إشراقات من سيرة «العثامنة»

١

لا بد أن «العثامنة»١ تلك الليلة كانوا في البرزخ؛ لأن الصواريخ التي بحثت عنهم في كل شهاب لم تعثر منهم سوى على ظل الروح، التي هي أخيرًا من أمر الرب، أما الجسد فقد كان، طار، ليرتدي كفنًا أبيض مثل حُلي السحاب، ويغفو في غرة الليل الساجي، هو الفراش والغطاء، البدء والمنتهى؛ كفن مثل الأعلام البيض في مدخل المرافئ، تستقبل وتودع إلى ما لا نهايات الرحيل، وحتى عندما تنفد الأنفاس وترى آخر النوارس عائدة إلى ضفاف المعاد.

٢

«العثامنة» أنفسهم لا يطيقون البقاء في سُررهم، ما دامت أرواحهم قد عافت الجسد منذ سفر التكوين، وما تناسلوا إلا ليتناوبوا على حراسة النجوم خشية، أن يسرقها غربان الليل قبل غربان البين. هم يتظاهرون بالعودة إلى البيوت أول المساء ليوحوا إلى الجيران أنهم مثلهم؛ كي يذوبوا في نسيج الجميع، غناء وسهاد الجميع، لكن لا أحد يشبههم، والدليل أن الجيران حين افتقدوهم لم يجدوا في سُررهم إلا وشاحًا كان أبيض، صار أحمر، بدم خافق حلَّق للتو.

٣

«العثامنة»، حين وقف الجد الأول فيهم أمام كاتب العدل يسأله من أنت، كي يدون اسم العائلة استعصى عليه الخط. رأى الحرف ينحرف، يميل يمينًا وشمالًا، والكلمات تتزنبق، تتورد في الحبر الداكن، والورق الساكن، ترعش أطرافه رهبة، وعيناه تلوبان في الرجل الواقف وسع بلاد، ثم ترتدان إليه والرعشة ملء الحرف، تماهى الخط بمعناه، بما لم يستطع تسميته أو وصفه. أدرك كاتب العدل أخيرًا أن الاسم سيبقى استحالة، لما اختار صاحبه الأرض قيامة.

٤

«بيت حانون» إذ ذاك كانت صفحة منبسطة. لا خدش، لا ندب، ولا حتى نظرة منكسرة. كل ما هنالك أن النساء يتجمعن عند حدود الحرش ناظرات إلى عين الشمس متى تبترد كي يواصلن جني الغلال، ويحضِّرن ما يكفي من الزيت والزعتر وكحل العين لأشواق الرجال. كل ما هنالك أن الرجال يخرجون إلى ظاهر البيادر، يقتلعون الحجر، ويمسحون جبين السماء بالغيمة الماطرة، كي تسقي البيت وأهله؛ لينبت في السهل الأطفال ووعد الغد.

٥

«بيت حانون» وقتئذٍ شجرة، حقل حنطة، مشتل ينمو فيه عشق الصبايا، بستان لحنين الأمهات، كانون تغلي فيه القهوة للساهرين، وللعابرين إلى طرق أوعر في حب الوطن، يوم كان ثمة حلم وطن، وشباب يذهبون إلى الموت كما يشرب الموج بعضه؛ أي باغتباط ومن غير أي كلفة. وآباء تعلموا أن يجدلوا آناء الحزن بأطراف الأمل، بصدور من عناد، بعين لا تطرف إلا لغنج القمر، تنحني إن هو أمر، والأصبع أبدًا مبصومة على الزناد.

٦

«العثامنة» يلدون الآن «بيت حانون» لتكون. واحدًا، واحدًا، نشروا لحمهم، فصدوا! عرقهم، بشرايينهم خطُّوا لها الطرقات، وبالعين عنوانًا دقوه على أيديهم، لم ينسَ في سالف الدهر ولا لما هو آتٍ. إنهم أجدادي وآبائي، فلسطين ليست مغناة، ولا توصية إضافية يذيل بها عبيد العرب ذكرى الزوال. فلسطين وجه محمد في المساجد المحاصرة، والمسيح في الكنائس الخرساء، هي صورة العذراء، تهز جذع حانون فيسَّاقط عليها دم مريم وميساء الجني، ويحكم لغضبة الأنبياء!

٧

جرت العادة أن يتزوج الأرض الإنسان. جرت العادة، أيضًا، أن ندفن موتانا في اللحد ونغطيه بالأجفان. حتى جرت العادة أن يجري الدمع هتونًا، لم لا أوَلسنا نتسربل طول العمر بالأكفان؟! لكن ما عهدنا أن نسمع الأحياء ينتفضون، طالبين موتهم قبل الأوان، ليفتدوا أرضًا وطنًا سيحال إلى معاش النسيان. لذلك لما ناموا صعدوا إلى أوج الصحو، تعافوا من وهم الأحزان. قالت أم الشهيد الفرحة: «والله ابني راح، رائحته مسك! روحه بلسم!»

٨

«العثامنة» من هم؟ من أنتم؟ من أين جئتم؟ متى ولدتم؟ كيف ظهرتم؟ على أي هيئة سوف تبعثون؟ ألف سؤال، من سديم وقتنا الخزي، وسخي دمع ما عاد يسيل. لن ينتظروا، لن يردوا على الصم، البكم، اللايذكرون، في نهر الغزاة يسبحون، قالوا قديمًا، واليوم بالخزعبلات يلهون. لن ينتظروا قصاصًا لا يأتي من أمة باتت بكماء، أو سماع أجوبة بلهاء، بعد أن نحرت بيت حانون الفرقد، سواء متنا أو همنا يومًا لغد، ويحي، كيف، كيف نحيا تحت إمرة السفهاء؟!

٩

جاءت الصورة مثل فطنة متأخرة، فتأملت الوجوه الصابرة، أصواتهم الضارعة، والبقايا. لا شيء غير البقايا، ما كان رأس دمية، دمية برأس مقطوع، رأس مقطوع، يد كانت ستعانق الدمية، يد مبتورة لم تعانق الدمية، دمية لم تبتسم لها الطفلة، وجه طفلة لم ترمش؛ لأن الدمية يا صاح لم ترمش بعينيها الحلوتين للطفلة، وعلى ثوب الكتان صورت الكاميرا في نهاية اللقطة لطخة، مثل عار، للمحقق يومًا في ملف هذي القضية أن يسميها، إن شاء، حجة الاغتصاب.

١٠

إثرها تعاقبت صور أخرى: كأن ترى أكداسًا لأذرع، أرجل، آذان، سيقان، أثداء مخيطة بأمعاء، إلى جوار قدم داخل حذاء مفصول عن ساق مبتورة، عن فخذ، وحوض عربي معلق حوله جنود يتسلمون أجورهم شرط ألا يقاتلوا، وخاصة ألا يُقتلوا في أي حرب لن تخاض. أو صورة يطلق فيها الجندي العربي النار على شبح يقدُّ قميصه من دبر، فيرى نفسه في المرآة يصرخ فيه: قاتل! قاتل! لكن قائد الكتيبة يأمره في النهاية: أدِر ظهرك للمذبحة!

١١

وميساء،٢ ليس من عادة ميساء العثامنية أن تنام قبل افترار ثغر القمر. حتى إذا أطل، وانقشع الديجور، قامت، رقصت بين الأتراب وهي تدور. بضع نجيمات تتلألأ فوق مخدتها، يسمعها الليل تغني كالشحرور، تسمع سامرًا في الحي يدندن: يا ليل يا عين، يا عين يا ليل، كان يا ما كان، كان في رَبع كنعان، أرض فلسطين؛ بلسمان لكل قلب ولهان، وقعت مريم في أذرع التنين، فيما وضعت ميساء الخنصر بين الشفتين، تحلم أن غدًا سيبوسها بدر البدور.

١٢

يقظى ظلت عيون الليل، حتى ذبول القمر. ما رف لها جفن ولا أغواها عن فطرة الحب نظر. يقظى، والسامر ناغى: «أفق خفيف الظل هذا السحر/نادى دع النوم وناغ الوتر.» لم يكمل سامرنا شجاه، ولا ذاك الليل ارتقى ذراه … فجأة هجم التتر، لقد هجم التتر، كما فعلوا من قبل، يا العُمي ويا أولي الأبصار. اختنق المؤذن، احتبس التكبير في حنجرة المئذنة، هوت صوامع الله، ويحنا، صحت ميساء كي تسلم الروح إليك، أوَيرضى الله عن هذا القدر؟!

١٣

«العثامنة» لما فتحوا أعينهم ثانية نظروا، كعادتهم، إلى أعلى، لا أسفل. وجدوا قربهم بيت حانون، كما اعتادوا، الصباح جالس عند العتبة، أطفالهم سينغنغون طلبًا للرضاع، ورجالهم بسملوا، على وشك الوداع، وكل ما يفتح الشهية للحياة جاهز، وغضبتنا غضبى دائمًا حتى النخاع، والقِبلة نفسها ملأى بالمصلين على أهبة الإقلاع؛ فظنوا أنهم سيطرزون صباحهم بوَشي الندى يشمرون بعدها درءًا للمسغبة؛ ظنوا قبل أن ينفجر الهواء ويهتز الأزل.

١٤

لم يحدث سوى أن تبعثر الموت المؤجل في الزوايا، تمزقت صحف الألى، الأخوات يزغردن لزفاف متقدم، لعرسان الريحان، والأمهات يلقين الرز، يعطرن النرجس بالخرق المدماة للصبيان، هل ولولن حقًّا، أم تنادين إلى طلق الأرض بعد طول مخاض تقول للإسرائيلي القاتل خذ مزيدًا مني لتقتل أكثر، سأظل رغم كل القتل أملأ الحقول فلًّا وعنبر، والأمهات، الأخوات، الجارات في كل الأركان، يرفعن أعلى صيحة: الله أكبر!

١  «العثامنة» اسم العائلة الفلسطينية في بيت حانون، استشهد ثمانية عشر فردًا منها بينهم ثمانية أطفال وخمس نساء إثر غارة إسرائيلية.
٢  مريم وميساء، من بين الصبية الذين قتلتهم الهمجية الإسرائيلية وهم نيام، في الغارة على بيت حانون، فجر ٨ نونبر الجاري، وذكر القتلة بصفاقة أنه «مجرد خطأ تقني!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤