الفصل الثالث

هل كان أبو الطيب قرمطيًّا؟

يقول بلاشير في دائرة المعارف الإسلامية: «لم يكن المتنبي قرمطيًّا، ولكنه لقِّن آراء القرامطة التي لقيت بين الأعراب آذانا صاغية، وقد أشار في شعره إلى قتل أبي طاهر القَرمطي الحجاجَ في الحرم.»

وقد سمعت أن المستشرق مسنيون ألقى في مؤتمر المستشرقين الأخير في رومية بحثًا ادعى فيه أن أبا الطيب كان قرمطيًّا، ورأيت بعض أدبائنا يميل إلى هذا الرأي.

والأبيات التي أشار إليها بلاشير والتي يحتج بها غيره هي قول الشاعر:

لأتركنَّ وجوهَ الخيل ساهمة
والحرب أقوم من ساق على قدم
بكلِّ منصلتٍ ما زال منتظري
حتى أدلتُ له من دولة الخدَم
شيخٍ يرى الصلوات الخمس نافلة
ويستحل دم الحجاج في الحرم

وقد قدَّمت الكلام على هذه الأبيات في [الفصل الثاني من الباب الثاني].

وأنا أبين فيما يلي ما يدل عليه ديوان الشاعر من نظره إلى القرامطة، ثم إلى الشيعة العلويين.

فأما القرامطة فقد لقيتْ منهم الكوفة وأهلُها مصائب وأخذ الشاعر نصيبه منها، فما أحسَبه مال إليهم ولا سلك طريقتهم، وأقلُّ ما في الأمر أنه دعوى يُعوزها الدليل. ثم مَدْحُه سيف الدولة بقتل أبيه القرامطة لا يدل على أن في نفسه ميلًا إليهم، قال:

القائم الملك الهادي الذي شهدت
قيامَه وهداه العرب والعجم
ابن المعفر في نجد فوارسها
بسيفه وله كوفانُ والحرَم

قال الواحدي: يعني حرب أبي الهيجاء القرامطة وولايته طريق مكة.

وتأمل في قوله: القائم الملك الهادي إلخ فلا يبعد أن يكون تعريضًا بمن يصدقون بالمهدي.

وأما التشيع فربما يفهم من قصيدته التي مدح بها أبا الطاهر العلويَّ في الرملة، قال فيها:

وأبهر آيات التهاميِّ أنه
أبوكم وأجدى ما لكم من مناقب
هو ابن رسول الله وابن وصيه
وشبههما، شبَّهتُ بعد التجارب

فتسمية عليٍّ وصيًّا اتباع لآراء الشيعة.

وأشار إليه طاهر العلوي بمسك في حضرة ابن طُغُج فقال:

الطيب مما غنيتُ عنه
كفى بقرب الأمير طيبا
يبني به ربُّنا المعالي
كما بكم يغفر الذنوبا

ولكن إن لم يكن بد من الاحتجاج بما يجري على لسان الشاعر أثناء المدح فقد خالف الشيعة إذ قال بعد البيت الأول:

إذا لم تكن نفسُ النسيب كأصله
فماذا الذي تغني كرامُ المناسب
وما قرُبت أشباه قوم أباعد
ولا بَعُدت أشباه قوم أقارب

فهو يقول: إن النسب وحده لا يرفع إنسانًا إذا لم يرفعه فعله وهذا لا يساير عقائد الشيعة في ذلك العصر.

وأبين من هذا قوله في مدح ابن العميد وهو وزير دولة شيعية:

فإن يكن المهديُّ من بان هديه
فهذا، وإلا فالهدى ذا فما المهدي؟
يعللنا هذا الزمان بذا الوعد
ويخدع عما في يديه من النقد
هل الخير شيء ليس بالخير غائب
أم الرشد شيء غائب ليس بالرشد

هل هذا قول يجيزه لنفسه رجل يرى رأي القرامطة في الإمامة أو هو استخفاف بالمهدي ومن ينتظرونه؟

ثم مدح ابن حمدان بأنه سيف الدولة العباسية وتكرار هذا وتسميتها الدولة الهاشمية ودولة الخلافة وخيرة الدول، وتسمية الخلفاء العباسيين أئمة قريش، كل هؤلاء برهان على أنه ما كان ينتحل إلا نحلة جمهور المسلمين في عصره.

يقول في مدح ابن عمار:

حسام لابن رائق المفدى
حسام المتقي أيامَ صالا

ويقول في سيف الدولة:

لقد سلَّ سيف الدولة المجدُ مُعلِما
فلا المجدُ مخفيه ولا الضرب ثالمه
على عاتق الملْك الأغرِّ نجاده
وفي يد جبار السموات قائمه

•••

وشركتُ دولةَ هاشم في سيفها
وشققتُ خِيس الملك عن رئباله

•••

لقد رأت كل عين منك مالئها
وجرَّدت خَير سيف خَيرة الدول

•••

إن الخليفة لم يسمِّك سيفه
حتى بلاك فكنت عينَ الصارم

•••

إمامٌ للأئمة من قريش
إلى من يتَّقون له شقاقا

•••

لقد رفع الله من دولة
لها منك يا سيفها منصُل

•••

لأمر أعدَّته الخلافة للعِدى
وسمته دون العالم الصارم العضبا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤