صداقة بلا حدود

لروح صديقي الفنان والإنسان الكبير
بهجت عثمان.

فلعلك لو أذبت بعض الفقاقيع، ومسحت ما علق بالمنضدة والكراسي من غبار، والستائر سحبتها قليلا، سيتسلل طيف ضوء حيي … وفجأة، برمته يحل ضيفًا بيننا وعلينا ربع قرن مضى قد حضر. كان هو بدونه لا نكون، نتلف شهورًا غافية، ونسقط من سقف العمر ما تعلق من عناكب؛ فينهض بعده الربع الأعتى والأبهى، تجمعه في قبضة لنتلفه في غفلة.

لا أذكر أيكما جاء إلى الآخر، نحن الآن جلوس في نضارة الصباح تتلمظان بعد بنشوة الليلة الفائتة، ومن شرفة الطابق الأول للفيلَّا البيضاء، في حي راسين بالدار البيضاء الهالكة؛ حيث نزل ضيفًا عليك، تتطلعان إلى سماء ترسل أشعة شمس أربعة وسبعين هي أم خمس وسبعين وتسعمائة وألف. عادة هو لا يجلس ولا يمشي، ولا ينام، ولا يصحو، ولا يأكل ولا يجوع، ولا يظمأ وما يكفُّ يكرع. هذا الواحد القديم من آلهة وملوك وكهنة وسحرة الفراعنة، نسوه حين أثثوا قبورهم داخل أهراماتهم، وفي رواية أخرى أن جميع الأهرامات لم تتسع لقامته التي تبدأ من الدلتا وتسوخ جذوع قدميها في منابع النيل. أما كلامه فهو الحداء رافق قوافل رحلة الشتاء والصيف، واغتذى بها من كانوا في الجاهلية العظمى عربًا كما يهتدي الضال بنار القِرى. وهكذا نسيه شيوخ القبائل — وقد كان دينًا وحده فسها عن ذكره عمدًا «الأنبياء»، بينما أحب هو عن عمد جميع الرسل والأصفياء — ومن جاءوا بعدهم، والذين تولاهم الله، فالذين تولوا أمورنا، شئنا أم أبينا، وبقينا نعلك الأيام ونحتسي المرارة إلى أن بُعث فينا؛ فاكتشفته الشمس صبيحة ذلك اليوم قادمًا إليك في منتصف العقد السابع من القاهرة، قاهرة المعز لدين الله الفاطمي، حاملًا باليد اليمنى قلبه يلوِّح به للمستقبلين، ولم تكن إلا أنت، وقد كتبت عليه بخط ضحكة فيحاء: بهجت عثمان.

وبهجت عثمان هذا بالمختصر غير المفيد — وهذه مجرد إفادة عجلى لقارئ عجل — إنسان عربي ومواطن مصري، ورث جميع الحضارات والأديان والملل والنحل واللغات والأفراح والأتراح. ظهر على سطح كوكب الأرض بالقاهرة سنة ١٩٣٠م، درس الفنون الجميلة، وعمل في الصحافة ردحًا من الزمن ﺑ: «روز اليوسف»، «الأخبار»، «العربي»، «الأهالي». رسام كاريكاتور، أي يرسم الناس والعالم بالمقلوب، أو بالأحرى على الوجه الصحيح، وإن شئتم بالمضحك المبكي. انقطع عن هذا اللون من الرسم حين اتسع الخرق على الراتق، حين اقتنع أن الحياة كلها صارت كاريكاتورًا، وألا فائدة بعدُ من زيادة السماجة. عندئذٍ انصرف إلى رسوم الأطفال، أو على الأغلب إلى تطريز قصص للأطفال برسوم جميلة ومرحة. وقد كانت زوجته، حبيبته ورفيقة عمره السيدة بدر، «بداديرو»، أو «ماما» كما ناداها دائمًا. كانت بدر فنانة بحق، من مواهبها العديدة التي اشتهرت بها صنع الدمى، الدمى البلدي خاصة، والعرايس تصلح لمسرح الكراكيز ولغيره، منه فن تصاميم الطفولة والزينة عامة، مستوحاة جلها من الفنون الشعبية، ومعيش المواطن المصري «الغلبان».

لهذا المواطن أخلص بهجت عثمان طوال حياته، مؤمنًا بشعبه، وزعاماته الوطنية والقومية، جُعلت قرة عينه في عبد الناصر، ردد دائمًا أنه مدين له بالشقة الصغيرة التي تملَّكها في حي المنيل بالقاهرة، ضمن مشروع اشتراكي، دفع ثمنها بشقا العمر أقساطًا. وعادى بهجت إسرائيل عداءً شديدًا، رافضًا أي تطبيع من أي نوع. متخذًا مواقف شجاعة من أجل ذلك لا يضاهيها إلا وقوفه القوي في الصف الديمقراطي التقدمي، وضد الدكتاتورية والاستبداد؛ لذا كان خصومه كثرًا، هو الذي اصطفى أصدقاءه الكثيرين، أولًا، ثم القليلين من الصفوة المختارة عنده بعد ذلك. منهم شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ، والممثل السينمائي الشامخ أحمد مظهر، والصحفي اللبناني الكبير ظلال سلمان، وهي عينة فقط، ويشهد الله أن موقعي في قلبه، ومنزلتي عنده، لم تقلَّ عن هؤلاء، على تفاوتٍ في الأعمار، إن لم تزد، عربونها ربع قرن من المحبة، وعنوانها «صداقة بلا حدود» ولهذه حكاية لا أجمل ولا أعذب. كان حبيبنا قد أصيب بمرض السكري، ولم يكن يرحم نفسه في حياته ونمط عيشهن تزيدهما مكابداته، فضلًا كدحه الدائم لتوفير عيش كريم لأسرته، بتوفير تعليم ناجح لولديه الشابين الباش مهندس هشام، والأديب الأريب وليد. كبرا وشبَّا أمامنا وبقي هو أصغرهم سنًّا، عجبًا، وأوقدهم جمرًا والتهابًا بما كان يطمح إليه، من أجل أمته، يسميه على سبيل السخرية اللاذعة بلازمته المعهودة: «نحو بعد غد أفضل!» ولم يحل الغد الذي انتظره بهجت طويلًا، مديدًا، وأمسى هو نحيلًا كخيط بتأثير السكري دون أن تفارق أقلام الرسم أصابعه، وظل هو هو، لم يصالح، ولم يطبع، بأي شكل، ولم يساوم على مبادئه أو يتنازل لأي دكتاتور، إلى أن أسلم الروح إلى باريها بالقاهرة في الثاني من يونيو من سنة ٢٠٠١م.

استئناف الشوق

قلت إنه خط اسمه على قلبه وحمله ليعلن عن وصوله، فاحتضنناه جميعًا، وفي البداية كنا فرادى أوائل: مصطفى القرشاوي (الراحل بعده)، عبد الله بوهلال، وعبد ربه. وصل بهجت في زمن إعادة تأسيس النضال وإرساء مبادئ الحرية والديمقراطية والتقدم، في زمن الانطلاق المارد لجريدة «المحرر» — وهذا تاريخ غير مكتوب، كم نخشي عليه من الضياع.

لقد كنا إذ ذاك شبابًا يزهون بالزمان رغم أن السجون والمحن فعلت فعلها بالأجساد. كانت أيدي الظلام قد اغتالت الشهيد عمر بن جلون، وعوَّلنا على القصاص بمواصلة رسالته، وكنا جديين حسب اللازم وأكثر. وبلا توقع حل بيننا بهجت ليعلمنا درسًا لا يُنسى، وإن نسيناه، مفاده أن التزام خط النضال والإيمان العميق بالمبادئ، والاستعداد للتضحية من أجلها (كان ذلك في الزمن الغابر) لا يتناقض مع المرح والبهجة، ومنه عنده أن النفس المنقبضة والوجه المكفهر لا يمكن أن يعطي مستقبلًا فرحًا للناس، للجماهير … وفن الكاريكاتور، إذا توفرت له الموهبة والثقافة السياسية والاجتماعية، فضلًا عن الفطرة الإنسانية، يمكن أن يصبح أداة مزدوجة الدور؛ فهي تناوش وتتحرش وتستفز في اتجاه التغيير، فيما هي تثير الإحساس بالمفارقة الساخرة والمضحكة في آن. هاكم مثالًا طريفًا، ففي الأسبوع الأول من وصول بهجت إلى الدار البيضاء، وبعد أن زارنا في مقر «المحرر» الذي اخترنا أن نسميه «الباطوار» أي Les abattoirs لوقوعها في منطقة مسلخ الدار البيضاء الموحش، الخالي من مظاهر الحياة ما عدا الدماء التي تراق به فجر كل يوم للخرفان والعجول والأبقار، ويقصده قوم من كل الأحياء لالتهام قضبان اللحم ورءوس الغنم المشوية، وهذا من ساعات الصباح الأولى، وقد يكون صحفيو جريدتنا منهم إذا توفر مال وقلَّ أن يتوفر، فهم مناضلون!

أقول إن بهجت بعد زيارة الجريدة، وتجوالي معه في بعض الأسواق، منها سوق الجمعة جنوبي حي البلدية، استطاع أن يكون فكرة عن الأسواق، وأتذكر أن سعر اللحوم وقتها عرف ارتفاعًا مدوخًا. جلسنا نستريح بعد الجلسة في مقهى وإذ صاحبنا أخرج قلمًا وورقة، عتاد لا يفارقه، وبعد دقيقتين قدم لي رسمًا عبارة عن صورة مواطن يقف أمام محل جزار، بيده ربما قطعة لحم، قبالته مصور يلتقط له صورة، كتب تحتها التعليق التالي: «صورة تذكارية للمواطن الفلاني بمناسبة شرائه كيلو لحم!» وقد تحمس عبد الله بوهلال، وهو سكرتير التحرير، لنشر الصورة بالصفحة الأولى، ما احتاج إلى تداول بين «لخوت»؛ لأن الاتحاديين (مناضلو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي يصدر الجريدة) الفرح ليس مهنتهم، كما قال الشاعر الماغوط، لكنهم هذه المرة «تنازلوا» وبلعوا الموسى من أجل الضيف الكبير، ونشر الكاريكاتور في الأولى، ليلقى أوسع صدى، وهي المرة الأولى والأخيرة.

لا يخلو كلامي من مبالغة هي من خصائص فن الكاريكاتور، أو «المسخرة» التي كنا نعيش فيها آنذاك، وكل طرف سعى للانتصار عليها بطريقةٍ ما. الحق أن «وافق شنٌّ طبقة» أو أن بعض أبناء الاتحاد وجدوا هواهم في الفنان المصري الوافد، وهو كذلك، كأنه جاء — وقد حل في الوقت المناسب — ليشخص من خلال الاحتفاء به، والتعلق بما يصنع جاذبيته. ذاك البعد، المكوِّن القومي، تحديدًا العروبي الناصري، الذي يُعَد عجينًا حيًّا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والاتحاد الاشتراكي ليس إلا استمراره بعد مؤتمره الاستثنائي لسنة ١٩٧٥م، وفي بهجت ينبوع محبة لا ينضب لعبد الناصر — وقد رأى دائمًا أن خطاياه تضؤُل أمام مزاياه، واستمر على خلاف مع مناوئيه الشيوعيين خاصة، حتى وهم من خلصائه، بينهم صديقنا المشترك الروائي الكبير صنع الله إبراهيم — فإذا أضفت إليه رواء الحب: حب الفن؛ الغناء والمسرح والرقص والتشكيل والفنون الشعبية، وللأدب وحده مكان عظيم عنده، أدركت! سر التجاوب بينه وبعض أولئك، وفهمت أن زيارته إلى المغرب بخصاله وشمائله ومواهبه قبل كل شيء، أنعشت أرواحًا، وأحيت نفوسًا عاشت دومًا على حب مصر، وهي وقتها قلب العروبة النابض.

أندلس هشام ووليد

في سنة ١٩٨٨م أصدرت ديواني الشعري الثاني عنونته «أندلس الرغبة»، وهذا قبل أن تبور هذه البضاعة في سوق الأدب. كانت عشر سنوات قد مضت على الذكرى التي قدحت في نفسي زناد العنوان، وبعض وهجه ومباهجه، وللحزن هذا الحنين. أظنه عاد لزيارتنا بعد عام أو أكثر، لا أتذكر جيدًا. لكن أتذكر أنه عاد بمعية زوجته بدر وولديه الفتيَّين وقتئذٍ؛ هشام ووليد. وأسرَّ لي من الوصول، وقد انتظرته في مطلع الصيف، أن المغرب هذه المرة محطة عبور. طبعًا، ستزور «القبيلة» مراكش وفاس على عجل؛ لنمتطي بعد ذلك هودج سيارتي، وهوب صعدًا إلى الأندلس، أيامها لم تكن الأمور معقدة، ولا حدود مغلقة ولا شينغن، تركب السفينة العبَّارة من مرفأ طنجة وبعد ساعة تحط بميناء الجزيرة الإسباني، وتفضل، وها نحن في إسبانيا، ولسانه من أول نظرة يتدفق إعجابًا مشوبًا بالحسرات: «وشوفوا يا أولاد! أجدادكو العرب، أجدادكو الجرب، عملوا إيه، وسابوا إيه، شوفوا يا أولاد!»

اخترنا الصعود مباشرة إلى مدريد وهي لهب؛ فالزمن نهاية تموز. خلا بداديرو في غرفة واحدة، آوتنا نحن الأربعة غرفة كبيرة توفيرًا للمال من أجل زيارة المتاحف، والمشاهدة والتمتع، طبعًا، في الليل، وإلا ما هو السفر؟! لم نكن نشبع من النظر، ونغشى متحف البرادو في كل وقت، إلا الليل. ها هي مدريد تولد في عيني من جديد، لا أذكر كم مرة زرتها، وباستثناء واحدة هِمت فيها على وجهي متيمًا بمن حملتني إليها؛ فإن تلك الزيارة زمن مفرد. كانت لبهاجيجو معرفة دقيقة بكل لوحة، ورواق، ونصب، وحركة جسد، جامد أو حي. هي معرفة الشغوف لا العالم، أو المتنطع، ولا المستقاة من دليل سياحي؛ لذلك اغتاظت منه إحدى المرشدات ونحن أمام نصب عربي قديم، وقد لاحظت إسهابه في قراءة إحدى اللوحات أمام بضعة سياح، فخاطبته قائلة: «أوَنسيك العرب هنا قبل أن يرحلوا؟!»

ووالله أحسبها أصابته في مقتل؛ إذ ما إن نزلنا غرناطة حتى ضيعنا أنفسنا، فما عرفنا إن نحن في مغناة شوق أم نركب أراجيح الشجن، أم هما معًا، وإذَن هذا قصر الحمراء، وهذا هشام، هشام بن عبد الملك، ووليد، وليد بن عبد الملك، وهذا بهجت عثمان الداخل، سليل عبد الرحمن الداخل، وقبله توت عنخ آمون، حمو رابي، وجلجامش، والأقواس، والفسيفساء، والسقاية، والأندلس، ضوءُها، قمرها، كرمها، فسقياتها وزليجها، ولَّادتها (ولَّادة بنت المستكفي)، ابن حزمها وابن زيدونها، والمعتمد ابن عباد معتوقًا من أسر أغمات، مجرد تصور شارد، وكل المآذن من بحة الخيرالدا يوم كانت صومعة تهلل بالتكبير، وفي رمشة عين تعبر عدسات التصوير، مثل صفاء الجدول تجري دمعًا في عينيه، أو من عيني فيوقظني أو يحرضني، لا أدري، بالصيحة الراجفة: «وشوفوا يا أولاد، شوفوا، بنوها ازاي؛ بس قولوا لي سابوها ازاي؟!»

لم يكن عند الغجر في ليل غرناطة كبير شيء يعلمونه لبهاجيجو، آخر عاهل من ملوك الطوائف، وقبل ذلك بائع طيور وصائد حور وقناص نجوم بين تلال قرطبة وسهل إشبيلية — دسسناهما على عجل بنظرة في القلب — وقبل ذلك نورسًا في خيال «الكيخوطي»، فحلق من النيل، من قلعة محمد علي، من البوغاز حلق بنا إلى الأندلس، نحاول ملكًا أو نهيم فنُعذرا.

آخر الشهداء

ولم يكن لي عذر في الباقي؛ لذلك تركتني أنقاد إلى التجوال بلا سؤال. قبل ربع قرن تقريبًا، حين حللت بأرض الكنانة سرت فيها كالأعمى حينًا، ومقتف خطوات أبطال ثلاثية نجيب محفوظ الروائية الشهيرة، حينًا آخر. بعد عامين من الرحلة الأندلسية حللت بالقاهرة لأجده بانتظاري في المطار، ومنه انتقلنا إلى شارع عبد العزيز خيري بحي المنيل حيث يقيم. ومن الغبوق إلى الصبوح، في صباح قاهري مشمس ربيعًا اقتادني، يدًا بيد كعادتنا، وتوقفنا عند مقهى محمد علي، الواقع بين ميدان التحرير وساحة طلعت حرب. مقهًى صغير بطابق واحد. صعدنا درجه الضيق والساعة التاسعة، وتقدم أمامي نحو طاولة في الزاوية، فهلل الرجل الجالس بمقدمه، وأقبل نحونا مزيحًا عنه كومة جرائد. سارع بهجت على سبيل التقديم:

«عمو نجيب، نجيب محفوظ، طبعًا!» فغمرني شعور اعتزاز وامتنان. ثم التفت إليَّ يقدمني وأنا في حال من الخجل: «ودا يا سيدي أمي أحمد المديني (كذا)»، وكان يدعوني أمه من شدة ما أُبديه من حرص عليه، وانتباهي ﻟ «قفشاته» من اليقظة إلى الصحو!

فيما كان في القاهرة فهو عيناي ولساني وكل شيء. ومن زارها ولم يعرفه فقد أضاع نصفها، مكانًا وتاريخًا ورجالًا وأسرارًا. لم تنكرني ولا كنت أجهلهم: مذ الشاعر صلاح عبد الصبور تعارفنا في الجزائر سنة ١٩٧٤م، إلى نجيب سرور يغادرنا باكرًا في مقهى ريش ملتاعًا، وهي تعج بأدباء النكسة، وما بعدها، والعهد الساداتي تنين بألف رأس. أما مع بهجت فكل وجه وأي مكان هو ذاكرة وطريق، دال ومدلول. و«ابتدا المشوار»: «آخذك على التجمع (معقل الناصرية الصامدة) حنقابل الأستاذ خالد محي الدين. والمسا حنتعشى عند محمد عودة، وحتيجي فريدة (النقاش) ولطفي الخولي … وبكرة الأربعا مفيش، القعدة مخصوصة يا سيدي لشلة الحرافيش.» لا أذكر إن كانت معرفتي بالشاعر الزجال أحمد فؤاد نجم، ومولانا الشيخ إمام في حي الغورية قد تمت على يده أم قادني إليهما في بيت إمام الروائي عبده جبير؛ لكن القاهرة كانت، وما تزال، ترن بكتابها ومثقفيها وفنانيها الوطنيين والأصلاء؛ في هاتفه الليل كله ترن، وأمام خطانا نرى «المحروسة» تتهادى بين الأضواء والأهواء.

فمن الليل بقية تسلمنا لعطايا، في العهد الزاهر للأهرام وشارع الهرم. للنجوم تهبط من السماء لتنادمنا في عوامتنا، في النيل. و«تشرق الشمس، أيضًا» فتستيقظ مصر على كاريكاتور جديد لبهجت يصارع الجبروت والظلموت مفجرًا غضب شعب بأكمله، قارئًا خبايا وأوزار عيشه، محاربا بالخط واللون والحركة المتموجة انكسارات العهد الساداتي، ومن اجتياح «القطط السمان» إلى جراد «الانفتاح»، وتلاحقت البقايا … أذكر أننا احتفلنا بموتنا يا صديقي منذ عهد قديم حتى الثمالة. طعمنا لحومنا، وأهديناهم أرواحنا التي لا يستحقون، لكننا سلطنا عليهم شياطيننا ليفعلوا بهم الأفاعيل. أذكر كيف احتفلنا بتأسيس تلك الجمعية العظيمة، جمعيتنا «صداقة بلا حدود» وكنت وحدك الخيمة والفيء يأوي إليهما كل العرب الأحرار، الأشراف، أيام تلك الأوطان. طبعًا، سابقًا، كان سابقًا، «شوفوا، شوفوا، يا أولاد!»

اعذرني أخيرًا وأنت هناك. لا أعرف مقدار ما سيتدفق على شاهدتك من المراثي، اعذرني فما عندي اليوم إلا الحشرجة، وأنت قبل هذا وذاك لم تخلق للبكا، وإنما للبهجة يا بهجت، للغناء والجمال، للصبايا، أحلاهن غدت بلبك بدر، وعيون «بهية». والآن، ورغم هذا كله، أو بسببه، تذكر دائمًا موعدنا، ألم تضرب لنا لقاءً «نحو بعد غد أفضل؟!» فيا نديم عمري إلى اللقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤