دسيسة

حزن المعتمد لموت أبيه وعزم أن يكفى كفايته، وأن يرفع دولة بني عبّاد إلى أوج العظمة، وأن يزيدها من شجاعته وحسن تدبيره وإحكام سياسته، قوة على قوة. كانت نفسه تجيش بآمال ضخام وأحلام بعيدة، وكانت تصوّر له أن ملكًا لا ينتظم بلاد الأندلس جميعها لا يصح أن يسمى ملكًا. شباب وذكاء وثروة … ماذا تريد الدولة لتكون عظيمة سامقة غير هذه الثلاثة؟!

وهذه جميعًا موفورة تمامة، حتى لو خلط بعضها ببعض وصنع من المخلوط تمثال لكان المعتمد بن عباد.

كان أول ما صنعه المعتمد، أن دعا خليله ابن عمار من منفاه وقلّده الوزارة، ثم دعا بأبي القاسم الهوزني، ومنحه لقب المشير في الدولة، رغبة منه في استرضائه لما فرط من المعتضد من قتل أبيه ظلمًا وعسفًا، وعندما جلس على العرش، أقبل عليه الناس من جميع أقطار الأندلس مهنئين مستبشرين متيامنين بهذا الأمير الشاب، العربي الوسيم.

وجاء الشعراء للإنشاد، وبينهم: أبو الوليد بن زيدون، والداني، وابن وهبون، وعليّ الحصري الكفيف، والنحلي. فشرع ابن زيدون ينشد قصيدة منها:

لك الخير إن الرزء كان غيَابة
طلعت لنا فيها كما طلع البدر
فقرّت عيون كان أسخنها البكا
وقرّت قلوب كان زلزلها الذعر

وصاح الحصريّ يقول:

مات عباد ولكن
بقي الفرع الكريم
فكأن الميت حي
غير أن الضاد ميم

وأنشد الداني قصيدة منها:

من بني المنذرين — وهو انتساب
زاد في فخرهم — بنو عباد
فِتْية لم تلد سواها المعالي
والمعالي قليلة الأولاد

والمعتمد في هذا الجمع الحاشد يهتزّ للمديح، ويرتاح للإطراء، شأن العربي الكريم؛ حتى إذا انفضّ الحفل دعا خزائنه أحمد العامري، وأمر بمئات من الدنانير لكل شاعر، ثم أمر بقدر وافٍ من المال يوزّع على كل معوز محتاج بإشبيلية.

ثم خلا بنفسه، ودعا إليه وزيره ابن عمار ومشيره الهوزني، ليبحث معهما في شئون الدولة، فقال ابن عباد: إن الأدارسة أعداء دولتنا، لا يزالون يتربصون بنا الدوائر، وينصبون لنا الشباك، وأرى أن نكون أصحاب الضربة الأولى حتى نلقي في قلوبهم الرعب، فإما أن يلقوا القياد مستسلمين، وإما أن يكونوا طعمة للنسور. فقال ابن عمار وهو يتطلع إلى أن يكون أميرًا بإحدى مدن الأدارسة: يا مولاي: أنت اليوم أعظم ملوك الأندلس قوة وبسطة، وإن جيشًا إلى مرسية يحارب بسلاح رأيك، ويقوده صنيعتك ابن عمار — كفيل أن يخترق أسوار المدينة في ساعة من نهار، وحينئذٍ اعترض الحديث الهوزني وقال: يا مولاي غفرًا! إن لي غير هذا الرأي. إن الأندلسيين عامة، وأهل إشبيلية خاصة سئموا الحروب، وقد تيمنوا بطالعك، وقرءوا في وجهك آيات الخير والسلام، ولم يمض على وفاة المعتضد إلا أيام قليلة، فهب سنتين أو ثلاثًا يا مولاي لعظمة الملك وإعلاء مراسمه، وللإغداق على الرعية وبعث روح السرور والبهجة فيهم. دعهم يفهموا أن ملكهم أريحي كريم، يطرب للهو كما يطربون، ويفرح بالملك كما يفرحون، بعد أن قضوا سنوات كبتت فيه نفوسهم ووجلت قلوبهم. دعهم يا مولاي يعرفوا أن المعتمد جمع صفات الحزم والقوة والذكاء، التي كان يتحلى بها أبوه، وأنه أضاف إليها اللين والسماح، وانبساط النفس، والتمتع بلذائذ الحياة.

فقال ابن عمار: أما إذا دعوت إلى التمتع بلذائذ الحياة، فأنا أول من يستجيب.

– لذائذ الحياة التي أريد الأمير أن يتمتع بها، غير ما تفهم منها أنت.

فقال المعتمد: عزمت على ألا أشرب الخمر. فقال ابن عمار: هذا حسن، وهو يرفع من قدر الأمير في نظر الرعية.

فقال الهوزني: إن المعتضد كان يعاقر الخمر ولم يسقط ذلك من هيبته في نظر الرعية، على أننا سننشر بين الناس جميعًا أن مولاي كسر قوارير الخمر وأراق ما في دنانها، وإذا دعت الحاجة إلى كأس في مجلس أنس مستتر، فإن ذلك لا يعمل شيئًا.

ابسط كفّيك للناس، واعف عن هفواتهم، وأدخل السرور على قلوبهم، ودعهم يفرحوا بملكهم ويقولوا: إن أيامه كانت بهجة الأيام، وعصره كان زينة العصور.

فقال ابن عمار: أنا أحب هذا الكلام، وأنا أحب البهجة والسرور.

فقال المعتمد: إلى حين. فأسرع الهوزنيّ قائلًا: يا مولاي إلى حين.

ثم انفض المجلس، وخرج ابن عمار مع الهوزنيّ، فمال ابن عمار إليه هامسًا: ماذا تقصد أبا القاسم بهذه النصائح الغالية؟؟

– اسمع يا ابن عمار. أنا أعرف أنك رجل طموح، وأن نفسك الكبيرة الوثابة لا ترضى لك أن تكون ذيلًا للمعتمد، وفيك دم الملوك، وفيك عزائمهم … إن شبيهك المتنبي خاب في المشرق فلم ينل ولاية أو ضيعة؛ لأنه لم تكن فيه صفات الملوك … أتعاهدني؟

– على أي شيء أعاهدك؟؟

– على ألا تقف في طريقي، ما دمت لا أقف في طريقك. أنت تريد أن تكون ملكًا بالأندلس ولست بأقل من ملوكه منزلة وقدرًا، وسأحتطب في حبلك وأساعدك على ما تبتغي، على شريطة ألا تعترض لي رأيًا، أو تفند قولًا، أو تفسد عليّ خطة، ولو أني علمت أنك فعلت شيئًا من ذلك؛ لأشعلت الحرب ضروسًا بيني وبينك … أتقبل؟؟

– أقبل أبا القاسم.

ذهب الهوزنيّ إلى منزله، فرأى في دهليزه فتاة متلفّفة لا يظهر من جسمها شيء، فلما رأته كشفت عن وجهها، فإذا هي أرماندا جارية المعتمد الجديدة، التي أهداها إليه الهوزنيّ منذ أشهر، وهي في جمالها ورشاقتها ولطف حديثها وقوة سحرها، فتنة تنتهب القلوب انتهابًا، وقد كلف بها المعتمد كلفًا أنساه أو كاد ينسيه زوجته الرّميكيّة. نظرت أرماندا إلى الهوزنيّ وقالت: إني فهمت غمزتك حينما لقيتني اليوم بالقصر، وعرفت أنك تريد مقابلتي على انفراد في منزلك.

– ذكية وحق عيسى بن مريم.

– إنك لم تخترني للمعتمد عبثًا، ألست تريد مني أن أفتنة بسحري عن كل شأن من شئون المملكة، حتى يضعف ملكه وتهن قوّته؟؟

– نعم اخترتك لإبادة هذه الدولة الطاغية اللاهية؛ لتخلفها في الملك إحدى الأسر العريقة من المسلمين بإشبيلية.

– أما من يخلفها، فلسنا الآن بصدده؛ لأننا اعتدنا في قشتالة، أن نعمل شيئًا واحدًا في وقت واحد.

فقال الهوزنيّ متبرمًا: هذا يكفي، وقد دعوتك لأحثك على البدء بالعمل، واحذري أن يعرف مخلوق هذه الصلة التي بيننا، ثم احذري أن يراك إنسان خارجة من القصر أو داخلة بيتي.

– إني أخرج دائمًا من باب القصر الخلفي، ثم إني ماهرة في أساليب الاختفاء.

غادر المعتمد مجلس ابن عمار والهوزنيّ، وهو يخادع نفسه بالاقتناع بصحة أيهما، حتى إذا تنبه فيه العقل وهمست الحكمة، أسكتتهما صيحات الغرائز والشهوات فأخذ يقول:

أباح لطرفي طيفها الخد والنهدا
فعضّ به تفاحة واجتنى وردًا
ولو قدرت زارت على حال يقظة
ولكن حجاب البين ما بيننا مدا
هي الظبي جيدًا، والغزالة مقلة
وروض الربا عرفا، وغصن النَقا قدًا

ثم دخل عليه صاحب خزائنه يقول: يا مولاي، إن سهلون بن إسحاق الجوهريّ، جاء يطلب خمسين ألف دينار، ثمن عقد من الجوهر اختارته سيدتي اعتماد، وقد كتبتْ له بذلك صكًّا.

– ادفع له، ومره أن يدخل لأرى شيئًا من نفائسه.

فدخل سهلون يحمل خرجًا فوق كتفه، وقال: يا مولاي! عندي في هذا الخرج ما لم يقتنه ملك، ولم تتحل به خزائن بني العباس. ثم أخرج تمثالًا من البلّور لجمل له عينان من الياقوت، وقد حلّى جسمه بنفائس الدر والماس. فأعجب به المعتمد، وقال: بكم تبيع هذا يا ابن إسرائيل؟ فقال: بعشرة آلاف دينار، فقال المعتمد: حسن، يا أحمد أعطله ما طلب.

وبينما هما في الحديث، إذا أبو العرب الصقِّلي الشاعر يستأذن في المثول، فأذن له، فأنشد قصيدة رائعة في تهنئة المعتمد، فتألق وجهه وأمر له بعشرين كيسًا من الفضة. فنظر أبو العرب إلى تمثال الجمل، وأعجبه حسن صنعه، ونفاسة جواهره. فقال: لا يحمل هذه الصلّة إلا جمل (وأشار إلى التمثال). فأخذه المعتمد بيده وقال: خذه، فإنه حمّال أثقال.

ثم انفض المجلس، وخرج اليهودي يهز رأسه ويضرب بكف على كف ويقول: أنفق الأمير الجديد في هذا اليوم خراج دولة!!

هكذا هكذا تكون المعالي
طُرُقُ الجد غير طرق المزاح!!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤