هاتها من يد الرضى

ينبغي أن أعترف في النهاية أني وحيد، والباقي سيبقى مكابرة، أو استدعاءً آخر لتناسي وحدتي. لا أكتشف هذا الآن، في اللحظة التي أظن ما أقوله، أكتبه، كأنه حقيقة تنقشع أمامي من ضباب وهم قديم. بتاتًا، فلا أجمل من وهم نطارده في امتداده، كي لا نقبض سوى على وهمه، يغشى صمته الداهية، لا تقول اسمها، أو فابحث عنيه!

•••

وحدتي ليست فريدة مطلقًا. لم تعُد كذلك مذ صرتُ فيها، أي فضحتني، ونحن نتناظر بعيون ماكرة، كلانا يراود الثاني بلغة عاتبة: هكذا إذَن، بعد كل ما عشناه طيًّا لكتمان لا يباح تأتي لتقول إنك تسكن وحدتك الفائتة، لم يمضِ وقت، لم يبقَ، ستأتي لأوجَد فيك، أستبقيك أنا الأخرى لوصف انتظاري، ولن تذهب إلا إليه؛ هل ملكت شيئًا حقًّا، عداي أنا، هاها، وحدتك!

•••

فيما قبل، الكلمات بيننا تكفي بعضها، تكلم صمتها، يتقدم الجرحُ إلى مديته، هادئًا ينام في حضن مقتله، إنه المعنى المجتمع لفرد متوحد مثلي لا يفهم، يكاد لا يستسيغ أن وحدته هي معناه الوحيد، أو عليه أن يرحل إلى بلاد الجمع ليضيع في أبدٍ لا يطاق. كانت الكلمات تكفي، وهذا ببساطة قبل أن تعرف أن مفردك مضى هاربًا عنك في جمع لغيرك … قل لي من أنت!

•••

ظل هاربًا، كابرتَ طويلًا لتنسى، كما سميت نفسك من عهد عاد فتًى لا يشيخ، قدر ما لا تنطفي نجوم السما، ويكفُّ الشروق عن المغيب الشفيف، قدر ما لا ينقضي بيننا بريد الرفيف؛ هل تعرف أن الوحدة لا تأتي إلا بيقين أنك الوحيد لها، المفرد، المتفرد كلما ازداد تكاثر الكلمات، ستهرب، إنك تهرب من حجة الشك في … أنك لا تعرف … من أنت!

•••

ما هذا الاكتظاظ في المعنى المباح، ولماذا لا يريد مطلق الخلق أن يفهم أن تفاحة «نيوتن» وحق الله العظيم، واحدة، سقطَت مرة واحدة، رغم أن «محمد بشكار» وهو شاعر مجنَّح، عنيد، مصمم على أن الكلام يمكن أن يُنجب بعضه في تلقيح صدفة، تجعل الكواكب تتنافس في شعاع قصيدة، ويحك، هاتها من يد الرضى، تفاحة نيوتن، لن تعود، وحدتي … تبعث الجنون!

•••

سأتلذذ بعذاب «بشكار» الذي لن يتلقى «الوحي» أبدًا، لا لأنه وُلد بعد فوات الأوان، ولكن — هذا يقيني — لأن دجالين كثرًا حولوا الشعر إلى فقاعات، سمَّاها الجاهلون بالشعر، دعك من الحب، الوطن المستباح، ينسجون لوغاريتمات لغوية، إذ يعترضون طريقه للسطو على كلمات وحدتنا الأولى، حين نذهب، كلٌّ على حدة، لنصطادها في مياه الظمأ الجوفية؛ كيف يشكو …؟

•••

أتركه هناك لأستأنف طريقه الذي يؤدي A son Cahier de verdure «لا شيء غير ذلك يمكن أن يضيء عالمنا إلا الزيت الأخضر» ﻟ «فليب جاكوتيت» يا عمنا الجميل، من حسن الحظ أنك تذكرت اللون الذي يشفُّ في داخلي مهما اشتدت العتمة، رغم أن أديبًا رباطيًّا لطيفًا يسجنني كلما غِبت عن ناظره في أصفر الخريف، عبد الفتاح الحجمري ينسى أني أغادر دومًا … ليخضرَّ غدًا غصن الربيع.

•••

ثم ينسى، لماذا تنسون جميعًا أن كل وحدة تعاش في عرائها السحيق تحت صفير الريح، هزيم الرعد، صقيع البرد، تقتات من نثيث البرَد، تنضو عنها حكمة الجبناء، تفلسف جهلاء يرشقون القمر بشعر منخور — صهٍ، أنت وهو!، صهٍ، كفى وقاحة، صفاقة! — لا شيء يهمز الكلمات مثل سقوط المعنى، غب موت الفراشة … أضاعها صبية، ويح جني، ينقرون خطأً في الطبل، فأصحح الإيقاع … دائمًا بالوحدة.

•••

«أفكر، أحيانًا، أنني إن كنت أواصل الكتابة؛ فالسبب على الأرجح من أجل تجميع الشذرات المضيئة والواعدة إلى حد، لفرحة (وحدة) نتصور حينًا أنها تفجرت يومًا، مذ زمن سحيق، كنجمة في الداخل، ونثرت غبارها فينا …» قال Jaccottet وتركني إلى بضع سنين أخرى، أدير مروحة العمر مستقتلًا أن تأتي الرياح بما تشتهي … الفتن … إنها تسكنك، هاتها من رضاب الليل أو ها … تها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤