صباح الخير أيها الفصل

«وقال لي البلاء بلاء من رآني لا يستطيع مداومتي
ولا يستطيع مفارقته وأنا بين ذلك أطويه وأنشره
وفي الطي موته وفي النشر حياته.»
(النفري، مواقف)

١

صباح الخير أيها الفصل. خلتُك للوهلة الأولى ذهبت وتركتني؛ أوَتستطيع حقًّا أن تتركني أنا خِلك الوفي الذي ما سلاكَ يومًا ولا جفاك، حتى كاد أن يقسم ألا يكون حاله إلا منك في حالك، حتى. أنت تعرف أني أقدم إليك في الوقت المحدد، الذي يناسبك، يخصك، وعداه، غيره، ليس أنت؛ لأني عرفتك دائمًا أيها الخلُّ الوفي، مثلما أحببتك.

٢

لا تتقدم عليَّ، لا أتأخر عنك. هو ضرب من الميثاق بيننا وعهد مبرم في السريرة، اختبرَته الأيام ولم ننكثه، رغم تبدُّل الدهر وصروف العمر. كلانا في النهاية يذهب إلى من يطلبه، مطلبه ومذهبه، بل معشقه فيه مهجته. إن غفلت عنك لحظة ذكَّرنيكَ غيابك، وما هو إلا سعيك وشرودي فيك — هذا المدى المتصل بانقطاعات هياجي بك في بَوحي إليك، لو علمت؟! — أما إن ارتحلت فكل الآفاق قدَّامي، عجبًا وخلفي، طريق إليك.

٣

يحدث أن نفترق، معناه أن يتباعد الجسد، كأن يقيم في البدد، لكنَّ روحينا لا تقيم إلا فيما انوجد، أي فيَّ وفيك. يحدث — أيضًا — أن يرتدي الطقس لونًا غريبًا فلا أعرفك، كلَّا فأنا لا أنكرك، كما لا أشركك. قد يحدث فقط، والافتراض كالوهم مجاز، ليبقَى مجازي فيك إليك. ثم ما يلبث الصحو أن يعود لتظهر كالكلمات البسيطة في مطلع النها، أو بريق أول شعاع يخرق سماء الرماد، تستجير به البلاد، يصافح في وجهي منك ظل وطَل، وهفو الوصول.

٤

أعود إليك. أتجرد من كل ما ليس في منك، ما يسرقني من جوارك، يباعدني عن حماك.

تعود إليَّ. أنت لم تذهب قط، بل استغرقتك شجون رحيلي، متى يحل غدي، مسافة جزري ومدي، وهذه الرجفة — جسدك — حفيفها في يدي، أم حرقتها كلها أمس كاليوم، كبدي. سنعود معًا. تسير أمامي فأمشي إليك، سبيلي مدى نظرتك وانغراس جذوعي في تربتك.

٥

لست احتمالًا، بل أنت المآل ماثلًا أمامي في ارتعاش وسواسي بك خشية ألا ألقاك، أو يفوتني ميقات انتشارك؛ ذاك المخيف يفتح جفن الصباح على ضوء لونك المتموج بانتظاري. صخب هو وضجة هي واحتقان وغبطة ومخاض وعذوبة ما أعذبها كالدهشة تعتريك، حين تراك أنت تراني، تتضاحك عندئذٍ بألوانك ما بان منها وما هو في حضن السريرة، سيتفتق غدًا عن شكل المحال: أيها المعذب المهول من فرط اجتياحك أحراش النهار، كأنك لا تعلم أن مسكنك أحشاء الليل!

٦

ولا أنت شك، شبه ببقايا احتراز قديم من فوات الفصل … مكابرة أن أقول فواتي. من شدة اليقين بك يذهلني حضورك الحائم بين وشي بذور الغمام، أي أنك حضور وغياب، ذهاب وإياب، تتعالى راقصًا في رفيف الحمام، وأنا المستعر تحت عجين التراب أشاهد غدوك فيَّ وصهد خطاك على جبهة الريح يجبلني من لهب، لا أستجير من أي رمضاء بغيرك، فأنت الذي قبلي من بعدي، أنت الذي من غلب.

٧

بل الزمن الشاخص المتعرش بين تويجات الضحى، أو كما أحبه منسدلًا كعرف على نحر هذا الشجر: إني أراه الآن، كما بالأمس، على مسمع الريح بيننا شاهدة، يرتدي شكل وجهي ويمضي على أثرٍ من خطاك إلى خفقة اللون الخصيب، أو أغيب، متلألئًا في نطفة فضته، متبرجًا كالشهوة الجائحة، واقفًا يصرف أفعال وقتي، ما مر منها، ما هو آت، بفعل الأمر أنقاد له، أعلم، لا يضارعه سوى زمنه.

٨

خفتك تنساني لما انزويت قليلًا من بعدي. أعني هناك في رَبع يسمى بلدي أو وطن، أو ما تبقَّى بعد الفتك والنهش من جسدي الطريدة. خفتك تطوي أرضك المبتغاة حقًّا، وتمضي بدوني إلى أسرارك النائية، وأبقى هنا حيث لا اسم لهذا المكان غير ما حزته أو نلته من طلعتك الزاهية. خفتني أنطوي خلف أستار البلى، أنت وحدك المجتلى في البعيد، كيف بالقريب، من يمسك الرعشة، من يدركك؟! «وإنك كالليل الذي هو مدركي/وإن خلت أن المنتأى عنك واسع.»

٩

مر عام. مرت أعمار. والذي يليك. يليه. نكهة النهار مطلعك. سلافة الليل مضجعك. وحدك من نهوى أو نهوي فيك. نحن ناجيناه فقلنا لو لمعتَ من حدق أو شمخت في أفق، لنراك أو ترانا نسبِّح، نلهث في مداك، وحق رب الفلق، قلنا بحَّ منا الصوت، فما أعيانا الانتظار، خلنا لحظة أن تهاديت في ألق. هي الأرض كيف تركناها، وسرنا نحو أخرى … ثراها موضعك …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤