بغداد … لو حكَت

إلى «أبو بادية» في منافيه.

مثل شروق يتوضأ في سمرة النهر،
أو كوكب تخب حوافره فوق تراب الأزل.
لعلها المرة الأولى تهفو السماء إلى أعلى منها،
وكل خفق جناح يصير ظلًّا لأرضها،
حتى أراها اقتربت فحكت من داخلي
ثم عادت إلينا خرجت فأمطرت،
«وعضت على العُناب بالبرد.»

•••

في الزمان الذي لم يولد فيه إلَّاها،
سرى إليها الضوء الندي، وقتها،
الجلنار لها وشم، والنجم رعشة البداية،
أما السعف وحده فتضرع كعبادة
كلما رغب التائهون، مثلي،
لمعرفة، لتيهٍ في طفولة الحلم،
لتاريخ الشوق، خفق الشرق،
لوعد بقيامة نهضت على أكتاف الفرسان،
أهواء الشعر، قلق الشعراء،
جاءوا واحدًا، لا زرافات، دائمًا وحدانًا.

•••

لم أخبر أحدًا، أبدًا أني إليها ذاهب
هي الذهب — أنذرتني — سر محبتنا الكتمان!
كذا أخفيت الخبر عن الخبر،
وودعت أهلي سرًّا متخففًا من أي حمل،
أتعتع بولع فائق كغادٍ إلى الأبد.
لم أعرف ما جرى للدنيا بعدئذٍ،
ما اسمها، شكلها، قبل نذر الحطام.

•••

أنا تركت هناك يدًا تلوِّح بالخفقان،
ليال طوال أمخر في غرة النهر،
فاتحًا ذراعيه كالسيل نحوي،
يشدني إلى تراب النجيع،
نتراءى في صقيل النطع،
السيف مغروسًا في القلب،
قلبي غمد لها أم لنجواها،
وعلى جبهتي تتربع الشمس،
اصطلت بنار حرائقها.
انظروا فجوفي إذا أطللت منه
مثل شرايينها مخيض دم، فنار لهب.

•••

في ذلك العهد، الآن يُسمى بائدًا،
رأيت أقوامًا بكل ألوان المعزة والمعرة،
يتدبقون على بابها طوفانًا من العُرب.
من بشر عجب يباركون سيدها،
ويناغون الشمس والقمر، بعد الله، ليحفظها،
يدعون الإنس والجن معًا أن يعبدها،
والليل إذا سجا، والنهار إذا تولى، أن يؤلهها،
بأم العين رأيت العين صارخة من بقايا العرب،
كل ذاك الجرب، بذُل السؤال وخزي الطلب،
ومليون قافية — كذا — للطرب،
وكم قافلة للعبيد منهم تنيخ الرحال،
لتضعن عند رب الأرب،
ترغو جمالًا بكل صنوف الأدب،
ولا شيء يحفظ ماء الوجه، أي وجه؟!
لا ملعقة من ذهب في فم أسيادهم،
ودوام شكوى بفرط الشغب.
أفٍّ وتبًّا، لو قليل إباء، لو نذير غضب.

•••

أم يا ترى غير ذكرى صديد ما تفرك العين،
مُر طعم البصر، وما كان هولًا في الزمان،
صار سيفًا من خشب … أفٍّ وتبًّا،
أهذا كل ما تبقَّى في جراب المهانة
يا مسخ عرب؟!

•••

القمر الذي قابلني في الطريق إلى بابل
وجهني صوب أشلائها،
وهي بين المنهبة والمنكبة.
سماها بشعاع، فاستفاق الضوء في قلبي
تقطر شوقًا واستضاء الهواء
صعدت بابل برجًا في علو السماء.
وطفقنا ننشد من حنجرة الليل أغنية
تباريح هواها
ننفخ في السور، في الطور سنين
قدر هو هذا البلاء
أم تراني أدمن الشوق إليها حد الفناء؟

•••

حين لم أجد الماء تيممتُ شذاها
صعيدًا طيبًا، فتهاطل المزن دمًا
رعفت حواري الكرخ
دوالي الرصافة طرًّا،
أنكرَتكَ أبا الطيب البيداء،
لا الحي حيُّك، لا سامر، لا بادية.
حميد ابن بابل صار رقمًا في نداء
أين الفتية البِيض؟!
لن تجمعنا بعد يا جرير المجامع،
لن يقول حميد جئني بمثلهم
تجوع الحرة، أواه، ستجوووع
ولن تبيع عرضها هند ولا أسماء.

•••

بم التعلل؟
لا نديم، لا كأس، لا إسراء
«أريد من زمني ذا أن يبلغني»
تكاد تقول
ما لم تبلغه من نفسها الأنواء
غدوت وما يشجي فؤادك غيره
وطن البهاء ذا نثار هباء
تنزل الأحزان ساحتها سوف، ليكن
بغداد أحببنا أمس، غدًا موعدنا
أنت خبرتني، خبرت عشقي،
دوما فيه سراء وضراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤