الفصل الخامس

أبو الطيب في الشام ٣٢١–٣٣٦

دعوى النبوة – إجمال سيرته في هذه المدة

سار أبو الطيب إلى الشام من طريق الجزيرة فمرَّ برأس عين وانتهى إلى منبج، وهنالك أقام يمدح جماعة من رؤساء العرب، وأول قصائده الشامية في الديوان يمدح بها سعيد بن عبد الله الكلابي المنبجي، وكان لبني كلاب جاه في نواحي حلب، وقد تولاها أحمد بن سعيد الكلابي نيابة عن الإخشيد سنة ٣٢٤، وفي ولايته قدم بنو كلاب من نجد فأغاروا على بعض البلاد الشامية. وفي هذه القصيدة يقول:

أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا
والبين جار على ضعفي وما عدلا

•••

لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سُبُلا

•••

يجنُّ شوقًا فلولا أن رائحة
تزوره من رياح الشرق ما عقلا

ويقول في السفر:

كم مهمه قَذَف قلبُ الدليل به
قلبُ المحب قضاني بعد ما مَطلا
عقدت بالنجم طرفي في مفاوزه
وحُر وجهي بحر الشمس إذ أفلا
أوطأت صُمَّ حصاها خُف يَعمَلة
تَغشْمرت بي إليك السهل والجبلا
لو كنتَ حشو قميصي فوق نُمرُقها
سمعت للجن في غيطانها زجَلا
حتى وصلت بنفس مات أكثرها
وليتني عشت منها بالذي فَضَلا

والظاهر أن هذا السفر الذي وصفه، سفرُه من العراق إلى الشام.

ثم مدح جماعة في منبج وطرابلس وغيرهما من الشام الشمالية.

تنبؤ أبي الطيب

قبل أن نُجمل الكلام عن سيرته في الشام إلى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ينبغي أن نمحص وقعة كان لها أثر بليغ في حياة أبي الطيب، وفي صوغ سيرته في كتب الأدب، أعني ادعاء أبي الطيب النبوَّة وهو أمر اختلفت فيه الآراء، وخبط فيه بعض الرواة والباحثين خبط عشواء، ولعل في هذا البحث إبانة الصواب وفصل الخطاب.

نبدأ البحث بهذين السؤالين: هل ادَّعى أبو الطيب النبوة؟ وإن لم يكن ادعاها فلماذا لقِّب بالمتنبي؟

وإجمال الإجابة عن هذين السؤالين فيما يلي:
  • (أ)

    لا مرية أن أبا لطيب سُجن بالشام في شبابه، يتفق على هذا شعر أبي الطيب ورواة سيرته كلهم.

    يقول شاعرنا في هذا مخاطبًا والي حلب:

    أمالك رِقِّي ومَن شأنُه
    هباتُ اللُّجَين وعِتقُ العبيد
    دعوتك عند انقطاع الرجا
    ء والموتُ مني كحبل الوريد
    دعوتك لمَّا براني البِلَى
    وأوهنَ رجليَّ ثقلُ الحديد
    وقد كان مشيُهما في النعال
    فقد صار مشيهما في القيود
    وكنتُ من الناس في محفِل
    فها أنا في محفل من قرودِ
  • (ب)

    وأما الجناية التي سجن من أجلها فيخالف فيها شاعرُنا رواةَ سيرته، ويختلف فيها الرواة فيما بينهم.

    في تاريخ الخطيب البغدادي روايتان هما أصلٌ لمعظم الروايات التي رويت في هذه القصة:
    • الأولى: أن أبا الطيب «لما خرج إلى كلب وأقام فيهم ادَّعى أنه علوي حسني ثم ادَّعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي إلى أن أُشْهد عليه بالشام بالكذب في الدعويين، وحُبس دهرًا طويلًا وأشرف على القتل، ثم استُتِيب وأشهد عليه بالتوبة وأطلِق.»
    • والثانية: «أخبرنا التنوخي حدثني أبي قال: حدثني أبو علي بن أبي حامد قال: سمعت خلقًا بحلب يحكون، وأبو الطيب المتنبي بها إذ ذاك، أنه تنبأ في بادية السماوة ونواحيها إلى أن خرج إليه لؤلؤ أمير حمص من قِبَل الإخشيدية فقاتله وأسره، وشرَّد من كان اجتمع إليه من كلب وكلاب وغيرهما من القبائل، وحبسه في السجن حبسًا طويلًا، فاعتل وكاد أن يتلف حتى سُئل في أمره فاستتابه وكتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاه، ورجوعه إلى الإسلام، وأنه تائب منه ولا يعاود مثله، وأطلقه.»

ويقول المعري في رسالة الغفران: وحدَّثني الثقة عنه حديثًا معناه أنه لما حصل في بني عدي وحاول أن يخرج فيهم قالوا له وقد تبينوا دعواه: «هاهنا ناقة صعبة؛ فإن قدرتَ على ركوبها أقررنا أنك مرسل»، وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل فتحيَّل حتى وثب على ظهرها، فنفرت ساعة وتنكرت برهة، ثم سكن نِفارها ومشت مَشي المُسْمِحة، وأنه ورد الحِلَّة وهو راكب عليها فعجبوا له كل العجب وصار ذلك من دلائله عندهم.

وحُدِّثت أيضًا أنه كان في ديوان اللاذقية وأن بعض الكتَّاب انقلبت على يده سكِّين الأقلام فجرحته جرحًا مُفرطًا، وأن أبا الطيب تفل عليها من ريقه وشد عليها غير منتظر لوقته وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعد له أيامًا وليالي، وأن ذلك الكاتب قَبِل منه فبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم الاعتقادات ويقولون هو كمحيي الأموات.

وحدَّث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل أنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل ولقيهما كلب ألح عليهما في النُّبَاح ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: إنك ستجد ذلك الكلب قد مات، فلما عاد الرجل ألفى الأمر على ما ذكر، ولا يمتنع أن يكون أعدَّ له شيئًا من الطعام مسمومًا وألقاه له وهو يخفي عن صاحبه ما فعل، انتهت رواية المعري.

وفي الصبح المنبي للشيخ يوسف البديعي المتوفى سنة ١٠٧٣ وهو أجمعُ الكتب لأخبار المتنبي، روايةٌ طويلة عن رجل اسمه أبو عبد الله مُعاذ بن إسماعيل خلاصتها:

إن أبا الطيب قدم اللاذقية سنة نيف وعشرين وثلاثمائة وهو لا عذار له، وله وفرة إلى شحمتي أذنيه، فأكرمه معاذ ثم قال له: والله إنك لشاب خطير تصلح لمنادمة ملك كبير، فقال: ويحك أتدري ما تقول: أنا نبي مرسل، ثم تلا عليه جملة من قرآنه وهو مائة وأربع عشرة عبرة، ثم أراه معجزة فمنع المطر عن بقعة وقف فيها فأصاب المطر ما حولها ولم تصبها قطرة، فبايعه معاذ وعمت بيعته كل مدينة في الشام، ثم عرف معاذ من بعد أن هذه حيلة صغيرة تُسمى صدحة المطر تعلمها أبو الطيب من عرب اليمن.

ثم قال البديعي بعد هذا: إنه لما شاع ذكر أبي الطيب وخرج بأرض سَلَمية من عمل حمص في بني عدي، قبض عليه ابن علي الهاشمي في قرية يقال لها: كوتكين، وأمر النجار أن يجعل في رجليه وعنقه قُرمتين من خشب الصفصاف فقال:

زعم المقيم بكوتكين بأنه
من آل هاشم بن عبد مناف
فأجبته مذ صرتَ من أبنائهم
صارت قيودهم من الصفصاف

وكتب إلى الوالي من الحبس:

بيدي أيها الأمير الأريب
لا لشيء إلا لأني غريب
أو لأم لها إذا ذكرتني
دم قلب بدمع عين يذوب
إن أكن قبل أن رأيتك أخطأ
ت فإني على يديك أتوب
عائب عابني لديك ومنه
خلقت في ذوي العيوب العيوب

تلكم هي الروايات التي تَنسُب إلى أبي الطيب ادعاء النبوة، وينبغي أن نبدأ برواية الصبح المنبي فهي واهية لا تحتمل شدة النقد، وهي متضمنة أمورًا غير معقولة يدعي معاذ أنه رآها وذلك كافٍ في توهين روايته، ثم الرواية متناقضة، فقد آمن بمعجزة المتنبي وبايعه ثم وصفها بأنها «أصغر حيلة تعلمها من بعض العرب». ثم ادَّعى أن «بيعته عمت كل مدينة في الشام». ولم يروِ هذا أحد من الثقات.

ثم في ديوان أبي الطيب ما يكذب هذا، فيه قطعة عنوانها: وعذله أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي على ما كان قد شاهده من تهوره فقال:

أبا عبد الإله معاذُ إني
خفي عنك في الهيجا مقامي
ذكرتَ جسيمَ ما طلبي وأنَّا
نخاطر فيه بالمُهَج الجِسام
أمثلي تأخذ النكباتُ منه
ويجزع من ملاقاة الحِمام
ولو برز الزمان إليَّ شخصًا
لخضَّب شعرَّ مفرقه حُسامي
وما بلغت مشيئتَها الليالي
ولا سارت وفي يدها زمامي
إذا امتلأت عيونُ الخيل منِّي
فويل في التيقظ والمنام

فترى أنه ليس في هذه القطعة إلا المخاطرة ومصاولة الأحداث فيما يطمح إليه من السؤدد، وليس فيها ذكر النبوة والمعجزة ولا ما يقرب منهما، وفي عنوان القصيدة أن معاذًا عذله على تهوره فقد رأى منه معاذٌ تهورًا لا معجزات.

وأما روايتا الخطيب ففي الرواية الأولى دعوى النبوة مسبوقة وملحوقة بدعوى العلوية، وفي هذا دليل على التباس الأمر على الناس في هذه القصة، والرواية الثانية التي رواها التنوخي عن أبي علي بن أبي حامد عن «خلق» بحلب، وفيها أن أبا الطيب ادعى النبوَّة، هي كغيرها من الروايات التي فسَّرت الدعوى التي سجن فيها أبو الطيب بأنها دعوى النبوة بعد أن لُقِّب الرجل بالمتنبي فالتمس الناس تأويلًا لهذا اللقب، وسيأتي تأويله.

وأما رواية المعري فليس فيها دعوى النبوة صراحة ولا يبعد أن أبا الطيب في عنفوان شبابه وفي ذكائه وطموحه ادَّعى دعوات وموَّه على الناس تمويهات كالتي رواها المعري.

ولو لم تعارض هذه الروايات روايات أخرى هي أجدر بالثقة لكان فيها مظنة للباحث، ولكن عندنا روايتين لرجلين من الثقات هما أبو منصور الثعالبي وأبو الفتح بن جني.

فأما الثعالبي ويكاد يكون معاصرًا أبا الطيب فيقول:

وبلغ من كبر نفسه وبعد همته أنه دعا قومًا من رائشي نبله على الحداثة من سنِّه، والغضاضة من عوده، وحين كاد يتم أمر دعوته تأدى خبره إلى والي البلدة، ورفع إليه ما همَّ به من الخروج فأمر بحبسه وتقييده.

ثم قال الثعالبي بعد أن روى أبياتًا من القصيدة التي نظمها في السجن: «ويحكى أنه تنبأ في صباه وفتن شرذمة لقوة أدبه وحسن كلامه.»

فالرواية التي ارتضاها الثعالبي أنه أراد أن يخرج على السلطان، وأما رواية التنبؤ فذيل بها الكلام قائلًا ويحكى. ففي عهد الثعالبي، وقد ولد قبل وفاة أبي الطيب بثلاث سنين، كانت رواية التنبؤ فرية تُحكى في الجملة، ولم يكن الرواة أيدوها بالمعجزات والقرآن.

وقال صاحب الإيضاح:

ثم وقع إلى خير بادية … فادعى الفضول الذي نبز به (لم يصرح المؤلف بدعوى النبوة) فنمى الخبر إلى أمير بعض أطرافها فأشخص إليه من قيده وسار به إلى محبسه، فبقي يعتذر إليه ويتبرأ مما وسم به في قصيدته التي يقول فيها:

فما لك تقبل زور الكلام
وقدر الشهادة قدر الشهود

وقد هجاه شعراء وقته فقال الضبي:

الزم مقال الشعر تحظ بقربة
وعن النبوة لا أبا لك فانتزح
تربح دمًا قد كنت توجب سفكه
إن الممتع بالحياة لَمن ربح

فأجابه المتنبي:

أمري إليَّ فإن سمحت بمهجة
كرمت علي فإن مثلي من سمح

وهجاه غيره فقال:

أطللت يأيها الشقي دمك
بالهذيان الذي ملأت فمك
أقسمت لو أقسم الأمير على
قتلك قبل العشاء ما ظلمك
فأجابه المتنبي.١

وترى في هذه الرواية أن صاحب الإيضاح، وهو معاصر، قال: «الهذيان الذي نبز به.» ولم يذكر دعوى النبوة.

كما يرى أن الذي هجاه بالبيتين الأخيرين لم يهجه بادعاء النبوة وهي أشنع تهمة ما كان ليتركها شاعر يهجو من ادعاها.

ويدل على أن المعاصرين لم يكونوا على بينة من ذلك ما رواه الخطيب عن التنوخي: فأما أنا فسألته بالأهواز سنة ٣٥٤ عند اجتيازه بها إلى فارس في حديث طويل جرى بيننا، عن معنى المتنبي؛ لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أم لا، فأجابني بجواب مغالط لي وهو أن قال: هذا شيء كان في الحداثة … فهذا التنبؤ الذي صدقه المتأخرون لم يتبينه المعاصرون.

وإن كان أبو الطيب حين سئل عن معنى المتنبي أجاب بأن هذا شيء كان في الحداثة، فما هو هذا الشيء؟ إن كان ادعاء النبوة لم يكن في جواب الرجل مغالطة، وأية مغالطة بعد الاعتراف بأنه تنبأ في حداثته؟ لم يسمِّ الراوي كلام أبي الطيب مغالطة إلا لأنه لم يعترف بدعوى النبوة وذكر شيئًا كان في الحداثة وهو ثورته أو تشبيه نفسه بالأنبياء أو نحو هذين، ولم يصرح به.

ثم ابن الأثير وغيره رووا أخبار المتنبئين ولم يذكر أحدهم دعوى أبي الطيب.

وفي شرح ابن جني في عنوان قصيدة الحبس:

وكان قوم قد وشوا به إلى السلطان في صباه وتكذبوا عليه وقالوا له: قد انقاد له خلق كثير من العرب، وقد عزم على أخذ بلدك حتى أوحشوه منه فاعتقله وضيَّق عليه فكتب إليه يمدحه.

وقريب من هذا في شرح الواحدي والعكبري وفي كل نسخ الديوان التي اطلعت عليها.

وإجماع هذه الروايات على أن الرجل دعا الناس إلى أمر وسجن فيه، ثم تختلف الروايات في أنها دعوة نبوة أو غيرها وفي أنها كانت في السماوة أو في أرض سَلَميَّة من أعمال حمص.

ولا بد أن نرجع إلى ديوان الشاعر نفسه لنرى ماذا قال في القصيدة التي كتبها في السجن يستعطف الوالي لنتبين كنه هذه التهمة، قال:

تَعجَّل فيَّ وجوب الحدود
وحدِّي قبل وجوب السجود
وقيل عدوت على العالمين
بين ولادي وبين القعود
فلا تسمعن من الكاشحين
ولا تعبأنَّ بمحك اليهود
وكن فارقًا بين دعوى أردتُ
ودعوى فعلتُ بشأوٍ بعيد

فأبو الطيب يقول، وهو في مقام الاستعطاف والاستغفار لا الإنكار والعناد:

إني اتهمت بالعدوان على العالمين، بل اتهمت بأني أردت ذلك ولم أتهم بأني فعلت، وما عرض للتنبؤ ينكره أو يستغفر منه، ولو أنه اتهم به لما أغفله في قصيدته.

هذا «العدوان على العالمين» الذي سجن وهو يتهيأ له، يغلب أن يكون خروجًا على السلطان ويغلب أن يكون مقرونًا بدعوى من الدعاوى الشائعة في ذلكم العصر، وتفسرها رواية الخطيب أنه ادعى أنه علوي، وليس بعيدًا أن يكون أبو الطيب كتم نسبه لتتسنى له هذه الدعوى.

ولم يكن تحدث الرجل بالثورة وقتل الأمراء واغتصاب الملك أمرًا خفيًّا فقد ملأ به شعره وجعله كالنسيب في قصائد المدح.

وبعدُ؛ فلماذا سُمي المتنبي إن كان لم يتنبَّأ؟

هذا السؤال في رأيي، هو الذي أوحى إلى كثير من الناس قصة التنبؤ، أرادوا أن يفسروا هذا اللقب وتفسيره يسير، فالمتنبي في اللغة من يدَّعي أنه نبي، وكثيرًا ما نرى الناس يخلقون قصة لتفسير اسم مدينة أو قبيلة، فلم تكن قصة المتنبئ إلا من هذا القبيل، والرجل كثير الأعداء والحساد كما قال، ويسَّر لهم هذا الافتراء أن الرجل دعا الناس دعوة، وقال كلامًا فسُجن وشاع أمره، فلما لقب المتنبئ جعلوا هذا السجن من أجل التنبؤ وذاعت الرواية على مرِّ الزمان.

وجواب السؤال في قول ابن جني في شرح الديوان، وفيما رواه عنه الثعالبي في اليتيمة، يقول ابن جني في شرح البيت:

أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود

«بهذا البيت سُمي المتنبي.» وقال الثعالبي: «وحكى أبو الفتح عثمان بن جني قال: سمعت أبا الطيب يقول: إنما لُقبت بالمتنبي لقولي: أنا في أمة تداركها الله … إلخ.»

وفي القصيدة نفسها بيت آخر:

ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود

فقد شبه نفسه بالأنبياء مرتين في قصيدة واحدة فلقَّبه بعض حساده «المتنبي» فذاعت، ثم وضعت القصة، واحتاجت النبوة إلى قرآن فرووا له قرآنًا.

ورواية أخرى رواها ياقوت مؤلف معجم الأدباء عن الناشئ الشاعر تدل على أنه لم يُلقب بالمتنبي وقت سجنه ولا في السنة التي سُجن فيها. قال:

وحدَّث الخالع قال: حدَّثني أبو الحسين الناشئ قال: كنت بالكوفة في سنة ٣٢٥ وأنا أملي شعري في المسجد الجامع بها والناس يكتبونه عني، وكان المتنبي إذ ذاك يحضر معهم، وهو بَعد لم يُعرَف ولم يُلقب بالمتنبي.

وكان أبو الطيب ينكر التنبؤ حين يفتريه عليه أعداؤه.

روى الخطيب عن أبي علي بن حامد:

وكان المتنبي إذا شوغب في مجلس سيف الدولة، ونحن إذ ذاك بحلب، نذكر له هذا القرآن وأمثاله مما كان يُحكى عنه فينكره ويجحده.

وقال له ابن خالويه النحوي يومًا في مجلس سيف الدولة: «لولا أن الآخر٢ جاهل لما رضي أن يدعى المتنبي؛ لأن متنبي معناه كاذب، ومن رضي أن يدعى بالكذب فهو جاهل.» فقال له: «أنا لست أرضى أن أدعى بهذا، وإنما يدعوني به من يريد الغض مني ولست أقدر على الامتناع.»

فلو أن الأمر كان معروفًا ما استطاع أبو الطيب المكابرة فيه.

متى سجن أبو الطيب؟

ليس في نسخ الديوان وشروحه ولا في كتب الأدب والتاريخ ما يبين السنة التي سجن فيها الشاعر. وسجن أبي الطيب في أمر اتهم به كما ذكرنا آنفًا قد أثر في نفسه وفي كلام الناس فيه فهو جدير بالعناية، وقد جهدت في أن أؤرخ هذا الحدث وهذا السجْن فانتهيت إلى نتيجة أراها جديرة بقبول الباحثين في هذا الحدث المبهم الذي لم يؤرخه أحد من قبل. وإليك البيان:

في زيادة شعر أبي الطيب من نسخة الديوان التي نشرتها٣ قصيدة عنوانها: وقال يمدح ابن كيغلغ وهو في حبسه وأولها:
شغلي عن الربع أن أسائله
وأن أطيل البكاء في خَلَقه
بالسجن والقيد والحديد وما
ينْقض عند القيام من حَلَقه
في كل لص إذا خلوت به
حدَّث عن جحده وعن سَرَقه

ويقول فيها:

يأيها السيد الهمام أبا العباس
والمستعاذ من حنقه
يا من إذا استنكر الأنامُ به
مات جميع الأنام من فرقه
في كل يوم يسري إلى عمل
في عسكر لا يُرَى سوى حَدَقه
الله يا ذا الأمير في رجل
لم تُبق من جسمه سوى رَمَقه
كم ضو صبح رجاك في غده
وجنح ليل دعاك في غسقه
ناداك من لجة لتنقذه
من بعد ما لا يشك في غرَقه

فمن أبو العباس بن كيغلغ الذي استغاث به الشاعر؟

هو أحد قواد الدولة العباسية كان له شأن في حوادث القرن الرابع الهجري، وقد ولي مصر مرات منها ولايته سنة ٣٢١ﻫ. تولَّى في رمضان من هذه السنة، وبقي حتى أخرجه منها محمد بن طغج في شعبان سنة ٣٢٣. والشام كانت إذ ذاك في سلطان والي مصر.

فأكبر الظن أن أبا الطيب كان في الحبس وابن كيغلغ والٍ على مصر أي بين رمضان سنة ٣٢١ وشعبان ٣٢٣ﻫ، ويبعد أن يكون حبس قبل ولاية ابن طغج فقد قدم الشام سنة ٣٢١ﻫ، ويؤخذ من ديوانه أنه لبث زمنًا في الشام قبل السجن.

ويمكن الاستدلال على هذا بالقصيدة التي أولها:

حاشى الرقيب فخانته ضمائره
وغيَّض الدمع فانهلَّت بوادره

ففي بعض نسخ الديوان أنها أنشئت في مدح جعفر بن كيغلغ وفي بعضها أنها في مدح أحد أمراء حمص وأنه لم ينشدها أحدًا، فإن قدَّرنا أن جعفر بن كيغلغ تولى حمص أيام ولاية قريبه أبي العباس على مصر والشام فالشاعر لم يذكر السجن فيها ولم يستنجد الأمير ليطلقه كما قال في القصيدة التي مدح بها أبا العباس والقصيدة الدالية التي يأتي ذكرها، وفي هذا دليل على أن ولاية ابن كيغلغ عادت إلى مصر والشام سنة ٣٢١ﻫ، والشاعر طليق لم يحبس، فإن قلنا: إن الشاعر حبس بعد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وقبل نهاية سنة ثلاث وعشرين فإلى متى لبث في السجن؟ إليك هذا الجواب:

يقول في مدح الوالي الذي أرسل إليه القصيدة وهو في سجنه:

رَمى حلبًا بنواصي الخيول
وسُمْر يُرِقن دمًا في الصعيد
وبيض مسافرة ما يُقِمن
لا في الرقاب ولا في الغمود
يَقُدن الفناء غداة اللقاء
إلى كل جيش كثير العديد
فولى بأشياعه الخرشنيُّ
كشاء أحسَّ زئير الأسود
يَرَون من الذعر صوت الرياح
صهيلَ الجياد وخفقَ البنود

قال الواحدي والعكبري: الخرشني نسبه إلى خرشنة وهي من بلاد الروم، وتبعهما الشرَّاح الآخرون حتى المتأخرون كاليازجي والبرقوقي، وليس في هذا جدوى، فالخرشني منسوب إلى خرشنة، لا يحتاج هذا إلى بيان؛ ولكن من هذا الخرشني؟ الذي يبحث في تاريخ الدولة العباسية في تلك السنين يرى اسم بدر الخرشني مذكورًا في وقائعها مكررًا، كان من قوَّاد الدولة واستعمله الراضي على الشرطة سنة ٣٢٢، وجعله حاجب الحجاب سنة ٣٢٩، وقلده طريق الفرات سنة ٣٣٠، فسار إلى الإخشيد مستأمنًا فولاه دمشق فلبث بها قليلًا ومات.

فهل الخرشني الذي ذكره أبو الطيب هو بدر الخرشني؟

في كتاب تاريخ حلب لمحمد راغب الطباخ عن زبدة الحلَب «أن الراضي بالله خاف على بدر الخرشني من الغلمان الحجَرية أن يفتكوا به فقلَّده حلب وأعمالها سنة أربع وعشرين وثلاثمائة فسار إليها وأخرَج عنها واليها طريف بن عبد الله السبكري، وأقام بها مدة يسيرة ثم رجع إلى بغداد وتولى طريف حلب مرَّة أخرى.»

فالظاهر أن الخرشني الذي ذكره أبو الطيب هو بدر الخرشني، وأن الوقعةَ التي ذكرها الشاعر، الوقعةُ التي هَزَم فيها الخرشنيَّ هذا الوالي الذي حبس أبا الطيب، كانت حينما استولى الإخشيد على حلب سنة ٣٢٤ﻫ.

وقد ذكرنا آنفًا أن الخرشني ذهب إلى الإخشيد من بعد مستأمنًا سنة ٣٣٠، فهذا الاستئمان يدل على عداوة كانت بينهما، والظاهر أنه حارب الإخشيد في الحادثات التي وقعت بين الإخشيد وولاة الخلافة في الشام.

ويؤيد ما ذهبت إليه في هذه المسألة قول أبي العلاء المعري في شرح ديوان أبي الطيب: «الخرشني والي حلب»، ويؤيده أيضًا رواية ذكرها الخطيب البغدادي وغيره أن الذي سجن الشاعر لؤلؤ أمير حمص من قبل الإخشيدية.

•••

يؤخذ مما تقدم أن سجن أبي الطيب كان بعد استيلاء الإخشيديين على الشام سنة ٣٢١ﻫ، واستمر إلى أن أخرج بدر الخرشني من حلب.

فأكبر الظن أن أبا الطيب سجن سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، ولبث في السجن إلى سنة أربع وعشرين، ويؤيد قول بعض الرواة إنه حبس سنتين ما ذهبتُ إليه في هذه المسألة.

إجمال سيرته في الشام

لبث أبو الطيب بالشام خمس عشرة سنة لا يستقر في بلد، يقصد الممدوحين فيخيبون رجاءه أو يعطونه نزرًا، فيثور ثم تضطره الحاجة إلى المدح، مدح اثنين وثلاثين رجلًا بأربع وأربعين قصيدة، وأنْبه ممدوحيه في ذلك العهد التنوخيون باللاذقية، وبدر بن عمار الأسدي نائب ابن رائق في طبرية وله فيه خمس قصائد وقطع كثيرة، وفي هذا دليل على أنه نال منه ما أرضاه، وأطال صحبته إياه، ومساور بن محمد الرومي والي حلب، وقد صحب التنوخيين وابن عمار زمنًا كما يتبين من شعره.

وأكثر البلاد نصيبًا من مدائحه: منبج، وإنطاكية، واللاذقية، وطبرية، وقد مدح أيضًا في طرابلس، وطرسوس، وجبل جرش ودمشق والرملة، ورثى محمد بن إسحاق التنوخي بأربع قصائد قصيرة، ونظم في الهجاء قصيدة وقطعتين.

ونظم خمس قصائد لنفسه يعرب عن مطامعه ويفخر ويهدد، وتلكم أحسن القصائد إبانة عن آماله وآلامه.

وكان في أكثر قصائد المدح يفخر بنفسه ويشكو زمانه ويذم أهل الزمان ويتوعدهم.

فأما المدح فلم يُجَز عليه إلا بالعطاء النزر، على كثرة ما بالغ واحتفل، يقول في مدح علي بن إبراهيم التنوخي:

أشِرْتُ أبا الحسين بمدح قوم
نزلتُ بهم فسرت بغير زاد

وروى ياقوت في معجم الأدباء عن علي بن حمزة راوية المتنبي أنه لما مدح محمد بن زريق الطرسوسي بقصيدته:

هذي برزتِ لنا فهجتِ رسيسا
ثم انثنيتِ وما شفيت نسيسا
وصله عليها بعشرة دراهم، فقيل له: إن شعره حسن، فقال: ما أدري أحسن هو أم قبيح؛ ولكن أزيده لقولك عشرة دراهم، فكانت صلته عليها عشرين درهمًا.٤

وروى الثعالبي أن علي بن منصور الحاجب الذي مدحه بقصيدته:

بأبي الشموسُ الجانحاتُ غواربا
اللابساتُ من الحرير جلاببا

أعطاه دينارًا فسميت القصيدة الدينارية.

وأبو الطيب يشكو الزمان في هذه القصيدة ثم يقول:

حالٌ متى علم ابنُ منصور بها
جاء الزمان إليَّ منها تائبًا

ويقول الأصفهاني في إيضاح المشكل: «ثم جئنا إلى حديثه وانتجاعه ومفارقة الكوفة وتطوافه في أطراف الشام، واستقرائه بلاد العرب ومقاساته الضر وسوء الحال ونزارة كسبه وحقارة ما يوصل به حتى إنه أخبرني أبو الحسن الطرائفي ببغداد، وكان لقي المتنبي دفعات في حالتي عسره ويسره، أن المتنبي قد مدح بدون العشرة والخمسة من الدراهم.»

وأبو الطيب نفسه يقول في القصيدة الدالية التي مدح بها ومطلعها: «أحاد أم سداس في أحاد.»

وشَغل النفس عن طلب المعالي
ببيع الشعر في سوق الكساد

ولا ريب أن كبار الممدوحين أعطوه عطاء أرضاه، يقول في مدح الحسين بن علي الهمداني:

مدحت أباه قبله فشفى يدي
من العُدم من تُشفى به الأعين الرمد
حباني بأثمان السوابق دونها
مخافةَ سيري، إنها للنوى جُند
وشهوة عود إنَّ جود يمينه
ثُناء ثُناء، والجواد بها فرد
فلا زلت ألقى الحاسدين بمثلها
وفي يدهم غيظ وفي يدي الرفد
وعندي قباطيُّ الهمام وماله
وعندهم مما ظفرت به الجحد

ويقول في مدح علي بن إبراهيم التنوخي:

من بعد ما صِيغ من مواهبه
لمن أُحِب الشنوفُ والخدَم
ولما مدح علي بن أحمد المري حمله على فرس٥ ولما نزل على علي بن عسكر ببعلبك خلع عليه وَحَمَلَه.

•••

وفي طول مقامه عند بدر بن عمار، ومدحه بخمس قصائد من جيد شعره دليل على أنه نال منه ما أرضاه، وقد وجد في بدر بن عمار أميرًا عربيًّا ذا مكانة فصحبه مدة وطاب عيشه عنده حتى فارقه بعد أن أقام عنده أكثر من سنة ومدحه بخمس قصائد وقطع كثيرة، والظاهر أن رجلًا اسمه ابن كروس أفسد ما بينه وبين بدر فتركه ومدح علي بن أحمد المرِّي بقصيدة تنبئ عن سخطه وثورته، القصيدة التي مطلعها:

لا افتخار إلا لمن لا يضام
مدرك أو محارب لا ينام

وأنشأ بعدها قصيدة يصف سيره في البوادي ويذم الأعور ابن كروس أولها:

عذيري من عذارَى من أمور
سكنَّ جوانحي بدل الخدور

ويقول فيها:

أوانا في بيوت البدو رحلي
وآونة على قتد البعير
أعرض للرماح الصمِّ نحري
وأنصب حرَّ وجهي للهجير
وأسري في ظلام الليل وحدي
كأني منه في قمر منير

ثورة نفسه في هذا العهد

وكان أبو الطيب في هذا العهد يلهج بالمجد والسؤدد والغلبة والملك، ويذكر أن له مطالب جسامًا، ويرى نفسه أحق بالسؤدد ممَّن سادوا.

فمن ذلك قوله في صباه:

ومن يبغ ما أبغي من المجد والعلى
تَساوى المحايي عنده والمقاتل

وقوله في شعر الصبا أيضًا:

لقد تصبرتُ حتى لاتَ مصطبر
فالآن أقحم حتى لات مُقتحَم
لأتركنَّ وجوه الخيل ساهمةً
والحربُ أقومُ من ساق على قدم
والطعنُ يُحرقها والزجرُ يُقلقها
حتى كأنَّ لها ضربًا من اللَّمم
قد كلَّمتْها العوالي فهي كالحة
كأنما الصلب مذرور على اللُّجُم
بكل منصلتٍ ما زال منتظري
حتى أدَلتُ له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة
ويستحلُّ دم الحجاج في الحرم

ولما لامَهُ معاذ بن إسماعيل اللاذقي على تهوُّره قال:

أبا عبد الإله معاذَ إني
خفيٌّ عنك في الهيجا مَقامي
ذكرتُ جسيم ما طلبي وإنَّا
نخاطر فيه بالمهج الجسام
أمثلي تأخذ النكباتُ منه
ويَجزع من ملاقاة الحِمام
ولو برز الزمان إليَّ شخصًا
لخضَّب شعر مفرِقه حسامي

وعُرض عليه الشراب فقال:

ألذُّ من المدام الخندريس
وأحلَى من معاطاة الكئوس
معاطاةُ الصفائح والعوالي
وإقحامي خميسًا في خميس
فموتي في الوغى عيشي لأني
رأيت العيش في أرَب النفوس

ويقول:

لأحبتي أن يملئوا
بالصافيات الأكوبا
وعليهم أن يبذلُوا
وعليَّ ألا أشربا
حتى تكون الباترا
ت المسمعات فأطربا

ويقول في القصيدة التي رثى فيها جدته:

يقولون لي ما أنت؟ في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما أبتغي جلَّ أن يُسمَى

ويسمي ما يطلبه حقًّا له:

سأطلب حقِّي بالقنا ومشايخ
كأنهم من طول ما التثموا مُرد
ثقالٍ إذا لاقوا، خفاف إذا دُعوا
قليلٍ إذا عُدُّوا كثيرٍ إذا شَدُّوا

ويتعجل هذا المطلب أحيانًا فيقول:

لله حال أرجِّيها وتُخلفني
وأقتضي كونَها دهري ويمطُلني

ويلوم نفسه على التواني:

إلى كم ذا التخلف والتواني
وكم هذا التمادي في التمادي؟
وشَغل النفس عن طلب المعالي
ببيع الشعر في سوق الكساد

وأما وسيلته إلى آماله فالحرب والفتك وقتل الرؤساء.

وقد جعل هِجِّيراه التغني بالطعن والضرب، وكرَّره في قصائد المدح وقصائد أخرى أعرب فيها عن آماله وآلامه.

عذله أبو سعيد المخيمري — وبنو مخيمر من طي النازلين بمنبج — على تركه لقاء الأمراء فقال:

أبا سعيد جنِّب العتابا
فرُبَّ رأي أخطأ الصوابا
فإنهم قد أكثروا الحجَّابا
وأوقفوا لردِّنا البَوَّابا
وإن حد الصارم القِرضابا
والذابلاتِ السمرَ والعِرابا
ترفع فيما بيننا الحجابا

ويقول في آخر قصيدة مدح:

أذاقني زمني بلوى شرقتُ بها
لو ذاقها لبكى ما عاش وانتحبا
وإن عَمِرت جعلت الحرب والدة
والسمهريَّ أخًا والمشرفيَّ أبا
بكل أشعث يلقى الموت مبتسمًا
حتى كأن له في قتله أربا
قُحٌّ يكاد صهيلُ الخيل يقذِفه
عن سرجه مرَحًا بالغزو أو طربا
فالموت أعذر لي، والصبر أجمل بي
والبرُّ أوسع، والدنيا لمن غلبا

وقد بلغ من كلفه بهذا الضرب من القول أنه جعله في أول قصائد المدح كالنسيب عند الشعراء الآخرين فهو يقول في مطلع القصيدة التي مدح بها علي بن إبراهيم التنوخي:

أحادٌ أم سُداس في أحاد
لييلتنا المنوطةُ بالتناد
كأن بنات نعش في دُجَاها
خرائدُ سافراتٌ في حِداد
أفكر في معاقرة المنايا
وقود الخيل مشرفةَ الهوادي
زعيمٌ للقنا الخطي عزمي
بسفك دم الحواضر والبوادي

وفي مطلع قصيدة أخرى مدح بها المغيث بن علي بن بشر العجلي:

فؤاد ما تسليه المُدام
وعُمرٌ مثلُ ما يهب اللئام
ودهر ناسه ناس صغار
وإن كانت لهم جثث ضِخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن مَعدنُ الذهب الرغام

وقد بلغ ولعه بهذا الكلام وقلة مبالاته بالناس أن توعَّد بقتل الممدوحين في قصيدة يمدح بها محمد بن عبد الله الخصيبي:

مدحت قومًا وإن عشنا نظمتُ لهم
قصائدًا من إناث الخيل والحُصُن
تحتَ العجاج قوافيها مضمَّرة
إذا تُنوشدن لم يدخلن في أذن

بل يغلبه الوهم فيذكر أنه حارب وقتل، ولسنا ندري متى فعل.

ومطالبٍ فيها الهلاك أتيتها
ثبتَ الجنان كأنني لم آتها
ومقانبٍ بمقانبٍ غادرتها
أقواتَ وحش كنَّ من أقواتها

وكان هذا الرجل الثائر الطامح إلى المُلك، فقيرًا لا يقدر على العيش الرغد، وقد ردَّد شكواه في شعره، يقول في إحدى قصائد الصبا:

أين فضلي إذا قنعتُ من
الدهر بعيش مُعجَّل التنكيد
ضاق صدري وطال في طلب الرز
ق قيامي وقلَّ عنه قعودي

ويقول:

لُم الليالي التي أخنت على جِدتي
برقَّة الحال واعذرني ولا تَلُم

ويقول في القصيدة التي مدح بها علي بن منصور الحاجب فأعطاه عليها دينارًا:

أظمتني الدنيا فلما جئتها
مستسقيًا مطرتْ عليَّ مصائبا
وحُبيتُ من خُوص الركاب بأسودٍ
من دارش فغدوت أمشي راكبا٦

ويقول في قصيدة أخرى:

ولما قلَّت الإبل امتطينا
إلى ابن أبي سليمان الخطوبا

فهذا ينبئ أنه كان عاجزًا عن راحلة يركبها إلى الممدوحين.

وكان كما يقول الثعالبي: «يجشم نفسه أسفارًا أبعد من آماله، لا يستقر ببلد، ولا يسكن إلى أحد.»

برتني السُّرى بريَ المُدى فرددنني
أخفَّ على المركوب من نَفسي جِرمي

•••

ألفت ترحلي وجعلت أرضي
قُتودي والغُرَيرِي الجُلالا

•••

أوانًا في بيوت البدو رحلي
وآونةً على قَتَد البعير

•••

كأني من الوجناء في ظهر مَوجة
رمت بي بِحَارًا ما لهنَّ سواحل
يُخيَّل لي أن البلاد مسامعي
وأني فيها ما تقول العواذل

وكان من بعد همته، وسعيه وإخفاقه، سخطه على الزمان وأهله حتى حسب الدهر حربًا عليه، والناس كلها عدوًّا له والآكام حانقة عليه، يقول في قصيدة أنشأها بعد فراق بدر بن عمار يهجو في آخرها ابن كرَوس:

فقل في حاجة لم أقض منها
على شغفي بها شروَى نقير
وكف لا تنازع من أتاني
ينازعني سوى شرفي وخيري
وقلة ناصر جوزيتَ عنِّي
بشرٍّ منك يا شر الدهور
عدوِّي كلٌّ شيء فيك حتى
لخلتُ الأُكْم موغَرة الصدور

ويقول مخاطبًا الأسد:

ورائي وقُدَّامي عُداةٌ كثيرة
أحاذر من لصٍّ ومنك ومنهم

ويقول:

وإنما نحن في جيل سَواسيةٍ
شرٍّ على الحر من سقم على بدن
حَولي بكل مكان منهم خِلَق
تُخطي إذا جئتَ في استفهامها بمن
لا أقتري بلدًا إلا على غَرَر
ولا أمرُّ بخَلق غيرِ مضطغن

ويغلو في تحقير الناس فيقول:

أذم إلى هذا الزمان أهيلَه
فأعلمُهم فدمٌ وأحزمهم وَغْد
وأكرمهم كلب، وأبصرهم عَمٍ
وأسهدهم فَهد، وأشجعهم قِرد
ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى
عَدوًّا له ما من صداقته بدُّ

ولا ريب أن في هذا الشعر ما يبين عن غروره وزهوه وإعجابه بنفسه.

وقد صرَّح بذلك في مواضع من شعره، يقول في قصيدة من قصائد الصبا:

إن أكن معجبًا فعُجبُ عجيبٍ
لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا تِربُ الندى وربُّ القوافي
وسِمام العِدى وغيظُ الحسود
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود

وهنا يسأل الباحث: أكان أبو الطيب يفكر في الحرب والتغلب كما ينطق شعره أم هي نفثات رجل عاجز مغرور يعلِّل نفسه بالقول حين فاته الفعل؟

أحسَب أبا الطيب كان يفكر في الثورة والغلبة ولا يجد وسائلها فيرتقب أن تتاح له، وبُرهان هذا أنه همَّ بالثورة أول عهده بالشام وحُبس، وأنه أعرب عن عزمه على الحرب بعد أن ذهبت عنه نشوة الصبا، وبعد أن كفَّ عن الكلام الثائر الذي قدَّمتُ بعضه، سنين كثيرة، يقول بعد خروجه من مصر في قصيدة يرثي فيها فاتكًا:

ما زلت أُضحك إبلي كلما نظرَتْ
إلى من اختضبت أخفافُها بدم؟
أسيرُها بين أصنام أشاهدها
ولا أشاهد فيها عفة الصنم
حتى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي
المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتبْ بنا أبدًا بعد الكتاب به
فإنما نحن للأسياف كالخدم
أسمعتني ودوائي ما أشرتِ به
فإن عصيتُ فدائي قلة الفَهَم
من اقتضى بسوى الهنديِّ حاجته
أجاب كلَّ سؤال عن هلٍ بلم
توهَّم القوم أن العجز قرَّبنا
وفي التقرب ما يدعو إلى التُّهم
ولم تزل قِلة الإنصاف قاطعة
بين الأنام ولو كانوا ذوي رحِم
فلا زيارة إلا أن تزورهم
أيدٍ نشأن مع المصقولة الخُذُم
من كل قاضية بالموت شفرتُه
ما بين منتقَم منه ومنتقِم

وقال بعد في مدح دلير بن لشكروَز:

محب كنى بالبيض عن مرهَفاته
وبالحسن في أجسامهن عن الصقل
وبالسمر عن سمر القنا غير أنني
جَناها أحبَّائي، وأطرافها رُسْلي

ثم يقول في مدح ابن العميد:

إن لم تُغثني خيلُه وسلاحه
فمتى أقود إلى الأعادي عسكرا

فالرجل الذي جن بذكر الحرب والضرب في شبابه يعود إليه بعد أن جاوز الخمسين، فما أحسبه إلا طوى نفسه على ثورة وحرب وهوًى مَطَله به الزمان ثم قتله دونه.

وفي قصيدة الصبا الدالية التي قدمتُ أبياتًا منها، والتي لقب من أجلها المتنبي، يقول:

ما مُقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود
مَفرِشي صهوة الحصان ولكن
قميصي مسرودة من حديد
لَأمة فاضةٌ أضاةٌ دِلاص
أحكمت نسجها يدا داود

فإن صدَّقنا أنه كان يلْبس درعًا، وليس ما يصدُّنا عن تصديقه، فلبس هذا الشاب الدرع في غير حرب دليل على أنه كان يعيش في خوف وحذر وعلى ما تمكَّن في نفسه من حب الحرب وآلاتها، وما توسوس به نفسه من خوض غمراتها.

١  تنظر الأبيات في زيادات نسختي من الديوان ص٥٣١، ٥٣٤ والأبيات كلها منسوبة إلى الضرير الضبي أو الضب الضرير، وهما واحد فيما يظهر.
٢  الآخر: كلمة تقال عند الخطاب بكلام مكروه، كما نقول البعيد أو الأبعد أحمق، وكذلك ألفيتها في كلام المتقدمين.
٣  ص٥٢٧.
٤  ياقوت جزء ٥ ص٢٠٤.
٥  النسخة ٥٣٠ أدب دار الكتب المصرية.
٦  يعني أنه لم يجد من الركاب إلا نعلًا سوداء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤