الفصل الثاني

تدينه

ذكر ابنُ القارح في رسالته إلى المعري أبا الطيب وتحقيره أهل زمانه، ونقل خُرافة حبسِه في بغداد بدعواه النبوة، وذكر قوله لسيف الدولة:

وتغضبون على من نال رِفدكم
حتى ينغِّصه التكديرُ والمِنن

ثم قال:

«وهذا غير قادح في طلاوة شعره، ورونق ديباجته؛ ولكني أغتاظ على الزنادقة والملحدين الذين يتلاعبون بالدين، ويرومون إدخال الشبه والشكوك على المسلمين ويستعذبون القدح في نبوة النبيين … إلخ.»

فأجابه أبو العلاء في رسالة الغفران إلى أن قال: «وقد دلت أشياء في ديوانه (أبي الطيب) أنه كان متألهًا فمن ذلك قوله:

ولا قابلًا إلَّا لخالقه حكما

•••

ما أقدر الله أن يُخزي بريَّته
ولا يصدق قومًا في الذي زعموا

وإذا رُجع إلى الحقائق فنُطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان؛ لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يُظهر الرجل بالقول تدينًا. وإنما يريد أن يصل به إلى ثناء أو غرض، ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون وفي الباطن ملحدون إلخ.»

ليت شعري أكان قول ابن القارح عن أبي الطيب حديثًا شائعًا في زمانه، أم هي دعوى النبوة صدَّق بها الرجل فأدخل الشاعر في زمرة الزنادقة؟

إن ما حكاه ابن القارح عن حبس أبي الطيب ببغداد، وأنه كشف عن سَلعة في بطنه، وقال: هذا طابع نبوتي وعلامة رسالتي إلخ يدل على أنه كان عاميًّا في تصديق ما يُروى دون تثبت ولا نقد، وقد ظن كما ظن غيره أن أبا الطيب تنبأ.

وحسْب الرجل زندقة أن يتنبأ، وليتهم حين صدقوا قصة النبوة قالوا: إنها كانت دعوى حدَث في سن العشرين لا تقاس بها عقيدته طول عمره.

والخلاصة أن أبا الطيب لم يتهم بإلحاد ولا زندقة إذا استثنيا ما يُحكى عن تنبئه، وقد علم القارئ رأيي فيه. وكان ابن القارح مولعًا بذكر الزندقة، والإكثار من تهمتها في رسالته ليتبين عقيدة المعري.

وبعدُ، فهل النظر في ديوان الشاعر يدل على زندقة أو تدين؟ في الديوان عبارات تنم عن الاستخفاف وقلة المبالاة بالدين وقد أدرك الثعالبي بعضها من قَبل؛ فقال في تعديد عيوبه:

ومنها الإيضاح عن ضعف العقيدة ورقة الدين.

ثم نقل أبياتًا، منها قوله:

يترشَّفن من فمي قُبلات
هنَّ فيه أحلى من التوحيد

وقوله في مدح طاهر العلوي:

وأبهرُ آيات التهامي أنه
أبوكم وإحدى ما لكم من مناقب

وقوله في مدح بدر بن عمار:

لو كان علمُك بالإله مقسَّمًا
في الناس ما بعث الإله رسولا
أو كان لفظك فيهم ما أنزل الـ
ـقرآن والتوراة والإنجيلا

هذا بعض ما أخذه الثعالبي عليه، ورواية البيت الأول:

هنَّ فيه حلاوة التوحيد

والبيت الثاني:

وأجدى ما لكم من مناقب

لا تدفع كلام الثعالبي، وأنا أزيد على ما ذكره الثعالبي قوله في مدح بدر أيضًا:

أمسَى الذي أمسى بربك كافرًا
من غيرنا، معنا بفضلك مؤمنا

وقوله لسيف الدولة حينما أسقطت الريح خيمته:

فما اعتمد الله تقويضَها
ولكن أشار بما تفعل
وعرف أنك من همه
وأنك في نصره ترفل

وتفسر أبي الطيب الهم بالإرادة لا يقوم بعذره.

مثل هذه الأبيات تدل على الغلو في المدح، وقلة المبالاة، وتفسيرها بالغلظة والجرأة، كالعبارات التي خاطب بها الممدوحين وآخذه عليها النقاد، أولى من تفسيرها بالزندقة، فاستيعاب الديوان قراءةً يبين أن الرجل كان شاعرًا من شعراء المسلمين ينم كلامه عن المشاركة في العقائد الإسلامية في غير عناية بالنظر في الدين نظر أبي العلاء وأشباهه.

وانظر هذه الأبيات التي أثبتها هنا على ترتيب التاريخ، يقول وهو يصف مهرًا له:

أيْ كَبت كلَّ حاسد منافق
أنت لنا وكلُّنا للخالق

وقال لسيف الدولة:

ولولا قدرة الخلاق قلنا
أعمدًا كان خلقك أم وفاقا

•••

فمن كان يُرضِي اللؤمَ والكفر ملكهُ
فهذا الذي يُرضِي المكارم والربا

ويقول في مدح سيف الدولة وحربه الروم:

خضعتْ لمنصلك المناصلُ عنوة
وأذل دينُك سائر الأديان
وعلى الدروب وفي الرجوع غضاضة
والسير ممتنع من الإمكان
والطرق ضيقة المسالك بالقنا
والكفر مجتمع على الإيمان … إلخ

•••

ومهذبٌ أمر المنايا فيهم
فأطعنه في طاعة الرحمن

•••

فهنأك النصَر معطيكه
وأرضاهُ سعيُك في الآجل

•••

ألهى الممالكَ عن فخر قفلتَ به
شربُ المدامة والأوتار والنغم
مقلدًا فوق شكر الله ذا شُطَب
لا تُستدام بأمضى منهما النعم

•••

فأنت حسام الملك والله ضاربٌ
وأنت لواءُ الدين والله عاقد

•••

يُذمُّ لمهجتي ربِّي وسيفي
إذا احتاج الوحيد إلى الذمام

•••

سبقتَ إليهم مناياهمُ
ومنفعةُ الغوث قبل العطب
فخرُّوا لخالقهم سجَّدا
ولو لم تُغِث سجدوا للصُّلُب
أرى المسلمين مع المشركين
إما لعجز وإما رهَب
وأنت مع الله في جانب
قليلُ الرقاد كثيرُ التعب
كأنك وحدك وحَّدته
ودان البرية بابن وأب

•••

مثلما أحدث النبوةَ في العا
لم والبعثَ حين شاع فساده

فهذه الأبيات وأمثالها تحدِّث عن رجل مسلم إذا حدثت الأبيات الأولى عن رجل مغال جريء على الدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤