الفصل الثالث

ما نظم أبو الطيب من الشعر قبل ذهابه إلى الشام

إن كان أبو الطيب برح العراق إلى الشام سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، كما بينا، فقد كانت سنه إذ ذاك ثماني عشرة سنة فما القصائد التي نظمها منذ قرض الشعر إلى أن بلغ هذه السن؟

لما بلغ الواحدي في شرحه القصيدة التي مطلعها:

أحيا وأيسرُ ما قاسيتُ ما قتلا
والبينُ جارَ على ضعفي وما عدلا

كتب هذا العنوان: «في الشامية» يعني القصائد الشامية، ومعنى هذا أن هذه القصيدة وما يليها إلى الكافوريات نظمت في الشام، وأن القصائد والقطع التي قبل هذه القصيدة نظمت في العراق، وهي:

قصيدتان يمدح بإحداهما محمد بن عبيد الله العلوي المشطب، وبالأخرى رجلًا اسمه أبو الفضل أراد أن يستكشفه عن مذهبه وفيها غلوٌّ في المدح وشيء من عقيدة الحلول، ومطلعها:

كفي أراني، ويك، لومَك ألوما
همٌّ أقام على فؤاد أنجمَا

وقطعتان فيهما خمسة أبيات في الغزل.

وثلاثة أبيات في هجاء رجل اسمه القاضي الذهبي.

وقطعة في رجلين قتلا جرذًا، وأبرزاه للناس يعجبان من كبره، يقول فيها:

لقد أصبح الجرذ المستغير
أسيرَ المنايا صريع العطب
رماه الكناني والعامريُّ
وتلاه للوجه فعلَ العرب
كلا الرجلين اتلى قتلَه
فأيُّهما غلَّ حُرَّ السَّلب؟
وأيهما كان من خلفه
فإنَّ به عَضة في الذنَب

وهي قطعة تدل على سخرية هذا الغلام الثائر من همة رجلين قتلا جرذًا. ثم ثلاث قطع هي فاتحة شعره الثائر الذي سنرى كثيرًا منه بعدُ:

قيل له وهو في المكتب ما أحسنَ هذه الوفرة فقال:

لا تُحسن الوفرة حتى تُرَى
منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدةً
يَعُلَّها من كلِّ وافي السبال

والقطعة الثانية أولها:

محبي قيامي ما لذلكم النصلِ
بريئًا من الجرحى سليمًا من القتل؟

والثالثة يقول فيها:

إلى أي حين أنت في زيِّ مُحرمِ
وحتى متى في شِقْوة وإلى كم؟
وإلا تمتْ تحت السيوف مكرَّما
تمت وتلاق الذل غير مكرَّم
فَثِبْ واثقًا بالله وثبة ماجد
يرى القتل في الهيجا جَنَى النحل في الفم

وقد تقدَّم قول المعرِّي أن مدائح أبي الطيب في صباه كلها في أهل الشام إلا القصيدة «كفي أراني، ويك، لومك ألوما» وينبغي أن يضاف إليها القصيدة الأخرى التي مدح بها العلوي المشطب، فهي أيضًا مما نظمه قبل سفره إلى الشام، كما يؤخذ من ترتيب شرح الواحدي. ودليل آخر أن أبا الطيب قال في هذه القصيدة:

ويا ليت بي ضربة أتيح لها
كما أتيحت له محمَّدُها
أثَّر فيها وفي الحديد وما
أثَّر في وجهه مُهنَّدُها

قال العكبري: «كان محمد بن عبيد الله هذا الممدوح قد واقع قومًا من العرب بظاهر الكوفة، وهو شاب دون العشرين سنة، فقتل منهم جماعة وجُرح في وجهه فكسته الضربة حسنًا، فتمنى أبو الطيب مثل ضربته، فهذا سمعته من جماعة من مشيخة بلدنا.» وبَيِّنٌ من هذا أن الممدوح عراقي جرح في وقعة بظاهر الكوفة ومدحه الشاعر بهذه القصيدة ذاكرًا هذه الواقعة، فقد كان مدحه في العراق.

وفي دائرة المعارف الإسلامية أن أبا الطيب مدح هذا العلوي في بغداد ولست أدري بم استدل الكاتب على هذا.

عاش أبو الطيب في العراق ثمانية عشر عامًا أمضى شطرًا منها في البادية، وقد حنَّ إلى موطن صباه قليلًا في شعره، وذكر أنه لم يوافقه، يقول في إحدى قصائد سيف الدولة:

تذكرتُ ما بين العُذَيب وبارقٍ
مَجرَّ عوالينا ومَجرَى السوابق
وصُحبة قوم يذبحون قنيصهم
بفضلة ما قد كسَّروا في المفارق
وليلًا توسَّدنا الثويَّة تحته
كأنَّ ثراها عنبر في المرافق

ثم يقول:

وما بلد الإنسان غير الموافق
ولا أهله الأدنون غير الأصادق

ويقول في قصيدة مدح بها سعيد بن عبيد الله الأنطاكي:

أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني
ولا أعاتبه صفحًا وإهوانًا
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني
إن النفيس غريب حيثما كانا
مُحسَّد الفضل مكذوبٌ على أثَري
ألقى الكميَّ ويلقاني إذا حانا

فهذا كلام يشف عن أن بلده قد نبا به.

ويقول الثعالبي: إن والد المتنبي سافر به إلى الشام، فإن صحَّ هذا فلا ندري لماذا سافر أبوه، وإن كان الشاب سافر وحده فقد نبا به العراق ورأى همته أكبر من جاهه وآماله أعظم من ثروته، فرأى أن بلادًا لا يعرف بها أوسع مضطربًا وأفسح مرتزقًا، وأسمع لشعره، وأقرب إلى ما يطمح إليه من سؤدد. وهو يقول في رثاء جدَّته، وقد رجع إلى العراق:

طلبت لها حظًّا ففاتت وفاتني
وقد رضيتْ بي لو رضيت بها قسما
فأصبحت أستسقي الغمامَ لقبرها
وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصُّمَّا

ومعنى هذا أنه ترك جدَّته في طلب حظها، وإنما تركها إلى الشام، وسنبين هذا من بعدُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤