شكل آخر لحضورك؛ شكل آخر لغيابي

سأمتثل لكلام تفجَّر نبعًا من داخلي، وأنا أتوجس خيفة من صمت سيفيض على اللسان. قبل أن تكتب حروفه تلجلج في صدري، ورائحته عبقت ركنًا، ركنًا، في زوايا المكان، هنا في هذه المدينة حيث أحترف امتداد النسيان، وفي أماكن غيرها أنتظر من الأرض أن تسميها، هي وحدها آهلة باحتفالات الذكرى وأطلالها أيضًا، بين رحيق الشباب وقبل شاهدة الرحيل.

لا حيلة لي إلا أن أخط الوجع، في خط السير المضمَر بالوجع، وثمة في الأحشاء هول، في الحنجرة ربما بقايا صهيل. أسكت طويلًا عن ضنك الأرض، عن هدير مضطرم بين الخطوة والنظر، عن اشتعال طافح في العينين، ويد لا تمتد إلا لمن تعرف مسبقًا أن سيُدميها وتمعن في الجراح؛ هكذا وجدتني أسكت بينما على الشفتين ارتعاش كالمريض بالألزيمر، جسدي كله ليس غير رعشة واحدة، لكن متوارية خلف ثبات النظر، أنا متباعد بين من يراني، ومن أرى حين أراه لا يراني. كلانا لوهلة أولى يستحلي النظرة الأولى، قد تتبعها ثانية وثالثة ويسترسل في الولع، فكيف أضمن بعدها ألا تحبل الأرض أسمعها تبوح من وجع؟!

لا حيلة إلا رشف الألم قطرات، ووقف استدرار أي رحمة، خاصة من أوثان صنعناها من أحلام خربة، تشبه هذه الأيام، وهذه الوجوه العائمة في البراري بلا ظلال، ثم وضع ضمادات الغشاوة على عيون منقلبة إلى الوراء. تكون تمشي على قارعة طرقات أضاعت الخطوات، لم تَعُد تهتدي إلى الفرسان الذين منحوها لهيب صدورهم، واستبسلوا كي يمضوا بسطاء، ويتبخروا بسلاسة كهواء نقي، بعيدًا عن كل هذا الهواء العفن، تاركين للديدان متعة لعق أقدام وأيادٍ من طين لزج، فيما هم أشاحوا عن صورهم المعلقة في مداخل جنان موعودة، وانصرفوا إلى الحياة، والموت سيان، من باب النمل؛ المجد لك أيها النمل يا سيد كل الأزمنة!

لا حيلة إلا أن تنزل إلى قاع النظرة، أشحتَ طويلًا عن خارجهم، أم أشاح عنك، سيان، هناك ترى المرئيات شتاتًا، وتعود تستعيدها كتلة، لقد رأيتَ الكثير واتسع الكون على مدار حدقتيكَ، والآن كأنما لا تجد غير الهباء، عمًى في الأشكال والألوان، عمًى بين فسحة الرصيف وظل الشجرة، عمًى آخر حين لا تقود الكلمات سوى إلى صدى مثقوب في حناجر صدئة، فأسأل عندئذٍ من أين آتي بالصوت، بالحنجرة، بالهواء، بأخضر شفاف يضيء حرير نعاسكِ، ونور رفيف يتقدم حفيف ثوبكِ، أو ندي همسكِ، حين تنوين الكلام فقط، أعني كلما خطر ببالكِ أن الأرض كوكب أعشى عندما لا يبصر تقاطع نظرتنا الغائبة، أو الشاردة … عن كل حضور!

سأمتثل، أعود أستمع قليلًا إلى صدى خطوات تدق فوق رأس الشارع، تطرق باب القمر وتصافح العابرين نحو أحلام صغيرة، سأرافقهم بأناة، متكاثفًا في جسد الجمع رغم أني منفصل عن نفسي، وهي حيلة ليس إلا لأقترب من فضاء يحتويك، شمس تسمرُّ بشرتها من لفحاتك، وأنا ربما غدًا أنام كنهر فوق ساعدك، كلما رقرق الماء كبرت أحلام أولئك العابرين غدًا إلى موعد تركت فيه نظرة جامحة، ومضيت كأن لم يحدث شيء، بينما الدنيا إثرك، ما بها جائحة؟

ظننت أن باريس لي قامة،
ظننت قامتي هي باريس،
وما تبقَّى بعدها من الأرض
مني، لي بقية،
ظننت.
أوشكت أن أغيب عنها،
عن كل ما سواها،
أو عداها،
لا أرى فيه إلا المتاه.
أوشكت أن أخرس سمعي،
أجفف نبعي وأشرب دمعي.
خلتني استوفيت عمري،
وكل شيء تعدى مداه.

لم أكن في حاجة يومًا لاستعارة الصور، أو جلب كلماتي من جنان مفقودة، ولا عولت على حلم سيهدهد أيامًا قلقة، أو يركِّب لي أجنحة للطيش. يكفي أن أغرس أصابعي في الطين، وأشم العبق المتدلِّه من زهرة بيضاء اسمها الياسمين، وتغمز لي شجرة الميموزا تعلن استهلال الربيع، يليها سرب الفراش يتهادى مرحًا كالمرح، فأراها الكلمات قد صاغت ما بين الأرض والسماء نقشًا وتطريزًا، صليلًا وصهيلًا، شهدًا أتذوقها، وصهدًا ورعدًا أتقلب بين المعاني والحروف، والرعشة المدرار ميزان حرارتي الوحيد عن سؤال موغل في الحريق، ويقين أبدًا لا يبين.

مذ وقعت في شرك الوهم — لقد طال العهد بي، ولا يعنيني أن يقال شبَّ أو لم يشبَّ عن الطوق بعد — وأنا أجلب كلماتي من أبجدية الجسد المترعرع بين الرمضاء والنار، المنضد بين المطرقة والسندان. صوري تتوالد من إصراري على نبذ عشرة السكينة العمياء، وتوليد مزيد فتن في وجه سادة بُلهاء وبشر سمج، سقيم الروح يتناسل في التكرار. صوري فائقة الذهول لا أحتاج لرسمها، يكفي خط غائر في جدار حائل اللون لإعلان سلالة القدم، ويد تلوح كالشراع لإشهار رجفة الرحيل، وعويل واحد ذات ليلة مقمرة كافٍ لينذر كيف الكارثة آتية، ما أدراك ما هي … أما الشوق، أما اللهفة، أما الحب، فلا تتسع لها أي لغة؛ لذا تبقى تائهة أرواحًا شاردة … مذ وقعت وأنا أنبذ كل عيشة راضية.

أوشكت أصالح بين الأضداد،
وأسلِّم عز ما مضى لغدي،
فجأة فاض من الصدر كلام الحُمم،
صار غيابي حضورًا من عدم،
وها أنا أمامك على وشك البدد!

أنا من يحدِّث الغائب عني، الحاضر فيك كلما غاب، ازدادت كثافة الحضور واتسعت أرجاء وجهه، صار بلا حدود فلا أعرف أين أولِّي وجهي، تصير معي الطرقات حدقات تفتش في ذرة الرمل والهواء، تغربلهما لعلها تحصر ضياعي أم امتدادي في جسد صار هو البلاد، وصوتي إن خلا منها ليس غير صيحة في وادٍ، وتقول من حرثت بعيونها الشاوية، اجتازت البوغاز مجدفة بأهداب كيف أجزم أهي من أخوالي «أولاد حريز» أم خلاني في «بني ملال» أم تكون سمرة سهول الغرب القمحية، ولهذا تعتريني الرجفة كلما همَّت بالحضور، مجدفة بأنفاسها اللافحة رغم أن النظرة ثابتة، والتحية تحافظ على الميزان، بحساب أنها ستفعل بك الفعائل عن بعد، فكيف إذا علمتَ أنها ستستمتع بالمثول فيك، كيف تجزم إذَن بمن هي، كيف؟! وماذا سيتبقَّى لك بعد مثولها فيك، وامتثالك في الغياب، كيف لدى الحضور، سيبقى منك؟!

الدليل أن المجاز الذي يستعير منه الشعراء كل الصور، به يصعدون إلى ذرى المستحيل، تراه هناك جامدًا شُلت قدماه، تعوَّد أن يصعد إلى السماء بمجرد حيلة للبديع، وها هي نفثة من صدرك تشعل الحرائق في كل طريق فلا يبقى من ملاذ في الأرض غير الصعود إلى سماء صار اسمها امتثالها للبهاء، والمجاز يسائل أحواله مثل العاشقين انتابتهم جذبة «الأحوال» ظل سبيله، مثلهم وأكثر، وأبقى جامدًا خارج كل فعل، ما بي يسأل ما بي، ولمَ كل هذا المحال؟

صعقتُ لدويٍّ يدوِّي، وقصف كالردى، وهزيم تلو هزيم: من يسأل ماذا؟ ولماذا؟ وقبل هذا عمن يسأل؟ وأنا حوله، قبله، بعده، بينه، ضمنه، منه، نومه، صحوه، قوله، صمته، سطحه، غوره، قربه، بعده، مبتداه، لا مُنتهاي، برده، صهده، أنا هو وهو أنا، جوعه، شبعه، ظمؤه، ريُّه، بعضه منه، لا يُدرك كله، لو قلت أنا فيه أضعته، وإن أضعته غبت عن أي طريق يأخذني إلى أي محجة غير محجته، ماذا تبقى أي بلاد حين ستهرب الرعشة من خطوته، أو تميل القامة نحو ظل لا يُفضي إلى محراب يتأله فيه البشر بالآهات قد أتخمتهم الصلوات، استجاروا بباﺑ«ﻬﺎ» فرأَوا مزنًا يأوي تحت الأهداب وعيونًا تُمطر شغفًا بالمحبوب، كلمني من بعدُ فتضرعتُ إلى رب الأرباب، لكَم طلبت القرب ولمَّا أسمع بعدُ أي جواب.

كلمني، هو الآن ملء الحضور، بصورة مرسومة أمس بمرود الليل، وغدًا أسمعه يصعد حثيثًا درجات دمي. وجدتنا نلتقي في منعطف غياب كل واحد ينجذب فيه إلى سر، ويختفي وراء غواية الكلمات، ونفترق حين يعزم المعنى على الجهر بمعناه؛ فيقول أنا قادم للُقياك، لتهتز الجبال، ولتفضِ الأنهار، وها سهول المغرب كلها صدري اركض فيها فيَّ على هواك، وحين هممت أن أفعل كبحَتني خطوط خَطتها يدها برعشة وبحسرة آسرة؛ قالت (من تكون؟!): «شتان بين حضور يُغذيه الخيال، وغيره من أشكال الحضور.»

منذ اليوم أعلن أني أنا الذي عشش فيه الخيال حتى النخاع بتُّ لا أعرفه مثلما عرفته؛ فالآن تجلى لي، ومن الآن كيف أضرب في الأرض، وقد علمتك، رأيته، أظن أني رأيتك، فهيت لي. وأنت من الآن ستتعدد في «غير»، ستأخذ كل الأشكال، سأجدك في الأصل والفرع، في المعنى والمبنى. «غير» هذه وطن بوسع كل الأوطان، افتح بابه وستلقاني فيه أقرأ سورة حضورك، تاركًا لك أن تتلو بعدي، ومعي إن شئت ما تشاء، أن تكون وإنك لكائن في الغياب.

باريس في ١٦/ ٠٤/ ٢٠٠٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤