الرحلة العراقية إلى الأحضان الملالية

إلى عبد الكريم جويطي، ونور الدين درموش
نيابة عن أهل بني ملال كافة.

كنت سأقدم على تدوين هذه الرحلة، ووصف بعض أطوارها، واعتبار رجالها، والوقوف عند أهم مراحلها، وقتًا قبل اليوم، ولا أعرف إن هي مشاغل الدهر ما أخرني، أم امتلائي العاطفي بها حدًّا غمر نفسي، وأشبع فضولي، فصرفني عنها، واجدًا تعلَّتي وعذري في أن من وما يحبه الإنسان مثواه الفؤاد، يعاش، ولغته المكابدة لا تنفع معها الكلمات ولا تغني. وكنت كلما أحسست بندم عن تقاعسي تداعت إلى ذاكرتي ألطف الصور، وأرق اللحظات، وأعذب الحوارات، وحتى التأوهات والحسرات، فأعود أستنكف منطويًا على نفسي وما حوت في شغاف الذكريات، جاعلًا منها ذخيرتي لحاضر فاتر، أحيانًا، وغدًا ربك أعلم بما منه آتٍ.

وأنا أعني أيها السادة رحلة قام بها الشاعر العراقي حميد سعيد إلى المغرب، قادمًا إليه هذه المرة، لا من وطنه العراق، ومدينته بغداد الذائعة الصيت في الآفاق، وإنما ساعيًا من عمان إلى الرباط سعي الحجيج إلى كعبة العبادة والاشتياق، حاملًا بيدٍ حقيبة المنفى، وبأخرى مصافحة الأشواق. وهي رحلة بأصول وصارت لها فروع: بدأت بالرباط، وامتدت إلى مدن غيرها، وأطراف في مملكة الله السعيدة، اجتاح النظر خلالها السهول والجبال، وديانها وتلالها، المدن العامرة، والقرى القانعة، والحقول اليانعة، كيف بالأحضان الدافئة، والوجوه المليحة، والبيوت الحاتمية بمحبتها ومآدبها السانحة. وبين هذا وذاك في قلبها لغة الضاد فوارة، بمنابع الشعر دافقة، وأزاهير البلاغة فواحة، والقلب في مجرى الهوى تاه عن قِبلته، ضيَّعه هواه!

كدت أصرف النظر عن هذا كله، وكم في العمر من جوًى احترقنا به، وكبتنا نداه. ذاك أن الحديث عن رحلة تبدأ من منفى، ولا مناص لصاحبها، إثر نهايتها، من أن يعود إلى منفاه، ليشق على النفس، فإن تلذذنا بكتابتها فهو تلذذ عذاب، وما يطيقه، والله، أحد فكيف بأولي الألباب. إلى أن وقعت عيني على فوق ما يطاق. كلام صفع النفس، وكذب الظن، وهيج حالًا أردناه مع الدنيا والبشر إلى وصال وحسن اتصال، ما كان عذبًا استحال كدرًا، غيضه زور، وفيضه فجور، وكثير منه منساق في أيامنا السود هذه، يقود بعد الويل والثبور، إلى وبال وسوء مآل.

فحواه أن جريدة في الماء العربي الآخر تسمى بلاد قطر، حديثة الصدور باسم «العرب» نشرت مراسلة من الرباط عن جانب من الرحلة التي ذكرنا وتقاعست عن الكتابة عنها للسبب المذكور، (بتاريخ ١٣/ ٠٣/ ٢٠٠٩م) اطلعت عليها متأخرًا عن طريق قارئ غيور، وجدت في ديباجتها ممهورًا بتوقيع «سعيدة شريف» أن الشاعر حسن نجمي قال في مدخل الأمسية المنظمة للضيف العراقي بالمكتبة الوطنية بالرباط بأنها ﻟ «رد الجميل الذي أسداه الشاعر للكتَّاب والشعراء أيام عزته وسلطته مع الرئيس صدام حسين» (ما لم ينبس الرجل ببنت شفة منه، وهو حي يرزق!) لتمضي قائلة لا فُض فوها: «لم يحضر أمسية الشاعر العراقي حميد سعيد التي خلقت سؤالًا كبيرًا عن جدواها وأهدافها لدى العديد من المثقفين والمتتبعين للشأن الثقافي بالمغرب، إلا عدد قليل من الكتاب والشعراء المغاربة، وهم ما تبقى من دعاة القومية العربية» (كذا). وبدل الرد بأي صيغة على هذا اﻟ (…) أجزل الشكر للمدعوة إياها مرتين: الأولى للتكريم الذي خصت به الكتَّاب والشعراء المغاربة، بالأحرى «ما تبقى …» لا أراهم سيتضايقون من نيابتي عنهم في هذه المناسبة، وإن كنت لا أصادر حقهم الخاص في الرد على ذاك اﻟ (…)؛ والثانية، لأنها حركت قريحتي، وذكرتني أن الصمت أحيانًا جبن يفوق خزي الباطل، وحرام أن نسكت عن جمال العالم وحسن خصال المغاربة وبهاء أرضهم، بينا ثمة من يمشي بين الناس بالبغضاء والإفك؛ يشهد الله أن كثيرًا من هذا الجمال بان في هذه الرحلة.

… فإن أبا بادية لما حط طائرته بمطار محمد الخامس سرعان ما نسي أمر حقيبته لم يجدها في انتظاره كما وجدنا بأحضان مفتوحة، وانشغل رأسًا بالالتفات إلى اليمين جهة تراب أولاد حريز، مذ تركها وهي في حرز حريز، تحسبه يتشمم أرض «التيرس» وأنفه شمم. قلت له رويدك يا ابن العرب سنعود إلى بلاد الجود، أما الآن فطريقنا إلى الرباط، كان أدركها قبلنا قلبه الخفاق بالأشواق، سرنا إليها، و«سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا» فسُري عنه وهو يراها بعد طول فراق، مسربلة بخدر النعاس، وشوارعها في سرى السكينة والإيناس. لم أدخل أحلامه تلك الليلة؛ لكن ما إن انبلج الصبح إلا ونحن قدم واحدة من شروقها إلى غروبها، يطوف على مرابع الأحبة والخلان، الموجود منهم ومن كان، حتى على الطلل المحيل في شالة المهيبة نفضنا عنه غبار النسيان. أما ما تلا ذلك ﻓ «يا ليلة بعدها عيناي لم تنم!»

وإن من طريف ما تشهده مع المسافر أنك تعيد اكتشاف المكان، كأنه في جغرافية نائية، بينما أنت فيه كل آن. ذاك ما ذكرني به أبو بادية، وحرمه السيدة أم مصعب، حين استيقظا في يومهما التالي متلهفَين، تحسبهما كوكب المريخ يطلبان، وما هما إلا حي أكدال يبغيان، فيه فاكهة الشباب الذي عاشاه برباط السبعينيات ومن اجتمع في مجلسهما من إنس نادر كالمرجان، لن يكذب هذا إلا باغٍ أو سليل بهتان. ورغم أني أخبرتهما أن الأرض غير الأرض، والديار تبدلت، وأخلاق القوم ابتذلت، وستائر المحبة والكرم أسدلت، والدنيا إلى خصام، وقلوب الخلق مع الدرهم وحده على وئام، وما نعيشه اليوم من غرائب الأيام؛ رغم كل هذا القيل وتعداد الآثام، نزلنا بأكدال نزول الحجاج الميامين، أراهما ينظران إلى كل شيء متعجبين، في زنقة سبو حيث قطنا يمشيان متلهفين، فقلت لا سبيل لي لهجر العجب إلا أن أنظر مثلهما بعين القلب، وأنسى ما تعيشه الرباط وسواها من سلب ونهب؛ ففي روح المسافر دائمًا مستقر بعد التعب، تنيخ بها راحلته، ويزول عنه كل كرب، وكذلك كان، وفي رباط الفتح أنت لا تعدم من يمد الخوان للإخوان، يزينه راح وريحان، تذوق فيه السلوى، وتشرب السلوان، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.

وجاء الموعد المنظور بالمكتبة الوطنية العامرة ليلتقي الشاعر حميد سعيد بجمهوره ومحبيه، بالرعاية الزاهية لوزارة الثقافة؛ حيث كان نساء ورجال الأدب والفكر متحفزين للعناق، وسماع الشعر من أصيل العراق، أمس حجوا إليه زرافات ووحدانًا، واليوم أصابها الشؤم، يعشش فيه البوم، وموقعه أبعد من جزر الواق واق. الشعر الجميل مشربهم، وحسن الإنصات ديدنهم، ولطيف التذوق معدنهم، جاءهم شاعر عربي من عاصمة الرشيد، أسمعهم كل طريف وتليد، ولقد تساقيناها عذابًا كئوس الشعر اللذيذ، وما انتهينا بعد وقت مديد إلا كالنخل وقوفًا وإجلالًا للشاعر الفذيذ، ذكَّرنا بصحيح القريض، وأنا عربًا وأمازيغ، جئنا إلى حضرة الدوحة العربية بقض وقضيض، لا يضيرنا أن تنوح البواكي أنا ما تبقى من دعاة (كذا)، فالسادة دومًا قلة، لا يهابون الضواري فكيف بالطير المريض، خاصة ممن جناحه مهيض؟ لم نكد نترك شعر الكلم إلا وداهمنا ليل من ضفافه السنا يفيض، إلى سحره دلفنا، وفي شغافه همنا، رافقنا كل خبير وشريد، ونمنا، على جبين الشاعر غفت نجمة ظلت تحرسه طول مقامه، نجمة الحب المغربي، رأيتها ذاك الصباح، تقود ريح الصبا في يومنا الوليد.

قبل أن يحضر حميد سعيد إلى الرباط كان الشاعر حسن نجمي، وهو اليوم يتحمل بشجاعة وحنكة مسئولية مديرية الكتاب والخزانات بوزارة الثقافة، أحرص ما يكون على أن تتم الزيارة على أحسن وجه إقامة وبرنامجًا ولقاءات، وقد بذل لأجل ذلك وغيره أفضل جهد جازاه الله عنه كل خير، ﻓ «حمر» وجه الشعر ووجهنا جميعًا، وحرص على ألا يبقى الضيف جليس أهل ما يسمى بالمركز، المدن الكبرى، باتت في الحقيقة تجافي الثقافة، وقال، ونحن نرتب برنامج الزيارة ألا بد من بني ملال، وهو ما صادف هوًى في نفسي، فقد صار لي فيها منذ وقت أهل وأحبة، وليس خيرًا من هذه الأرض مآل. ثمة فاس ومكناس والدار البيضاء ومراكش، لكن وردة الأطلس بدت أبهى من قريب وبعيد، ووجدناها جديرة أن تحظى بقصب السبق، وما خاب الظن فقد باح الضيف بعد لأيٍ أن لو خيرت وحدي غير مزارها ما كنت عداها أختار، أما أهلوها فنعم الخلق والنشر بين الديار. وإذ سمع الروائي والمدير الجهوي لوزارة الثقافة لإقليم تادلة أزيلال صديقنا عبد الكريم جويطي بالخبر عده ميمونًا وانطلق يشيعه، بل يزفه إلى أسماع أبناء تلك المدينة المتعطشة دومًا إلى المعرفة، مرهفة الحس، قوية الهجس، وهي شديدة البأس، وعطاء الشعر والنثر من خصالها، كما هي هو ماء عين أسردون يصب من جبالها والعيون. تنادوا بالخبر، فكان ذهابنا إليهم يوم السابع من شهر مارس، عامنا هذا، والحق أن هناك مكانًا تتلكأ في الوصول إليه، أو تطرقه بحكم الواجب وللسلام، وآخر تتشوف إليه، فتصل قبل الوصول، أو تجد نفسك تتدبر حالك، وتهدئ رعشك، لا تعرف ما دهاك أو سيحل بك، وتصبح الطريق غير الطريق، والمسالك خطوط على الجسد، ونبض في القلب، وخيالات تطلق لها العنان، ولا يخف ضرام الوجد بعدها إلا إذا تعانقت الأحضان، وكذلك كان.

فيا سادة، ليس أجمل من ربيع المغرب، ولا المغرب في فصل الربيع، وقد أهدتنا الطبيعة في الطريق جمالها سجادات من الزنابق تنافست في الألوان، وتباهت بالأزاهير والأقحوان، يرفرف في قلبها سيدها بلعمان، تحسبه نارًا، تارة، وأخرى وهجًا من خدود الغيد الحسان. وتعجَّب الشاعر، معه تعجبتُ، كيف أن هذا الحسن، وقد فتنَنا منه في كل درب طوفان، لا يثير عيون شعرائنا، ولا يحرك قرائحهم، تكاد تخلو منه قصائدهم، فتراهم مأخوذين إلى صور منضدة، ومعانٍ مجردة، وأحاسيس مصطنعة، بينما المبذول من الحياة كثير، والمعطى في هذا الفصل أثير، خاصة ما تقنصه عين الخبير، وما أبدع هذا الذي تهادى أمامها عز له النظير. لا تحتاج أن تقول له منبهًا: «شوف! شوف!»، يمضي إلى الصورة قصدًا، تنهمر الرؤية في العين انهمارًا كالسيل المقذوف. وما هو إلا أول السفر إلى بني ملال تغوي عن بعد بالحلاوة والظفر، يستعجلنا لسان جويطي الوصول إليها كل مرة سائلًا، بصوت ملهوف: «فاين وصلتوا؟ أفاين وصلتوا؟» فنطمئنه أنا أشوق منه للوصول، وإلى التملي بتلك الوجه الغرر، لولا أن الشيخ إدريس الناقوري نصب لنا في الطريق البيضاوي مائدة صحراوية حافلة بالأطاييب، تصدرها عن يمين ضيفنا عبد الجليل المهيب، وعن يساره إدريس الملياني الشاعر العندليب، وحولنا طيف عروة الزمان محمد باهي ينزل عن راحلته ويعقرها لخدنه البابلي، «فظل العذارى يرتمين بلحمها/وشحم كهداب الدمقس المفتل.» فيا لرؤيته قلبي انفطر!»

انتفض أبو بادية فجأة كأنما حل به كشف: «ها، ها برشيد!» يقصد مداعبتي بمكر، فأجبته: «طبعًا، أنت الآن في مركز العالم، عند أولاد حريز معدن الإبريز!» لك أن تأخذها جدًّا، أو مزحًا، إنما هو يعلم أن بعض لحمي من تراب الشاوية، وكذلك فتنتي وزهوي، ثم صار المغاربة يعرفون أن الرجل اختطفته إحدى عيطات الحاجة الحمداوية، وعلمناه أن هذي الأرض جنٌّ إذا سكنت أحدًا، فكيف بروح شاعر، طار عقله، يظل يطوف في الدنيا لا يقرُّ له قرار إلا بالعودة إلى الدار، وحين عاد رآها «جاية تصفار وتخضار؛ هي، هي، حاطة السالف عالليزار.» من ذاك الزمان لقِّب بحميد لحريزي، ضمن أوشام أخرى نقشها بعض الأخيار.

وإذ صارت برشيد خلفنا تهيأ للبابلي أن الطريق صارت مهادًا إلى من سيتبيَّن بالحدس والملموس أنهم بنو عمومته؛ فقلت له رويدك أين منا تلك الربوع ونحن بعد لم نبرح بلاد امزاب، انظر إلى الأفق القريب نحو تلك الربوة عن يمينك تعلو كالقباب؛ ففوقها توجد «العلوة واماليها»، كل من بها يشدو، وإليها يهفو، دانيها وقاصيها. ولو أخبرنا عبد الرحيم الجلدي، والميلودي شغموم، والشيخ محمد مفتاح، وسعيد يقطين، فضلًا عن حسن نجمي، وهما معًا أشبانيان، لجعلوا بلدة بن أحمد تخرج لاستقبال ابن العم العراقي عن بكرة أبيها، ولأقاموا الخيام وأطلقوا البارود، ونحروا الصردي المليح؛ فهم قوم فحول وأهل جود، لو، إنما لا بأس يا أبا بادية سنسمع منهم لهذا التقصير أشد العتاب، وأنت أعلم أنه «على قدر الهوى يأتي العتاب.»

وخفنا ونحن نتقدم نحو العصر أن تطول بنا الطريق لو بقينا نتملى صفاتها ومزاياها، خاصة والعام زين يا لصحاب، والمسافة بين بن أحمد وثلاثاء الأولاد قرنفل وخزامى وروائح شواء وكباب؛ فاستعجلنا نداء عبد الكريم يلاحقنا، كمن يهمز ركوبه، مرة، مرة، كي تقطع المفاوز لتعود بمن عن البلاد أطال الغياب، وما نعرف أحدًا بخريبقة التي أهلها في البال، ولا نحن من جهتنا جربنا السؤال، اكتفينا بشرب الشاي قبل أن نعبرها في غبار كالوبال، مستأنسين، لا بأس؛ ففي كل مكان ثمة عرب بالباب. كل الطرق تؤدي إليهم، خاصة هذه، يختال فيها الربيع الطلق، انشرحت بزاهي الأعشاب؛ فهل رأيت خرفانًا، بل الدواب، مثواها ومرعاها حقول يانعة تلمع كالشهاب، وأم مصعب تشغف بالنظر، وكلما زادت تهمس لما نبلغ الوطر، فتستزيد معجبة: «ما شاء الله شو ها الحسن؟! شنو ها الجمال؟!» فتُعطى من حلاوة مغربنا ألف جواب، لم يبخل علينا لحظة في الذهاب وفي الإياب.

أما وقد بدا الأفق مجللًا بسحابة خضراء، تظللها ثانية بيضاء، تحفهما سماء زرقاء؛ فإني استفقت من شرود، والشاعر إثر عطسة خفيفة قال هذه رائحة فيحاء، من أرض سبقنا إليها القوم الألى، وها نحن كأنما نقتفي أثر الأنبياء، غرسوا فيها زيتونتهم على امتداد السهول وسفوح الجبال، وها زيتها يضيء بالأخضر، بكل ألوان الضياء، والتكبير والصلوات إلى فاطر الأرض والسموات، ترفعها حناجر الملاليين والملاليات، يتدافعون بالمناكب تحسبهم موكب حجيج، عشاقًا معًا وأتقياء، قال الشاعر كل شجرة هنا آية، والآية دليل وغاية، لا أذكر كم مشينا في مسالك الغابات، والبابلي قادم من بلدته «الحلة» لا زاد له بعد منفاه اليوم غير قوانين حمو رابي، وديوان المتنبي، وما أفل من نجوم وأحلام امرئ القيس في الفلوات، والناعبين والنادبات بأننا أمة انقرضت، تنقرض، نحن فيها بقية كالرفات … أبا بادية لا تهلك أسًى وتجمل، سنقض مضاجعهم، وأقسم بهذا البلد، ووالد وما ولد، في بني ملال، وسترى الآن المحال!

من رآنا يحسب أننا ندخل المدينة فاتحين، وما نحن إلا بالمحبة لاهجين، مقصدنا هدانا واحد، فثانٍ، وأصبحوا عددًا، حتى إن بلغنا الفندق موكبًا لا تنقصه إلا الأعلام والزغاريد، ناب عنها في الحين العناق والأخذ بالأحضان، ومن كل زاوية نَد الترحاب هذا يوم عيد، وهب جويطي والرفقة الأجاويد، أحاطوا بالشاعر البابلي إحاطة القلادة بأحلى جِيد، وفوق رءوسنا ترفرف تحيات بيضاء من ثلوج أطلسنا الفريد، انحنت هامته لك أيها العربي وريث جدك المجيد، وعادت تستقيم شامخة، كالعهد بها، تترك العزف يمر قادمًا راقصًا أهله من «وادي العبيد»، وما هي إلا دقائق طارت بنا الأحضان، لتأخذنا أخرى، وجوه بيض، وألسنة تلهج بالتضامن والتقريض، وما هي إلا دقائق وقاعة الغرفة التجارية غص مدرجها بمن جدير أن تسمعهم أعذب القريض، لسانهم ذرب، وحسهم طرب، وذوقهم رطب، وحبهم لا يغيض، وقد أسمعه حميد، والله، ما لم أسمعه منه مذ عهد بعيد، هو المعنَّى بعشق المغرب كم هو مريض، قرأ فأجاد، بأوجاع العراق والأمة قصيده يفيض، وهذا الجمهور الحيي، لا تراه يمل، ليس يداري، ولا هو سكران يميد، بوجد ووعي معًا تسمعه يستزيد، فيه أحمد ومحمد، علي، الحسن والحسين، عمرو وزيد ويزيد، وخديجة وفاطمة الزهراء، وكم هن يسلكهن عقد فريد، أحبين أن يشكرنه فغنين له أعذب الألحان، أصبع على وتر شجي، وأصواتهن الموشح فيها حسن وتجديد، هكذا هي بني ملال تحب أن تزجي فوحها، تكيل الهوى أهواء، ومن زارها صديقًا، صدوقًا، أهدته الأغاريد؛ فإن كان ابن الرافدين، تحيَّر في وصفها، هو بين أفنان وغيد.

… ولا جال في أسواقها ومطاعمها، أهلها يكرمون الضيف على موائدها، من مدخلها يقتنصك أديب لوذعي من أبنائها، نور الدين درموش، ليس ناقدًا أدبيًّا سديدًا، ولا إداريًّا محنكًا، فحسب، بل زاد عليهما هو وأهله الأخيار الأتقياء، إكرام أهل الله من الأدباء الأصفياء، لا يبغون جزاء ولا شكورًا، فهم بما أوتوا من نعمة وخلق سمح، في أعلى عليين، سبحان من هو في العلياء، ولقد أولم لنا آل درموش، نحروا، كما يليق بأهل هذه الساكنة أن يفعلوا، جريًا على سنة أجدادهم في الجزيرة العربية واليمن السعيد، أحسنوا وفادتنا، وغمروا الشاعر إكرامًا وإجلالًا، شيبًا وشبابًا، حتى خاف لسان حاله أن يقول: ما بعد هذا من مزيد! وكلما جال الهوى بأن يبوح بخاطره هبوا يحملون من الطعام كل صنف جديد، وأخيرًا أشرت له أفهمه: يا أبا بادية أنت هنا في بلد معطاء، انظر معي هذي النجب وهؤلاء النجباء، وهذا البيت بالذات من سلالة الفقهاء، وهؤلاء عادة أجرهم عند ربهم، وعدهم وسعدهم غدًا في الجنة الفيحاء، إنهم يشترون بحبك يوم القيامة، ونحن عرب وأمازيغ هذا البلد اعتزازنا بعزيز القوم شديد، ووقفتنا إلى جانبه صلب عنيد، وكل من دخل بني ملال بقلب سليم وأتاها بوجه حسن، فكيف لو زاده شعره، ووطنه هو غربته، إنا والله نفديه بأرواحنا؛ ألا سَل «كتيبة» جويطي كم فيها من شهيد!

… ولما عاد أبو بادية إلى حيث انغلقت عليه أبواب منفاه، اتصلت أطمئن على الوصول، وإنما يطمئن قلبي على ما كنت قد آمنت به، فسمعته وصوته أجش مختنق، ويعلو تارة وفي جوفه كبد محترق: «والله لو كانوا أبناء عمومتي اللح لما استقبلوني كما فعل أهل بني ملالَ»

باريس في ٠٣/ ٠٥/ ٢٠٠٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤