المحطة رقم ٢٠

الخط الرابط بين القلب ومحمد زفزاف١

كيفما كان الحال فالموت فاجعة، وإن وجدت من الناس من يحوِّل مناسبته إلى تأسٍّ مفتعل، أو استعراض أحزان ملفقة أو تعاطف مرتجل مع رموز لا يملك وإياها أي صلة حقيقية. هناك من يتخذ من الموت مناسبة لتأثيم الذات وتبرئة النفس من تُهم مصطنعة إزاء الموتى، كأنما يرغب في استدراك محبتهم التي ضاعت إلى الأبد. هناك آخرون يحترفون التشييع، أي السير في الجنازات، واللغو فيها وهم أجدر من غيرهم بالشفقة، خاصة حين يحرصون على أن تلتقط لهم التلفزة «صورًا تذكارية» إلى جانب هذا أو ذاك.

ليس من السهل أن تكتب عن الراحلين، إنما من الأفضل أن تخرس إذا كنت ستغتابهم أو تقضُّ مضجعهم في العالم الآخر، خاصة إذا كان لحمهم طريًّا تحت التراب. وإذ أجازف بكتابة شيء عن الفقيد القاصِّ والروائي الكبير محمد زفزاف (تُوفي بتاريخ ٧ يوليوز ٢٠٠١م بالدار البيضاء، إثر مرض عضال) فمن أجل التخفيف من فاجعة موته، ولمصارعة هذا الموت عنادًا، ولأن زفزاف من رفاق العمر والحياة والأدب، والدار البيضاء على الخصوص وفيها، فيا لبؤس الصغار، ويا لخسارة الكبار.

•••

يمتد خط المترو رقم ٦ في باريس، الممتد من محطة Etoile في الدائرة الثامنة، عند قوس النصر الشهير، إلى محطة Nation في الدائرة الثانية عشرة. بإمكانك أن تقول إن المحطة الأخيرة هي نقطة الانطلاق والأولى المذكورة نهايتها، وذلك حسب موقع الراكب والاتجاه الذي يقصد. وعلى كلٍّ؛ فبالنسبة لخط المترو هناك دائمًا نهاية Terminus ما يسمح بتصور وجود أمل ينجدك من نهاية حتمية. لم يكن هذا الخط يعني بالنسبة إليَّ شيئًا كثيرًا ولا قليلًا من قبل؛ أي في السنوات الطويلة المديدة التي عشتها بين باريس وضاحيتها الفارهة sur Seine-Neuilly، طالبًا وباحثًا جامعيًّا، وكاتبًا دائمًا. بلى، أذكر هذا الخط في محطات محددة منه، منها محطة Passy في مطلع الثمانينيات لأصعد منها إلى المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية، هناك في الحلقة الدراسية لجيرار جونيت، جاك لينار، أو لألتقي غجرية فتنتني تسكن هذا الحي. ثم محطة Edgar Quinet تخرج منها إلى شرقي حي مونبرناس، على خطوات من المقبرة التي تضم رفات كبار الأدباء (سارتر، مثلًا). ثمة نقاط أخرى لم تكن تعنيني أو أصل إليها بالسيارة؛ لألتقط البشر الطارئ على باريس، يحتاج دائمًا لمن يجلبه ويوصله إلى المطار كأنما المدينة بلا حافلات ولا قطارات، كأنما!
في زمن لاحق عدت إلى المغرب، ثم عدت إلى باريس، ثم عدت إلى بين الضفتين، ثم ها أنا ذا لا أعرف أين، ألفيتني أربط علاقة أو أستأنفها بطريقة خاصة مع المترو رقم ٦: فهو أقرب خط من حيث أقيم قرب Champ de mars بالدائرة السابعة. تعجبني في هذا الخط محطة Picquet La Motte-Grenelle في هذا الخط، فهي، بتسمية الفرنسيين صحن دائر Plaque tournante تنقلك تقريبًا إلى كل دوائر باريس وشعابها ومنها إلى ضواحيها، وإلى المطارات والموانئ، وإلى العالم أجمع … لمَ لا إلى العالم الآخر أيضًا؟! رغم هذه الميزات؛ فإن علاقتي بخط المترو هذا لم تتوطد وتغدو حميمية، معقدة، أو «إشكالية» كما يقول «الأولاد» هذه الأيام، إلا بسببه، ومن أجله، ولذاته، وبدونه يفقد معناه، كل معناه تقريبًا. أعني أن هذا الخط ينقلني، أقصد كان ينقلني إلى محمد زفزاف. قبل ذلك أحتاج إلى تقديم بعض التفاصيل والممهدات، منها:
  • في صيف ٢٠٠٠م وصل زفزاف إلى باريس للمرة الثالثة لإجراء فحوص طبية حول الورم الخبيث الذي أصاب فكه. في زيارته الأولى عاد بنتيجة قال عنها إنه إيجابية، وأثارت جدلًا في وقتها لأنها، حسب الصحافة، كذبت تشخيصًا سابقًا لأطباء مغاربة. لكن، في الزيارة الثانية، وبعد فحص تأكد أن الورم خبيث لا مفترض، فصدق التشخيص المغربي. لم يكن يبدي خلال زيارتي له إلى شقته الصغيرة بحي المعاريف بالدار البيضاء، وكان الداء قد استحكم، أي قلق زائد، أجده صورة على الأقل رخي البال، غير عابئ، وهو يردد لازمته بأن «هناك موت واحد» وأن «الله كبير» ويواصل حياته كما يشاء ويستطيع. أما الزيارة الثالثة (الأخيرة) فقد كانت مباغتة له وحتمية، فقد «زاد عليه الحال» بالعبارة العامية، ورغم ذلك وصل إلى باريس بثقة، تكاد تقول إنه جاء لإجراء فحوص عادية كالمترفين، أو للسياحة.

  • معلوم أن فقيد الأدب المغربي حظي برعاية ملكية، تضمن نفقات العلاج وتوابعها. هكذا، فبعد عبور قصير بالمستشفى صارت إقامته بأحد فنادق حي الأوبرا؛ حيث كان يستقبل في البهو المريح زواره ببشاشة وترحاب رصين، كعادته، وهو محتفٍ بنفسه ببساطة وتواضع، ومكتفٍ، أيضًا، بما لديه وليس عنده؛ أجل فرغم ظرفه وتبسطه في المجالس عرفته متحفظًا ومهذبًا، منصتًا أكثر منه متكلمًا، مشتعل الذكاء بهدوء، نَزاعًا إلى العزلة، والبعد، كما يقول، عن «صداع المروك» الذين صدعوه كثيرًا حقًّا بحي المعاريف، أرادوا شراء صحبته عسفًا، أو ركوب كتفيه؛ ليصبحوا كتَّابًا فيما هو يعلم جيدًا أنهم بلا مواهب، ومع ذلك كان له حدب على هؤلاء، وقدم لغير واحد قصصه أو كلامه، وما نفعهم ذلك في أن يستمروا.

    لم يكن السي محمد قلقًا أكثر من اللازم خلال إقامته بالفندق، في انتظار ظهور نتائج بعض الفحوص. في مطلع الصيف، ثم والصيف يوشك أن ينتهي، سيقرر البروفيسور «سودان» الاختصاصي مسئول جناح أمراض الأنف والحنجرة والفم، بمستشفى Salpétrière-La Pitié ماذا سيفعل مع الحالة (الورم المتطور)، وهل من إمكانية لعملية جراحية، أملًا، ولأي غاية.
  • بين انتظارين ذهبت إلى المغرب وعدت إلى المغرب لألتقي به في بهو الفندق، كما ألفت، الشاب الشهم، والقاص الواعد محمد المزديوي، الذي أشهد أنه بذل كثيرًا من وقته وجهده وصبره مرافقًا ومعتنيًا بوفاء بالراحل أسابيع صعبة جدًّا. ولقد دعوت الراحل، ومن معه، مساء يومه إلى جلسة خارج الفندق لأسرِّي عنه، فلم تطُل لتعب ألمَّ به. أحسست به للمرة الأولى، يكابر ويداري مخاوفه، وهو وما كان أبدًا شكاءً، بكاءً، له من دهره ما تعوَّدا، ويعلن لي معتذرًا انشغاله بأمور كتابية متفرقة ولم يكن وقتها قد ضيع القدرة على الكلام، وما عرفناه مهدارًا أو محبًّا للخوض في أي كلام؛ اقتناع سرى على عدة أمور من حياته.

  • دخل زفزاف إلى المستشفى بكيفية قطعية في نهاية سبتمبر ٢٠٠٠م، بعد أن اتُّخذ قرار إجراء العملية الجراحية بتفاؤل، كما أكد ذلك البروفيسور سودان، الذي كان يظهر قليلًا جدًّا، ويختفي كثيرًا، مثل «ثعلب» الكاتب، في قصته الشهيرة. نزل المريض في الجزء الجنوبي من المستشفى المذكور الشاسع جدًّا، في البنايات الجنوبية، الحديثة الطراز بناء ومعدات، وفي جناح الاختصاص المعلوم حجِزت له غرفة في الطابق الثالث (غ ٣٠٤)، تقع على يمين المبنى، قبالتها سطيحة واسعة يفصلها عن الغرفة نصف جدار زجاجي يسمح بدخول كثير من الضوء، إذا صحا الجو، طبعًا.

لننقطع مؤقتًا عن تلك التفاصيل، ولنعُد إلى حكاية الخط رقم ٦. سأطلب من جميع الأصحاب والمعارف في باريس، والذين ينزلون بها متعجلين أن يسمُّوا هذا اتجاه المترو هذا La ligne de Zezaf، وما ذلك ببساطة إلا لأنك إن رغبت في زيارته لا بد أن تنزل في محطة Chevaleret من هذا الخط، تقع في الترتيب العشرين من محطاته البالغة ٢٧ محطة، إن أنت قصدتها من منطلق Etoile؛ فإن جئتها من Nation صارت السابعة.

تهبط بالمصعد الآلي، لتعبر الشارع، وبعد خطوات تلِج أحد الأبواب الخلفية لمستشفى، وبعد مائتَي متر مشحونة بالقلق في نفسك قبل أن تمتطي المصعد إلى الطابق الثاني، منه تخرج لتلوي يسارًا فيسارًا؛ فتصل إلى الغرفة ٣٠٤ الموصد بابها دائمًا، على الأغلب. بحذر تضع يدك على قبضة الباب، تديرها وتدفع قامتك متلصصًا، تطل على مدخل ضيق في زاوية منه مغسلة التعقيم. في الخطوة التالية، متوازية مع رأسك إن أطل أو اشرأب جهة اليمين، يراك وهو مسجًّى على السرير، وتراه أنت ولا تراه، أي كما عرفته وعرفك. ثم تنكر وتستنكر وأنت غاضب وحزين أنه هو أيضًا، وتلك صورة من صور عديدة تحتاج إلى تفاصيل.

ستكون محظوظًا لو وجدت المزديوي؛ إذ سيخفف عنك وقع ما ترى، تسبق ابتسامته المريض لاستقبالك، وسيطمئنك في الحين أن كل شيء على ما يرام، وترى الكاتب الكبير تنحني عليه مقبِّلًا جبينه، فيمد إليك ذراعَين نحيلتين كالعود، بينا لحيته تحت وجهٍ صغُر كثيرًا.

ما تزال مسدلة. لقد أجريت العملية قبل أيام، وهو لم يعُد قادرًا على الكلام بسبب إحدى تبعاتها؛ لذا يدعوك بإشارة إلى الجلوس إما على كرسي إلى جانبه، أو على حافة السرير. تراه يتحامل على نفسه ليقيم ظهره، وتشرع أنت في إغداق الإعجاب والدعاء بالعافية المسترجعة قريبًا إن شاء الله، وفي نقل تحياتٍ من المغرب لم يرسلها أحد، وتدخل الممرضة لشأن طبي؛ فتنصرف واعدًا أنك لن تتأخر في زيارة، ستأتي غدًا، وبعد غد، و…

في رصيف مقهى Le pièrrot وأنت واقف قبالة محطة «لاموت بيكي غرنيل». متى كان هذا؟ في الغداة أم بعد أسبوع من الزيارة؟ وستعرف أن هذا الارتباك لن يفارقك، وسيستمر معك بعد كل ما حصل، أي بعد فوات الأوان. أنت تمتعض من الرائحة المعقمة في ردهات المستشفيات والعيادات، تعادل الرائحة لديك الموت مباشرة … لكن هذا لا يكفي، تدريجيًّا سيتضخم الخط رقم ٦ ليتحول إلى شريان يسري في جسدك بكامله. دلفت إلى الغرفة رقم ٣٠٤ للمرة الثالثة والخامسة، ثم ذهبت إلى الرباط وعدت ودفعت الباب ساعة العصر، الممرضات غائبات، والسكون سابح في الردهات، واشرأب عنقك لتراه متكئًا على جنب في وضع الجنين داخل الرحم؛ فأردت أنت تسحب دخولك مشفقًا على نوم طفولي، لكنه همهم أو غمغم يشعرك أنه صاحٍ، به بقية من حياة، فابقَ معه لا ترحل، قبل أن يرحل، بل رأيته يلمُّ بقية أطراف ليوسع لك مكانًا إلى جانبه، وبيده مصحف صغير، وفي عينَيه لمعت دمعتان. غرقنا في الصمت أم في دمع آخر طفر، وحين أوشكت أستأذن للانصراف سحب ورقة وخط عليها خطوطًا وحروفًا قدمها لي، وهي ما تزال بحوزتي ككنز. لم يكن بيننا حرج فيما قد يحتاج إليه، وما كانت له حاجة إلا فيما أراد البعض، على ما علمت، أن يبتزه مستغلًّا فيه ضعف المريض، وتعلقه كالغريق بأي طوق للنجاة، وهو هلاك. لا أحد يرحمك حيًّا أو على حافة الموت إلا من رحم ربك، يا لهؤلاء الغلاة، يا لهؤلاء المتوحشين، المفترسين! بعد طول تأمل للورقة التي قدَّم لي نجحت في تفكيك حروفها ورسومها، تشبه خطوطًا بدائية على منحوتة على صخر قديم؛ فهالني ما قرأت أو فهمت منها، وغادرته وأنا شبه يائس من حالته. لم يفزعني أن يطلب مبلغًا ماليًّا كبيرًا، وإنما يطلبه لكي يتمكن من القدوم من الدار البيضاء إلى باريس، فيما هو ممدد بالغرفة رقم ٣٠٤ بمستشفى «بتيي سالبتريير» الشهير!

ربما عشية أعياد الميلاد، وباريس متبرجة بزينتها واحتفالاتها، أو عقب ذلك؛ لكني متأكد أن علاقتي بالخط رقم ٦، والمحطة ٢٠ فيه، وصلت عندئذٍ إلى ذروة توترها. أصل من مطار أورلي، وقبل التفرغ لأي شأن أقصده الأول محملًا قبل ذلك بطمأنة سمعتها من أصحاب وطيبين مقيمين هنا؛ لكني حين ولجت غرفته في التاريخ المذكور كدت أتراجع، لولا أن نظراته تتشبث بي للبقاء، يدعوني للاقتراب منه. إنك لا تتمنى الموت لعزيز، ولكني دعوت أن يلطف الله به وأنا أراه ينزف الدم، وغيره، من كل أطراف جسمه، ومن فيه، وثقب في حنجرته خاصة، وعيناه تبدوان كالمنقلبتين أو الناعستين فيما هما مشدودتان باستماتة لا يحيط بهما، أي بفضاء الغرفة، أظن ببصمة ضوء طبعتها شمس تحاول أن تتنفس بصعوبة من بين السحب الكثيفة لتعكس سريعًا على أرضية السطيحة المقابلة للغرفة ثم ما تلبث أن تختفي، بينا يداه مطبقتان على المصحف عونه وملاذه، يشير بإحدى سبابتَيه إلى بقعة الضوء، يحاول أن يقول شيئًا بابتسامة تتشكل بعسرٍ على تقاسيم وجه صغير وشاحب، على جسد ضؤُل.

غادرت المستشفى منهارًا، متوكئًا على وهني، لا أنا قادر على البكاء، لا على الحزن، أتحسس طريقي كالأعمى، ولا أكاد أهتدي إلى المحطة العشرين Chevaleret، لا أذكر كيف ركبت المترو، ولا كيف نزلت في «لاموت بيكي». أتذكر فقط أني رغبت في أحدث شخصًا قريبًا عن هذا الوضع، وعن إحساسي، وإلى أول شجرة استندت وفتحت هاتفي النقال.
لست ممن يصدقون الخوارق والمعجزات، لكني، وقد سافرت إلى بيروت، وعرجت على باريس، وبعد يومين شعرت بما يشبه تأنيب الضمير؛ فأنا لم أزُر صاحبي، فهل أكون يئست من حاله، أم لعلي في دخيلتي قدرت ما ليس من حقي … وما جرؤت على الزيارة إلا طالبًا من صديق مرافقتي لتوقعي الأسوأ؛ فكانت فرحتي عظيمة، ودهشتي كبيرة حين أدرت مقبض باب الغرفة إياها؛ وإذ به على نحوله المتزايد، والأنابيب التي تحيط به، يفتكُّ منها تدريجيًّا، لا بل يصرُّ على ارتداء الجاكتة وينهض تدريجيًّا، متحاملًا على نفسه لنعانق بعضنا. وبخطوته الهادئة، يمشي الهوينى كعادته ونتَّجه إلى المصعد ننزل به إلى الطابق الأرضي للمشفى، حيث المقصف، كأنه ينتقل من شقته البيضاوية بحي المعاريف إلى مقهى La presse لتناول مشروبه اليومي، ما كان يحلو لصديقه وجاره الشاعر أحمد الجوماري أن يسميه مناكفة ﺑ «الثامنة» وهو قياس لسائل. وإنَّا تجاذبنا أطراف الحديث، بالكلام من جانبي، واستخدام لغة الإشارة أو الجواب كتابة على الورق من طرفه، وضحكنا، ونممنا كما ينبغي، خاصة على «أبا إدريس» (القاص إدريس الخوري، رفيقه وغريمه التاريخي!) للجلسة طعم خاص به.

قلت إن دهشتي كانت كبيرة، ستزداد كبرًا بعد زيارات لاحقة، وأنا أرى فيها زفزاف يصارع قدره يومًا بيوم؛ فما رأيت أقوى ولا أشجع، في تلك الأيام الطويلة والأسابيع الشتوية الباريسية الموحشة، بالورم الخبيث يتأكله، والغرفة الواحدة لا تتبدل، والممرضات يتنقلن كالآلات، ولا طعام ولا شراب غير كيس اصطناعي يمتد منه أنبوب بلاستيكي رفيع موصول إلى مِعًى ينقل تغذية سائلة أسابيع مديدة، وغير زيارات متقطعة لأفراد دائمًا من العابرين، والمتعجلين، الخائفين من الموت مثلي وأكثر، وعلى شاشة التلفاز تتعاقب مسلسلات بلهاء وركيكة، ومن الصعب أن تقنع حبكاتها الملفقة والمملة قاصًّا بارعًا من عيار زفزاف، والصحف تتراكم في زاوية، وأي مزاج ليقرأها، ولأي مستقبل، ومن أين القدرة على القراءة، ثم إن من بين عباد الله من هو قليل الذوق، أو ثقيل الظل. وهذا ما فهمته منه حين عدت بعد جلستنا في المقصف أرافقه إلى غرفته. وقد أصر أن أدخل من جديد؛ فأزاح أمامي كومة جرائد وسحب كتابًا أو كتابين، واحد منهما وضع على غلافه عنوان فرعي: «شعر». ثم إنه أخذ يقلب وأخيرًا طلب مني أن أبعد عنه هذا اﻟ «…»؛ فقلت له إن لديه ما يكفي من الهموم؛ ليترك لنا نحن مثل هذه «الهموم الجديدة»، التي هي من غرائب هذا الزمان!

أوَكان ينقصه هم؟! فقد استطاع أن يصمد في وجهه ويتحداه طويلًا؛ لأنه كان مصرًّا على العيش، وهو صاحب القصة الفريدة «محاولة عيش». كان الموت عنده هناك وهو هنا في الحياة، أقلها، رغم أنه يرى نفسه، أو لا يراها، يجدف في بحر الرحيل. ثم إن الأطباء في فرنسا خاصة، في مثل هذه الظروف، يضعون بين المرضى ومصابهم حجابًا بل حُجبًا، فهم يباعدون بينهم ومصيرهم المحتوم، واهبين المريض (الميت أحيانًا مع وقف التنفيذ) كل حقوق الأمل حتى وصاحبه أوهَى من بيت العنكبوت. بالنسبة للبروفيسور سودان كان المهم هو إجراء العملية، وبعدها المريض أصبح تحت المراقبة، وبالتعبير الطبي تبقى حالته مستقرة، تعتريها هزات. أما زفزاف فوحده كان أعرف بحاله في تطورات المرض المتوالية، وما سماه قبيل انطفاء شمعته ﺑ «عام من العذاب». وما كان لأحد أن يفتي في هذه الحالة خاصة أولئك الذين يبتزون حتى من هم قاب قوسين من الموت. كنت في زيارته مرة فاقتحم خلوتنا زائر من المتنطعين، وبعد عبارات سمجة من المواساة الركيكة، كأننا في مأتم، فتح حقيبة محمولة على كتفه، وأخرج منها آلة تصوير. قفزت من جلستي أسأله خطبه فرد غير عابئ أنه يريد أن يأخذ صورة تذكارية له ومعه ولنا، والرجل على ما وصفت من حالة جسدية مزرية؛ فما كان إلا أن طردته شر طردة، وبدت علامات الارتياح على زفزاف. من أسف لم أكن حاضرًا لأتصرف بالمثل وأنكى مع كاتبة عراقية تروِّج لأدبها البائر في باريس جاءت تطلب منه محاورته حول الموت، هو الذي لم يفقد الأمل في الحياة قط، وهي التي لم يكن يعنيها غير تحقيق سبق صحفي بإبرام صفقة مع كاتب يموت؛ لتبيعها إلى جريدة سعودية كانت تقتات من مراسلاتها لها، زيادة على ابتزازها للمساعدة الفرنسية للمحتاجين، فأي خزي!

كانت إقامته في الغرفة ٣٠٤ قد طالت حقًّا، وبدأ يشتكي بتوتر واضح، لا وانعكس ذلك في ردود أفعال تجاه هيئة التمريض. وباختصار، وكمرحلة أخرى من العلاج، تم الانتقال إلى «إقامة للراحة» بالضاحية، جنوب شرقي باريس. تطلب ذلك انتظارًا طويلًا لموافقة الرباط، وضمان تسديد مسبق وتعقيدات إدارية أخرى، أمكن بعدها لزفزاف أن يُنفى إلى ضاحية تسمى Forcille، هناك قابلته، بعد وصول ملتوٍ، على عجل كي أتمكن من اللحاق بالقطار. رأيته وحيدًا جدًّا كعادته، فعلًا قضى جل حياته وحيدًا، لا يفهم لماذا جاء إلى هذا المكان ويعييه متى يغادره. في مايو تدهور وضعه فأعيد إلى المستشفى الباريسي.
بين فترة ذهابه وإيابه، ستحتفظ المحطة العشرون برمزيتها، كأنها خافت أن نتسلقها نحن المغاربة؛ ففعل بنا الدهر فعلة نكراء أخرى، يا لحظنا! كيف؟ في نهاية شهر مايو وجدتني آخذ الخط ٦ نفسه مرة ومرتين وصعدًا في مطلع يونيو؛ وذلك لزيارة مريض آخر من فصيلتنا، نحن المتعبين المدانين. كان محمد الكغاط الفنان المسرحي والباحث الجامعي القدير قد نال الرعاية الملكية، أيضًا، ونقل على عجل، بدوره، إلى باريس قصد الجراحة لورم خبيث في الدماغ. وشاءت الأقدار أن ينزل في المستشفى ذاته، وفي الطابق الثاني من مبنى إقامة الكاتب الكبير. أظن أنهما لم يتقابلا. وبرفقة المرحوم الكغاط، وأخيه الكبير، وابنته، وبعض الطلبة المغاربة المخلصين، اجتمعنا في مقصف المشفى نثرثر ونضحك وكأن الدنيا فعلًا «هانية». وعادت المحطة Chevaleret تستأنف نشاط الزوار؛ لكن في وقت وجيز أجريت العملية الجراحية للفنان المسرحي الكبير، وبدت ناجحة جدًّا. عجبًا انتقل الكغاط بعض الوقت إلى فندق بحي الأوبرا، منه ظل يتردد على المستشفى لإجراء فحوص، وهو يتابع العلاج في غرفته؛ لكن الموت لم يمهله رحمه الله. بعد انتقال الكغاط إلى الأوبرا عاد زفزاف توًّا إلى المستشفى؛ حيث لم يعُد بوسع فريق البروفيسور سودان أن يفعل شيئًا يذكر غير تقديم المهدئات، وشُرع في الاتصال مع الجهة القنصلية المغربية لترتيب إعادة المريض إلى وطنه. فعلًا، لم يكن مراد زفزاف أكثر من هذا ليستريح بقرار منه. قبل يومين من مغادرته المستشفى، وهي الزيارة الأخيرة هناك، وجدته جالسًا ينتظر ومتاعه القليل أمامه في الصاك، ينتظر مرور المسئول القنصلي، ورأيت الممرضات اللائي عاشرنه سنة كاملة يتجاوبن مع رغبته الحارة، قلن لي إن من الأفضل له أن يعود إلى بيته، إلى بلاده ليستريح هناك، على قدر الاستطاعة.

عجبًا عاد زفزاف من المستشفى الباريسي، إلى «مصحة المنبع» بالدار البيضاء، الكائنة بزنقة جنيف، خلف ساحة أوروبا، شارع الزرقطوني، أي بالضبط في الزنقة نفسها التي يوجد بها بيت عائلتي، بيت المرحوم والدي مولاي علي، وكان من أصحاب زفزاف وقرائه، وبيت المرحومة والدتي خديجة التي وافتها المنية عشية القرن الجديد، وعاد ليقضي وقتًا وجيزًا في المصحة، وفي الدار البيضاء، رغم شساعة أحلامه، وعظم آماله، فضلًا عن قوة إرادته وشجاعته في مواجهة المرض العضال الذي انتزعه منا عنوة في السابع من شهر تموز من عام ٢٠٠١م، أظن في الطابق السادس من المصحة، بالغرفة رقم ٦٢. أذكر أننا في اللحظات الأخيرة جربنا الضحك، وتذكرنا مرقص الباهية في شاطئ عين الدياب نهاية الستينيات؛ حيث أردفته خلفي بالدراجة النارية من نوع سوليكس، وتذكرنا، أيضًا، طراوة الأهداف، وكيف أردنا أن نصوغ أنفسنا ونجدد مجتمعنا بالأدب، وكان هو سباقًا، وموهوبًا، نسيجًا وحده. ما أنا متأكد منه، وأنا أرى جثمانه يوارى الثرى، في مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، ما أحسست به هو أن جزءًا مني يرحل معه، وأني بذا صرت حيًّا نصف ميت، فلعمري أي جزء هذا الذي بقي مني، بأي جزء كتبت حقًّا هذه الكلمات، نصفيًّا صاح، في هذا الفوات.

١  نُشر هذا النص مع مجموعة أعمال في كتاب «محمد زفزاف، الكاتب الكبير»، منشورات رابطة أدباء المغرب، الرباط، ٢٠٠٣م، وتمت مراجعته وتنقيحه بباريس خلال شهر أيار (مايو) ٢٠٠٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤