الفصل الثاني

متى رحل أبو الطيب إلى الشام؟

لا بد لنا بادئ بدء أن نبين، جهد الطاقة، السنة التي رحل فيها شاعرنا إلى الشام ليتسنى لنا أن نتعرف شعره الذي أنشأه في صباه بالعراق، وأن نتبين سيرته أول عهده بالشام، ونؤرخ بعض حادثاتها.

يرى كاتب مقال المتنبي في دائرة المعارف الإسلامية أن أبا الطيب ذهب إلى بغداد سنة ٣١٦ ثم رحل إلى الشام، ولا يدلنا على حجته في هذا، وأحسبه استنبط هذا من أن أبا الطيب نظم قصيدة في الشام قال فيها:

لأتركن وجوه الخيل ساهمة
والحرب أقوم من ساق على قدَم
والطعن يحرقها والزجر يقلقها
حتى كأنَّ بها ضربًا من اللمَم
قد كلمتها العوالي فهي كالحة
كأنما الصابُ مذرورٌ على اللجُم
بكلِّ منصلت ما زال منتظري
حتى أدلتُ له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلواتِ الخَمس نافلة
ويستحلَّ دم الحجاج في الحرم

فقد ظن الكاتب أن في هذه الأبيات إشارة إلى ما فعله أبو طاهر القرمطي في مكة سنة ست عشرة أو سبع عشرة وثلاثمائة إذ قتل الحجاج في الحرم وأخذ الحجر الأسود.

ولست أجد في هذا حجة للكاتب فإن صح أن في الأبيات إشارة إلى هذه الوقعة، فقد يشير الشاعر إلى وقعة بعد سنين من وقوعها، وليس بعيدًا أن يكون أبو الطيب سمع بوقعة أبي طاهر وهو بالعراق ثم أشار إليها في أبيات نظمها في الشام.

على أن الأبيات ليس فيها إشارة واضحة إلى أبي طاهر القرمطي وأصحابه، وجائز أنه أراد وصف أنصاره بالفتك والجرأة، كما وصف فتيانه بعد خروجه من مصر في القصيدة الميمية التي رثى فيها فاتكًا:

في غلمة أخطروا أرواحهم ورضوا
بما رضيتُ رضى الأيسار بالزلَم
في الجاهلية إلا أن أنفسهم
من طيبهن به، في الأشهر الحُرُم

يريد أنهم لا يعرفون التحليل والتحريم كأنهم في عصر الجاهلية، بل روى العكبري عن ابن القطاع أن الشيخ في هذه الأبيات هو السيف، وأن الشيخ والعجوز من أسمائه، واستشهد بقول أبي المقدام البصري:

رُبَّ شيخ رأيت في كفِّ شيخ
يضرب المُعَلمين والأبطالا

قال: وسمي السيف شيخًا لقدمه؛ لأنهم يمدحون السيوف بالقدم … ا.ﻫ.

وأرى أن هذا ليس بعيدًا من أساليب أبي الطيب فقد وصف السيوف في القصيدة الميمية التي أولها:

«لا افتخار إلا لمن لا يضام» بقوله:

وعَوارٍ لوامع دينُها الحلُّ
ولكن زيَّها الإحرام

فقد وصف السيوف بنحو ما وصف به الشيخ في قوله:

شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة
ويستحلُّ دم الحجَّاج في الحرَم
وأنا أرجِّح أن شاعرنا سافر إلى الشام سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وثَبَتَ هذا فيما يلي:
  • (١)

    قال أبو العلاء المعري في رسالة الغفران: «والذين رووا ديوان أبي الطيب يحكون أنه ولد سنة ثلاثمائة وثلاث، وكان طلوعه إلى الشام سنة إحدى وعشرين فأقام فيه برهة ثم عاد إلى العراق، ولم تطل مدته هناك، والدليل على صحة هذا الخبر أن مدائحه في صباه إنما هي في أهل الشام إلا قوله:

    كُفي أراني ويك لومك ألوما
    همٌّ أقام على فؤاد أنجما»
  • (٢)

    وفي ديوان شاعرنا بين القصائد السيفية قصيدة أولها:

    ذكر الصِّبَى ومراتع الآرام
    جلبت حِمامي قبل يوم حِمامي

    وفي شرح ابن جني والمعري والواحدي والنسخة (٣٥٠ – أدب) في دار الكتب المصرية أن أبا الطيب اجتاز برأس عين سنة ٣٢١ وقد أوقع سيف الدولة بعمرو بن حابس من بني أسد وبني ضبة ورياح من بني تميم، ولم ينشده إياها، فلما لقيه بإنطاكية دخلت في جملة مدائحه.

    ولي بحث في أن هذه القصيدة من مدائح سيف الدولة أرجئه إلى الكلام عن المتنبي وسيف الدولة، فحسبي هنا أن أقول: إن الشاعر مر برأس عين سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ورأس عين مدينة في الجزيرة الفراتية بين حران ونَصيبين، فأكبر الظن أن أبا الطيب مرَّ بهذه المدينة في طريقه إلى الشام، ومن أجل ذلك كانت أول البلاد الشامية التي مدح فيها منبج وهي في شمالي الشام على مقربة من حلب، والطريق من العراق إلى الشام كانت إلى عصرنا هذا تساير الفرات إلى شمالي الشام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤