المقام الأول من سيرة السلوان

«وقال لي البلاء بلاء من رأني لا يستطيع مداومتي
ولا يستطيع مفارقته وأنا بين ذلك أطويه وأنشره
وفي الطي موته وفي النشر حياته.»
(النفري، مواقف)

١

لم أكن أعول عليها، على رؤيتها ولا تذكرها. سواء جاءت مرتعشة أو متجسدة أو تتخلق من ضباب الغيب. حدود لقائنا هو افتراقنا البعيد، من يومها شطَّت في الغياب، وجلست أنا أرعى خفائي الناظر إليها تسرع الخطو بإبطاء الالتفات إلى قوة ما سيصبح الذكرى. أتصيد التقاطها لا أعول عليها لأقفل راجعًا أبدًا إلى ذهابي الأول.

٢

تركت لي وحدي حساب عهد ارتعاشها، ودهر ابتلائي بها، ولم أكفَّ عن الرحيل بين الأزمنة والتقاط أنفاس الأمكنة لأنشق شميم نخوتها؛ تلك النظرة وهي ترشف نخب المغيب على إيقاع قلبي عند صدرها، أم راحة يدي تمسد السحاب يكلل شعرها، إن أمسكت بها هنيهة شردت عنها عمرًا أقبِّل راحتها وهي ماضية في هنيهاها حتى أفلتت من يدي في الزحام.

٣

لم يكن قريبًا ولا بعيدًا ما حدث، أو لم يحدث قط، سوى حين استطالت قامتها قدامي، والسماء، على غير عادتها، اهتبلت قربها، نزلت إلى الأرض تمشي إلى الجوار، كتفًا إلى كتف توقع نبضها، لعله خطوها، والتمَّ حولهما، فينا خلق كثير، ليرى ما لم يُرَ قط، كيف بينهما التحمنا وفاض غمر، شعشع ضوء، فطِرنا عليهما.

٤

نزلت من شامها، ذاك، لثغتها، أم غنَّة صوتها ضوَّعت طيبها لتضيعني، ربما، فحدستُ الشام. انفرجت أساريرها، وانتشى الورد بمرآها، فعرفت أن ليس لي غير هذي البلاد ما يفترش كل هذا البهاء، والطريق حيث تمضي حفيف هواها. قليلًا أطلت ممعنة في الخفاء، مُطرقة في حسير النظرات، هي من عولت أن تغزو الأرض بعينين فقط، فيما الأرض عيناها.

٥

أهو زعم مني، أم منها؟ لست أدري بأي مقياس أتذكر. ألا تحسب أن بيروت هي الزهو ومضمار الحنين، مأوى التذكر، سواءٌ لوقع سنابك خيل مرت أم لرماد الشوق في رسائل الغرباء؟ رذاذ بيروت وحده حامٍ، وليلها حاجب كل المدن. يكفي أن تنشرح مرة في خاطر الزمان ليسرج الشعراء نحوها خيال كل الأزمنة؛ في مدى نظرتها وجدتنا فضمتنا. أنا والشام، يومها بذرتنا في حقول الوله.

٦

بدت الجغرافيا امتدادًا. السهول والجبال. خطوط الطول ومجاري السهول. دورة الفصول. زهور تفتحت وأراض تبور. خلق كثير حتى يشيخ ويموت. الأوان لون واحد. المباني مكدسة متكررة. الكلام راكد كالنعاس. الوقت نعاس. ولدت في بلدة اسمها برشيد، أي في العدم. الدار البيضاء تطريز عمارات على جلد البداوة. بيروت تأفف على أهبة. الشام قوام يظهر لي وجه الفارق كي يسبيني. أقول الآن فقط ستبدأ الجغرافيا.

٧

ظهر وجهك فانتفى التشابه. ولدت أرض من الأرض. أنجبت ففاح الأقاح. طلع غرس في باريس. وحدها بين كل مدن الدنيا أينعت في صدرك. تولع الحسان والولدان، ففاءوا من حر عينيها إلى فيء أهدابك. لم أميز بعد أني هنا في شراع وقفتك. حسب الفرنجة أن رئيسهم قادم لما ازيَّنت الطرقات، بينما الأشجار أكاليل في أيدينا بتويجات الضحك، أبهى منها أصابع ترقص لوقع الخطو القادم.

٨

قبلك لم توجد، بعدك لم تبقَ. طاف المنادي ينبه الطل والعشب والورق الأحمر الفاتك بتباشير الخريف. لم يجِد أحدًا، لا صدى. غدًا كل من يمشي ويهمس ويندي إليك. غدوًّا باكرًا، إلا سري. يجدلون الألوان ستصبغ خديك تحنِّي يديك. نهر السين غادر سريره متعجبًا من جنن الفرنجة فأشاحوا عنه. إنما استبدلوه بمن؟ طبعًا لم نرها، ما أدركناها، فهي الشارات والعلامات تحدس، تتراءى، والخيل مائسة كالرخيم.

٩

بلى، لها طراوة الصباح. في جامعة Censier أمسك بيدي لتعود فيخفق فوق خدها ناعمًا فوق يدها مترنحة، بين الفراغ وخصلة شعر متمردة. رفرف الطلاب على جانبي كالحمام. عبروا خفافًا نحو أحلام هاربة. لم يحفلوا بالساعين إلى الدكتوراه، بقلوب واجفة. في منتصف الطريق بينكم توقفت. فهل باد الشعراء؟ جللتها نظرتي من فوق، ثم هبطت عند قدميها، قبل أن يستأنف الهواء سربه جاءني منها النذير: «البلاء بلاء من رآني.»

١٠

وطراوة ابن الثلاثين، والعنفوان الصاهل في جسد يزحف طوفانًا يتحدى باريس؛ أوَيُنسى أنها غول يزدرد الأجيال؟! منهم عرب يرشحون بفحولة فائضة، الأشقر دائمًا هو الرهان، ربما الأرض، رغم غالبية السود والصفر، شقراء، وأمي، خالاتي، جاراتي أيضًا، كلهن قمحيات ولذا جئت لأكتشف، لا، بل لأغزو الأرض الشقراء، ها أنا في مدخل الجامعة، السماء فوقي بيضاء، والورق أمامي أبيض لأكتبه، وأنت، أنت، من أتى بك أيتها السمراء؟!

١١

في زاوية من محفل الصمت يقعد الكلام، يجلس مدثَّرًا بمفرداته، صانعًا من حروف كالهاء عينًا، والحاء حاجبًا، والنون فمًا، والأنف قامة وقلمًا. كل ما سأسعى لكتابته — عنها وعني — لا يُكتب. فما ترسمه الحروف افتراض كلام قبل أن نلتقي في منعطف المعنى، أن نستلقي — مثلًا — فوق أريكة الإحساس. هراء. ليكن! وأنا أملي المحاضرة على الطلاب، مررتُ بطاولتها فهالني أن رأيتُ قلمها تحته الورقة بيضاء وهي تكتب. خمَّنت أنها إما تريد أن تروض الكلام أو تروضني، غدًا!

١٢

كنا في أكتوبر. الخريف — مثل استنفارنا — على أشده. من حيثما مرَّت ينتفض الشجر. هي ريح خفيفة لتتجرد؛ بالجسد والمعنى. شعرها ما انفكَّ مشدودًا إلى الغوطة الشامية. وأنفاسها، ما بها؟ يا ويلي! ضوء سكوب من رذاذ المساء. سُهَّد الليل بعدها سيتلمظ مع اختلاج أول وهْم … رمتني ومَضَت. نظرة واحدة إليها تلقفتها وطوتها أبدًا. منذئذٍ لا أبغي سوى ذلك، أشدُّ ما أخشاه انقطاع أمسها، كيف بغدٍ.

١٣

رآني المغاربة عند ناصية شارع يؤدي إلى الشرق فتعجبوا: لماذا جئتَ إلى الغرب إذَن؟

أم بردَت في المهجة الوحشة لأمك؟ أردتُ أن أجيب لم يفهم ضلالي إلا من عاش بليَّتي، أو جرب ابتلائي؛ فتأخر الكلام لا يأتي إلى لساني. هي من أخذته في سطوتها الفاتكة. دهِشين تسمرت نظرات الطلاب إليَّ. أحملق في وجوههم ولا أقول. ما أنا بقائل. فجأة تطايرت الحروف. انسربت من بين الشفتين تطير كاليمام. أردتُ أن أركِّب اسمها، بينا هي أبدًا تطير!

١٤

في مدخل الجامعة ثانية، رأتني واقفًا شبه مهلهل. لا أتقدَّم ولا أتأخر. عبرَت وحيَّت بخفة وابتسامة كعادتها، هكذا هي جوليا، جوليا كريستيفا: Bonjour «أهمد» ثم رجعت صائحة بعجب: !Tu es splendide aujourdhui. حاولت أن أفهم، طبعًا، فأنت لا تراك، وإلا انظر عشب رأسك، موج الأصفر السابح مع الأخضر في وجهك. لكن قل لي — سألت بمكر — لمن أعرتَ عينيك؟ تعرف أني أنتظر من عشرين حولًا أن تعيد أخرى لي نظرتي. نابت جوليا عن الجواب بالتنبيه والعتاب: ألم أحذرك من السلوان، إنه مثل السيميولوجيا، علامة وسراب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤