزيرة أولكيليوتو ونزلتُ إلى المخبأ؛ وانتظرتُ في بلدة راوما القريبة الصغيرة، بينما كنت أقرأ الملحمة الفنلندية الشعبية العظيمة «الكاليفالا».

الكاليفالا هي قصيدة طويلة تضمُّ العديد من الأصوات والقصص، التي — مثل الإلياذة والأوديسة — تنشأ من التقاليد المتنوعة والمتأصِّلة، بدءًا من غناء البلطيق وحتى سرد القصص الروسية. وقد وُجِدَت في الأساس كنصٍّ شفهي مُتغيِّر لأكثر من ألف عام، حتى جُمِّعت في القرن التاسع عشر، وحُرِّرت، ثم نُشرت على يد الباحث الفنلندي إلياس لونروت، ما أعطانا النسخة النهائية التي لدَينا الآن. تتكوَّن كاليفالا لونروت من العديد من الروايات المُتشابكة التي تجمع بين الأسطورية والغنائية والدنيوية واللوجستية، في تمثيلٍ لتفاعُل سكان الشَّمَال مع المشاهد الطبيعية القاسية والجميلة في الغابات والجزر والبحيرات. ونظرًا لتداخُل عصورها ذات الأصول المختلفة، يقارن العالِم الفنلندي ماتي كوسي تاريخ تأليف القصيدة نفسها مع «الطبقات العديدة لتَلَّة الدفن التي دُفِن فيها العديدُ من الأجيال … وقِطَعُهم الأثرية».

الكاليفالا هي مَلحمةٌ كثيرًا ما تتبادَر إلى الأذهان، حيث شغلتني لبضع سنواتٍ بهوَسها الخاص بقدرة الكلمة والتعويذة والقصة على تغيير العالَم الذي تُذكَر فيه. أبطالُها هم سَادة لغة وصُنَّاع العجائب، وأفضُلهم يُدعَى فينامونين، الذي يُترجَم اسمه ترجمةً لا تُنسَى على أنه «بطل النهر البطيء الحركة».

في الغرفة التي قرأتُ فيها الكاليفالا في ذلك اليوم، كانت هناك صورةٌ لبلدة راوما بحجم الجدار، التُقِطَت في يومٍ من أيام السوق في وقتٍ ما في أواخر القرن التاسع عشر. أصابَ الصورةَ انفجارٌ ما، ومن ثمَّ أصبحت مُجزَّعة. يرتدي جميع الرجال ملابسَ يوم السوق، من بدلات، وأحذية، وقُبعات سوداء. ويظهرون هناك بوضوح. ويرتدي جميع النساء الفساتين والقُبعات الناصعة البياض. ومع ذلك، فقد امتصَّ التعرُّض الطويل لكاميرا الصفائح الكثيرَ من بياض النساء؛ فظهرنَ كالأشباح المُحترقة. عددتُ آثارَ سبعٍ وثمانين امرأةً من هؤلاء اللاتي تعرَّضن كثيرًا للضوء. إنهن يَمِلن برءوسهن خارج عربات تجرُّها الخيول. ويُمسِكن أغطية الرأس حول أعناقهن بيدٍ واحدة، بينما يحمِلْن أغراضَ التسوُّق باليد الأخرى. تصل فساتينهن في طولها إلى الكاحل، وقُبعاتهن عبارة عن زوارق طويلة من القش ذات شريط مزدوج. كنَّ يتحركن هنا وهناك بسرعةٍ كبيرة، وتظهر أشكالهن ضبابيةً إلى حدِّ التلاشي؛ فقد فُقِدت في الانفجار.

قرأتُ ملحمة الكاليفالا لمدة ساعتَيْن أمام تلك الصورة، وأثناء قراءتي أدركتُ شيئًا مُقلقًا للغاية لدرجة أنني شعرتُ بوخزٍ في مؤخرة رقبتي؛ فعلى الرغم من قِدَمِها، يبدو أنَّ القصيدة تمتلك المعرفة المُسبقة بما يجري حاليًّا على جزيرة أولكيليوتو.

يأتي وقتٌ في القصيدة يُكلَّف فيه فينامونين بمُهمة النزول إلى الأرض السفلية. وقد قِيل له إنَّ هناك في الغابات مَدخلَ نفقٍ مَخفيٍّ يؤدي إلى كهفٍ بعيدٍ تحت الأرض. وفي هذا الكهف مواد مُخزَّنة ذات طاقة هائلة، وتعاويذ وسحر، عند التلفظ بها ستُطلِق قوةً عظيمة. وللاقتراب من هذا الفضاء الجوفي بأمانٍ يجب أن يحمي فينامونين نفسه بحذاءٍ من نحاسٍ وقميصٍ من حديد؛ لكيلا يتضرَّر بما يحتويه. يصوغ إلمارينن له هذه الملابس. يقترب فينامونين مُرتديًا هذه المعادن العازلة من فتحة النفق المَخفي بين الحور الرجراج، وجار الماء، والصفصاف، والراتينج. فيقطع الأشجار للكشف عن المدخل. ويدخل النفق ليجد نفسه في «قبر» عميق، «عرين … شيطان». لقد خطا، كما أدركَ، في حَلْقِ عِملاقٍ مدفون يُسمَّى فيبونين، جسدُه هو الأرضُ نفسها.

يُحذِّر فيبونين فينامونين من إخراج ما هو مدفون في كهوفه إلى السطح. ويتحدَّث عن «الألم الرهيب» للحفريات. يسأل فيبونين لماذا دخلت «قلبي البريء، وبطني الطاهر، لتأكل وتقضم؛ لتعض وتلتهِم»؟ ويُحذِّر فينامونين أنه سينتهي به الأمرُ بزيارة كائن ذي بطش شديدٍ إذا استمرَّ في مساره، فسيُصبح «مرضًا تحمله الرياح/تحمله الرياح، وتدفعه المياه/تتقاسَمه العاصفة/يحمله الهواء البارد.» ويُهدِّد بسجن فينامونين بتعويذة تطويق قوية لدرجةِ أنه لا يمكن كسرها أبدًا. وسيتطلَّب الأمر تسعة كباش من الحملان وُلِدت من نعجةٍ واحدة، وتسعة ثيران وُلِدت من بقرة واحدة، وتسعة فحول وُلِدت من فرس واحدة، تجذبه معًا لتحريره.

لكن فينامونين لن يستمع إلى فيبونين. ذلك أنه مقتنعٌ أن القوة المدفونة يجب أن تعود إلى السطح، فيغني قائلًا:

يجب ألا تُخفَى الكلمات،
وألا تُدفَن التعاويذ،
وألا تغوص القوةُ تحت الأرض،
حتى ولو ذهبَ الأقوياء هناك.

إنَّ الكاليفالا مفتونةٌ بالأرض السفلية، وبالتخزين الآمِن للمواد الخطرة، والاسترجاع الآمن للمواد الثمينة. يُوجَد في قلب القصيدة شيءٌ أو مادة سحرية تُعرَف باسم «سامبو» أو «ساماس»؛ شيَّدها الحدَّاد إلمارينن، وهو بطلٌ خارق آخر من أبطال الكاليفالا، وخزَّنها داخل «مُنحدَرٍ نحاسي» في «تلٍّ صخري»، مَحمِي ببوابة بعشرة أقفال. تجلب هذه القطعة الأثرية المسحورة، التي غالبًا ما تظهر على شكل طاحونة أو مِجرفة، السُّلطة والثروة والحَظ لمَنْ يُسيطر عليها. إنَّها — بالمصطلحات الحديثة — نظامُ أسلحة، أو مَورد خام غني، أو صناعة مُنظَّمة لدولة، أو محطة طاقة نووية. تطحن السامبو الدقيقَ، والمالَ، والزمن. ومِن المهام المُكلَّفة بها طحنُ عُمرِ العالَم، ما يجعل العصورَ يستسلم كلٌّ منها للآخر في دورةٍ هائلة من الاستباقات. لقد تغيَّر العالَم تغيُّرًا كبيرًا … إننا في عصر الأنثروبوسين.

•••

نقترب من مَدخل المَخبأ عبر أرض مستويةٍ ومقطوعة الأشجار. ذلك حيث قُطِعت أشجارُ البتولا والصنوبر والحور الرجراج؛ وحُفِرَت جذوعها لعمل فُرجة مُربَّعة في الغابة، بالقُرب من جانب الطريق. ووُضِع سياجٌ بسلسلةٍ مزدوجة حول المَوقع لإبعاد الأيل والمتسلِّلين والإرهابيين. يستقرُّ الثلج على الحصى الرمادي. وقد خفَّت حِدَّة العاصفة الثلجية. وفي المبنى المركزي الأصفر من الصُّلب المُموَّج، تُوجَد آلة لبيع مشروبات الطاقة التي تحمل الاسم التجاري «باتري».

يبدو المشهدُ الطبيعي، الذي يتوارى تحته المَخبأ، مرصوفًا بفِعل الذي تدحرج مرارًا وتكرارًا فوقه في المليوني سنة الماضية. وهناك جلاميد غريبة الأطوار وكبيرة كالمباني بين الأشجار حيث تركها آخر جليد. لا يبدو أن الأنهار الجليدية قد ذهبت منذ زمن بعيد، وكأنها ستعود قريبًا.

فتحة المخبأ عبارة عن مُنحدر مدفوع إلى أسفل في النيس. وقد بدأت الأشنات بالفعل في استعمار الصخور العارية حول المدخل: الزانثوريا ذات اللون البرتقالي التي تصنع أشكالًا كقُبلاتٍ مطبوعة بأحمر الشفاه. وهناك بوابة ذات مصراع تُغلِق المنحدرَ في حالة وقوع حادث. البوابة مرفوعة الآن، وتحتها نفقٌ يتَّجِه بالأسفل نحو الظلام.

جدرانٌ من الخرسانة المقذوفة، ناعمة نعومة غير طبيعية. وأضواءٌ جانبية خضراء تتضاءل في الحجم. وعلاماتٌ تُعلن أن الحد الأقصى للسرعة في نهاية العالَم هو ٢٠ كيلومترًا في الساعة. تتدلَّى كابلات المرافق بين الأقواس. وتسري خرخرة مياه أسفل مزراب. ويتحرك الهواء باردًا من الأسفل، مُثيرًا لغبار الحجر. الأرض هي مثوانا؛ فهي وعاءٌ لجميع عمليات التحلُّل … يمتدُّ النفق من العتبة إلى الأسفل، وفي الأرجاء في شكلٍ حلزوني مُلتوٍ بثباتٍ، ويستمر كذلك لثلاثة أميال قبل أن يستوي عند غرف الدفن نفسها.

بالنظر إلى المخبأ مجردًا، كما لو كانت الصخرة التي تُغلفه غير موجودة، تجد أنه يتميَّز ببساطة أنيقة. هناك ثلاث آبار مركزية تسقط عموديًّا لأسفل من السطح: مدخل للتهوية، ومخرج تهوية، ومصعد. وحول هذه الآبار ينعطف منحدرُ النقل في فوضى عارمة، وينزل في النهاية إلى مكانٍ مُعقَّد الحفر بعمق ١٥٠٠ قدم تقريبًا. وللخارج من الفضاء المركزي، تمتدُّ شبكةٌ من أنفاق التخزين، وفي أرضية كل خطٍّ حُفِرت منه آبارُ الوعاء لعبوات قضبان الوقود. عندما يُصبح أونكالو جاهزًا لتلقي وديعته الأولى، سيكون هناك أكثر من ٢٠٠ نفق تخزين، والتي ستحتوي معًا على ٣٢٥٠ عبوة. تُذكِّرني هذه الأنفاق في شكلها بالغُرَف وصالات العرض التي تصنعها الخنافس المُملَّة تحت لحاء الشجر، ما يُهيئ لها مكانًا تضع فيه بيضَها وتُربِّي فيه يرقاتِها قبل أن تقتل الشجرة التي تُطعِمُها.

في بعض الأحيان، ندفن المواد من أجل الحفاظ عليها للمُستقبل. وفي أحيان أخرى، ندفنها من أجل الحفاظ على المُستقبل منها. تميل بعضُ أنواع الدفن إلى التكرار وإعادة الإرث (التخزين)، بينما تَميل أنواعٌ أخرى إلى النسيان (التخلُّص). في أرشيف بارباراستولين تحت الأرض بالقُرب من فرايبورج، تمَّ تحويل منجمٍ مهجور إلى منزلٍ آمن للإرث الثقافي الألماني. هناك أكثر من ٩٠٠ مليون صورة مُخزَّنة على ميكروفيلم في صناديق، على عُمق أكثر من ١٣٠٠ قدمٍ تحت الأرض. والأرشيف مُصمَّم بحيث يصمُد في حال اندلاع حربٍ نووية، وللحفاظ على محتوياته لمدة ٥٠٠ سنة على الأقل. في سبيتسبرجن، يُخزِّن قبو البذور العالمي مجموعةً كبيرة ومتنوعة من البذور والمواد النباتية ويُجمِّدها، تحسُّبًا لحقبةِ ما بعد الكارثة عندما قد تكون النباتات والتنوُّع البيولوجي على الأرض في حاجةٍ إلى التجديد. يتطلَّع كلٌّ من هذين القبوَين إلى زمنٍ من الندرة في المستقبل؛ فكلاهما يرى الحاضر ضمنيًّا على أنه زمنُ الوفرة.

وعلى النقيض من ذلك، شُيِّد أونكالو بهدف عدم استرجاع محتوياته أبدًا. إنَّه مكان يواجهنا بجداول زمنية تستهزئ بإجراءاتنا المُعتادة. فالزمن الإشعاعي لا يُعادل الخلود، لكنه يعمل عبر فتراتٍ زمنية واسعة النطاق تنهارُ أمامها أساليبُنا التقليدية في التخيُّل والتواصُل، تنهار في مقابله. ذلك حيث تبدو العقود والقرون قصيرةً على نحوٍ مُثير للشفقة، وتبدو اللغة غير ذات صِلة مقارنةً بالمكان الحجري ذي الزمن السحيق لأونكالو وما سيحويه. إنَّ نصف عمر اليورانيوم-٢٣٥ يبلُغ ٤٫٤٦ مليارات سنة؛ وهو تقسيمٌ زمني بعيدٌ للغاية حتى إنه من غير المُرجَّح أن يكون الإنسان في مُنتصفه؛ ومن ثمَّ فإنه يجعل الإنسانَ الأول كأن لم يكن.

لكن التفكير في مدة الإشعاع لا يَعني بالضرورة التساؤل عمَّا سنصنعه بالمُستقبل، ولكن عمَّا سيصنعه المستقبل بنا. ما هو الإرث الذي سنُخلِّفه من ورائنا، ليس فقط للأجيال التي تعقبُنا ولكن أيضًا للحِقب والأنواع التي ستأتي بعد حِقبتنا ونوعِنا؟ هل نحن أسلافٌ صالحون؟

يلتف النفقُ ليُطوِّق أرجاء المكان والجهة الخلفية. ويُهمهم الهواء همهمةً غريبة. وتقوم آلاتٌ غير مرئية بمهام غامضة. وعلى عُمق ١٠٠٠ قدم، ندخل إلى سلسلةٍ من الغرف الجانبية الكبيرة. في الغرفة الأولى، يستقر مُحركُ حفر أصفر، بلا قائد ولكن بثماني عيونٍ من الهالوجين الساطعة، ولا تزال ذراع حَفرِه يقطر منها الماء. ولا تزال في فتحة التشغيل. ويظهر سقفُ الغرفة ذات الخرسانة المرشوشة مَشقوقًا بلوحات ترباس باللَّونَين الفضي والأحمر. تسيل حُفرٌ مثقوبة حديثًا في السقف فوقنا. ويُلقي الهالوجين بظلالٍ حادة. أتذكَّر الآلة التي على شكل سحلية في متاهة الانجراف في بولبي، التي تنتظر تغليفها في أغطية من الهاليت.

الجدران العارية للغرفة مُغطاةٌ بفنِّ الكهوف: علاماتٌ بطلاءٍ مرشوش بالألوان الأزرق والأحمر والأخضر التفَّاحي والأصفر النووي. والصخرُ مُزيَّن بأرقامٍ ورسوماتٍ توضيحية وخطوط وسهام وأكواد أخرى لا يمكن فَكُّ شفرتها، بعيدة في معانيها بالنسبة إليَّ كالأشكال الراقصة للعصر البرونزي في ريسفيكا.

•••

إنَّ الكلمة اليونانية «سيما» التي تعني «علامة» هي نفسها التي تعني «قبر». حوالي عام ١٩٩٠، نشأ مجالُ أبحاث السميوطيقا النووية. ذلك حيث وُضِعت الخطط لدفن النفايات المشعة، ومن ثمَّ تساءلت أمريكا حول كيفية تحذير الأجيال القادمة من الخطر العظيم والدائم الذي يكمُن في الأعماق. وطبقًا لما قرَّرته وزارة الطاقة بالولايات المتحدة، أصبح من المُهم وضع «نظام علامات» يُمكنه أن يعوق اقتحام المستودعات «خلال مدة ١٠٠٠٠ سنة قادمة». وأسَّست وكالة الحماية البيئية «قوةَ مهام التدخُّل البشري» المُكلَّفة بتخيُّل مثل هذا النظام لمواقِع الدفن قيدَ الإنشاء في جبل يوكا وفي صحراء نيو مكسيكو. اجتمعت مجموعتان منفصلتان للنظر في إصدار «نظام العلامات»، وتقديم تقريرٍ إلى لجنة حكم من الخبراء. وكان من بين المَدعُوين للتعبير عن اهتمامهم بالانضمام إلى اللجان علماءُ الأنثروبولوجيا، والمعماريون، وعلماءُ الآثار، والمُؤرِّخون، وفنانو الرسومات التوضيحية، وعلماءُ الأخلاق، وأمناءُ المكتبات، والنحَّاتون، واللُّغويون، بالإضافة إلى الجيولوجيين، وعلماءِ الفلك، وعلماءِ الأحياء.

كانت التحديات التي واجهتها اللجان هائلة. ومن بينها كيفية ابتكار نظام تحذيرٍ يمكنه الصمود — من الناحية الهيكلية والدلالية — حتى في المراحل الكارثية من مُستقبل الكوكب. وكيفية التواصُل مع كائناتٍ مجهولة ستعبُر فجواتٍ من الزمن إلى الأثر الذي يجب ألا يتطفلوا عليه في غُرف الدفن هذه، ومِن ثمَّ يخالفون الحَجْر الصحي للنفايات؟

تضمَّن العديدُ من المقترحات التي طوَّرتها اللجان أشكالًا لما يُعرف الآن باسم العمارة العَدائية، ولكنهم أشاروا إليها باسم «الضوابط المُؤسَّسية السلبية». واقترحوا أن يَبنوا فوق الأرض في موقع الدفن «مشهدًا طبيعيًّا من الأشواك» (أعمدة خرسانية بارتفاع خمسين قدمًا ذات مَساميرَ بارزةٍ تعوق الوصول وتُحذِّر من «خطر على الجسم»)، و«ثقب أسود» (كتلة من الجرانيت الأسود أو الخرسانة التي تمتص الطاقة الشمسية لتُصبح ساخنةً لدرجةٍ يصعب معها اجتياز المكان)، و«كتل محظورة» (قد تخيفُ أحجامُها الزائرَ، فيرجع).

ومع ذلك، أدركَ أعضاءُ الفريق أنَّ مثل هذه الهياكل العَدائية قد تُصبح عوامل إغراءٍ وليس تحذير، وكأنها علاماتٌ تُخبرك بأنه «يُوجَد كنز هنا» بدلًا من «تُوجَد تنانين هنا». لقد شقَّ الأمير الوسيم طريقه بين الأغصان الشائكة والأشواك ليُوقِظ الجميلة النائمة. كما نقَّب هوارد كارتر في مقبرة توت عنخ آمون على الرغم من العوائق العديدة التي وُضِعت في طريق الوصول والتحذيرات التي وردتْه بلغاتٍ غير لُغته.

وكان من بين المقترحات الأخرى التي طرحتها اللجان نُسَخٌ من مؤشر التجاوز. ذلك حيث يمكن نحت الوجوه البشرية في الحجر: رسوماتٌ توضيحية أو نقوشٌ تُعبِّر عن الرعب. وطبقًا لما اقترحته اللجان، يمكن اتخاذ لوحة الصرخة لمونك مثالًا على ذلك؛ على أساس أنها لا يزال بإمكانها بثُّ الرعب بطريقةٍ ما إلى نفوس كلِّ مَن يقترب منها في المستقبل البعيد. كما يمكن صُنع أداة إيولية متينة تضبط رياح الصحراء في المستقبل البعيد على نغمة «رِي» الصغيرة في السُّلَّم الموسيقي، وهي النغمة التي يُعتقَد أنها أكثر النغمات بعثًا على الحزن.

عارض الأمرَ السيموطيقي وعالِم اللُّغويات توماس سيبيوك، من منطلق عدم الجدوى، البحثُ عن مؤشر للتجاوز من شأنه الصمود أمام جميع أشكال الفساد والطفرات. ذلك حيث قال إنه لا وجود لعلامةٍ كهذه. وعِوضًا عن ذلك، اقترحَ العملَ على ما أسمَاه «نظامَ اتصالٍ نشطًا» طويلَ الأمد، ينقل طبيعة الموقع باستخدام القصة، والفلكلور، والأسطورة. إنَّ وسيلة إرسال كهذه — التي سيخلِّدها «كهنوتٌ ذري» مُنتخَب — من شأنها أن تكون مرنة، وتسمح بإعادة السرد والمواءمات عبر الأجيال. وبهذه الطريقة، يمكن إعادة تكوين ما بدأ كمجموعةٍ بسيطة من التحذيرات في صورة قصيدة طويلة — مثلًا — أو ملحمة شعبية، كُتِبَت على نحوٍ سردي جديد لكل مُجتمع في حاجة إلى التحذير. وستقع على عاتق أولئك المرسومين في الكهنوت مسئولية «وضع سلسلة من الأساطير حول [مواقع الدفن] من أجل إبعاد الناس وإثنائهم».

من المُقرَّر حاليًّا إغلاقُ محطة عزل النفايات التجريبية في نيو مكسيكو في عام ٢٠٣٨. ولا تزال خطط وضع العلامات على المواقع قيد التطوير. ومن بين أولئك الذين يُقدِّمون المشورة للمشروع الآن علماءُ الاجتماع وكُتَّاب الخيال العلمي. ذلك حيث تندرِج التدابيرُ الحالية ضِمن الخطط الحالية لِما أسماه جريجوري بينفورد «أكبر محاولة واعية للتواصُل في مُجتمعنا عبر هاوية الزمن السحيق».

أولًا، تُردَم الغرف وآبار الوصول. ثم يُشيَّد حاجز تُرابي من الصخر والتربة المدكوكة على ارتفاع ثلاثين قدم بلُبٍّ من الملح، مع تطويق آثار أقدام المستودع فوق الأرض. ويُدفَن في الحاجز الترابي والتربة من حوله عاكسات رادار، ومغناطيسات، وأقراص مصنوعة من السيراميك، والطين، والزجاج، والمعدن، منقوشةٌ عليها تحذيرات: «ممنوع الحفر أو الثقب». يُحاط الحاجز الترابي نفسه بأعمدة من الجرانيت بمُحيط خارجي بارتفاع ٢٥ قدمًا، وهي تحمل أيضًا نصوصًا تحذيرية.

كما تُوضَع بالقُرب من الحاجز الترابي في موضعٍ مستوٍ خريطةٌ بمقياس رسم ٢٢٠٠ قدم × ٦٠٠ قدم. وستكون الخريطة مُقبَّبة قليلًا بحيث تسقط الرمال في مهبِّ الريح، ولا تُدفَن تحته. وستكون للقارَّات حوافُّ من الجرانيت، وستُمثَّل المحيطاتُ بحُطَامٍ حجري من الكاليش، وستُوضَع علاماتٌ على الخريطة لمواقع الدفن الإشعاعي الكُبرى في العالم. وستشير مِسلَّة إلى موقع محطة عزل النفايات التجريبية وكأنها تقول لك: «ها أنت ذا قد وصلت.»

تُذكِّرنا هذه الخريطة في نهاية كوكب الأرض بقصة خورخي لويس بورجيس التحذيرية «حول دِقَّة العِلم»، التي تتصوَّر عالَمًا يطمح فيه فنُّ رسم الخرائط إلى الكَمَال التمثيلي، بحيث يتمكَّن رسامو الخرائط في الإمبراطورية من وضع «خريطةٍ للإمبراطورية بحجم الإمبراطورية نفسها». لكن، تبيَّن بالطبع أن خريطة الحجم الطبيعي هذه غير صالحة للاستخدام وذات عواقب خطيرة. ومن ثمَّ، عندما أدركت «الأجيال القادمة» خطورة مثل هذه الخريطة، تركتها لتتآكل. وتنتهي قصة بورجيس «في صحاري الغرب»، حيث «لا تزال تُوجَد هناك حتى الآن بقايا مُمزقة لتلك الخريطة، يعيش عليها الحيواناتُ والمُتسولون.»

وبالقُرب من خريطة محطة عزل النفايات التجريبية، سيُنشأ ما يُسمَّى «الخلية الحارة»: وهو هيكل من الخرسانة المسلحة يرتفع حوالي ستِّين قدمًا فوق سطح الأرض وينخفض ثلاثين قدمًا أسفلها. وتُسمَّى «الحارة» لأنها ستحتوي على عيناتٍ صغيرة من النفايات المدفونة، من أجل توضيح النشاط الإشعاعي لما هو مدفون في الأعماق البعيدة.

وداخل فناءِ الحاجز الترابي، ستُبنَى غرفةُ معلوماتٍ من الجرانيت والخرسانة المسلحة، مُصمَّمة لتدوم ١٠٠٠٠ سنة على أقل تقدير. وستحمل الغرفة الألواحَ الحجرية التي سيُحفَر فيها المزيدُ من الخرائط، والجداولِ الزمنية، والتفاصيلِ العلمية للنفايات ومخاطرها، وستُكتَب بجميع اللغات الرسمية الحالية للأمم المتحدة، وبلُغة نافاهو.

سيُدفَن أسفل غرفة المعلومات مباشرةً «غرفة مخزن». وستحتوي هذه الغرفة على أربعة مداخل صغيرة، كلٌّ منها مُؤمَّن ببابٍ حجري منزلق. وستكون في الغرفة رسائل تحذير محفورة في الحجر بصياغة بسيطة:

«سنخبرك بما يكمُن تحت الأرض، ولماذا يتعيَّن عليك ألا تُزعج هذا المكان، وبما قد يحدث إنْ فعلت ذلك.»

«كان هذا الموقع معروفًا باسم «محطة عزل النفايات التجريبية» عندما أُغلقَ في عام ٢٠٣٨ ميلادية.»

«نتجت النفاياتُ أثناء تصنيع الأسلحة النووية، وتُسمَّى أيضًا القنابل الذرية.»

«نعتقد أنَّ علينا التزامًا بحماية الأجيال القادمة من المخاطر التي تسبَّبنا فيها.»

«هذه الرسالة هي تحذيرٌ من الخطر.»

«نحثُك على الحفاظ على الغرفة سليمة وإبقائها مدفونة.»

ذلك التكوين من الحاجز الترابي، والخريطة، والخلية الحارة، وغرفة المعلومات، وغرفة التخزين المدفونة — الموضوعة كلُّها فوق براميل من الجزيئات المُشعة النابضة والمدفونة في أعماق طبقات العصر البرمي — تبدو لي أنقى معمار أنتجناه في عصر الأنثروبوسين حتى الآن، وأكبر قبر غاطس في الأرض السفلية لدَينا حتى الآن. وتلك التعاويذ المُتكرِّرة — التي تمزج بطريقةٍ ما بين الاعتراف والحذَر — تبدو لي وكأنها أكثر نصوص الأنثروبوسين التي كتبناها كَمَالًا، إنَّها فوضانا الأكثر سوادًا.

لكني أعلمُ أيضًا أنه حتى هذه الكلمات سوف تتلاشى على مدار الزمن السحيق — حيث ستُنتزَع من الأحجار بفِعل رياح الصحراء، أو ستتآكل بفِعل الرطوبة الجوية، أو ستُفقَد أثناء الترجمة. وذلك لأنَّ للُّغة عمرَها النصفي، وسلسلة اضمحلالها أيضًا. ذلك حيث يبلُغ عُمر التاريخ المُدوَّن للبشرية حوالي ٥٠٠٠ عام فقط، منذ ظهور الكتابة المسمارية لأول مرة. كما أنَّ أنظمة لُغتنا تتميَّز بأنها حيوية، بينما تكون أنظمة النقش عُرضة للإتلاف أو التشوُّه. وأغلب أنواع الحبر قابلة للتلَف في ضوء الشمس المباشر، حيث تتلاشى في غضون أشهُر. وحتى إذا كانت الحروف محفورة في مواد متينة، فليس هناك ما يضمن مقروئيتها للمُتلقِّين المُستقبليين. ربما لا يتعدَّى حاليًّا عددُ الذين يفهمون الكتابة المسمارية ألفَ شخص حول العالَم.

إن المسئولين عن غرف الدفن في أونكالو غير مُهتمين إلى حدٍّ كبير بكيفية إيصال الرسائل التحذيرية إلى الأجيال القادمة. فهم يعلمون أنه، عند دائرة العرض التي هم عليها، ستبدأ الغابة قريبًا في النمو فوق أرضٍ مهجورة، لتُخفي بذلك وجود الموقع فوق الأرض. ويعرفون أيضًا أنه بمجرد نموِّ الغابة لن يَمرَّ وقتٌ طويل — بمنظور الزمن على كوكب الأرض — حتى تعود الأنهار الجليدية إلى هذه المنطقة. ويعلمون أن مرور الجليد سيُزيل كلَّ العلامات على ما تمَّ القيام به هنا، وستتعرَّض تضاريس المنطقة بأكملها للمحو والتلاشي.

•••

نصلُ إلى أدنى نقطةٍ في أونكالو. هنا حيث يقودنا نفقٌ جانبي مُقوَّس إلى خارج الغرفة الأخيرة. تبدو أرضية النفق مُسطحة ومستوية. وتظهر في هذه الأرضية حفرتان أسطوانيَّتان. إنهما حفرتا دفن تتنظران جُثثها. كلُّ حفرةٍ عُمقها ثمانية أقدام ومُحيطها خمسة أقدام، ومَحمية بدرابزين دائري أصفر.

وعند مدخل النفق، تُوجَد طاولة رمادية من الميلامين وكرسيٌّ بُنيٌّ من البلاستيك. ويظل هذا مكانَ عمل حتى وصول العبوات القاتلة، وكما هو الحال في جميع أماكن العمل، فهناك استمارات ونماذج يجِب ملؤها وأناسٌ بحاجة إلى الراحة.

هناك سلسلة من الألواح البلاستيكية البُنِّية مُثبَّتة بمسامير على جانب النفق، وقد رسمَ شخصٌ مجهول عليها صورًا في الغبار الحجري الذي يُمسِك بالبلاستيك. هنالك ثلاث لوحات. في اللوحة إلى اليسار، رسمَ الشخص مَشهدًا طبيعيًّا به عاصفة وشجرة ومنزل. وفي اللوحة في المُنتصف، يُوجَد أرنبٌ جالسٌ على سحابة. وفي اللوحة إلى اليمين، هناك وجهٌ بشري تعلو وجهه ابتسامةٌ ذات تجاعيد.

إن باطن أونكالو ليس أعمق مكانٍ ذهبتُ إليه في سنوات سفري في الأرض السفلية، ولكنه يبدو الأحلك حتى الآن. لديَّ إحساسٌ قوي بوزن الزمن فوقنا ومن حولنا، يضغط على الأوردة والأنسجة.

وعلى مسافةٍ بعيدة بالأعلى، تتلاطَم الأمواجُ شرقًا عبر خليج بوثنيا، ويتحرَّك البحر تحت الغطاء الجليدي المُتصدِّع، حيث تستعدُّ قوةٌ عاملة متعددة الجنسيات لإعداد مساحة للتوربينات لاستقبال أكبر شفراتٍ تمَّ تركيبها في محطة طاقة نووية على الإطلاق، وتتأرجح الشمسُ فوق حُطام سوريا، ويزيد ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي من أجزائه بالملايين، ويُسرِّع نهر كنود راسموسن الجليدي من وتيرة انهياراته في المضيق البحري.

يبدو كلُّ شيءٍ بعيدًا للغاية، كأنَّ هناك كوكبًا آخرَ ننشغل به.

يقول باسي فجأةً، ضاربًا على الحجَر بمفاصل أصابعه: «هناك طرفة كان يتداولها المُصمِّمون والمهندسون في أونكالو خلال السنوات الأولى من بنائه، وهي أنهم عندما بدءوا الحفر والتفجير، كان أولُ شيءٍ يكشفونه هو علبة نحاسية تحتوي على قضبان الوقود المستهلَك …»

أتذكَّر فجأة الكاليفالا، حيث تطحن السامبو القوية تغيُّرات عصرها، وحيث تقبع تحذيراتها المطمورة منذ قرونٍ مضت حول مخاطر إخراج المواد من تحت الأرض، وحول الحاجة إلى النحاس لعزلِها من الأذى، وحول المرض المُروِّع الذي سيدمِّر الهواء والماء والحياة بأسرها إذا جُلِبَ في وقتٍ غير مناسب إلى السطح.

أفكِّر في «الكهنوت الذري» لسيبيوك المُكلَّف بنقل الرسائل التحذيرية عبر الأجيال في صورة فولكلور وأسطورة. كما أفكِّر في السطر الأخير من القصيدة المُثبَّتة على صفيحة من القصدير فوق المجرى الذي كان الناسُ يُضرَبون فيه بالهراوات، ويُدفَعون، ويُطعَنون بالحِراب في غابات الزان السلوفينية. «ملعونٌ هو كلُّ مَن يحاول محو هذه الكلمات …» وينتابني شعورٌ سريع يصيبني بالقشعريرة بأن الكاليفالا يبدو كأنه جزءٌ من نظام مراسلة، لم ننتبه إليه أو حتى نستمع إلى تحذيراته.

ينسحق سُكون الحجر الآن في الأرجاء. وأتذكَّر عندما كنت في سطح التراصف القاعدي في تلال المنديب مع شون، حيث الضغط الذي يبذله الحجر الأسود غير المتحرك. وتتبادر إلى ذهني ذكرياتٌ أخرى أقدم. فأتذكَّرُ عندما كنتُ مع أبي، وكنا نستخدِم مخلب مطرقة لرفع لوح أرضية المنزل الذي نشأتُ فيه، من أجل وضع كبسولة زمنية في وعاء المربى هناك. ماذا وضعنا في الوعاء؟ أتُراه نموذجًا مصغَّرًا لطائرة أم قاذفة قنابل؟ أجل. بل خطاب إلى مستقبِل غير معروف. كما وضعنا الأرز ليمتص الرطوبة ويمنع تلف الورق والحبر. وصورة فوتوغرافية بمادة البولارويد المُستقطِبة للضوء لي ولأخي. هل هذا صحيح؟ تلاشت التفاصيلُ على هذه المسافة. ولا يسَعني إلا أن أتذكَّر بوضوح حقيقة وضع الوعاء — وعاء كبير ذو فتحة ضيقة وغطاء نحاسي — وتثبيت لوح الأرضية بالمسامير فوقه. وها هي ذي تُرسَل في أمان. إنَّها رسالة إلى المستقبَل.

يبدأ الزمنُ في الانشطار إلى أزمنةٍ متداخلة ذات فواصل غير واضحة. تتزاحم في رأسي أفكارٌ عن الحشود المدفونة في الأرض السُّفلية. فهناك دُفِنَ نيل موس، الذي لا يزال جسده موجودًا في البئر في بيك ديستريكت، في الخرسانة للحيلولة دون وقوع ضررٍ مُستقبلي للآخرين. وتقبع جثثٌ من العصر الحجري المتوسط في المنديب، تخدَّرت بفِعل الكالسيت، وتحوَّلت تقريبًا إلى حجارة … يتمنَّى والدي نثرَ رُفاته للرياح في ثلاثة مواضع، ومن ثمَّ لا نُقيَّد بقبرٍ بعد موته، وسيكون وسيط تذكُّره هو الغلاف الجوي، الذي يُمثِّل مجموعة من الروابط.

أجلسُ مُتعبًا على الكرسي البلاستيكي البُني في نهاية العالم. ولا يزال باسي في النفق الجانبي يتحدَّث إلى أحد العمال. وأتخيَّلُ أنني أمشي لأسفل وحول ركن في النفق الرئيسي، حيث ينعطفُ بعيدًا عن أنظار باسي. في الجدار الأيمن للنفَق، هناك ثلاثة ثقوب حفر، كلٌّ منها في قُطر كَتِفي. أتخيَّل الوصول إلى أبعد ما يُمكنني في الثقب الأوسط، وأتخيَّل ذلك عندما أسترجعُ ذراعي وقد نفضتُ عن كاهلي عبئًا وحفِظتُ وعدًا.

بمجرد إيداع عبوات النفايات في أونكالو وملء جميع أسطوانات الاستقبال، سيُردَم منحنى الوصول الحلزوني، وستُردَم آبار التهوية وآبار الرفع، كما ستُردَم الفتحة الأخيرة لمدخل النفق، مِليونا طن من صخر الأساس والبنتونايت، تُحكِم إغلاق هذه العبوات في مكانها، ما يُحافظ على المستقبل في أمانٍ من الحاضر.

ثم رأيتُ أنه بصمةٌ في الغبار على لوح بلاستيكي آخر مُثبَّت بجدار الغرفة الأخيرة: أصابع مبسوطة، وطرف الإبهام ضاغط بوضوح. إنَّها بصمة يَدٍ يُمنى، انطبعت هناك في لحظةٍ ما بهدف الحفاظ على التوازُن، أو لأخذ قسطٍ من الراحة، أو لمجرد ترك علامة.

أتذكَّر بصماتُ الأيدي السوداء والحمراء التي انطبعت على جدران كهف شوفيه، والأشكال الحمراء التي تبدو وكأنها أشخاصٌ ترقُص وأذرعها مبسوطة، وفي لوحات رسوم الأيدي المنقوشة على جدار سرداب الموتى في باريس، وفي هيلين حين مَدَّت يَدَها للأسفل لتُخرجني من الطاحونة الجليدية. وأتذكَّر الأشخاصَ الكثيرين الذين قابلتهم في الأرض السفلية وعبرها، الذين التزموا بالعمل الإنساني المشترك بدلًا من التراجع والعزلة. كان العديدُ منهم مُخطِّطين، بالفعل، لشبكاتٍ من العلاقات المُتبادلة، والسعي لتكييف عقلياتهم مع مقاييس غير مألوفة للزمان والمكان، ولا يبحثون عن جواهر مُبعثَرة لعيد غطاسٍ شخصي بل لزيادة الوسائل التي من شأنها أن تُمكِّن الناس من الحركة والتفكير معًا عبر المشاهد الطبيعية، من منطلق معرفة مسئولة بالماضي السحيق، والمستقبل البعيد، والأرض الخالية من البشر.

ولدهشتي، أرى فجأة شيئًا يبعث على الأمل — لا، بل شيئًا يتحرك — في هذه المساحة العملية الروتينية التي وصلتُ إليها. هنا حيث المكتب من الميلامين والكرسي من البلاستيك المصبوب. واللوحات البلاستيكية بفنها العَبثي. وشغفُ باسي لأونكالو. والعبوات النحاسية، ومركز الزائرين، وشارب أينشتاين المتدلي. هنا تُحَلُّ مشكلة كبيرة، تدريجيًّا وعمليًّا، على يدِ كوكبة من الأشخاص بأفضل ما لديهم من قدرات. هنا يُبذَل الجهد لاتخاذ القرارات الجماعية وتشكيل العالَم، على نحوٍ غير مُكتمل ولكنه ضروري، وباهتمام لا يمتدُّ فقط إلى عقد أو جيل ولكن بعيدًا إلى الأمام في مُستقبلِ ما بعد البشر.

وحسب ما أعتقِد، فربما يكون هذا من بين أفضل الأشياء التي يمكننا محاولة القيام بها، عندما ينسحِق السامبو عبر عصور العالم، كي نكون أسلافًا صالحين. أتذكَّر فقرةً نسختُها في دفتر ملاحظاتٍ، من كتاب بعنوان «بعد الطبيعة»:

يكون الأشخاص في أفضلِ قدرةٍ لهم على تغيير عاداتهم عندما يجدون شيئَيْن في الطبيعة في الوقت نفسه؛ شيئًا يخافون منه، وتهديدًا يتعيَّن عليهم تجنُّبه، وكذلك شيء يُحبونه، أو صفةٍ يُمكنهم بذل قصارى جهدهم لكي يتحلَّوا بها. ويمكن لأي من الحافزَيْن أن يُمسك بيَدِ الإنسان ويمنعه، غير أنَّ الأول يُوقِفها مباشرةً قبل أن تحترق أو تنكسِر. بينما الثاني يُحافِظ عليها مستوية، مُمتدة في تحية أو عرض سلام. هذه البادرة هي بداية التعاون، ليس بين الناس فحسب ولكن أيضًا لما وراء ذلك، لبناء وطننا القادم.

•••

عندما نعود إلى السطح تكون الرياح قد خَفَّت، ولكن يكون تساقُط الثلوج قد زاد. الغسق قادم. والمشهد بأكمله يظهر في ضوءٍ رمادي متلاشٍ. إننا في منتصفِ ما بعد الظهيرة، وقد انتهى اليوم بالفعل.

نسير مرةً أخرى فوق الجسر من الجزيرة. ونشاهد مُستنقع الملح المُمتدِّ على جانبي الجسر. ويتراءى البحر أمام أُعيننا من بين قطع الجليد الممزقة. ونرى صندوقَ بريد أزرقَ فوق عصا بيضاء. كما نرى جلاميد كبيرة بحجم المنازل بين أشجار الصنوبر، وبين أشجار البتولا. وتُشكِّل مصابيح سيارتي الأمامية أنفاقًا في الغسق أمامنا. نمرُّ بأشجار البتولا، ثم الصنوبر، ثم البتولا، ثم البتولا. كُل شيءٍ أصبح مُتجمِّدًا.

في طريق العودة إلى راوما، يَطِنُّ ضوءُ تحذير أصفر للوحة قيادة. ويُشير إلى فقدان ضغط الإطار الأيمن الخلفي للسيارة. ويُمكنني الشعور بمقبض السيارة على الطريق الجليدي وهو يبدأ في الارتخاء. فأقود السيارة بجانب الطريق، وأضغط على المكابح لأتوقف، ثم أخرج. الإطار مُسطَّح تقريبًا. وتمتدُّ غابة عميقة على يمين الطريق ويساره. تُبيِّن السيارة أن درجة حرارة الهواء هي سالب ١٢ درجة مئوية. وأشعر بالبرودة بسرعةٍ تسري في أوصالي. ليس معي ما يكفي من ملابس التدفئة. وأنظر في صندوق السيارة. فأجد إطارًا احتياطيًّا ولكن لا أجد رافعة. إنَّه موقفٌ لا أُحسَد عليه. ولا أدري ما عليَّ فعله.

بعد خمس دقائق، أرى المصابيح الأمامية لإحدى السيارات تقترب، وكانت أولَ ما مرَّ بنا. أقفُ بجانب سيارتي وأرفعُ يدي في الهواء طلبًا للمساعدة، غيرَ مُتوقِّع أن أحصل عليها. لكن السيارة تتوقف، ويخرج منها رجل. أشرحُ له الموقف، وقلة حيلتي، حيث كنت أقود سيارتي عائدًا من الجزيرة عندما حدث ذلك. يقول إنه عامِل من أولكيليوتو، وإنه في طريقه إلى المنزل بعد انتهاء مناوبته.

فأقول له: «أنا آسف. لا بدَّ أنك مُتعَب. شكرًا لك على توقفك.»

ويردُّ عليَّ قائلًا: «ليست هناك مشكلة.»

إنه لدَيه رافعة. وبعد عشر دقائق، غيَّر الإطار ووضعه مُسطحًا في صندوق السيارة. وراحَ ينظِّفُ الزيت والشحم من أصابعه بقطعة قماش. ثم مدَّ يده، وصافحتُه بامتنان، وانطلقنا بسيَّارتينا الواحد تلو الآخر في الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤