هبة البهاء

إلى محمد بنطلحة: … وأنت وحدك
اعلم أنك لست وحدك!
انتفض الربيع هذا الصباح، وأنا منشرح في الحمَّام البلدي.
استيقظت فجرًا، لا أعرف لمه،
ضجرًا من نومي ضجرًا،
أم لعلي أكابِد وصلًا وهجرًا.
أردتُ أن أسحبني من سريري إذ وجدته فارغًا مني،
موحشًا إلا مني، ماذا دهاني، لم أجدني؟!
تقلَّبت يمينًا، شمالًا، تعددَت أوضاعي،
تضاعفَت أشكالي، كل ذاك ما فاد، لم يُفدني.
أخيرًا تحاملت على عدمي، على بواري، نكبات دهري،
وحتى على ما كان من بين وبينك، تعدَّاني إلى بيني،
ورغم كل شيء بقيتَ أنت تراني،
أوَتراني حقًّا، أم تراك تهتَ عني؟
وقفتُ، استوقفتُ النهار الذي في أوله، بازغًا، مشينا معًا،
ننسج الخطوات بدءًا من مرقدي، في رقاد متململ يتبعك
لذا أيقظني الفجر لما هممتَ بالرحيل مفردك،
نبهني لشتاتي، دعاني أن أنحني لغبوق صباح أيقظك!
عدت، متى غبتُ، دائمًا حضرت، لا شريك لك،
لو قلتُ سواك كنتُ أشركت، تجدني قبل المغيب أبدًا مطلعك
بُعيد الندى، مداكَ المدى، كيف تشاء، المغرب أم مشرقك
يا أناك المفدَّى؛ ها أنا ذا أعود، هذه المرة يستوقفني لا الطلل المنسي،
ولا الكثبان شربناها، بلا أسف، نمضي، لا هذا ولا ذاك،
افترضه، على مضض، يصمت الكلام، وجهك وحده المليح،
أضاء النهار من شقٍّ خلف جدار الحمَّام البلدي،
في حدب بضاحية الرباط يُسمى «تمارة»
وهي على كل حال ترجمة ركيكة للتعب،
لحالي أنا الذي في نصب؛ قد أضاء،
شمعة خفيفة الرعشة، شديدة اللفح؛ القد، الخد، أعِد،
أخاف أحنث، هي عبادة الذي قبسك!

ذهبت إلى الحمَّام البلدي، كما لم يذهب أحد قبلي إلى أي مطهر، وبنيَّة أخرى أني سأتخفف من جسدي حتى آخر قطرة، فلا يبقى عندئذٍ إلا هُلام ذكرى يرقص خيطًا من بخار ليمضي، فلعلها طريقة مُثلى للتخلص من كل ما هو فائض عن المعنى، وهذا بعد الغياب المفرط الذي روَّعني حضورك المطلق به، أنا الذي خلتُني غير معنيٍّ بتفاصيل البقاء، قط. من الطريف أن اسم المكان هذا متعدد التأويل من حروفه المحدودة. تراه هو الحِمَام، أي الموت ببساطة، أو بارتعاب لمن يشاء. هو الحَمَام بألوانه الشتى، سواء طار أو حط، والأقوى هو الحُمَم. أظنها تناسب وضعي الآن، فاللهب مشتعل في جوفي، ملتهب في بدني، ما أضع عليه يدي هو الجمر، وما لي غير النار من دثار. لا أعلم إن أصبت أم أخطأت بالقدوم إلى هنا، لكن الفراغ المتسع لغيابك لم يترك لي وقتًا للتفكير في شيء سوى أن أخلع جسمي مني، ما عاد يحتملني، صار حُمة، دخانًا إلى السماء ارتفع، أظنه ذاهب ليختلط بدم لا تعلم — ربما سُتمعِن في الإنكار — أنه دمي الذي تتقلد. يقينًا أني مخطئ ومستهوِل. يقينًا أنك لن تفعل بي أكثر مما فعل الربيع، كلفحك، في هجمته الفرحة، إثر إطلالتك، ما زالت ترقص في عيني … مرحة.

فلقد انتفض الربيع، نبَّهني، أنا السادر في غيِّ الشتاء، أن الأرض ما انفكت تدور، وعليَّ أن أتعلم من جديد، أو لأول مرة، كيف أبصر ما حولي، وأسلُّ خيط الضوء من سُجُف العمى. لن تحتاج لأجل ذلك أن تذهب إلى الحقول في الضواحي. لا، ولن تركب القطار كي ترحل أبعد من الأسمنت لترى المواشي وهي ترعى في العشب الوفير، قد ازدهت الأرض بالأخضر المتاح. يكفي أن تنظر إلى الجدار — هذا ما فعلتُ بالضبط — وأنت مضطجع في خرجة الحمَّام، تركت لحمك في الداخل ماءً، وطفقت بعدها تعب هواءً، تطفئ غُلة الحواس المشتعلة.

هَب أنك الآن معي — إنك سكنتَ تحت جلدي، اندسستَ في النخاع، وهذا أكثر من صورة — سترى أمامك انعكاس ضوء على الجدار. قطعة ضوء مستطيلة ممددة على الجدار. لونه كامد، ولا طعم، أو رائحة في المكان، سوى صدى خطى متعبين ومترهلين، ونفاضة بخار في شقوق الدار. للوهلة الأولى، هذا مكان غير مناسب للشعر، ومن الجائز أن نتساهل فيه مع تداعيات الشعاع. ولوهلة أخرى لن تجد أفضل من هنا لتستمتع بالحب، في شكل غانية مضطجعة، أو شعلة منفرجة. لكنك من حيث لم تتوقع سترى بلادًا أخرى لبداية هجرة وضياع.

قطعة ضوء مستطيلة على الجدار، انعكاس لإطار نافذة هي فوقي حسبما أعي، وأريد أن أنسى بإلحاح ما خلفها، أظنني أعرف كل ما خلفها، بالأحرى أدَّعي. كنت مضطجعًا على جنبي أفكر في لا شيء؛ إذ لم يبقَ لي شيء كثير لما تركت الجسد في غرفة البخار، ما ألطف وأبهر أن تحس أن رأسك تدور في الخواء؛ فهذا أفضل من معاشرة الرجال الجوف، مثلًا، أو سماع دجَل محترفي السياسة، الذين يكذبون كما يتنفَّسون. تشوقتُ إلى ضَوعك حين احتبس الهواء مرة في رئتي وانزلقتُ إلى جهة الرحيل. أعادني الشعاع ملتصقًا بعناد في الجدار، راسمًا إطار مكان مفترض. الذي يمكن أن يصبح معمورًا، إن قررت أشواقك القدوم مثلًا، للنزهة أو الإقامة، فلها ما تشاء، وقبل الجميع أنا أو بقيتي الهباء، ولها، لها حتمًا كل ما تريد من البهاء.

رغم أني أفضِّل الغَبوق؛ فليس أفضل من الصباح للمثول بين خديك، الجلوس تحت حاجبيك. هل الضوء الداخل انعكاس لك؟ بلى، وإلا من أين يشعشع كل هذا البياض، يتألق الضياء؟! علمًا بأني لم أؤد فروض الولاء من قبل لأحد، وأقبل اليوم طواعية الدخول في مستطيل الجدار. من المؤكد أنه الربيع انتفض، وإلا لما أحسستُ بما أنا فيه من حبور، وسأزداد يقينًا عندما سيُحييني عصفور عابر بودق ستحط على كتفي، وهو في علوه يطير مرحًا، ليتني أطير!

أركز على مستطيل الجدار، أتجاذب مع قطعة الضوء، أراها تدريجيًّا تنفصل عن كل ما حولها، وحدها تختصر المكان. بين أن أبقى مضطجعًا في زاويتي، وبين المُضيِّ إليها أي رهان. إما أن أسترسل في دعة الفراغ، قد تخففتُ من وزر الجسد، بتُّ أستحلي البدد. أو أعيد قراءة الدنيا في مرآتك، يا لصفحة وجه يغريني بألف كتاب، وكم من قصيد، كي أكتبه أو أنشده. يصطفيني حين أتولَّاه، مقبلًا، مدبرًا، لا أعرف كيف أحصي صفاته، أو أنعتُ ما استبدَّ بي من هواه؛ ذا دليل إضافي لو احتاج الهوى إلى مداه، أن الربيع انتفض أقوى من رغبة العصافير في التغريد، وارتواء وردة بالرحيق، وعطش يحرقني إلى نداه. كالفَراش يسعى إلى الضوء وفيه رداه. عجبًا كان الربيع يحل دائمًا، لمَ تأخرت كل هذا العمر. ما كل الذي أعماك؟! عنِّي.

وهذه صورة مشرقة، أخرى لك:
الحبيب، ثق، هي لك.
أن تراني في مداك، إن شئت أو تجدني،
متى لا أشاء، أرقى سماك.
مثلما ترقى الطيور،
حيثما ترقى تدور. ربما أنت لا تبصرها،
لكنها، عينها، تبصرك.
صورة أخرى إن انفسح الخاطر،
هي دوما لك، لك، لك لك،
أترى الطير المحلق في الأعلى،
هناك، علاك، لو أمرت فداك،
الصورة الآن، خُذها، هاك:
أو رأيت يومًا سرب نوارس،
ما حط حتى حلَّقا،
حفيف الموج، دونه،
وخفق الريح فوقه،
بينهما مزن ضاحك وهو يابس،
إلى ذُرى الوجد ارتقى،
أخذن منه المَضى قبله،
أو ثمة موت لميت بعده، ويحَه!
ثم غدون «بلُبِّك غادروا»
«وشلًّا بعينك»، على نومك حارس.
أوَضقت بي حالًا
لما اتسعتَ لي أفقًا؟!
سأكابر أن «هذا دمي في وجنتيك عرفته
لا تستطيع جحوده عيناك».
الرباط (رباط القفر)، ٢٠ /٠٥/ ٢٠٠٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤