الفصل الثالث

صِفَاته

كان أبو بكر في جملة ما وصفوه به أبيضَ تخالطه صفرة، وسيمًا، غزير شعر الرأس، خفيف العارضَين، ناتئ الجبهة، غائر العينين مَعروق الوجه، نحيفًا مسترخي إزاره عن حِقْوَيْه حمش الساقين، ممحوص الفخذين خفيف اللحم في سائر جسمه.

وكان أجنأ — أي منحني القامة — وقيل في وصف آخر: إنه حسن القامة لا يلحظ عليه انحناء، ولعله كان كذلك أيام الشباب، ولم يرد في أخباره وصف قاطع عن الطول والقصر، ولكنه على ما يؤخذ من بعض تلك الأخبار كان أميل إلى القصر، ولا سيما أخبار الهجرة مع النبي عليه السلام.

فقد جاء في خبر الهجرة أن النبي عليه السلام «كان على بعير، وأبو بكر على بعير، وعامر بن فهيرة على بعير، فكان رسول الله يثقل على البعير فيتحول عنه إلى بعير أبي بكر، ويتحول أبو بكر إلى بعير عامر، ويتحول عامر إلى بعير رسول الله …»

فكان هو أخف من عامر بن فهيرة، وكان عامر بن فهيرة أخف من رسول الله عليه السلام.

وكان رسول الله كما علمنا من وصفه ربعَة في الرجال فوق القصير ودون الطويل، ولم يكن بيِّن الامتلاء، بل معتدلًا لا إلى السمن ولا إلى النحافة، فلو كان أبو بكر رضي الله عنه أطول من الرَّبعة لما كان أخف كثيرًا من رسول الله، وأخف كذلك من عامر بن فهيرة، بحيث يظهر الفرق بينه وبينهما في حركة البعير الذي يتعاقبون ركوبه.

أما صفاته الخلقية فقد اتفقت فيها أقوال واصِفيه، ودلائل أعماله في الجاهلية والإسلام، فكان أليفًا ودودًا حسن المعاشرة، وكان مطبوعًا على أفضل الصفات التي تتألَّف له الناس فيألفونه، ومنها التواضع، ولين الجانب. فلم يتعالَ على أحد قط في جاهليته ولا في إسلامه، وكان في خلافته أظهر تواضعًا منه قبل ولايته الخلافة. فإذا مدحه مادح قال: اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وإذا سقط منه خطام ناقته وهو راكب نزل منها ليأخذه، ولم يأمر أحدًا بمناولته إياه. وبلغ من بغضه الخُيلاء أنه كان يبغضها حتى حيث يغتفرها الناس من ربات الحجال. فدخل يومًا على السيدة عائشة رضي الله عنها وهي تمشي وتنظر إلى ذيل ثيابها فقال: يا عائشة! أما تعلمين أن الله لا ينظر إليك الآن؟ قالت: ومم ذلك؟ قال: أما علمت أن العبد إذا دخله العُجْب بزينة الدنيا مقته ربه عز وجل حتى يفارق تلك الزينة؟ فلما نزعت تلك الزينة التي أعجبتها فتصدقت بها قال: عسى ذلك يكفر عنك.

ولم يكن تألفه الناس محض مجاملة باللسان مما يستهله معظم المشهورين بالتودد والمجاملة، ولكنها كانت ألفة النجدة والكرم والسخاء، فكان كما قال ابن الدغنة لقريش، وقد هَمَّ أبو بكر أن هجر بلده: «أتخرجون رجلًا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟»

فهو ودود كريم لا يضن بماله وجاهه في سبيل الكرم والسخاء.

ومع هذه المودة وهذه الألفة كانت فيه حِدَّة يغالبها، ولا يستعصي عليه أن يكبح جماحها. ووصف بها نفسه ووصفه بها أقرب الناس إليه وأصدقهم في وصفه. فقال في خطبة من أوائل خطبه بعد مبايعته: «… اعلموا أن لي شيطانًا يعتريني فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني …»

وقال عمر بن الخطاب: «وكنت أداري منه بعض الحد — أي الحدة — وذلك حين أعدَّ كلامًا يقوله في سقيفة بني ساعدة، مخافة أن يحتدَّ أبو بكر في ذلك المقام.»

وسئل عنه ابن عباس فقال: «كان خيرًا كله على حدَّة كانت فيه.»

إلا أنها كانت حدة تنم على سرعة التأَثر فيه، فإذا لم تكن غضبًا يغالبه ويكبحه فهو سريع التأثر إلى الرحمة والرفق في جملة أحواله، يميل إلى الحزن والأسى ويعطف على الحزين والأسوان، أو كان كما وصفته عائشة رضي الله عنها: «غزير الدمعة، وقيذ الجوانح، شجي النشيج» … «أسيفًا متى يقم مقامك — تخاطب رسول الله — لا يسمع الناس.»

•••

وكان في جاهليته وإسلامه وقورًا جميل السَّمْت يغار على مروءته ويتجنب ما يريب، فلم يشرب الخمر قط؛ لأنها مُخِلَّة بوقار مثله، وسئل: لم كان يتجنبها في الجاهلية. فقال: «كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مُضيَّعًا في عقله ومروءته»، ومن مروءته أنه كان يتقي كل ما يورده موارد الشبهات. دعاه رجل في الجاهلية أن يستصحبه لحاجة يُعينُه عليها، فرآه يمر في طريق غير التي يمر منها فسأله: أين تذهب هذه الطريق؟! … قال الرجل: إن فيها أناسًا نستحي منهم أن نمر عليهم. قال رضي الله عنه: تدعوني إلى طريق نستحي منها؟ ما أنا بالذي أصاحبك.

وكان لمروءته يتحاشى السقط من الكلام، فلا يتكلم إلا أن يدعوه داع إلى قولة خير فيقولها إذن ويصدق في مقاله. ومن وصاياه لبعض عماله: «إذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام يُنسي بعضه بعضًا.»

وقد اشتهر بالصدق في الجاهلية والإسلام، فكان «ضامن» قريش المقبول الضمان. لا يعد أحدًا إلا وفى وصدق الدائن والمدين. ووكلت إليه الديات والمغارم فلم يكن يحمل شيئًا منها إلا اطمأن إليه الناس، فإن احتملها أحد غيره خذلوه ولم يصْدُقوه.

وما امتحن صدقه بشيء إلا كان صدقه أثبت وأقوى. فخطب رسول الله ابنته عائشة حين ذكرتها له خولة بنت حكيم. وكان المطعم بن عدي قد خطبها قبل ذلك لابنه، فقال أبو بكر لزوجه أم رومان: «إن المطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، والله ما أخلف أبو بكر وعدًا قط …» ثم أتى مطعمًا وعنده امرأته، فسأله: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ فأقبل الرجل على امرأته ليسألها: ما تقولين؟ فأقبلت هي على أبي بكر تقول: لعلنا إن أنكحنا هذا الصبي إليك تُصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه. فلم يجبها أبو بكر وسأل المطعم بن عدي: ما تقول أنت؟ فكان جوابه: أنَّها تقول ما تسمع.

فتحلل أبو بكر عند ذلك من وعده، ولم يتحلل منه قبل ذلك على ما في نسب الرسول من شرف، وما في قلبه من إعزاز له يفوق كل إعزاز.

وكانت شجاعته كفاء صدقه ووفائه بوعده: سواء منها شجاعة الرأي وشجاعة القتال. فلما أسلم لم يبال أن يعلن إسلامه وأن يجهر بصلاته ودعائه، يصيبه في ذلك ما يصيب، ولما وجب القتال كان هو أقرب المقاتلين إلى رسول الله في كل غزوة وكل مأزق من مآزق الجلاد، وانهزم كثير من الشجعان في بعض الملاحم الحازبة، ولم تذكر له قط هزيمة في ساعة من ساعات الشدة، ولا ثبت نفر قط حيث يصعب الثبات إلا كان هو بين أول الثابتين. ولم تكن وقعة قط أشد على المسلمين من وقعتي أحد وحنين، ولَّى فيهما من ولَّى، واستشهد من استشهد، وتردد في صفوف العسكرين أن الرسول عليه السلام كان بين المستشهدين. فذعر الضعيف وقال القوي: ما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله.

ففي وقعة أُحد — أشد هاتين الوقعتين — كان أبو بكر في طليعة الثابتين، ونظر إلى حلقة من درع قد نشبت في جبين صديقه وصفيه ونبيه فشغله أن يصاب هذا المصاب، وانكب عليها لينزعها، لولا أن أقسم عليه أبو عبيدة ليسبقنه هو إلى نزعها، فجذبها بثَنِيَّته جذبًا رفيقًا حتى نزعها وسقطت ثنيته.

•••

وعلى هذا الحظ الوافر من المزايا الخلقية كان له قسط محمود من المزايا العقلية التي يمتاز بها ذوو الأقدار من أهل زمانه، فقيل فيه وفي صاحبه أبي عبيدة: إنهما «داهيتا قريش.» وأثر عنه أنه كان أسرع الناس إلى الفطنة لما يوحي به النبي عليه السلام بالتلميح دون التصريح. ومما جاء في الحديث الشريف عن علمه وفطنته أنه عليه السلام قال: كأني أعطيت عُسًّا مملوءًا لبنًا فشربت منه حتى امتلأت، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم، ففضَلت منها فضلة فأعطيتها أبا بكر. قالوا: يا رسول الله! هذا علم أعطاكه الله، حتى إذا امتلأت فضَلَتْ فضلة أعطيتها أبا بكر. قال : «قد أصبتم.»

•••

وكان لأبي بكر حظ وافر من الملكة الروحية إلى جانب ما عنده من هذه الملكة الذهنية، وتلك الملكة الخلقية، ونعني بالملكة الروحية ما نسميه اليوم بيقظة الضمير.

ومناط الضمير أن يرعى الإنسان حق غيره، وأن يُحْسِن ولا يسيء وهي خصلة كانت ملحوظة في أبي بكر من أيام الجاهلية قبل أن يدين بالدين الذي يأمر بالخير وينهي عن الشر، ويدعو إلى اتباع الحق واجتناب الباطل. فلما جاء هذا الدين بنَى منه على أساس قديم، وبلغت به نفسه قصارى ما تبلغه نفس طيبة من رعاية حقوق الناس: ومن كلف بالخيرات وسخط على الشرور.

قال ربيعة الأسلمي: «جرى بيني وبين أبي بكر كلام فقال لي كلمة كرهتها وندم، فقال: يا ربيعة! رُدَّ عليَّ مثلها حتى يكون قِصاصًا. قلت: لا أفعل! قال: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله . فقلت: ما أنا بفاعل. فانطلق أبو بكر وجاء أناس مِنْ أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك وهو الذي قال لك ما قال؟ فقلت: أتدرون من هذا: أبو بكر الصديق؟ هذا ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة في الإسلام. إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة، وانطلق أبو بكر وتبعته وحدي حتى أتى رسول الله فحدثه الحديث كما كان، فرفع إليَّ رأسه فقال: يا ربيعة! ما لك والصديق؟ قلت: يا رسول الله، كان كذا وكذا، فقال لي كلمة كرهتها، فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قِصاصًا فأبيت. فقال رسول الله : أجل لا ترد عليه، ولكن قل: قد غفر الله لك يا أبا بكر …»

وهو يكره أن يسيء؛ لأنه يكره أن يُساء، ويعلم ما تُوقعه الإساءة في النفس من ألَم يغلبها على الحلم والأناة حتى في المحضر الذي تُراض فيه على غاية الحلم وغاية الأناة.

بينما رسول الله جالس ومعه أصحابه وَقع رجل بأبي بكر فآذاه، فصمَتَ عنه. ثم آذاه الثانية فصمت عنه. ثم آذاه الثالثة فانتصر منه. فقام رسول الله حين انتصر أبو بكر. فقال: أَوَجدت عليَّ يا رسول الله؟ فقال رسول الله: نزل ملك من السماء يكذبه بما قال، فلما انتصرت وقع الشيطان.

ولا شك أنه درس من الدروس النبوية يداوي به نوازع الحدة في صاحبه الأمين؛ لأنه كان يهيئه لأمر عظيم: أمر ينبغي لمن تولاه أن تؤلمه إساءته إلى الناس فوق ألمه لإساءة الناس إليه.

ومن يقظة الضمير فيه أنه لم يطق أن تستقر في جوفه لقمة يشك في مأتاها؛ فكان له مملوك يغل عليه، فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة. قال المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال: حملني على ذلك الجوع … من أين جئت بهذا؟ فأنبأه المملوك أنه مرَّ بقوم كان يَرقِي لهم في الجاهلية فوعدوه، فلما أن كان ذلك اليوم مر بهم فإذا عرس لهم فأعطوه ذلك الطعام!

قال الصديق: إن كدت لتهلكني.

وأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ — وجعلت اللقمة لا تخرج — فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء …

فدعا بطست من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها.

قيل له: يرحمك الله! كل هذا من أجل لقمة؟ فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها.

وما نحسب أن يومًا مر به دون أن يطيع فيه دواعي الإحسان، وسليقة البر والمودة سئل عنها أو لم يسأل.

فكان من عادة النبي عليه السلام أن يسأل أصحابه حينًا بعد حين عما ابتدروه من الخيرات فلا يكتموه شيئًا لأنه يسأل ويريد أن يجاب، ليتبع جوابهم عظة من العظات، أو يعقبه بحديث يؤثرونه عنه.

صلى النبي الصبح ذات يوم فلما قضى صلاته سأل: أيكم أصبح اليوم صائمًا؟

قال عمر: أما أنا يا رسول الله فقد بت لا أحدث نفسي بالصوم، وأصبحت مفطرًا.

وقال أبو بكر: أنا يا رسول الله، بت الليلة وأنا أحدث نفسي بالصوم، فأصبحت صائمًا.

ثم سأل النبي: أيكم عاد اليوم مريضًا؟

قال عمر: إنما صلينا الساعة ولم نبرح، فكيف نعود المريض؟

وقال أبو بكر: أنا يا رسول الله. أخبروني أن أخي عبد الرحمن بن عوف مريض وجع، فجعلت طريقي عليه، فسألت عنه، ثم أتيت المسجد.

ثم سأل النبي: فأيكم تصدق اليوم بصدقة؟

قال عمر: يا رسول الله. ما برحنا معك مذ صلينا فكيف نتصدق؟!

وقال أبو بكر: أنا يا رسول الله، دخلت المسجد، فإذا سائل يسأل وابنٌ لعبد الرحمن بن أبي بكر معه كسرة خبز، فأخذتها فأعطيتها السائل.

فقال النبي: فأبشر بالجنة. أبشر بالجنة!

لا جَرم يقول عمر: ما سبقت أبا بكر إلى خير قط إلا سبقني إليه.

ولا جرم يقول عليٌّ: هو السَّبَّاق. والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر.

•••

لقد وصف لنا الصديق بأوصاف نستطيع أن نعيدها اليوم بما ألفناه من أساليب العصر فنراها على وفاق لحقائق تلك الأوصاف ودلالاتها، وذلك أبْين البينات عن صدق ما وصفوه به في الجاهلية أو الإسلام.

فمن جملة الملامح والسمات التي وُصف بها يتبين لنا أنه كان من أصحاب المزاج العصبي الناشئين في وراثة كريمة. فهو عصبي كريم النزعات والطوايا.

ولا يندر في أصحاب هذا المزاج أن يتميزوا بحدَّة الذكاء وسرعة التأثر والطموح إلى المثل العليا والحماسة لما يعتقدونه، والتعلق بما يؤمنون به ويصدقونه، والتقدم في العقائد والدعوات.

بل هذا هو الغالب فيهم، كما نشاهد اليوم في كل دعوة دينية أو اجتماعية أو سياسية، لن تخلو من أناس في مزاج أبي بكر وخلائقه الجسدية والنفسية، ينصرونها ويتشبثون بها ويؤمنون بدُعاتها ولا ينكصون عن سبيلهم أو سبيلها.

وإذا كان الرجل من بيت من بيوت الشرف والوجاهة فشأنه — إذ يكون على هذا المزاج — أن يعتصم بالوقار ودواعيه، وأن يستزيد من خلائق الصدق والمروءة التي رُكِّبت فيه.

ولم يكن أبو بكر على ما علمنا صاحب «الشخصية الباطشة» التي تروع الناظر إليها لأول وهلة.

ولم تكن سيادة بيته سيادة جبارين يملكون الناس بالبأس والسطوة.

فسبيله إذن أن يعتصم بصدقه ومروءته ليحفظ بهما كرامة الشرف الذي ينتمي إليه، وأن يستزيد من ذلك الصدق وتلك المروءة بما يزيدهما في التمكين ويُملي لهما في الثبات والرسوخ، وأن يتجنب فلتات الطبع واللسان ويتنزه عن كل مخلٍّ بالوقار مُزْرٍ بالصيان؛ لأن وقاره وصيانه هما الحجاز القائم بينه وبين كل مهانة واستخفاف، ولو كان باطش المظهر أو باطش السيادة لقد يستغني عنهما بعض الاستغناء في بعض الأحيان. أما وهو بعيد من البطش في مظهره وسيادته فليس من شأنه أن يغفل عن سمْت الوقار والمروءة طرفة عين.

وقد عرف الصديق بالحدة وهي أيضًا من خلائق هذا المزاج التي يُغالبها مَن يحرصون على وقارهم ومروءتهم أن يستهدفا لجرائر الحدة أو يندفعا في غير عمل حميد.

إلا أن يُمس الرجل فيما هو من أخص الخصائص التي يقوم عليها مزاجه وتستقيم عليها عاداته وسماته فعندئذ تعسر المغالبة وتبرز الحدة من مكمنها، وهي على حق إذن في بروزها.

لهذا نرجع إلى حوادث أبي بكر في الحدة والصرامة على خلاف عادته من الرحمة والألفة، فإذا هي كلها مما يمس الصدق والتصديق أو يمس الإيمان، أو يجري مجرى الاستهزاء الذي يمس الوقار.

بلغ أقصى ما بلغ من غضب وحدة في عقاب الفُجاءة بن إياس بن عبد ياليل، وبقي طوال حياته يندم على حدته في ذلك العقاب …

وماذا صنع الفجاءة حتى هاج منه تلك الحدة التي كان يغالبها أقوى مغالبة؟ أثاره في مكمن الثورة فيه …

كذبه الأمانة، وخدعه وخدع المسلمين، وقتل من قتل من الآمنين، وقلما غضب إنسان كما يغضب الصادق لصدقه المخدوع، ولا سيما الخديعة التي فيها غدر وسفك دماء.

جاءه يطلب سلاحًا ليحارب به المرتدين، فأخذ السلاح وحارب به المسلمين الآمنين، وعاث في الطريق ينهب ويسلب ويهدر الدماء، فلما وقع في الأسر لم يجزئه عنده إلا أن يقذف به في النار.

وجاء له رجل من أحبار اليهود اسمه فنحاص في الآية: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة: ٢٤٥]، فقال فنحاص مستهزئًا بالله والنبي: «لو كان عنا غنيًّا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم. ينهاكم عن الربا ويعطيناه!»

هذا هو الاستهزاء.

وهذا هو المساس بالإيمان.

وكلاهما لا يطيقه الرجل المؤمن الوقور وتغلبه فيه الحدة إن هو غلبها في غير ذلك من الأمور.

ولقد عاش أبو بكر ما عاش أليفًا مؤلفًا لقومه، محبًّا محبوبًا فيمن حوله، رحيمًا بالغرباء فضلًا عن الأبناء، إلا أن هذا الرجل الرحيم الأليف نهض إلى مبارزة ابنه ودعا عليه بالهلاك حين شهد الحرب مع المشركين، ورأى البرَّ به — غاية البر — أن ينهض هو لمبارزته ولا يدعه لأحد غيره من المسلمين.

كان ذلك يوم بدر، وكان ابنه عبد الرحمن من أشجع الشجعان بين العرب، ومن أنفذ الرماة سهمًا في قريش. فتقدم الصفوف يدعو إلى البراز، وقام أبوه يجيب دعوته، لولا أن استبقاه النبي عليه السلام، وهو يقول له: متِّعني بنفسك.

ولما أسلم عبد الرحمن قال لأبيه: لقد أهدفت لي يوم بدر فَضِفْتُ عنك — أي عدلت عنك — ولم أقتلك، فقال أبوه: لكنك لو أهدفت لي لم أضف عنك.

وهكذا نعلم أين تبدر الحدة وأين تبدر الصرامة من خليقة أبي بكر المسالم الوديع، فحيثما روى راوٍ أنه احتد أو اشتد؛ فلنعلم عن يقين أن في الأمر شيئًا يمس التصديق والإيمان، أو يمس المروءة والوقار، فلا تأتي الحدة أو الشدة يومئذ في غير موضعها من الطبيعة التي ولد بها ومَرن عليها.

رجل له خصائص المزاج العصبي في البِنْية الدقيقة.

ورجل من عنصر كريم وأرومة طيبة.

ورجل له قدم في السيادة واعتصام بالوقار والمروءة.

فكل ما رُوي عنه فهو موافق لهذه الخصال، منتظم في هذه الخصائص، معقول في هذا التركيب في الخُلُق والخليقة، وهو من ثمَّ دليل على صحة الوصف وصحة السيرة على الإجمال.

ولن يكون هذا الرجل على هذا التكوين إلا كما وصفوه ونقلوا عنه: حديد الطبع، مستمسك الخلق، سريع التأثر، قوي العاطفة، محبًّا للاعتقاد، حمسًا في اعتقاده، صادقًا في وعده، كما نستطيع أن نعرف ممن طُبعوا على هذا المزاج ونراهم بيننا رأي العين، أو نعرفهم على السماع معرفة اليقين.

ونحن فيما نتوخاه من المضاهاة بين أوصاف السابقين وأوصافنا نحن المعاصرين إنما نريد أن نُفضي إلى المقياس الصحيح للتصديق أو التكذيب، والمحك الصالح للتشكيك أو التغليب. فإذا كانت الأوصاف التي نقرؤها مطابقة للأوصاف التي نعقلها والتي نعهدها فذلك هو برهان الصحة في كل مقياس.

وإنه لمن واجبنا في عصرنا هذا أن نقضي على آفة العصر التي أوشكت أن تغلب فيه على كل آفة، وهي الظن الشائع بين المتفيهقين والمتهجمين أن البراعة كل البراعة في التكذيب، وأن الجهالة كل الجهالة في التصديق، وليست الجهالة كلها في الحقيقة هنا، ولا البراعة كلها في الحقيقة هناك.

فكثيرًا ما تكون الغفلة في التكذيب أعظم من الغفلة في التصديق، وكثيرًا ما يكون بخس الشيء الثمين أدل على الغباء وأضيع للمنفعة من إغلاء الشيء البخس، في تسويم التجارة أو تسويم الضمائر والعقول.

خذ مثلًا لذلك حسنات أبي بكر اليومية التي سأله عنها النبي عليه السلام فاتفق في يوم سؤاله عنها أنه كان قد أهداها جميعًا على وجه من الوجوه.

تلمح على وجه المتفيهق المتشكك مسحة التردد وهو يتابع ذلك الخبر كأنه مما لا يجوز ولا يتكرر على هذا المنوال.

فإذا سألته: لم التردد وفي وسعك أن تبلغ بالخبر إلى مقطع اليقين؟ لِمَ تقف هنا ولا تتابع الطريق إلى منتهاه؟ إنك لتعلم إذن أن التردد سخف حين يكون اليقين منك على مد اليدين تتناوله إن شئت متى مددتهما إليه.

ماذا يكون إن صدقنا الخبر؟

وماذا يكون إن كذبناه؟

إن صدقنا الخبر فكل ما هنالك أن إمامًا في الدين مطبوعًا على الكرم والكرامة قد جري على سنة نبيه وهاديه، فأصبح صائمًا وعاد مريضًا وتصدق على فقير بكسرة خبز وجدها في يد حفيده.

وليس هذا بممتنع، بل هذا أقرب الأشياء أن يقع، ولا سيما إذا أضفناه إلى جملة أخبار أبي بكر من إحسانه في الجاهلية والإسلام، ومن إنفاقه المال كله في سبيل الخير حتى مات وهو فقير.

فإن كذبنا الخبر فماذا يتقاضانا تكذيبه من جهد للعقل واعتساف للتفكير والتخمين؟

إن كذبناه وجب أن نعتقد أن أبا بكر رضي الله عنه قد أجاب النبي عليه السلام بغير الحق، وأنه يتجافى صدق المقال في أقمن المواضع بصدق المقال، فلو جاز أن يكذب على كل إنسان لما جاز أن يكذب على الرجل الذي صدقه، وخاطر بالمال والبنين والحياة في سبيل تصديقه. فمن الذي يقبل هذا الفرض ولا يرى أن كل فرض دونه أدنى إلى القبول؟

ومن الذي يعقل ثم يخيل إليه أن العقل يميل به إلى هذا التكذيب ولا يميل به إلى ذلك التصديق؟

ونقول: إن هذا جائز لنتمادى مع التفيهق إلى أقصى مداه فما الذي يتقاضانا جوازه مرة أخرى من جهد واعتساف؟

يتقاضانا أن نقبل شيئًا يقرب من المستحيل.

إن الرجل الذي يجترئ على الكذب في هذا المقام لا ينطبع على الصدق، ولا يخفى كذبه على الناس، فكيف به وهو مشهور بالصدق في كل ما قال، والوفاء بكل ما وعد؟ وكيف به وهو مشهور بالصدق في شئون الضمان والمغارم، وهي شئون لا يخفى التدليس فيها إلى زمن طويل؟ وكيف به وهو مشهور بالصدق قبل أن يدين بالدين الذي يحضه عليه؟

أيجوز أن أكذب الكاذبين، بأمر الدين وبغير أمر الدين، يشتهر بأنه أصدق الصادقين؟

تصديق هذا غفلة أدعى إلى السخرية من كل غفلة! ولا سيما إذا لجأ الإنسان إليها فرارًا من القول بأن إمامًا شبيهًا بالأنبياء يصوم أيامه ويعود مرضاه ويعطي مسكينًا كسرة من الخبز، وهو قد أعطى الألوف وأنقذ المعسرين وضَمِن من ليس له ضمان.

وعلى هذا النحو نتوخى التصحيح والترجيح فيما نأخذ به من أوصاف هؤلاء العظماء. أقرب المقاييس إلينا أن يكون تكذيب الوصف أصعب من تصديقه في تقدير العقل والبديهة، وفيما نعهده اليوم من حقائق هذه الأوصاف.

وكذلك أوصاف الصديق كما نقلها الناقلون وكما يفهمها اليوم الفاهمون، فإن الأقدمين ذكروا أوصافًا متفرقة لم يقصدوا أن نجمعها نحن، ولا قصدوا بعد جمعها أن نعرضها على علم النفس ووقائع الحياة، كما وضحت لنا بمصباح العلم الحديث.

ولكننا جمعنا تلك الأوصاف وعرضناها على علم النفس فوجدنا بينها ذلك التناسب الذي يقضي بتصديقها، وينفي الظنة عن استقامتها في جملتها.

فأبو بكر كما وصفوه رجل لا محالة من أصَلاء المزاج العصبي النابتين في منبت الشرف والمروءة، وقد قالوا: إنه كان يجود بماله، ومثل هذا الرجل خليق أن يجود بماله، وقالوا: إنه يحتد ويعطف، ومثل هذا الرجل معهود في حدته وعطفه، وقالوا: إنه يروض نفسه على السمت والكرم، ومثل هذا الرجل لا يستغني عن هذه الرياضة ولا يعجز عنها، وقالوا: إنه يشتد في اعتقاده، وليس فيما شهدناه وخبرناه أشد من اعتقاد مثله.

قالوا ذلك فلم يقولوا عجبًا ولم يقل أحد ما ينقضه وينفيه وله حجة فيه.

فإذا كانت للعقل أمانة فالأمانة في تقرير هذه الأوصاف كما فهمناها بالاستقراء وكما رواها الرواة في مجمل الأنباء، وإذا كانت للعقل مهانة فمهانة العقل أن نعطله عن فهم حقيقة ماثلة، لغير شيء من الأشياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤